|
يا ورَادِي يا مْعَلِّمْتي!
نعيم الخطيب
الحوار المتمدن-العدد: 3662 - 2012 / 3 / 9 - 20:18
المحور:
الادب والفن
كنتُ عائدًا من مدرستي، عندما استوقفني في الملعب البلدي شابّان مراهقان، أعرفُ أحدَهما. وكنتُ مؤدّبًا، ومطيعًا، تمامًا كما ربّتني عمّتي النّاظرة (السّتّ فاطمة)، الّتي خلا بيتُنا الكبيرُ إلاّ منها، ومن والديّ. طلبا منّي يومَها أن أنتظرَ حتّى يفرغا من كتابةِ رسالةٍ، لكي أحملَها إليها. لم أعترض، وإن بدا خبثُ نظراتِهما، وتغامزِهما، واضحًا حتّى لطفلٍ ساذجٍ مثلي. نولدُ هكذا، ثمَّ نقايضُ وعيَنا بقليلٍ من براءتنا، وبعضِ الخطايا. ولكن لماذا تغيظُ (السّتّ فاطمة) كلَّ منتصرٍ لرجولتِه؟ لماذا يصرُّ مثلُ هؤلاءِ على إيذائِها؟ ولماذا كان الأولادُ الصّغارُ يهتفون باسمِها عندما كنّا نمشي سويّةً في شوارعِ المخيم، ولماذا كنتُ أشعرُ بالغصّةِ حينَها، ولاعيبَ في اسمِها؟ "جبّارة (السّتّ فاطمة)، يا ورادي ما أجبرها!"، طالما سمعتُها ممّن لا يعرفونها كما أعرفُها، ولا يرون سوى عصا الخيزران في يدِها. كان صوتُها في طابور الصباح يضبطُ حتّى خطى المارّين إلى السّوق، بمحاذاةِ المدرسة. أمّا دخولُ المدرسةِ فكان ممنوعًا (للزّعرانِ) المتلصّصينَ على حفلةِ عيدِ الأمِّ من فوقِ أسوارِ المدرسة، وكذلك لجنودِ الاحتلال، وحتّى للشّبّانِ المتظاهرينَ القادمينَ لإخراجِ بناتِ المدرسةِ أثناءَ الانتفاضة، بنمطٍ يوميّ. بدأت حياتَها المهنيّةَ مدرِّسةً، بعد تخرّجِها من الرّابعِ الإعداديّ [الصّفِّ الثّامنِ الحاليّ]، ربّما لطولِ قامتِها. ولهذا السّببِ أيضًا، حملت ـ بعد أربعينَ عامًا ـ مدرسةُ البناتِ الإعداديّةُ المجاورةُ لبيتِنا اسمَها، وكذلك الشّارعُ المؤدّي إلى المدرسة. تهمسُ المدرِّسةُ حديثةُ التّعيين في مدرستِها، مستفسرةً: "ما تخصّص النّاظرة؟"، "التاريخ"، يجيبُها المدرِّسون الآخرون، وقبل أن تتنفسَ الصّعداءَ، يكملون بلؤم: "لكنّها تهوى الرياضيّاتِ، وتجيدُ اللّغةَ الإنجليزيّة". كانت معلّمةً بديلةً جاهزةً دائمًا، لها طريقتُها الخاصّةُ في التّدريس. وكان للطّالباتِ المتفوّقاتِ دفترٌ اسمَه "دفتر النّاظرة". وكانت أوائلُ الطّالباتِ على مستوى القطاعِ من طالباتِها غالبًا. وكذلك الفائزاتُ في مسابقاتِ الكرةِ الطّائرةِ، وكرةِ الطّاولةِ، ومسابقاتِ الشّعرِ، والخطِ ـ اللّواتي كانت تشرفُ بنفسِها على تدريبهنّ. وعندما كانت النّاظرةُ ـ الّتي لا تعرفُ الرماديَّ، ولا تهادن ـ تعدُّ جدولَ الحصصِ الأسبوعيّ، لم يكن يفوتُها أنَّ إحدى المدرّسات لا تستطيعُ حضورَ الحصّةِ الأولى والثّالثةِ لأنَّ حماتَها لن تستطيعَ رعايةَ ابنِها المعاقِ في تلك الأوقات، وأنّ البعضَ يفضّلُ تدريسَ حصّتين متتابعتين