أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي المسكيني - الغيرية والاعتذار أو الفلسفة ومسألة -تحريم الصور-















المزيد.....


الغيرية والاعتذار أو الفلسفة ومسألة -تحريم الصور-


فتحي المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 2967 - 2010 / 4 / 6 - 19:07
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"ويبدو أنّ الآباء اليونانيين قد استخدموا بعدُ هذا النحو من المسارات الفكرية للأفلاطونية المحدثة، وذلك حين تخلّوا، بالنظر إلى دراسة المسيح، عن معاداة الصور التي في العهد القديم.ففي تحوّل الربّ إلى بشر هم قد رأوا نحوا من الاعتراف الأساسي بالظاهرة المرئيّة وتحصّلوا من ثمّة بالنسبة إلى أعمال الفن على وجه من الشرعيّة. ويحقّ للمرء فعلا أن يرى في هذا التجاوز لمنع الصور الحدثَ الحاسم الذي من طريقه صار ازدهار الفنون التشكيلية في الغرب المسيحي ممكنا."
غادمير

تقديم: الفلسفة والغيرية
إنّ الغيريّة تُقال هي أيضا على معان عدّة، ولذلك لن نهتمّ هنا بالغير لا بمعناه الأنطولوجي، كـ"غريب" يقيم عنوة في قلب الوجود، ولا بمعناه الفينومينولوجي كوعي "آخر" على الأنا أن يخوض "نزاع اعتراف" رهيبا معه، ولا بمعناه الثقافي كوجه "أجنبي" علينا أن ندمجه في فضائنا العمومي بعد فشل كلّ محاولات إقصائه خارج دائرة انتمائنا. – إنّ الغير الذي سأصرف أسئلتي نحوه هو الغير الأقصى، المقدّس، المحرّم، الممنوع، الذي يكون كلّ مسّ به تدميرا فظيعا لهويتنا وشعورنا بأنفسنا.
أجل، لا تكون الغيرية غيرية حقا إلاّ حين تكون غيرية لا متناهية.وإنّ الغير الذي سنسائله هنا هو الغير المقدّس. وعلينا أن نعترف أنّ عبارة "الغير المقدّس" تحتمل توتّرا وقلقا.
ولكن ألم تكن علاقة الفلسفة بالغيرية علاقة ملتبسة دوما ؟ - يبدو أنّ الفلاسفة، من أفلاطون إلى ريكور، لم يتقوّلوا في الغيرية إلاّ اضطرارا. هذا الاضطرار إلى القول في الغير هو جزء مريب من دلالة الغيرية. إنّ الغيرية تقع على المفهوم، وليست أحد اختراعاته السعيدة. لم يسأل اليونان عن معنى الغير إلاّ للسيطرة على دلالة "اللاّوجود"، ولم يأت المحدثون إلى التماهي مع الغير إلاّ في شكل "نزاع اعتراف"، أي في شكل سلب لامتناه، ولم يفلح المعاصرون في قول شيء يُذكر عن الغيرية إلاّ حين أخذوا في التكلّم كآخر الآخر، وانطلاقا من الإقرار بـالغيرية بوصفها "واقعة" مفروضة، ولا ضرّ إن كان ذلك في شكل "معيّة" (un être-avec) وجودية أو "تذاوتيّة" متعالية أو "إلزام"( obligation) إتيقيّ، ناتجة كلّها عن ضرب متأصّل من "القابليّة" (passibilité)، قابليّة الأنا البشري، بما هو انفعالية جذرية، لأن يقع تحت وطأة "الغير" الذي يهاجمه كخارجيّة (une extériorité) لا مردّ لها.
ولذلك نحن نقترح أن ندفع بهذا النحو من الاضطرار الأصلي للقول في الغيرية كخارجيّة لا مردّ لها، إلى الحدّ الأقصى: أن نفحص عن الغير الذي انقلب إلى ضرب من "الداخل" أو بعبارة سلوتردايك "الفضاء الداخلي" (l’espace intérieur) الذي تشتقّ منه كلّ هوية مناعتها الخاصة. إنّ الفلسفة مدعوة هنا إلى امتحان مقولاتها ونظرها في الغيرية من خلال التساؤل عن طبيعة علاقتنا بالغير الأقصى الذي يجد في المقدّس، مهما كان شكله، نموذجا مثيرا.
