أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جواد بشارة - تقرير عن النفوذ الفرنسي في أفريقيا















المزيد.....



تقرير عن النفوذ الفرنسي في أفريقيا


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 246 - 2002 / 9 / 14 - 00:22
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


 

 : مركز الدراسات العربي ـ الأوروبي بباريس

النفوذ الفرنسي في أفريقيا والمنافسة الأميركية وإسرائيل والاتحاد الأوروبي ودورهما في هذا التنافس على النفوذ في القارة السوداء

من المعلوم للباحثين والمحللين والمراقبين أن القارة الأقريقية مليئة بالمشاكل  المعقدة الناجمة عن  المرحة الإستعمارية والحرب الباردة وصراع الأقطاب الدولية على النفوذ والهيمنة مما زاد من حدة المشاكل القائمة في الأصل في هذه القارة وعلى رأسها الفقرة والمجاعة والجهل وإنتشار الأمراض والأوبئة الفتاكة وتقهقر معدلات التنمية والتضخم السكاني والصراعات العرقية والاثنية والحروب الأهلية مما جعل القارة السوداء غير قادرة على اقتحام عصر العولمة والحداثة والتقنيات المعاصرة ووسائل الاتصال الحديثة  والمعلوماتية الخ .. فهي غير مسلحة أو مؤهلة بما فيه الكفاية لمواجهة تحديات العصر .
ومما لاشك فيه  أن الأوضاع الداخلية السائدة في أفريقيا والفوضى السياسية وعدم الاستقرار  الأمني ينعكس سلباً على الأمن العالمي حسب اعتقاد الدوائر الغربية مما يجعلها تبرر تحرك أوروبا وأميركا لإحتواء هذه المشاكل في جو من الصراع والتنافس أكثر مما هو جو من الوفاق والتنسيق والتعاون  فيما بينهما ، ذلك لأن أفريقيا لايشملها نظام للأمن الجماعي ، ولا حلف عسكري إقليمي ، ومن ثم لايمكنها مواجهة هذا الكم الهائل من المشاكل الاقتصادية  والأمنية  والصراعات الاثنية ـ العرقية لوحدها ، خاصة وأن الغرب مسؤول عما آلت إليه أوضاع أفريقيا بسبب الآثار  الموروثة من العهود الاستعمارية ، والاستغلال الغربي للثروات الأفريقية ونهبها والترسيم الاستعماري العشوائي والاعتباطي النابع من مصالح ذاتي ضيقة للحدود بين الدول الأفريقية . بيد أن الولايات المتحدة الأميركية غالباً ما تتحرك بمعزل عن أوروبا وتسعى جاهدة لوراثة وشغل النفوذ الفرنسي السابق والمنحسر تدريجياً عن هذه القارة خاصة في دول جنوب الصحراء ، بينما تسعى أوروبا وتخطط للاستفادة بأقصى ما تستطيع من مشاكل القارة دون محاولة إيجاد حلول عملية ناجعة . بدت ملامح التنافس ، إن لم نقل الصراع ، واضحة جلية منذ العام 1999 بجولة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون الأفريقية والتي انبثقت عنها فكرة إنشاء قوة تدخل سريع أميركية لدول الجنوب رافقها تقليص للوعود الاقتصادية المعطاة لأفريقيا ، ورداً على الجولة الرئاسية الأميركية تم تنظيم المؤتمر الأوروبي ـ الأفريقي  في نيسان / أبريل سنة 2000 في القاهرة لكن المؤتمر لم يتوصل إلى قرار إسقاط أو إلغاء الديون الثقيلة على كاهل القارة الفقيرة والتي تجاوزت الـ 300 مليار دولار وما يترتب عليها من فوائد باهظة ولم تلق المبادرة الفرنسية ـ البريطانية ـ الأميركية  بتشكيل  قوات لحفظ السلام في أفريقيا تأييداً مشجعاً وحماسة بل جوبهت بشروط تقييدية من قبيل: ماهي الضمانات في استمرارية هذه القوة وماهي نوعية المساندة التي ستقدمها وتحتاجها ومن الذي سيقدمها ، وماهي طبيعة العمليات التي ستوكل إليها ومن الذي سيمولها ومن سيشترك في تشكيلها وما هي أهدافها على المدى الفوري والبعيد وغيره من المعايير والشروط والتحفظات التي أجهضت المبادرة . واشترطت الدول الأفريقية دوراً قوياً لمجلس الأمن والأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية مما حدا بأطراف المبادرة إلى العزوف عنها وغض النظر، لأنها كانت تنوي من وراء تحركاتها ومخططاتها استعادة مستعمراتها السابقة ووضعها تحت حمايتها بحجة التعاون العسكري والدفاع المشترك الذي سيكون في نهاية المطاف لصالح الجانب الغربي .استفحلت الأزمة الاقتصادية في القارة في الربع القرن المنصرم وصارت أغلبية الدول الأفريقية تعاني من الجفاف  وانتشار الأمراض المتوطنة  والتصحر وتدهور المحاصيل الزراعية مما أدى إلى ازدياد  تدهور دخل الفرد  والدخل القومي وإنهيار القدرة الشرائية للأفراد وتفاقم التدهور البيئي وفوق ذلك تبعات  أزمة المديونية الحادة  حيث بلغت الديون الخارجية أكثر من 600 بليون دولار  في نهاية سنة 1998 مما يمثل نسبة 44 % من إجمالي الناتج القومي ، وحوالي 227 % من حصيلة الصادرات الأفريقية للخارج وقد كبحت خدمة الدين كافة برامج التنمية في القارة .
كانت زيارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون لأفريقيا  قد اثارت الخوف والترقب والحذر الشديد في فرنسا  بالرغم من تصريحه بأنه " لا يريد طرد فرنسا من أفريقيا " إلاّ أن المواجهة الأميركية ـ الفرنسية على الساحة الأفريقية باتت أكثر وضوحاً فكلما أنسحبت فرنسا من شبر احتلت أميركا شبرين مكانه . فعندما قامت فرنسا بخفض عدد قواتها المرابطة في أفريقيا بمعدل الربع تقريباً بادرت الولايات المتحدة إلى تشكيل وتدريب قوات أفريقية بديلة تقوم بمهمة حفظ السلام في القارة التي تمزقها النزاعات الإقليمية والمحلية والحروب الأهلية ، بحجة مساعدة  البلدان الأفريقية على تحسين أوضاعها المستقبلية .