في الدّورِ السفليِّ أو العلويِّ حتّى لا يرهقَه السّلّم، وأنّ مدرسيّ كلِّ مادّةٍ يجب أن يشتركوا في أوقاتِ فراغِهم. لا تنسى (السّتّ فاطمة) أحدًا، فأولياءُ الأمورِ كان لقاؤهم يومَ السّبتِ من كلِّ أسبوع، وفي أحدِ اللّقاءاتِ اشتكى أحدُ الآباءِ أنّها تحرّضُ ابنتَه على عدمِ طاعتِه؛ حيث كانت ابنتُه قد رفضت الذهابَ وحدَها لأحدِ المتاجرِ، بحجّةِ أنَّ ذلك مخالفٌ لتعليماتِ النّاظرة. جميلٌ أن ينامُ الأبُ مطمئنًّا، وثقيلٌ أن تقرأَ النّاظرةُ كتابًا عن قصّةِ جاسوسٍ وطرقِ الإسقاطِ الّتي تتّبعُها المخابراتُ الإسرائيليّة. وعندما كانت تعدُّ عصيرَ اللّيمونِ لإحدى بناتِها، أو تعطي إحداهنَّ قرصًا لتخفيفِ آلامِ دورتِها، أو تحضرُ ملابسَ من بيتِها لأخرى تكتشفُ نزفَها لمرّة أولىٍ، كان الامتنانُ يختلطُ بالدّهشةِ دائمًا: "يا ورادي يا معلِّمتي ما أحسنِك! ليش بقولو عنِّك جبّارة؟". توالت الأجيالُ على المدرسة، وبقيتُ (ابن أخو النّاظرة)، الطّفلَ المدلّلَ الّذي يدخلُ الفصولَ وغرفَ المدرسين والمكتبة، ويلعبُ الكرةَ في ملعبِ المدرسةِ، ويقودُ عربتَه الصغيرةَ في ممراتِها. تمامًا كابن (الدّاية) [القابلة]، كما يقولُ المثل. وكنتُ لا أستطيعُ النّومَ ابتهاجًا وتوقّعًا، يومَ الرحلةِ المدرسيّة إلى الخليل، والقدس، وعكّا، ويافا، وحيفا، ورأس الناقورة، وطبريّا، وبانياس، وعين جدّي. وفي البيت، كان تعليمي يقع على عاتق عمّتي، فأمّي الأخرى لم تكن تعرفُ القراءة، وأبي غائبٌ معظم الوقتِ في عملِه. وكانت المنافسةُ على أشدِّها بين عمّتي، وإحدى مدرّساتِها، الّذي ينافسني ابنُها دومًا على الترتيبِ الأوّلِ في الفصل. كانت تصنعُ كنزاتِ الصّوف، و(الكلاكيلَ) الّتي تهترئُ سريعًا عندما أستخدمُها كحذاء. وكانت أيضًا تصنعُ الكعكَ كما لا يصنعُه أحد، ولديها آلةٌ عجيبةٌ لصنعِ قوالبِ البسكويت، وأكوابٌ زجاجيّةٌ صغيرةٌ خاصّةٌ لمشروبِ الكاكاو. وكانت مدينةُ غزّةَ قريبةً لأنّ عمّتي تعرفُها جيّدًا، وتعرفُ ناسَها. كان أبي يناديها (أمّ الشّيخ)، والشّيخ هنا منسوبٌ إلى جدّي. وكان يعاملُها مفترضًا أنّها هشّةٌ، قابلةٌ للكسر. أمّا أنا فلم أفهم داعي قلقِها في المرّاتِ الّتي تحدّثَت فيها مع أبي على إثرِ استدعائِها لمقابلةِ الحاكمِ العسكريّ. وفي عامِ 1982، قامت رفحُ ولم تقعد، حينما قام أحدُ جنودِ الاحتلال باغتصابِ فتاةٍ في الثانويّة. عادَ أبي مساءً من اجتماعٍ للأهالي في البلدية، ولخّصَ الأمرَ بكلمتين: "البنت خربت"، وطلب منّي ليلتَها أن أبيتَ في غرفةِ عمّتي. لم أفهم تمامًا ما علاقةَ عمّتي بالأمر. لكنّها لم تنم ليلتَها لسببٍ أجهلُه، ولم أنم بطبيعةِ الحال، استعدادًا لمظاهرةِ الغد. ظلّت عبارةُ: "ما شاء الله! يا ستّ فاطمة، هادا نعمان إلّي كان ييجي على المدرسة وهو زغير؟"