ولنسأل قبلُ: بأيّ معنى يكون المقدّس غيرا محضا أو أقصى، ويكون رغم ذلك غيرا داخليا ؟ - إنّ المقدّس هو الغير الوحيد الذي لا تتأسّس العلاقة معه على "بربريّة" ما سواء أكانت أنطولوجية، كما لدى القدماء، أو فينومينولوجية، كما لدى المحدثين والمعاصرين. إنّ المقدّس ليس موضوع "لا وجود" ولا موضوع "سلب" ولا موضوع "وحشة" (Unheimlichkeit). إنّه ليس "بربريا"، أي لا يتكلّم لغتنا ولا "عدوّا"، أي منافسا في نمط وعيي بذاتي، ولا "غريبا"، أي منفياّ أو خارجيا (outsider) بلا وطن يزاحمني في بيتي ( mon chez-soi). ليست العلاقة معه معركة عن "معنى" الوجود ولا عن "هوية" الأنا ولا عن "جهاز" الانتماء. ولذلك فإنّ الحلول الأساسية لمشكل الغيرية بما هي حلول محايثة أي "الصداقة" لدى الإغريق و"الاعتراف" لدى المحدثين و"المسؤولية" لدى المعاصرين، هي حلول تقع خارج مدار الغيرية التي يفرضها علينا المقدّس. إنّ غيرية المقدّس ليست أنطولوجية ولا ذاتية ولا لغوية. ولذلك هي تفرض علينا نمطا خطيرا من العلاقة بالمفارق ظنّنا أنّ الإنسانية قد تخلّصت منه بمفعول الحداثة.
وعلى ذلك فالمقدّس يدعونا إلى نمط ملتبس من الغيرية ويفرض علينا أن نبتّ فيه كمشكل مدني جذري. وعلينا أن نبحث عن العلامات التي تهدينا إلى هذا الفضاء الداخلي للغيرية. ففي خصومة أفلاطون مع الشعراء حول وصف الآلهة ثمّ مسألة "تكسير الأصنام" (l’iconoclasme) وتحريم الصور في إسلام القرن السابع ميلادي ثمّ لدى الأباطرة البيزنطيين في القرن الثامن ميلادي، ثمّ ظاهرة التجديف على شخصية النبي محمد التي تحوّلت إلى فنّ قائم بنفسه من وقت الحروب الصليبية إلى اليوم مع حادثة "الرسوم المسيئة"، في كلّ هذه الظواهر ثمّة نمط غريب من الغيرية لا نسأل عنه إلاّ لماما. لنقل بعبارة جامعة: إنّ ثمّة صلة بين الغيرية والتحريم علينا أن نسائلها.
إنّ غرضنا هنا ليس إنتاج أبولوجيا جديدة بل إعادة الفلسفة إلى مكان "الجريمة". وذلك أنّ الفلسفة قد ارتبطت منذ سقراط بالنقاش عمّا ينبغي أو لا ينبغي أن يُقال أو يُحكى عن الآلهة. و "التجديف" (l’impiété) ليست ظاهرة أخلاقية جديدة، كما أنّ تحريك الجموع نحو حرق الكتب و منع الآثار الفنية لأسباب تقديسية ليست بدعة حديثة.
نحن نقترح أن نستجلي بعضا من الصعوبة التي تكتنف الصلة المثيرة بين مشكل "الغيرية" و"التحريم" من طريق الأمرين التاليين:
أوّلا- أنّ التفكير في معاني الغيرية قد يمكن أن يجد رافدا مثيرا في الفحص عن مسألة "الرسوم المسيئة" ؛ فبين "الغيرية" و"الإساءة" علاقة أصلية ينبغي مساءلتها.
ثانيا- أنّ معنى الغيرية ربّما يكون ناجما عن نمط خفي من "الغيرة" على "الهوية"، ومنه جاء معنى "الغيب" كمقام أصلي للهو الإلهي، ومن ثمّ أنّ بين "الغيرية" و "الإخفاء" صلة على قدر عال من الاعتبار.
ثالثا - أنّ حلّ مشكل الغيرية يفترض نمطا طريفا من "التعارف" – وليس من "الاحترام" أو "الاعتراف" أو "المعيّة" أو "المسؤولية"- لا تملك الإنسانية الحالية أيّ أدوات نظرية للتفكير فيه.
