إكرام يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 3629 - 2012 / 2 / 5 - 16:48
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
من المعلوم بداهة، أن إعطاء مريض يتألم مسكنًا، قبل اكتشاف أصل الداء، يصعب التشخيص على الطبيب، وربما يدفعه إلى مباشرة العلاج في مسار خاطئ، ما يؤدي لا ستفحال المرض الأصلي.
تذكرت نصائح الأطباء المتكررة للأم بعدم منح طفلها مسكنا أو خافضا للحرارة أو مضادا حيويا قبل أن يفحصه الطبيب ليحدد سبب الشكوى؛ وأنا أرى جهابذة يطرحون حلولا أمنية متنوعة لإخماد غضب الشباب المستعر في المنطقة المحيطة بوزارة الداخلية، أو حول مديرية الأمن في السويس وغيرها.
وعندما قرأت تصريح اللواء أحمد جمال الدين مساعد أول وزير الداخلية أن استقرار الأمن في مصر ليس مسئولية وزارة الداخلية وحدها، تذكرت فشل الحلول الأمنية المتكررة في علاج ظاهرة الإرهاب في التسعينيات، حين بحت أصوات العقلاء تطالب بالاستماع إلى الشباب المتورط في العمليات الإرهابية، ومحاولة التعرف على أفكارهم ومواجهتها بالفكر المستنير. ولم تنته الظاهرة بما سمي بالمراجعات في أفكار الجماعات المتطرفة، إلا باتباع مشورة القائلين أن التركيز على الحلول الأمنية وحدها كانت نتائجه عكسية دائما.
ولعل أغبى ما يمكن أن يفكر فيه مسئول يرغب ـ فعلا ـ في تهدئة الشباب الغاضب أمام وزارة الداخلية ومقرات الأمن، اللجوء للقمع والعنف في فض تجمهرهم.. فمن ذهب إلى التحرير وشاهد هؤلاء الشباب يعرف جيدا أنهم ليسوا من الشباب المسيس؛ وهو ما أكده نفي التيارات السياسية المختلفة وجود عناصر لها بينهم، فضلا عن عدم استجابتهم لمناشدة هذه التيارات لهم بالعودة إلى الميدان. كما أنهم بالقطع ليسوا من البلطجية أو المخربين؛ ومن يتهمهم بذلك أو يحاول الترويج للفكرة ـ التي صارت ممجوجة ـ من أنهم مأجورون لتخريب البلاد، لا يمكن أن يكون ممن يرغبون ـ حقا ـ في حل المشكلة.
بل أنني أماد أشك في أن من يعمدون إلى العنف في مواجهة هؤلاء الشباب، يهدفون فعليا إلى تصعيد الأزمة ووقوع حرب أهلية ـ لاقدر الله ـ وتخريب البلاد، بهدف القضاء على الثورة، امتدادًا لنهج من نفذوا حريق القاهرة في يناير 1952. فمن تعرف عن قرب إلى بعض هؤلاء الشباب يدرك جيدا أن الغضب بلغ بهم الحد الذي لم يعودوا يخشون فيه على حياتهم أو يبالون بالموت. هؤلاء يا سادة ـ شباب ـ شاهد معظمهم الموت بعينيه وهو يحمل جثامين رفاق استشهدوا بجوارهم، بل أن بعضهم لم يشارك في الثورة أصلا قبل أن يستشهد أو يصاب أحد أحبائه، فقرر أن يقتص له بنفسه، بعدما تباطأ أولو الأمر في عقاب الجناة، على نحو يشبه التواطؤ.
بعض هؤلاء الشباب تأكل النيران قلبه على أحبة من بين أكثر من ألف شهيد، مرت الذكرى السنوية على استشهادهم واغتيال فرحة أهلهم، فضلا عن آلاف المصابين في عمر الزهور اغتالت الإعاقة شبابهم وقضت على مستقبلهم من دون القصاص من المجرمين، وإنما يضاف إليهم كل شهر شهداء ومصابين جدد، بدم بارد ومن دون حساب.