، حتّى بعدما توقّفَ الجميعُ عن مناداتي بهذا الاسمِ بسنوات، وبعدما منعني الخجلُ من التردّدِ على المدرسة. إلى أن دعتني عمّتي يومًا إلى حضورِ حصصِ المراجعةِ في مدرستِها مع الطّالبات، وكنتُ في اجازة من مدرستي استعدادًا لامتحانِ الشّهادةِ الإعداديّة. وبينما لم تسهم التّجربةُ في زيادةِ تحصيلي العلميّ، أو نتيجتي النهائيّة، فقد أعادت صياغتي. لا أعتقد أنّ عمّتي اختارت الفتاةَ الّتي جلستُ بجوارِها صدفةً، وعندما ارتبكت الفتاةُ، طمأَنَتْها: "زي أخوكي". صارت بعدها تناديني: "زميلي" ـ كلمةٌ لم أسمعها من قبل. للبناتِ رائحةٌ خاصّة، والفتاةُ إلى جواري كانت تسبقُني بعشرِ سنواتٍ فضائيّة؛ تزوَّجَتْ حتّى قبل أن أستقرَّ على خيارٍ جامعيّ. وتقاعدت النّاظرة ـ عن المدرسة فقط ـ وظلّت تجمعُ الفتياتِ حولَها في مقرِّ الاتّحادِ العامِّ للمرأةِ الفلسطينيّة، تفعلُ ما تجيدُ فعلَه دائمًا. تعلِّمهنَّ الحياةَ، وأشياءَ أخرى. تبدأ تعليمَ التطريزِ للفتاةِ المبتدئةِ على قطعةِ خيش، ثم تنتقلُ عند تقدّمِها لاستخدامِ الكانفا، أمّا من تجيدُ الغرزةَ المتماثلةَ على الوجهين فتستخدمُ القماش. تسلّمُ عليها في الشارع فتاةٌ لا تعرفُها: "أنا بنت فلانة، ماما حكتلي عنّك. مين ما بيعرفك يا أبلة"، وتسألُها أخرى تجرُ سنواتِها خلفَها: "فاكراني يا ستّ فاطمة، أنا كنت في فريقِ الطائرة؟"، أمّا مديرُ منطقةٍ تعليميّةٍ، فلا يخفيها سرًّا: "منذ أن خرجتُ من مدرستِك، لم أتعلم شيئًا جديدًا". وبصوتِ النّاظرةِ أخذت تندّدُ بالنّساءِ الباكيات، عندما استشهدَ ابنُ عمٍّ لي. وعندما مرّوا بالجثّةِ المتفحّمةِ أمامَها، استوقفتهم، وانشَطَرَت اثنتين، وكالحيتانِ بكت. وانشطرتُ بدوري اثنين: نصفٌ يتبعُ خطوَ المحمولِ على الأكتافِ، دمًّا على الطريقِ، ونصفٌ ظلَّ يراقبُ عمّتي، ويهذي: "(السّتّ فاطمة) انكسرت!". قبلَ أسابيع، رأيتُ في منامي بعدَ الفجرِ، سيّدةً راحلةً من العائلة، حضرت بصحبةِ رجلٍ صالحٍ، بهيِّ الطلعةِ، أحمرَ الوجه، لم أره من قبل. وقد أغاظني أنَّ عمّتي قد لثمت يدَه. في صباحِ ذلك اليوم، تجمّعنا حولَها في المشفى، ولم يخفِ الطّبيبُ فظاظتَه: "إنَّه كسرُ ما قبلَ الموت". سألت الممرضةُ عند دخولِها الغرفةَ: "كلكو ولادها؟"