§ 1- الغيرية والتحريم : من معارك "الجماعة" إلى معارك "المناعة"
ما الذي وقع في وعي الإنسانية الإسلامية حين عمد كاريكاتوري دنماركي إلى عقد 12 رسما ساخرا من شخصية النبي محمّد ؟ - إنّه في الوقت الذي أخذ فيه النوع الإنساني بعامة يدافع عن نفسه، بل لنقل عن أنفاسه بالمعنى البيولوجي، ضدّ "انفلونزا الطيور"، انخرطت الجموع الدينية الأخيرة على الأرض في كلّ مكان أيضا للدفاع عن الاسم الكبير الذي يشدّ صلاحية قصصها الهَوَوي ضدّ ما سأسمّيه هنا "انفلونزا الرسوم". معركتان تزامنتا أمامنا بشكل محرج ومثير: هما بعبارات من سلوتردايك ،معركة "المناعة" (immunité) ومعركة "الجماعة" (communauté). هل هما في نهاية المطاف وبشكل كلبيّ معركة واحدة ؟ ربما. ونحن نريد أن نمتحن كلّ احتمالات "ربّما" المفكّرة والملتبسة هذه، التي أشار إليها نيتشه ذات مرة.
وعلينا أن نسأل للتوّ : أيّ علاقة بين مشكل الغيرية وبين قضية "الرسوم المسيئة" ؟ - يبدو أنّ الرسم المسيء هو القفا السيّئ من كلّ وجه، قد نشير إليه على أنّه "الآخر". ولكن كيف نسأل: ما هو الغير ؟ أم من هو الآخر ؟ من أفلاطون إلى ريكور، تحيّر الفلاسفة في أمر صيغة السؤال عن الآخر. هل هو "غير" أنطولوجي أم "آخر" فينومينولوجي ؟ إنّ انتقال الفلسفة من براديغم الوجود إلى براديغم الوعي قد غيّر المسألة بشكل مثير. "غيّرها" بمعنى أدخل عليها غيريّة ما، صارت فجأة جزء لا يتجزّأ من بنيتها.
ولكن أيّ دور نظري لظاهرة "الإساءة" في تخريج معنى الغيرية الفلسفية ؟
هل كتبنا التاريخ الميتافيزيقي لظاهرة الإساءة ؟ وبأيّ معنى علينا ألاّ نخلط بين معنى "الإساءة" الغيرية وبين السؤال التقليدي عن "أصل الشرّ" ؟
إنّ "الرسوم المسيئة" هي نفسها عبارة ليست بريئة وتحمل حكما مسبقا علينا الاحتراس منه. فما رسمه الكاريكاتوري الدنماركي كان "رسوما هجائية" (des desseins satiriques). لأوّل مرة نستعمل مصطلح "الهجاء" في الرسم. ولكن ألسنا نشهد بذلك انزياحا طريفا في التقليد الاستطيقي من فنّ "الهجاء" ( la satire) إلى فنّ "الكاريكاتور" (la caricature) ؟
وفضلا عن ذلك لماذا يسمّيها الفرنسيون "les images incriminées " – "الرسوم المجرَّمَة" ؟ من جرّمها ؟ ووفقا لأيّة قواعد قانونية أو أخلاقية ؟ ولماذا يسمّيها الألمان مثلا "Mahomet Karikaturen" ؟
إنّ الغيرية مبثوثة في كلّ ثنايا هذا الإحراج ما بعد الحديث للنبيّ الذي جعل من "تكسير الأصنام" (l’iconoclasme) المهمّة الأولى للنبوّة نفسها. وعلينا أن نعيد فتح السؤال عن "تحريم الصور" في الإسلام، لماذا ؟ أليس "تحريم الصور" هو من أطرف الطرق لطرح مسألة الغيرية ؟ ثمّ ما الفرق الميتافيزيقي بين "تكسير الأصنام" و "الرسوم المسيئة" ؟ نعني ما الفرق في نهاية المطاف بين التكسير والإساءة ؟ ألا يصدر كلّ منهما من نمط جذري من "حرية التعبير"، وبالتحديد إزاء آلة المقدّس التي تشدّ رؤية العالم عند شطر من جموع الإنسانية في عصر ما ؟
علينا أن نلاحظ أنّ "الغير" هو الذي تجرّأ على رسم ما كان "يُحرَّم" على المسلم أن يرسمه. إنّ الغير هو من رسم المحرّم، بل وهو لم يرسمه إلاّ بنيّة الإساءة إليه. وعلاوة على ذلك فهذا الغير قد رفض "الاعتذار" عمّا اقترفه من "ذنب" إزاء ذلك المحرّم.