حاولت السلطات الفرنسية شرح خطواتها التراجعية بأنها تأتى في إطار خطة شاملة   لسياسة فرنسا الأفريقية ، بعد الأحداث التي شهدتها المنطقة في عام 1994 ( منطقة البحيرات الكبرى ، والمجازر الجماعية في رواندا، وسقوط نظام موبوتو في الكونغو ـ الزائير سابقاً ـ والذي كانت تدعمه باريس) ، وقالت الدوائر السياسية الفرنسية أنها تحاول إزالة صفة الوجود الاستعماري الفرنسي عن نفسها برغم حصول جميع الدول الأفريقية على استقلالها .
والحقيقة أن النفوذ  الفرنسي في القارة الأفريقية كان في الماضي قوياً ومؤثراً  لكنه مُني بهزائم متتالية وتفاقم النفقات العسكرية التي تثقل كاهل الميزانية الفرنسية في الداخل والخارج ،خاصة وأنه كان على فرنسا ترشيد اقتصادها ونفقاتها للدخول في نظام العملة الأوروبية الموحدة . وحاولت فرنسا طمأنة الدول الأفريقية المرتبطة بها  بالرغم من تقهقرها وتراجع نفوذها بأنها  ستفي بكافة التزاماتها الدفاعية نحوهم . وقد قام وزير الدفاع الفرنسي السابق بجولة على عدد من الدول الأفريقية في شهر تموز/ يوليو  وأعلن أثناء  جولته أن القوات الفرنسية المتبقية في أفريقيا لن تتدخل في النزاعات القائمة بين مختلف القوى والأطراف الأفريقية في أي بلد كان وأنه سيعاد النظر في خارطة تواجد وتوزع هذه القوات ومواقعها .
أما رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان فقد صرّح " بأن السياسة الفرنسية الجديدة تجاه أفريقيا تهدف  ، بالاتفاق مع جميع رؤساء الدول الأفريقية ، إلى أخذ الاهتمامات الأمنية للدول الأفريقية في الأعتبار بشكل أفضل ، وشدد على رغبة فرنسا في إنشاء قوة من الدول الأفريقية لحفظ السلام لكي يتاح لها أن تملك زمام الأمور بنفسها . وبالرغم من ذلك تسعى باريس لإعادة توزيع قواتها في أفريقيا وفقاً لاستراتيجية أمنية جديدة ، بعد أن كانت تتمركز في قواعد محددة موزعة في أفريقيا الوسطى ، والغابون ، والتشاد ، وساحل العاج ، وجيبوتي ، والسنغال .
وقامت وزارة الدفاع الفرنسية بالفعل بإغلاق قاعدة " بوار" في جمهورية أفريقيا الوسطى مقابل تقوية وتعزيز مواقع لها في الغابون وتشاد لأسباب استراتيجية .
لايمكن مقارنة نفوذ باريس اليوم بما كان عليه في الماضي في الدول الأفريقية فهو ليس فقط ضعيف ، بل يمكن القول أيضاً أنه غير فعّال ، بالرغم من التواجد العسكري وتقديم المساعدات المادية والاقتصادية والعسكرية إلى الدول الأفريقية الشريكة .
لم تستوعب باريس جيداً التحولات الدولية  في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وإنتهاء مرحلة التنافس القطبي مما كان يترك لها مجالاً للمناورة في إطار التنافس على مناطق النفوذ بين الكتلتين الشرقية والغربية . ولكن بعد حرب الخليج ظهرت الولايات المتحدة باعتبارها القوة الدولية العظمى في العالم وباقي حلفائها يدور في فلكها  مما اصابها بالغرور  والانفلات والتهور فقررت مراجعة الكثير من تحالفاتها وعلاقاتها  الدولية وإعادة صياغتها وفق مصالحها  الخاصة فقط .
وبالتالي فقد ارتكبت فرنسا العديد من الأخطاء في تعاملها مع الأزمات والملفات الأفريقية مما قاد إلى خسارتها لمصداقيتها ومكانتها  السابقة لدى العديد من الزعماء الأفارقة والشعوب الأفريقية وقد تخبطت سياستها في تلك المنطقة وتورطت في أسوء الحروب دموية خاصة تلك التي حدثت في منطقة البحيرات الكبرى . فقدمت باريس الدعم لقبائل " الهوتو " في رواندا  سنة 1994 إبان حكم  الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران رغم أنها تعرف أن تلك القبائل كانت تقوم بمجازر ضد قبائل " التوتسي " وذلك في أعقاب إسقاط طائرة الرئيس  الرواندي جوفينال هابياريمانا  الذي ينتمي إلى قبيلة الهوتو  وكانت نتيجة هذا التدخل الأخرق وقوع مئات الآلاف من الضحايا .وقد دفعت فرنسا ثمناً باهظاً وحُمِّلَتْ مسؤولية ما حدث خاصة بعد استيلاء الجبهة الرواندية على الحكم وبدء عمليات مطاردة وانتقام واسعة ضد " الهوتو " ومحاكمة المسؤولين منهم عن المجازر التي ارتكبوها ضد " التوتسي " وهروب مئات الآلاف إلى زائير ليواجهوا الموت هناك أيضاً على أيدي مسلحي التوتسو الذي شاركوا في عملية إطاحة بنظام موبوتو  الذي تدعمه فرنسا  وحصلوا على دعم وتعاون مع حكومة  بوروندي " التي تحكمها قبيلة التوتسي أيضاً والتي تتمتع بالدعم الأميركي .فلم تتمكن فرنسا من توفير الحماية لحوالي مليون لاجيء رواندي مشردين في الغابات الزائيرية حتى تعرضوا للموت ولأنواع  العذاب الشديد وهذه مسؤولية إنسانية تقع على عاتق فرنسا ، ولم تنجح في حماية نظام موبوتو من السقوط بقيادة المعارض لوران ديزيريه كابيلا  الذي يحظى هو الآخر بدعم الولايات المتحدة الأميركية .