، وأدهشنا أنفسَنا عندما أجبنا في وقتٍ واحدٍ، وبصوتٍ واحدٍ، وبنبرةٍ واحدة. وبعد يومٍ، وإجراء جراحيّ. وقفَ الطّبيبُ مندهشًا ـ وهي تعطي تعليماتِها واضحةً، وصارمةً لمن حولَها، في كيفيةِ المساعدة، وتوزيع الأدوار، وخصّتني بمهمّةِ رفعِ قدميها معًا وفي نفسِ الوقت، تمامًا كما أرشدتني ـ يراقبُها أثناءَ محاولةٍ أولى للمشي بواسطةِ جهازٍ مساعد. يقولون عادةً: وقع فلان وانكسر، ويقولُ الطّبيبُ: انكسر فلان ووقع، وتبالغ (السّتّ فاطمة) في اثباتِ فرضيّةِ أبي. وفيما كان الطّبيبُ يبحثُ جاهدًا عن الكلمةِ المناسبة، مازَحَتْهُ قائِلةً: "أعرف بماذا تفكّرُ الآن، نعم أنا جبّارة!". وفيما تبدو الخاتمةُ مؤاتيةً، يهمُّ الكاتبُ بجمعِ أوراقِه، ويقفزُ (ابن أخو النّاظرة) ثانيةً إلى النصّ: انتظر، لم أقلها ولا مرَّةً واحدةً بعد... (اللّهم اشفني، لأظلَّ في خدمةِ الناّس)، أهذا دعاءُ الواثقِ، أم المنكسر؟... كنّا نلعبُ الورقَ أثناءَ منعِ التجوّل، وكانت تكرهُ الهزيمة... سافرَت في الإجازةِ الصيفيّةِ إلى القاهرة، لإكمالِ دراستِها الجامعيّةِ الّتي توقّفت قبل سنواتٍ بسببِ الحرب، الامتحاناتُ بعد اسبوعين فقط، ولا وقتَ لجمعِ المدوّناتِ ودراستِها. كانت تكتبُ وتحفظُ ما تكتبُه، وعادت وأثرُ القلمِ محفورٌ في أصابعِها... لم تنم ليلةَ أن قَرَأَت اسمي في الجريدةِ، مقبولاً في الدّفعةِ الأخيرةِ في كليةِ الهندسة... عروسي الّتي رأتني في منامِها، تعلم جيّدًا أنَّ عمّتي قد أهدتني ما هو أكثر من حلّةٍ للعرس... أبو عمّار فضَّ اجتماعًا للقيادةِ مرّةً، غاضبًا كعادتِه، وبلهجتِه المصريّةِ ذاتِها: (يبقى فاطنة كان عندها حقّ)... صديقٌ كتومٌ همسَ في أذني ذات يوم: في مطلعِ السبعينيات، كانت هناك خليّةٌ فدائيّةٌ، لم يُقبَض على أحدٍ من أعضائِها، خرج رجالُها من الأرضِ المحتلّةِ، وبقيت سيدتان. أنت الآن تعرفُ إحدَاهما أكثرَ ممّا يجب. ويتململُ الكاتبُ، ويَصِرُّ رتاجُ الحكاية. أعلم أنّني لم أقلها بعد: يا أخي، والله إنها جبّارة (السّتّ فاطمة)!
8 آذار 2012
#نعيم_الخطيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في انتظارِ السّيّدة، أو قِفَا نحكِ
-
ليس في بيتي مدخنة
-
أربعٌ وعشرون
-
هنا اسمي كاملٌ
-
وهبطَ كَهْلاً
-
ستريت بيرفورمرز دليلُ المُشَاهِد
المزيد.....
-
استمتع بأجمل وامتع الأفلام والبرامج الوثائقية على قناة ناشيو
...
-
مش هتقدر تغمض عنيك .. تردد روتانا سينما نايل سات وعرب سات 20
...
-
قصة ميشيكو.. كيف نجت فتاة يابانية من القنبلة النووية؟
-
-ذاكرة أمّ فلسطينية-.. أدب يكسر قيود الأيديولوجيا
-
فيديوهات مخلة.. فنان مصري شهير يتعرض لعملية ابتزاز
-
بعد سقوط نظام الأسد.. الفنان دريد لحام يوجه رسالة إلى السوري
...
-
اكتشاف كنز من التسجيلات غير المنشورة لمايكل جاكسون
-
تعرضوا للخسارة أو شاركوا في القتال.. 5 فنانين تأثروا بالحروب
...
-
ورشات الأطلس في مراكش.. نوافذ للمخرجين السينمائيين الشباب عل
...
-
الثقافة أولاً .. تردد قناة بابل 2025 الجديد على النايل سات و
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|