دُفعةً واحدة، يبرز معجم جديد للـ"غيريّة" : الصورة والتحريم والإساءة والاعتذار.
بأيّ معنى علينا أن نأخذ هذه القضايا بوصفها إشارات متميّزة إلى معجم الغيريّة المبحوث عنه؟ - إنّ الفلسفة مطالبة هنا بأن تُخضع هذه المقولات إلى ما سمّاه أفلاطون، عند الفحص عن معنى "اللاّ-وجود" في محاورة السفسطائي، "استنطاقا معتدلا" ( une torture modérée) (237أ- 237ب).
ولكن أيّ موضع لمطلب "الاعتدال" إذا كان هذا الغير يرسم المحرّم ويرفض الاعتذار عن الإساءة إليه ؟ - إنّ الخطير هنا هو أنّ هذا الغير ليس جزء من وجودنا بل يقف خارج قدرنا. ولذلك فنواة الصعوبة لا توجد في نوع الفعل ولا حتى في الغاية منه، بل في طبيعة تصوّرنا لقدرنا، نعني لنمط المحرّم الذي نستمدّ منه مصادر أنفسنا. ولذلك فالاعتدال الذي أشار إليه أفلاطون عند مساءلة "اللاّ-وجود" إنّما هو ناتج عن كون الغير هو بالمعنى الصارم للكلمة "لا وجود" له. هو غيرُنا ولسنا. إنّ الغير لا يمكن أن يُقال أو يُفكَّر فيه إلاّ بقدر ما نخضعه إلى استنطاق معتدل. وهو ليس معتدلا إلاّ بسبب أنّ هذا الغير لا وجود له بالنسبة لنا. إنّه ليس جزء من نمط أنفسنا. وعلى ذلك هو يفرض علينا أن نعترف به بوصفه قادرا على رسمنا والإساءة إلينا.
إنّ الصورة بعامة هي نمط اختراع الغير. ليس الغيرُ غيرَ ما نرسمه عنه في فضاء أنفسنا. الغيرية إذن هي منذ أوّل أمرها إساءة. إنّها لا تنفكّ تأتينا من جهة القدرة على الرسم، نعني على إنتاج الأشباه ولكن أيضا في نفس الوقت من جهة العجز المستمرّ عن لقاء أصلي مع غيرنا بما هو نفسه هو أيضا.
- من أجل ذلك يبدو أنّ قضية "الرسوم المسيئة" اليوم لا يمكن اختزالها سبهللا في المقولة المسيحية البيزنطية "iconoclasme". فالأمر لا يتعلق بما سمّاه هيغل ضمن دروس في فلسفة التاريخ "die Bilderstreitigkeiten" – "معارك الصور"، بين إمبراطور انتصر للصور وبطريرك أخذ موقفا ضدّها أو العكس. إنّ الرسوم المسيئة لشخصية النبي محمد هي ظاهرة غيرية ما بعد حديثة وتحمل كلّ خصائص العصر الإمبراطوري الذي دخلته الإنسانية الحالية. إنّ هذه الرسوم قد انقلبت بسرعة برقية إلى قضية معولمة، نعني شبكية ورقمية وجمهورية. ومن ثمّ فإنّ نمط الإساءة قد أصابه تغيّر خطير: إنّه لم يعد ينبع من شرّ ميتافيزيقي أو رذيلة أخلاقية أو تكفير لاهوتي، بل من ممارسة لائكيّة لفنّ الكاريكاتور. هي إساءة، بالإضافة إلى كونها شبكية ورقمية وجمهورية، هي موقف لائكيّ بلا أيّ شحنة دينية، ولكن أيضا بلا أيّ طائلة قانونية.