فأميركا ماطلت وناورت لتمنع فرنسا من تشكيل قوة سلام دولية لاتكون فيها لأميركا اليد الطولى . وكذلك ممانعة الحكومة الرواندية الجدية  والانقلابيين الزائرييين لقناعتهم بأن فرنسا تهدف من وراء مساعيها إلى إعادة الاعتبار للـ " الهوتو " المؤيدين للنظام الرواندي السابق الموالي لفرنسا . وأخطأت فرنسا مرة أخرى عندما حاولت مستميتة إنقاذ نظام موبوتو بمده بالمال والسلاح والمرتزقة الذين وقفوا إلى جانب جيش موبوتو ، الذي كان تسعى الولايات المتحدة الأميركية للتخلص منه خلسة ووضع كابيلاً حليفها الجديد مكانه . وهكذا ظلت أميركا أهم مؤيد وداعم ومساند لحركة التمرد الزائيرية  بحجة تطويق النفوذ الشيوعي في أفريقيا واحتوائه .
ولم تخف الولايات المتحدة علاقاتها مع كابيلا ولقاءات المسؤولين الأميركيين به عدة مرات . واعلنت واشنطن ان موبوتو أصبح في عداد المنتهين ومن رجالات الماضي حتى قبل سقوطه وأيدت ضرورة تخليه عن السلطة بعد أن ابتعدت عنه منذ سنوات وتركته عالة على فرنسا ، حيث صرح نيكولا بيرنز  بهذا الصدد " لقد انتهت صداقتنا مع موبوتو بانتهاء الحرب الباردة فلم تعد لنا حاجة به " .
وهكذا بقدر ما كانت فرنسا تتراجع بخطوات سريعة  في شأن القضايا التي كانت تتبناها  وتدافع عنها كانت أميركا تتقدم بخطوات أسرع  لتربح مواقع جديدة في القارة السوداء .
المواجهة الفرنسية ـ الأميركية في افريقيا مستمرة ولم تنته بإنتهاء الملف الزائري بخسارة فرنسا وفوز أميركا . وقد انتصرت واشنطن على باريس في جولة أخرى تتعلق بمحاولة فرنسا التجديد للأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي وإصرار الولايات المتحدة الأميركية على إنهاء خدماته . كما سبق لوزير الخارجية الأسبق  وارن كريستوفر إبان جولته الأفريقية عام 1995 أن رفع التحدي علنا في وجه الديبلوماسية الفرنسية ذات الحضور القوي في أفريقيا آنذاك . وكان كريستوفر عازماً على فتح باب المواجهة السافرة مع النفوذ الفرنسي في افريقيا وقال " لقد انتهى الزمن الذي كانت بعض الدول تقرر تقسيم أفريقيا إلى مناطق نفوذ " واضاف " ان افريقيا بحاجة إلى دعم كل أصدقائها وليس إلى رعاية حصرية من قبل البعض " . ثم أختتم تصريحه بالقول " إن زيارتي عززت ثقتي وقناعتي بأن على الولايات المتحدة الأميركية أن تحافظ على وجودها ونشاطها في هذه القارة " وقد عملت اميركا بالفعل على زيادة وتيرة التبادلات التجارية وزيادة نسبة الاستثمارات في جنوب القارة  وفي مناطق جنوب الصحراء .
وقد أعلنت الولايات المتحدة أنها عازمة على التخلص من القيود التي كانت تحد من حريتها في القارة الأفريقية أناء الحرب الباردة وقد عززت تحالفها مع جوناس سافيمبي  زعيم الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا ( اليونيتا ) الذي كان يقود المعارضة المسلحة  بدعم أميركي مباشر ضد النظام  الموالي للاتحاد السوفيتي سابقاً . وتقوم الولايات المتحدة بتقديم الدعم لدول افريقية أخرى مثل أوغندا وبوروندي ورواندا واثيوبيا  في إطار علاقات ثنائية يجري تطويرها بهدوء .
سعت إدارة كلينتون السابقة وبعدها إدارة جورج بوش الإبن حالياً إلى تقوية النفوذ الأميركي في القارة الأفريقية حتى لو كان ذلك على حساب النفوذ الفرنسي التقليدي في جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية بعد أن رسخت الهيمنة الأميركية على شؤون الكوكب وقيادة النظام العالمي وقد سبق لواشنطن أن أنشأت صندوق دعم لأفريقيا بقيمة 350 مليون دولار لمساعدتها في تنفيذ مشاريع البنى التحتية للقطاع الخاص وتشجيع الاقتصاد الحر وتفكيك منظمة الاقتصاد المخطط  والمركزي  وإنهاء ما يسمى بالقطاع العام لكي يسهل على مؤسساتها الخاصة التغلغل في النسيج الاقتصادي الأفريقي وقد أعلنت مؤسسة الاستثمار الأميركية الخاصة عبر البحار أنها ستستثمر 41 مليون دولار في خمسة مشاريع في أنغولا  وليسوتو  وناميبيا وجنوب أفريقيا .
وأنشأت صندوق البنية التحتية لأفريقيا لتقديم المساعدات والمعونات في مجالات النقل  والاتصالات والطاقة والمياه والتجهيزات الصحية لتوفير 7 آلاف فرصة عمل إضافية بتكلفة 350 مليون دولار وهذه هي الترجمة الفعلية والعملية لجولة بيل كلينتون في آذار مارس  1998 التي أشرنا إليها قبل قليل . وتركز الولايات المتحدة الأميركية على التذكير بفشل التجارب السابقة خلال العقود الثلاثة الماضية التي تلت سنوات الاستقلال في القارة السوداء وعلى فشل نماذج التنمية الاقتصادية الاشتراكية  الشخصانية التي طبقها نيريري في تنزانيا  وكوندا في زامبيا ، وفشل التجربة الماركسية اللينينة التي طبقت بشكل مأساوي في أنغولا وأثيوبيا ، وأخيراً فشل نمط حكومة الحزب الواحد الشمولي في زائير وكينيا وتعتبر الإدارة الأميركية إن فشل تلك التجارب يعطي دفقاً قوياً للإصلاحات السياسية في أفريقيا منذ بداية سنوات التسعينات من القرن العشرين . وحثت الدول الأفريقية إلى انتهاج التعدية  والاقتصاد الحر والعرض والطلب  للاستجابة لمتطلبات العولمة لكن التجارب مازالت في بدايتها وتحتاج لجهد طويل .