وفي كل مرة أتحدث إلى شاب منهم، أدرك أنهم غاضبون منا، نحن الساسة والمثقفين أنصار سلمية الثورة، بنفس قدر غضبهم ـ تقريبا ـ من الضباط الذين اغتالوا أحباءهم، والمجلس العسكري الذي أهدر دمهم.. ويتهموننا بالعيش في برج عاجي، وعدم الإحساس بأوجاعهم، أو الاهتمام الحقيقي برد حقوق الشهداء. ومن يتعامل مع هؤلاء الشباب سوف يتأكد بالفعل إن شعارهم "يا نجيب حقهم، يا نموت زيهم" ليس مجرد شعار، وإنما إصرار صادق، وهم يرون أنهم حتى الآن لم يستطيعوا أن يردوا حقوق أحباءهم، فلا أقل من أن يموتوا مثلهم شهداء حتى يلحقوا بهم، ويتخلصوا من هذه الحياة الظالم أهلها. ومن ثم، فمع إصرارنا الكامل على أن ثورتنا العظيمة حققت حتى الآن مكاسب لا تنكر بفضل سلميتها، ومع إجماع الثوار المثقفين والساسة تقريبا على ضرورة استمرارها سلمية، وأن سلميتها هي ضمانة استمرارها وانتصارها، فليس من اللائق أن يزايد أصحاب التيارات السياسية أو الأحزاب أو المثقفين على هؤلاء الشباب، أو يتهمونهم بالتخريب ويقومون بالتحريض عليهم من دون إشعارهم أن هناك من يشعر آلامهم، ويعمل على رد الحقوق المشروعة التي يطالبون بها.
يا سادة، إذا كنتم تريدون حلا للأزمة فعلا ـ وهو ما لا أعتقد أن أفعالكم على أرض الواقع تدل عليه ـ فعليكم أولا أن تدركوا بسرعة أنه لا طائل من التعامل العنيف لقمع من أوصلتموهم إلى الإحساس بأنهم لا يمتلكون ما يخشون عليه. يا سادة، هؤلاء الفتيان ليس لديهم بالفعل مايخشون عليه؛ حتى الحياة، وهم لم ينعموا بها بعد! وهذا زرعكم ونتاج سياساتكم، فاحصدوه!
إذا كنتم ـ حقا ـ تريدون حل الأزمة، فلتظهروا أي بادرة على أنكم تدركون أصل الداء وتعتزمون علاجه. ولا شك أن بدء خطوات فعلية وجادة لمحاسبة الجناة هو السبيل الوحيد لعودة هذا الشباب الغاضب إلى درجة الاستعداد للموت اعتذارا عن عجزه عن استرداد حقوق أحبة أزهقتم أرواحهم، وتعملون على إهدار دمائهم بالتستر على الجناة وحمايتهم. فقد صار واضحا أنه لو كانت محاكمة جادة قد أجريت لقتلة الشهداء يوم 28 يناير 2011، وتلقوا العقاب الرادع، لما تكررت جرائم استهداف أرواح الشباب وأعينهم بعد ذلك على هذا النحو الفاجر.
يا سادة، هؤلاء الفتيان غير المسيسين ـ وهم، وليس المثقفين أو أعضاء التيارات السياسية، الغالبية بين شبابنا في الواقع ـ بعد أن تأكدوا من تواطؤكم ضد رد حقوق الشهداء، شاهدوا جنودكم يهتكون أعراض اخواتهم، ويتبولون علي رفاقهم، ويهينون المسنات ممن في سن أمهاتهم، من دون أن يصدر اعتذار حقيقي واضح من قادتهم، ناهيك عن تحويلهم إلى محاكمات سريعة رادعة تظهر احتراما واجبا لكرامة هذا الشعب!
يا سادة، لقد ظللتم طوال عام كامل تؤججون نيران الغضب في أفئدة هذا الشباب، بعد أن فتحت الثورة أمامه طاقة أمل في المستقبل، تبشره بحياة الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية؛ فإذا بكم تعملون يوما إثر يوم على اغتيال ضوء الأمل البازغ؛ وتنكرون عليه حلمه بالحق في حياة أفضل؛ بل الحق في الحياة أصلا. وبعد جريمة بورسعيد، التي لم يعد لدى أحد شك في كونها مدبرة، تأكد هؤلاء الشباب أن هناك من يحرصون على مكاسبهم وسلطتهم، أكثر من حرصهم على أرواح هذا الشعب. ولا يستهينون فقط بحياة الثوار أو المعارضين، بل أنهم في سبيل إجهاض ثورة الشعب، لا يبالون بإزهاق ارواح صبية وأطفال لا ذنب لهم إلا أنهم ذهبوا لتشجيع فريق كرة قدم!
لا أعتقد أن ساذجا لم يدرك بعد أن قوى الثورة المضادة للنظام الذي مازال يقاوم السقوط، تسعى جاهدة لإجهاض الثورة، وإلصاق تهمة التخريب بالثوار توطئة لتبرير أي إجراءات قمعية أو استبدادية. غير أن المريب أن ينزلق ساسة ومثقفون، بل وبعض النواب، إلى تجريم الضحية وصب المزيد من الزيت على نيران أفئدتهم، بالدعوة إلى قمع أمني لغضب الشباب، بدلا من المطالبة بعلاج أصل الداء.. أرجوكم.. كفى مزايدة على شباب دفعتموه للا ستهانة بالحياة!
#إكرام_يوسف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