وعلينا أن نتساءل: كيف أمكن لفنّ الكاريكاتور – وهو الوريث المعاصر لفنّ "الساتير" الروماني – أن يثير كلّ هذا الانفعال الجماهيري والحال أنّه استعمال عمومي وشرعي لحرية التعبير ؟ ما الذي دفع المسلمين، كأفق جماعويّ ذي توقيع روحي خاص، إلى خوض معركة جذرية مع جملة من الرسوم الكاريكاتورية ؟ هل نمط هويتهم و شعورهم بأنفسهم هشّ أو انفعالي إلى حدّ الحد المفجع ؟
§ 2- الغيرية والهوية: أو في الجذور البعيدة لمسألة "تحريم الصور". عناصر إجابة انطلاقا من ابن عربي
نحن لن نهتمّ بمسألة الغيرية إلاّ بقدر ما يمكن لها أن تساعدنا على بلورة الافتراض التالي: إنّ هشاشة النمط الهووي للمسلمين ناتج عن تأسيسهم لمعنى "الهوية" على معنى "الغيب". ونحن نجد أنّ ابن عربي قد قدّم صيغة نموذجية عن التفسير الصوفي العربي الإسلامي لمعنى "الهو" الإلهي من خلال فعل الإشارة إلى "الغائب" كمقام داخلي لأيّ شعور هَوَوي. يقول ابن عربي: "الهو [هو] الغيب الذي لا يصحّ شهوده" (ص417).
فلا يعني "هو" في لغة المتصوفة- وذلك في صلة أكيدة مع معناه النحوي أي الإشارة إلى ضمير الغائب- غير "الغيب" و "ما لا يصحّ شهودُه للغير" وهو "اعتبار الذات بحسب الغيبة والفقد". إنّ الهوية إذن هي ما لا يصحّ شهوده للغير. ولذلك فالغيبة جزء لا يتجزّأ من معنى الهوية. ولكن لم الغيبة ؟ - إنّ السبب هو "كراهية مشاركة الغير" في هوية الهو؛ ولذلك فإنّ السبب الأصلي في ترتيب الهوية على معنى الغيب، أي منع الغير من المشاركة الأصلية في هوية الهو، ليس شيئا آخر غير نمط طريف وغامض من "الغيرة". إنّ الغيرة على هوية الهو هي أصل الغيرية.
ولذلك فالصعوبة هي هذه: أيّ فعل غيرية ينتج عن تأسيس الهوية على معنى الغيب ؟ والجواب المؤقت هو: إنّ فعل الغيرية ههنا ليس سوى نمط طريف من الغيرة، هي غيرة الهوية.
إنّ معالجة هذا الأمر قد يمكن أن تمدّنا بأدوات تفكير واعدة لفهم ما جرى من أمر "الرسوم المسيئة" وتحوّلها إلى كارثة رمزية تهدّد المناعة الروحية لجماعة المسمين. ولأنّ هذه القضية قد طرحها أوّلا علماء الملة، أي "العامة" حسب ابن عربي، إذ يقول "وأعني بالعامة علماء الرسوم" (ص335)،- فإنّ مطلب الفلسفة هنا هو نقل المشكل خارج أفق اللاهوتي، والاشتغال عليه كحالة من حالات الغيرية التي تطرح نفسها على من يفحص عن هوية النوع الإنساني الحالي.
كلّ شيء في أفق المسلمين "غيب" أو ينبغي أن يغيب. ولذلك ينبّهنا ابن عربي إلى أنّ "هذا الفنّ من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق" (ص17) . وهو يحيل على حديث أبي هريرة : " حملت عن النبي جرابين فأما الواحد فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم" (ص18). لكنّ سبب الستر ليس توصية بعدم النشر أو تقية أو رقابة ، بل هو جزء من رؤية للعالم تقوم منذ أوّل أمرها على "نفي" صيغ هكذا: "لا إله إلاّ الله فهذه كلمة –يقول ابن عربي- تدل على أن النفي هو عين الإثبات هو عين النافي هو عين المثبِت هو عين المثبَت هو عين المنفي"(ص51). النفي هو أصل إثبات الهو الإلهي. "الهُو". هذا المصطلح مثير لأنّه يشير إلى أنّ ما نعتبره هوية هي نسبة إلى هو غائب. ومن ثمّ هو وصف مباشر لغيرية مستقلة بنفسها. إنّ أصل الهوية هو الغيرية، وليس العكس سوى ألق خطابي.
لذلك ليس من قبيل الصدفة أنّ بيت الداء في كل هذه الإوالية هو مشكل "الرؤية": هل يمكن أن نرى الهُو الإلهي ؟ - إنّ مجرّد تسمية المعبود "هو" هو نفسه توجيه للمطلوب نحو جهة ما لا يُدرَك (ص51). ولذلك يعترف ابن عربي بأنّه "لو كان الهُو ظاهرا ما كان الهو ولا كان الأنا ولابد من الهو فلابد من الخلاف" (ص53). إنّ الخلاف بين الهو والأنا هو أمر أصلي في طبيعة العلاقة مع المعبود، وليس استحداثا عرضيا.