لقد دعم الكونغرس الأميركي خطوات الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه السياسية الأفريقية لأميركا ووافق مجلس النواب على القانون التجاري المسمى " النمو والفرص في أفريقيا " ، والذي يعتمد مبدأ الشراكة بدلاً من المساعدة وعلى إزالة الحواجز الجمركية عن صادرات 48 دولة أفريقية  وفتح القارة بالمقابل للاستثمارات الأميركية حيث تشكل أفريقيا سوقاً قوامها 700 مليون مستهلك لايصلهم سوى 7 بالمائة من صادرات الولايات المتحدة الأميركية التي لا تتعدى حصة أفريقيا من استيرادها واحد بالمائة وقد تضاعفت المساعدات خاصة  الأميركية التي تقدم لأفريقيا خاصة في عهد بيل كلينتون حيث بلغت المساعدات الإنسانية 600 مليون دولار والمساعدات الاقتصادية 1400 مليون دولار وقد تغيرت طبيعة المساعدات الأميركية لأفريقيا ، فبعد أن كانت في السابق لتمويل النشاطات المناهضة للشيوعية ، أصبحت في الوقت الحاضر تتمل في إزالة الحواجز من جانب الدول الأفريقية وتقليص تدخل الدولة في الاقتصاد والإصلاح الإداري والاقتصادي لتقبل الاستثمارات الأجنبية وضمان مصالح الشركات المتعددة الجنسيات مع استمرار المعونات وتنمية الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية غير التقليدية لمساعدة أفريقيا على ولوج العصر التكنولوجي  عل حد الإدعاءات الأميركية . فالولايات المتحدة لاتقدم مساعدة لوجه الله ، بل إن تزايد الاهتمام الأميركي بالقارة الأفريقية مرده إلى كون هذه الأخيرة مصدراً رئيسياً للمواد الخام والموارد الطبيعية إلى جانب كونها سوقاً استهلاكية هائلة كما ذكرنا قبل قليل حتى إن الإدارة الأميركية الحالية صارت تتحدث عن " النظام الأفريقي الجديد " وفقاً للمواصفات الأميركية حيث تريد أميركا ربط أفريقيا بها وتخلي هذه الأخيرة عن ارتباطاتها السابقة والتاريخية .
لكن المأزق الذي يواجهه المسؤولون الأميركيون هو طبيعة الصراعات الداخلية وحدتها وتعقيدها فتجربة الصومال كانت درساً قاسياً للأمريكيين يجعلهم يفكرون مائة مرة قبل الإقدام على مايسمى بالتدخل العسكري المباشر في شؤون القارة فالولايات المتحدة الأميركية تريد ضمان وجودها بدون مغامرات عسكرية ولا خسائر بشرية .
وتكتفي واشنطن في الوقت الحاضر باستعدادها لتدريب قوات أفريقية من داخل  القارة للقيام بمهام حظ السلام وأعدادها على إدارة الأزمات . وهكذا انفردت الولايات المتحدة الأميركية بتنفيذ وإحتواء واستقطاب المشروع الفرنسي ـ البريطاني في " خلق قوة سلام أفريقية " .
شعر المسؤولون الفرنسيون بخطورة الهجمة الأميركية ضد مصالحهم في أفريقيا ولكنهم شعروا انهم عاجزون عن الوقوف في وجهها لوحدهم فصرح مسؤول فرنسي رفيع المستوى بدرجة وزير " إن على الشركاء الأوروبيين أن يقفوا إلى جانب بلاده في توازن القوى القائم بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا في أفريقيا " وشدد على " أن فرنسا ينبغي أن تكون واثقة من الاعتماد على شركائها الأوروبيين لأنها لا تستطيع أن تفعل ذلك وحدها وقال أن تفاقم الوجود الأميركي في أفريقيا يتطلب دوراً أوروبياً موحداً لمواجهته وعلى الاتحاد الأوروبي أن يضطلع بدور مهم في افريقيا . واشار المسؤول الفرنسي أن الذي يحدو بأميركا للشروع بمثل هذا التحدي ليس لدوافع سياسية بحتة فحسب بل هناك دوافع اقتصادية وأوضح أن " نتائج الأبحاث والتنقيبات النفطية تحمل على الاعتقاد أن خليج غينيا يحوي احتياطات هائلة من النفط قد توازي  في حجمها احتياطات الخليج العربي " وهذا ما يثير شهية وأطماع الولايات المتحدة . وفي مواجهة هذا الواقع لم يجد الوزير الفرنسي سوى وسيلة تعزيز  الفرانكوفونية حتى في البلدان الأفريقية الناطقة بالانجليزية . في حين علّق الرئيس الفرنسي جاك شيراك مشدداً على " أن العلاقات الفرنسية ـ الأفريقية  يجب أن تستند إلى قاعدتين أساسيتين  : الأولى  تجنب أي تدخل من أي نوع سواء أكان سياسياً أو عسكرياً ، ففرنسا لا تقبل لنفسها مثل هذا التدخل ، وليس عليها أن تمارسه على الآخرين ، وثانياً :" تشجيع شركاءنا الأفارقة  على تعزيز دولة الحق  والقانون لديهم ، لأنها عنصر بالغ الأهمية لكسب ثقة الرأي العام والمستثمرين وبالتالي  تحقيق التطور المطلوب " وأطنب الرئيس الفرنسي في مدح كثافة العلاقات القائمة بين فرنسا وافريقيا " مما يجعلها فريدة ومتميزة، وانه ينبغي على الجانب الفرنسي عدم إثارة الانطباع بأننا نغلق أبوابنا في وجوههم "  على حد تعبير الرئيس شيرا ك . وهذا نوع من النقد الذاتي  خاصة وان الحكومات الفرنسية المتعاقبة قد تبنت قوانين تغلق الأبواب أمام رجال الأعمال الأفارقة مما دفعهم للتحول إلى دول أخرى أكثر ليونة مثل تركيا وتحول الطلبة الأفارقة للجامعات  الأميركية بدلاً من الفرنسية لسهولة القبول فيها ومن المعروف أن هؤلاء الباحثين والطلبة سيكون لهم تأثير كبير في صياغة الخيارات السياسية والاقتصادية لأفريقيا باعتبارهم كوادر المستقبل القيادية .