لكنّ الخيط الهادي في هذا الطلب هو كما يقول ابن عربي : "أنّ العجز عن درك الإدراك إدراك" (ص28، 107). ولذلك ليست عبارة "الهو" نفسها سوى "كناية" (ص107). وعلى ذلك ما لبث ابن عربي يؤكّد أنّ معرفة "الهو" هي "عين لا علم" (ص 77). وأنّ "من رأى نفسه فقد رآه" (ص75)، وهذا معنى أنّ "الحس أشرف من العقل" (47) في هذا الباب.
نحن أمام طريقة تحتمل مفارقة: أنّ الهو لا يمكن أن يُعرَف إلاّ بالرؤية؛ أي أنّ نمط معرفته لا يمكن أن يكون إلاّ من طبيعة بصرية؛ وعلى ذلك فإنّ من يعرفه مطالب بما يسميه ابن عربي "قوة التستر عن أعين الخلق" (ص69). أي معرفة الهو الإلهي لا تكون إلاّ بصرية وعلى نحو فردي، لكنّ أخلاق تلك المعرفة تقوم أساسا على الستر والإخفاء، أو وظيفة الحجاب.
يقول:" إنّه من اشتدّ ظهوره في نوره بحيث أن تضعف الإدراكات عنه فيسمى ذلك الظهور حجابا" (ص123).
هذا النوع من معرفة الهُو يجعله في نفس الكرة هوية وغيرية، إبصارا وإخفاء معا. لكنّ المثير هو أنّ ابن عربي يقدّم هذه المعرفة على هذه الصيغة: " من كنته فإنّه يكونك" (ص78). وذاك هو الارتباط بين الهوية و"الأنّية"، بين هو و أنا(ص298) . إنّ معرفة الهو هي إذن سرّ فردي، ولذلك يعرّف ابن عربي الهوية قائلا:" الهوية حفظ الغيب فلا يظهر أبدا" (ص88).
ولكن كيف نحفظ الغيب في أنفسنا الفردية ؟
هنا علينا أن نذكر :"إنّ الله خلق آدم على صورته"( ص89). فإنّ "الصورة هي الهو" (نفسه). وعلى ذلك فإنّ العبد "لا طاقة له على مشاهدة الهو" (نفسه) ولو طمع في ذلك لكانت "تزول حقيقة الهو فإن الهو يتاقض الشهادة فهو الغيب المطلق" (نفسه). إنّ البشر يحمل الغيب كصورة فيه يراها ولكنّه مطالب بسترها. ولذلك ينبّهنا ابن عربي إلى أنّ عبارة "الأنا" ليست أفضل الطرق للعلاقة مع "الهو" أو للطمع في الاتحاد معه، وذلك أنّه ليس هناك اتحاد أصلا، وإلاّ سقطنا في ضرب من نزاع "الأنانيات" (ص109). ولذلك هو يقول:" الإنسان ساعته وساعته نفسه" (ص80). وهو "من يعرف جميع الألسنة ولا يُعرف له لسان فيقيّد به" (ص81).
هذا النمط من علاقة "الأنا" مع "الهو" هي حسب ابن عربي تخلّق بأخلاق الله (ص99). ولكن كيف ؟
هنا نقف على ضالّتنا في هذا البحث، حين نقرأ هذا المقطع من الحوار الذي يجريه السالك مع الهو : "يا إنّي [إنّية] قد تحققت بك منّي (..) [و] لم أطلبني منّي بإنّي لئلا تغار فتزول عنّي إلي فإنّه لا إنّ لي الأنا لك وإنّي بي ليس إنّي فإنّ الإنّ لك ولي بك لا بي..." (ص113).
إنّ العبارة المثيرة هنا هي "لئلاّ تغار" ؛ وهل الله يغار ؟ - علينا ننبّه إلى أنّ ابن عربي يميّز بين نمطين من الغيرة: "غيرة على" و "غيرة ل". قال:" غر للحق ولا تغر عليه"(ص209).
إنّ الغيرة هي غضب الهو من ألاّ يكون هو في كلّ أنا بشري. ولذلك فهويته هي غيب أي غيرة أصلية من أيّ أنيّة قد تزعم أنّها هي وليست هو. ومن فرط الغيرة لنفسه، يغيب الحق فلا يكلم أحدا إلاّ من وراء حجاب.
قال ابن عربي: "اعشق كلّ ما اشتهيته من الكون فإنّه لا يغار ولا تعشق نفسك فإنّه يغار، لأنك تقابل المعشوق بذاتك وهو يريدك له"(ص204).
إنّ البشريّة عشق إلهي للكون شأنه أن يترك الوجود على طبعه؛ لكنّ ما إن يحبّ البشر نفسه، أي ما إن يطمع في التألّه حتى يغار الهو الإلهي منه فيزول عن أفق روحه ويتركه غريبا في الكون. وليس للبشر من حلّ إلاّ التخلّي عن أنّيته، أي عن بنية الأنا فيه، وأن يسلّم بأنّ الهو هو الوحيد الذي يوجد، وما "سواه" هو "السوى" أي الغير بإطلاق (ص415) الذي لا حق له في أن يكون هو.
ما هي الفائدة في تخلي البشر عن حقهم في أنفسهم ؟ - أن يتوفّروا على هذا "الأدب الإلهي": كونهم " استتروا عن الكونيين وخبّأهم الحق تحت حجاب الغيرة والصون لهم بين الخلق"(ص297)
ولأنّ "الرؤية والكلام لا يجتمعان" (ص300)، فإنّ عليهم أن يقنعوا بما يُقال من وراء حجاب.
- إنّ تأسيس هوية المقدّس على غيرية مطلقة يؤدي فيها الغيب دورا حاسما هو الجذر البعيد لأزمة الرسوم المسيئة. وطالما نحن لم نفلح في تحويل المقدس إلى فضيلة وجدانية بلا تحريم لأنّها في نفس الكرة سلوك مدني بلا لغز ،فإنّ أزمات الرسوم ستتواتر بلا حدود.
خاتمة : الغيرية والاعتذار: نحو "عقد في الغيرية" (un contrat d’altérité) أو لا معنى لحرية تعبير بلا قدرة على الإساءة
علينا أن نعترف أنّ فنّ الإهانة بين الشعوب قد أخذ اليوم تقدّما مريعا. إنّه تحوّل إلى إهانة رقمية وعولمية مؤسسة على معنى لائكي وحقوقي لحرية التعبير. ولذلك فإنّه لا أقلّ من تطوير فنّ اعتذار من نفس الجنس، يكون في مستوى طرافة مشكل الغيرية الذي يطرحه هذا النمط الجديد من الإهانة.
ثمّة طرفان في هذه المسألة: إمّا أن نأخذ عن كانط افتراضه الأخلاقي بأنّ الحرية تجد أصلها في ضرب من الشرّ الجذري في طبيعة البشر؛ وإمّا تنبيه نيتشه ما بعد الأخلاقي بأنّنا لسنا أشرارا بما فيه الكفاية حتى نستحق التفكير ما وراء الخير والشر.
إنّ الرسوم المسيئة هي مسيئة بشكل مثير: فهي ليست مسيئة لسبب ديني، لأنّها لا تأتي من مؤسسة عقدية؛ وهي ليست مسيئة لسبب أخلاقي، لأنّها لم تصدر عن حكم قيمة؛ وهي ليست مسيئة لسبب حقوقي، لأنّها لم تنتج عن موقف إجرامي. إنّ الإساءة ههنا تنبع من شعور سويّ بحرية التعبير. إنّها إساءة لائكية في عصر يزعم أنّه ما بعد لاهوتي بلا رجعة.
ولذلك فهي تطرح مشكل الغيرية طرحا طريفا: إنّ الإساءة في حق الغير هي حق طبيعي في حرية التعبير. ولذلك فإنّ المفارقة التي ينبغي على الفلسفة ألاّ تتحاشاها هي: هل يمكن معالجة مشكل الغيرية على أساس الإقرار بحرية تعبير بلا أيّ قدرة على الإساءة ؟
إنّ افتراض كانط بأنّ الشرّ هو أصل الحرية لا يقدّم حلاّ للمشكلة. لأنّ هذا التفسير هو نفسه من أصل ديني. ليس الشر الجذري غير نقل مشكل الشر الأصلي من معجم الملة إلى معجم الطبيعة الإنسانية. ومن موقف عقدي إلى موقف أنثروبولوجي.