التجاذب والاستقطاب والتنافس الحاد  الأميركي ـ الفرنسي مازال مستمراً  قد ينعكس سلباً داخل القارة الأفريقية حيث تطالب فرنسا دوماً بالعودة إلى اتفاق باريس بين فرنسا وأميركا وبريطانيا من أجل إيجاد " آلية خاصة ديبلوماسية ووقائية  لتنفيذ استراتيجية مشتركة لمواجهة الأزمات " لأن التضارب في المصالح سوف ينعكس على طبيعة العمل  ونوعية الأهداف المبتغاة . السلطات الفرنسية تحبذ  التوازن المعقول بدل " المناطحة " الخاسرة بالنسبة لهم قطعاً . ففرنسا لا تستطيع وحدها " مناطحة " أميركا ولا منافستها  ، لا في افريقيا ولا في غيرها من مناطق العالم ، كما يقول هنري كيسنجر وزير خارجية أميركا الأسبق في عهد نيكسون . وإلى حين ظهور قوة دولية موازية ومنافسة للولايات المتحدة الأميركية كالصين مثلاً ( وهذا يحتاج إلى عقود طويلة من الصبر والانتظار والمثابرة ) ، ينبغي تحقيق توازن القوى بين القارات ـ الدول والتنسيق بين اوروبا الموحدة وروسيا  والصين واليابان والهند بالإضافة إلى أميركا . لهذا ليس أمام فرنسا إلا الإنخراط في العجلة الأوروبية لمواجهة القاطرة الأميركية في أفريقيا .
صرح هنري كيسنجر لصحيفة الفيغارو الفرنسية حول العلاقات الأميركية ـ الفرنسية قائلاً : " صحيح أنه لايمكن أن تكون الولايات المتحدة الأميركية الوحيدة في الغرب  التي تتفرد بالقرار . ولكن بين بلدينا ـ أي فرنسا  وأميركا ، هوة عميقة تعود جذورها إلى المقاربة المغالية في المنطق التي تستخدمها النخب الفرنسية المتخرجة من المدارس العليا وهي لا تحسن إلا الخطاب المرتكز على ثلاث نقاط ، لا أكثر ولا أقل ، بينما المقاربة الأميركية أكثر براغماتية هذا دون إنكار وجود عدائية مستحكمة بيننا تخلق باستمرار توتراً وهذا التشخيص في الحقيقة مدعاة للسخرية " .. وكيسنجر لا ينكر كذلك وجود تنافس في المصالح تصل إلى حد التضارب والتعارض  ولذلك ينبغي أن تتحول المواجهة من مواجهة  فرنسية ـ أميركية إلى أوروبية ـ أميركية " مثلما يجب أن يحدث ذلك في مناطق أخرى كالشرق الأوسط وهذا ما تتمناه الحكومة الفرنسية لكنها لاتقدر على تحقيقه الآن .
كما شجعت الإدارة الأميركية الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ، الحليفة الاستراتيجية لها ،على خرق الجدار العربي ـ الإسلامي في افريقيا والتغلغل فيها لإحكام السيطرة عليها بالتنسيق مع المخططات الأميركية . وقد وجدت إسرائيل والمنظمات الصهيونية العالمية  الهيئات  والمنظمات التي تساعد على نسج العلاقات مع الدول الأفريقية وساعدت على تأسيس رابطة الخريجين الأفارقة من  الجامعات الإسرائيلية ومنهم من تبوأ مراكز حساسة في بلدانهم وقد وصل عدد الخريجين الأفارقة منذ عام 1960 بالآلاف  ومنهم من تسلم اعلى السلطات الأمنية والسياسية والنقابية في أفريقيا . وقد نجحت إسرائيل في التوغل في غانا ونيجيريا وليبيريا وسيراليون وكينيا وتانجانيكا وأوغندا وروديسيا الشمالية وداهومي  وساحل العاج والسنغال  ومالي وتشاد من خلال المعهد الآفرو ـ آسيوي  ومراكز التدريب المهنية والجامعية الإسرائيلية التي تتلقى معونات وتمويلات من هيئات أميركية تابعة لوكالة المخابرات المركزية CIA التي قدمت أكثر من 400 مليون دولار لهذا الغرض أي لتسهيل التعاون الإسرائيلي ـ الأفريقي خاصة في نيجيريا وجنوب أفريقيا  وكينيا وأوغندا والكونغو .
وتبين لاحقاً أن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل كانتا وراء أغلب الخلافات العربية ـ الأفريقية وتم التركيز على عدد من الدول الأفريقية وخاصة زائير  التي تعتبر من أهم الدول الأفريقية وأكبرها وأغناها رغم ما تعانيه من مشاكل اقتصادية وسياسية خطيرة وقد ساعدت الوكالة الأميركية للتطور ـ وهي فرع نشط من فروع السي آي أيه ـ إسرائيل مادياً واقتصادياً لتطوير علاقاتها مع زائير تحديداً .ورد في أحد تقارير الخارجية الفرنسية " إن  القارة السوداء  تشكل أولوية للعمل الخارجي الفرنسي ، عبر سياسة وفاء لقارة " تربطنا بها صلات وروابط قديمة وتاريخية دون النظر فيما إذا كانت دول هذه القارة ناطقة بالفرنسية أو الانجليزية "
لقد تبدلت الأدوار اليوم فبعد أن كانت بريطانيا هي أكثر الدول مزاحمة ومنافسة لفرنسا في أفريقيا نظراً لوجودهما التقليدي تاريخياً في هذه المنطقة ، اصبحت أميركا هي التي تحل محل بريطانيا في لعب دور المنافس الخطير للوجود والنفوذ الفرنسي . ويمكن القول أن أفريقيا في طريقها للتحول من وصاية باريس عليها إلى وصاية واشنطن .
المشكلة القائمة لا تتمثل  بقبول أو رفض المجتمعات الأفريقية لهذه الوصاية الغربية ، أميركية كانت أو فرنسية ، أو أوروبية ، بل في قبول الغرب تحمل التكاليف السياسية والأعباء المالية والاقتصادية لمثل هذه " الوصاية " على القارة الفقيرة  ـ الغنية  في آن واحد . فالتدخل في أفريقيا عملية مكلفة والتخلي عنها خسارة فادحة لما تخبئه أراضيها من نفط وثروات معدنية وجواهر وأحجار كريمة وماس الخ ..
من البديهي القول  أن النفوذ في القارة الأفريقية يتقاسمه طرفان غربيان متنافسان : الطرف الأول فرنسا المستعمرة السابقة للجزء الأكبر من أراضي هذه القارة ، والتي ظلت تسيطر على أكثر من 20 بلداً فيها سيطرة غير مباشرة عبر رابطة الفرانكوفونية والاحتكار شبه المطلق للأسواق الأفريقية ، وفي نفس الوقت تقديم الجزء الأكبر من المعونات الدولية أو تحملها لهذا الجزء الأكبر من المساعدات الدولية . الطرف الثاني هو الولايات المتحدة الأميركية التي ورثت الإمبراطورية البريطانية وتفرض سيطرة نسبية على ما كان يسمى بافريقيا الآنجلوفونية ، لكنها اليوم لا تكتفي بهذا الجزء من أفريقيا لتمارس نفوذها عليه بل تسعى لقضم حصة فرنسا  المتبقية داخل هذه القارة بشتى السبل والأساليب ومنازعة النفوذ الفرنسي في باقي الدول الأفريقية التي صارت تفلت من نطاق الهيمنة الفرنسية والاحتكار الفرنسي كما تسعى الولايات المتحدة الأميركية للسيطرة على بعض الدول الأفريقية التي كانت خاضعة للسيطرة الروسية ـ السوفيتية .
قلنا أن فرنسا بدأت تراجع سياستها الأفريقية في السنوات القليلة الماضية . ولقد تفطن الرئيس السابق فرانسوا ميتران إلى أن بلاده لايمكن أن تواصل نفس السياسة التي انتهجها الجنرال ديغول في أفريقيا وبقيت سائدة حوالي الثلاثين عاماً لكنه لم يتوصل هو وحكوماته المتعاقبة ، ولا الرئيس جاك شيراك وحكوماته المتعاقبة ، يمينية أو يسارية ، إلى صياغة معالم سياسة أفريقية جديدة مستقرة وثابتة .وكبداية لهذا " الإصلاح أو التجديد " عرض فرانسوا ميتران على رؤساء الدول الأفريقية المشاركين في القمة الأفريقية ـ الفرنسية  في لابول في حزيران / يونيو 1990 مبدأ مقايضة الإعانات الفرنسية لهم بقبولهم سياسة التعددية الحزبية وخوض التجارب الديموقراطية وإجراء الانتخابات الحرة حتى لو كانت تجارب ديموقراطية محدودة مناسبة لأوضاع بلدانهم الخاصة ، وهذا الموقف يختلف كلياً عمّا كان ميتران ينوي فعله قبل انتخابه رئيساً عام 1981 حيث كانت النية تتجه إلى إحداث تغيير جذري للسياسة الأفريقية لفرنسا . وتعترف الدوائر العليا الفرنسية بصورة غير مباشرة وغير معلنة  أنها تتحمل مسؤولية مباشرة عن الأوضاع المتردية في العديد من البلدان الأفريقية التابعة لها . ولم تحترم الدول الأفريقية  الاقتراح الفرنسي فلم تقايض المساعدات بالديموقراطية الحقيقية بل ببعض المظاهر الشكلية حفاظاً على ماء الوجه واكتفت بفرض الاستقرار السياسي لفترة زمنية ومحاولة القيام بإدارة حسنة  بقدر المستطاع . إضافة إلى أن فرنسا لم تعد مستعدة أو قادرة على تحمل الأعباء المالية الباهضة  للدول الأفريقية التي تدور في فلكها فلم يعد أمامها سوى إدماج القارة الأفريقية في النظام الاقتصادي العالمي وإخضاعها لسياسات ومعايير وشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وهبطت من جراء ذلك قيمة الفرنك الفرنسي ـ الأفريقي إلى النصف ، واضطرار غالبية الحكومات الأفريقية إلى القبول ببرنامج الإصلاح الهيكلي لاقتصادياتها . وحذر ادوارد بالادور سنة 1993  الحكومات الأفريقية التي تبتعد عن المجموعة المالية الدولية ومعاييرها وشروطها بحرمانها من المساعدات ، وهكذا اصبحت الحكومات الأفريقية مقيدة باتفاقات صارمة مع المؤسسات الدولية ومن هذه النافذة تغلغل النفوذ الأميركي لأن الولايات المتحدة الأميركية هي المسيطرة على المؤسسات المالية الدولية كما هو معروف . وصارت فرنسا تتعامل مع أفريقيا بمنطق الربح والخسارة وليس بمنطق العاطفة والعلاقة التاريخية ولا تتردد بالتخلي عن أي حليف أفريقي عندما يشكل عليها عبئاً إضافياً لا فائدة منه .
يستنتج من ذلك أن فرنسا  ذات النفوذ العريق في أفريقيا ، وبغير إرادتها ، صارت تتبنى تدريجياً نفس استراتيجية منافستها  الولايات المتحدة الأميركية .
لقد كانت دولة " بنين " تمثل تجسيداً ناجحاً للسياسة الفرنسية الجديدة تجاه افريقيا . فقد شهد هذا البلد الصغير تحولاً ديموقراطياً سلمياً  وألغى الديكتاتورية العسكرية الحاكمة ورفع إلى سدة الحكم الرئيس المنتخب نيسوفور سوغولو عام 1991 ، لكن هذا الرئيس هو موظف سابق في البنك الدولي وإن انتخابات عام 1996 أعادت إلى الحكم  الحاكم العسكري السابق ماتيو كيريكو الذي حكم البلاد من 97 إلى 99 اثر إنقلاب عسكري واتضح أن هذا الرجل العسكري أكثر قدرة على تنفيذ البرنامج الاقتصادي الإصلاحي  الذي فرضه البنك الدولي  من خلفه الموظف السابق في هذا البنك. واضطرت فرنسا الوصية على هذا البلد للقبول بسياسة الواقعية وتفضيلها على التمسك بمبادئ اتضحت صعوبة تطبيقها على أرض الواقع.