أمّا الإساءة الروحية على أساس حرية التعبير اللاّئكية فهي موقف ما بعد ديني وما بعد أخلاقي لا نملك أدوات كافية لفهمه. من أجل ذلك لا مخرج من هذا النوع من المشاكل التي ستُثار في المستقبل سوى بنقل الصعوبة من مشكل هووي بلا أفق ، هو الذي رتّب تاريخ الجماعات البشرية إلى حدّ الآن، - إلى مشكل حيوي هو أمارة قوية ونموذجية على مشاكل المناعة التي سيخوضها الحيوان البشري في القرون القادمة. إنّ الخطّ الذي ينبغي أن نراجعه منذ الآن لم يعد ذاك الخطّ الرومانسي الذي يفصل بين الأديان أو الشعوب أو الثقافات؛ بل صار الخطّ ما بعد الدارويني بين ما هو صحّي وغير صحّي بالنظر إلى مناعة النوع الحيواني الوحيد على الأرض الذي مازال يستمدّ من معارك الإساءة والاعتذار سقفا رمزيا لوجوده في العالم.
من أجل ذلك فإنّ ما يحتاجه الحيوان البشري راهنا هو ترتيب سياسة في الاعتذار تفضي إلى إرساء نوع من عقد الغيرية ( un contrat d’altérité). وعلى عكس ما يُتوقّع فإنّ سياسة الاعتذار ليست نزاع اعتراف مكبوتا أو خفيا أو مقلوبا، لأنّها ليسن مجرّد "ردّ فعل" بل هي بعبارة سلوتردايك "une sur-réaction) : هي أكثر من ردّ فعل، لأنّها نمط طريف من "المبالغة" في الإحساس بالحاجبة إلى "نمط إنساني جديد"(un nouveau type humain) كان نيتشه قد دشّن الطريق إلى البحث عنه حين حاول نقل مشاكل الغيرية بين البشر من مشكل هووي إلى مشكل حيوي. إنّ ما يخيف من تجربة الرسوم المسيئة هو أنّ الإنسانية المعاصرة التي استغنت إلى حدّ كبير عن أجهزة الحرام أو "التابو" في بناء الحرية الشخصية للفرد لا تملك بعدُ آدابا مناسبة لحلّ مشاكل الغيرية. وذلك يعني أنّ العقل الحديث ما زال يعاني من قرويّة مفزعة في كل مرة يضطر فيها للدفاع عن نفسه. وإنّ هابرماس هو أفزع مثال عن هذا الموقف. إنّ أخلاق الحوار عنده لا تتخطّى أعضاء التأليفة المسيحية-اليونانية، فهي وحدها التي تكوّن الجماعة المثالية للمتحاورين الجيدين والمثال الوحيد على كونية العقل.
يقوا ابن عربي : "لولا الجود ما ظهر الوجود" (ص148). إنّ فعل الغيرية الوحيد الذي يمكن أن يكون أوّل بند في عقد الغيرية هو "الجود"، وذلك كنمط عال من "الغيرة" على الإنسانية في شخصنا أو في شخوص الآخرين.



#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نثر في حديقة نفسي ، بعد ألف سنة مما تعدون


المزيد.....




- جاءه الرد سريعًا.. شاهد رجلا يصوب مسدسه تجاه قس داخل كنيسة و ...
- -ورقة مساومة-.. الآلاف من المدنيين الأوكرانيين في مراكز احتج ...
- -مخبأة في إرسالية بطاطس-.. السعودية تحبط محاولة تهريب أكثر م ...
- -غزة.. غزة-.. قصيدة ألمانية تستنطق واقع الفلسطينيين وتثير ال ...
- بسبب هجومات سيبرانية.. برلين تستدعي سفيرها في موسكو للتشاور ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- بوتين للحكومة في اجتماعها الأخير: روسيا تغلبت على التحديات ا ...
- مصر.. اتحاد القبائل العربية يحذر من خطورة اجتياح رفح ويوجه ر ...
- تقرير: مصر ترفع مستوى التأهب العسكري في شمال سيناء
- بعد ساعات على استدعاء زميله البريطاني.. الخارجية الروسية تست ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحي المسكيني - الغيرية والاعتذار أو الفلسفة ومسألة -تحريم الصور-