نفس الموقف تكرر مع النيجر  إذ ساندت فرنسا الجنرال ابراهيم بري ماينسارا الذي أنتخب سنة 1996 بعد أن كان قد استولى على الحكم بانقلاب عسكري في كانون الثاني / يناير من نفس العام . وكان جاك شيراك أول من أرسل إليه تهنئة بعد الانتخابات مع أن فرنسا أدانت انقلابه قبل ذلك . ولم تعارض فرنسا الانقلاب العسكري الذي حمل الجنرال يوليوس بيو إلى سدة الحكم في سيراليون . وساندت الجنرال ادريس ديبي للفوز في انتخابات تموز / يوليو 1996 في تشاد الخ ..
الفساد المستشري في نسيج المجتمعات والأنظمة الأفريقية لم ينته بانتهاء الأنظمة العسكرية وتنظيم انتخابات . ولذلك اتفقت فرنسا وأميركا والمؤسسات المالية العالمية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، على مبدأ النجاعة في تطبيق الاصلاحات الاقتصادية أياً كانت الجهة التي تقوم بذلك ( ديموقراطية منتخبةأو عسكرية  ديكتاتورية  انقلابية) وضمان الاستقرار السياسي وقد خطت الولايات المتحدة الأميركية خطوة أخرى في طريق التنافس وفوجئت الواقعية الفرنسية بواقعية سياسية أكبر من جانب  الأميركان خاصة في منطقة البحيرات الكبرى الأفريقية الغنية بالثروات مما أجج حالة التأزم بين الطرفين الغربيين الذي يفرضان وصاية غربية على القارة السوداء .
وكما يبدو تمكنت فرنسا لحد الآن من المحافظة على بعض مواقعها الأفريقية السابقة بانتهاجها نفس المبدأ الأميركي في التعامل  القائم على " واقعية المصالح " لكنها خسرت مواقع أخرى لأن الأميركان كانوا أقدر منها في تطبيق هذه السياسة إلى جانب مواجهتها لأوضاع داخلية منهارة في العديد من البلدان الأفريقية المحسوبة عليها وعجزها عن تحمل أعباء ومساعدات مالية إضافية  وعدم نجاحها في إيجاد حلول مبتكرة للأزمات الأفريقية غير تلك التي اقترحها صنوق النقد الولي رغم ما تتضمنه من قساوة وتضحيات .
وقد اثبتت الولايات المتحدة الأميركية أنها قادرة على استغلال متاعب فرنسا  لسحب البساط من تحت أقدامها  بينما لم تثبت فرنسا ولا مرة واحدة أنها قادرة على القيام بنفس الشيء في البلدان  الأفريقية القريبة من الولايات المتحدة الأميركية .
وبذلك لم تعد أفريقيا ( أرض النسيان ) كما كان شأنها على خارطة الأحداث السياسية العالمية والإقليمية الساخنة فيما يدور فيها من أحداث وأزمات وحروب ونزاعات صارت تتجاوز حدودها وتنعكس على الخارج . وقد شهدت المنطقة الأفريقية تحولات جيوبوليتيكية جوهرية منذ بدء الإهتمام الأميركي  بها وفي أساليب قراءة الولايات المتحدة للمعطيات الاستراتيجية هناك ولاتجاه أدائها ومصالحها فيها . وبات بديهياً وجود صلة مباشرة بين ما يحدث من أزمات وحروب في الدول الأفريقية وبين المواقف والتحركات  الصادرة عن إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية من عمليات استقطاب القوى ومحاولات إعادة بناء الخارطة الجيوسياسية وتحالفاتها وآلية إثارة الفتن  والصراعات العرقية والاثنية  وإغراق  المنطقة بالأسلحة ومخططات بناء نقاط ارتكاز استراتيجية ـ عسكرية ـ أمنية  على طول الضلع الغربي لساحل القرن الأفريقي  على البحر الأحمر وعلى التخوم الهامة المطلة على مجرى نهر النيل الجنوبي ومنابعه . وقد ظهرت للوجود في العديد من مراكز الأبحاث والدراسات عشرات  التقارير التي كشفت حقائق التوغل الإسرائيلي ـ الأميركي في القارة السوداء ( وبصفة خاصة في القرن الأفريقي ) لتحقيق غايات استراتيجية ـ عسكرية واضحة أهمها  السيطرة على منابع النيل وحماية المرات المائية  الاستراتيجية وهو جزء من استراتيجية متكاملة ومشروع جيوبولتيكي  شامل  يمتد على طول قوس النفط الذي يعبر المنطقة العربية برمتها  قادماً من بحر قزوين ليصل إلى الهضبة الأثيوبية ويكمل امتداده إلى اقصى الجنوب فهذه منظومة كاملة في منظور التصور الاستراتيجي الأميركي الذي تشترك فيه إسرائيل عضوياً وجوهرياً  باعتبارها إحدى أدوات تحقيقه .
وقد تطورت النظرة الأميركية إلى أفريقيا خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة فلم تعد افريقيا مجرد مجال " بارد ومهمل  في إمكانية تأثيره على السياسة الدولية عموماً ،والشرق الأوسط خصوصاً ، بل أصبحت تحتل موقعاً في أعلى قائمة المناطق ذات الأهمية الجيوبوليتيكية  الاستراتيجية في حسابات السيطرة والنفوذ ، ليس في المنطقة العربية فحسب ،  بل وكذلك في  الخارطة الدولية عموماً . وأهم معلم من معالم هذا التحول في النظرة الأميركية هو ظهور العامل الإسرائيلي في الاستراتيجية الأميركية الجديدة في القارة السوداء أكثر من أي وقت مضى ومن هنا يكتسب القرن الأفريقي أهمية خاصة ضمن نطاق لعبة توزيع الأدوار والمهمات وقد ساعدت جميع الإدارات الأميركية  ـ الجمهورية والديموقراطية ـ على تسهيل وتوسيع وترسيخ الاختراق الإسرائيلي لمنطقة القرن الأفريقي مثلما حدث مع اثيوبيا  وتوقيعها لاتفاقات  مهمة مع إسرائيل  . . إن ما يحدث في أفريقيا من تحولات وتحالفات واستقطابات في ظل الاختراق الإسرائيلي  المتعاظم  يظهر ملامح الخطر الكبير الذي يتهدد المنطقة العربي  والإسلامية ويسهم بشكل فعال في المستقبل المنظور في استكمال المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي  لإحكام حلقات الحصار  والتطويق الناقصة حالياً في الطوق  الملتف حول عنق  المنطقة العربية والإسلامية .
المنطقة العربية  ـ الإسلامية ( التي تضم بداخلها دولاً أفريقية ) ، باتت مطوقة ففي الشرق تقع المنطقة تحت سلطة البوراج  الحربية والأساطيل الأميرية والأوروبية  والوجود العسكري الأميركي المدجج بالسلاح ، وفي الشمال  تقع المنطقة تحت وطأة القواعد العسكرية  ومخاطر حلف تشترك فيه إسرائيل وتركيا وأميركا ، أما في الغرب فالبحر المتوسط يغص بوجود سياسي وعسكري للحلف الأطلسي بمشاركة إسرائيلية  جعلت من هذا البحر وكأنه غرفة عمليات استراتيجية غربية . ويكتمل الطوق في الجنوب حيث القرن الأفريقي يميد ويتأرجح فوق كف الفوضى وحالة عدم الاستقرار السياسي وانعدام الوزن  تحضيراً لحالة من " البلقنة " والتقسيم  تنطوي على احتمالات خطيرة خاصة بعدما حصلت إسرائيل على مواقع ونقاط ارتكاز استراتيجية  وأمنية  وعسكرية تمكنها من تحقيق حلمها في التواجد داخل أكثر المناطق حيوية على البحر الأحمر الذي تتمنى إسرائيل تحويله إلى بحر إسرائيلي يكون بمثابة امتدادها الجنوبي  في الجغرافيا النظرية للمشروع الصهيوني القديم لإسرائيل الكبرى ، لذلك لم تكتف إسرائيل  بذلك الحد من التوغل والتغلغل بل مدت خيوطها وتحركاتها إلى العمق الأفريقي بمساعدة أميركية مباشرة ومقصودة ، فظهرت ملامح هذا الامتداد في زائير ـ الكونغو ـ ورواندا  وبوروندي وحروب منطقة البحيرات   والنزعات القبلية ـ الاثنية في جنوب افريقيا .
كانت الفكرة السائدة في فرنسا والتي نقلتها بعض وسائل الإعلام فيها تقول إنه لايوجد مشروع أميركي في القارة الأفريقية وأن الولايات المتحدة الأميركية لاتملك طموحات كبيرة في هذه القارة وافريقيا في نظر واشنطن ليست سوى احتياطي كبير للمعادن ، الذهب ، الزنك،الكوبالت، الماس، واشياء أخرى، وإن الأهداف الأميركية تتمثل بتشديد القبضة على وسط افريقيا للتحكم بالقارة شمالاً وجنوباً  ثم السيطرة على ثرواتها عبر إشعال الحروب الناشطة  والمتنقلة وإن زائير يمكن أن تصبح مستعمرة أميركية جديدة ، على حد تعبير إحدى الصحف الزائيرية قبل سقوط كنشاسا لكن الوكيل الجديد الذي احتاج للمال خلال اجتياحه مجاهل الكونغو ، أخذ يعطي الامتيازات ويوقع على العقود والصفقات حتى قبل احتلاله نصف البلاد . ومن أهم الاتفاقيات التي وقعها هي تلك المتعلقة بالتنقيب واستغلال مناجم الزنك  والكوبالت إلى شركة أميرية هي أميركا بيزال فيلد ، كما أعلنت شركة دي بيريز  العملاقة إستثمارها لمناجم الماس  وفتح مكاتب لها في جمهورية الكونغو ـ زائير سابقاً ـ  وكانت هذه الشركة في الماضي تسوق ثلث الانتاج السنوي المقدر بـ 22 مليون قرط من الماس . هذه هي حقيقة خارطة الصراع والتنافس الغربية ، الأميركي ـ الفرنسي ـ الأوروبي في القارة الأفريقية دون الدخول في التفاصيل والأرقام  والأسماء والوقائع التاريخية.

 



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001 لماذا سمحوا لقراصنة الجو ...
- " إختيار كبش الفداء " أضواء جديدة على كتاب "بروتوكولات حكم ...
- مشاريع التسلح العراقية: واقعها ومخاطرها
- د. نصر حامد أبو زيد ومسألة التأويل وفلسفته
- أبعاد الحملة الإعلامية ضد المملكة العربية السعودية
- العراق: لعبة القط والفار في تهريب النفط العراقي
- حقيقة الحوار بين الأديان
- حرب المخابرات لن تقع؟
- الإسلام في مرآة الإعلام الغربي الإسلام الأصولي والإسلام العص ...
- اليورانيوم المنضب ّ: الحرب غير المرئية
- النظام السياسي الإسرائيلي
- هل بدأ العد التنازلي لمصير نظام صدام حسين في العراق فعلاً ؟
- زمن المرارة بين واشنطن والرياض
- الإسلام والأصولية التاريخية
- الشرق الأوسط بين طموحات الأمريكيين وعجز الأوروبيين واستسلام ...
- الانتفاضة الفلسطينية في مرآة الإعلام الإسرائيلي
- الحق القديم : وثائق حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية
- منى أيوب :- الحقيقة : سيرة ذاتية
- مونوبولي MONOPOLY
- الإسلام السياسي وإشكاليات الديموقراطية السياسية المعاصرة : ن ...


المزيد.....




- بالأرقام.. حصة كل دولة بحزمة المساعدات الأمريكية لإسرائيل وأ ...
- مصر تستعيد رأس تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني
- شابة تصادف -وحيد قرن البحر- شديد الندرة في المالديف
- -عقبة أمام حل الدولتين-.. بيلوسي تدعو نتنياهو للاستقالة
- من يقف وراء الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل في الجامعات الأمريك ...
- فلسطينيون يستهدفون قوات إسرائيلية في نابلس وقلقيلية ومستوطنو ...
- نتيجة صواريخ -حزب الله-.. انقطاع التيار الكهربائي عن مستوطنت ...
- ماهي منظومة -إس – 500- التي أعلن وزير الدفاع الروسي عن دخوله ...
- مستشار أمريكي سابق: المساعدة الجديدة من واشنطن ستطيل أمد إرا ...
- حزب الله: -استهدفنا مستوطنة -شوميرا- بعشرات صواريخ ‌‏الكاتيو ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جواد بشارة - تقرير عن النفوذ الفرنسي في أفريقيا