أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ميثم الجنابي - الظاهرة الإسلامية في روسيا (1-6)















المزيد.....


الظاهرة الإسلامية في روسيا (1-6)


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 3605 - 2012 / 1 / 12 - 15:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


المركزية الإسلامية المعاصرة و الظاهرة الإسلامية في روسيا

إن العالم الإسلامي في العولمة المعاصرة يمر بمرحلة ادعوها بالمركزية الإسلامية. وبالخلاف عن المركزية الأوربية (الكولونيالية) هي مركزية ذاتية من حيث علاقتها بنفسها وبالآخرين. أي أن نياتها ومساعيها وجهودها المدركة وغير المدركة، العقلانية والوجدانية موجهة صوب تفعيل مكوناتها التاريخية – الثقافية الخاصة.
إننا نقف أمام إجماع خفي متراكم في الوعي الاجتماعي والسياسي المعاصر في العالم الإسلامي على ضرورة تأسيس نظم للحياة تستمد مرجعياتها الفكرية والروحية من التاريخ الثقافي للحضارة الإسلامية وأممها المتنوعة. ومن ثم تحويل جهادها واجتهادها في مختلف الميادين إلى "قطب روحي" فعال في الصراع الحضاري. وهو جهاد واجتهاد يؤدي بالضرورة إلى تفعيل سياسي لمكونات الحضارة الإسلامية.
إن هذا التفعيل – عملية طبيعية وضرورية بالنسبة لعالم الإسلام. وذلك لان تعارض الدين والسياسة هي إشكالية بالنسبة للوعي الأوربي (السياسي والثقافي واللاهوتي)، بينما هي مرجعية بالنسبة للوعي السياسي والثقافي واللاهوتي في عالم الإسلام.
و"الإسلام السياسي" هو محاولة تفعيل الإسلام سياسيا، باخراجه من حيز العبادات إلى ميدان المعاملات، ودمجهما في رؤية بديلة للمجتمع والدولة والثقافة. وبالتالي للعولمة.
إن إشكالية الإسلام والسياسة هي أولا وقبل كل شئ إشكالية الرؤية الأوربية، والتي انعكست فيها حصيلة التصورات التاريخية المتراكمة في مجرى تجارب شعوب القارة عن علاقة الدين بالدنيا. فقد تحول فصل الدين عن الدنيا، والكنيسة عن الدولة إلى إحدى المرجعيات السياسية والثقافية في الوعي الأوربي. وعليها جرى بناء صرح القومية والمجتمع المدني والديمقراطيات الرأسمالية. ومن هذه المرجعية وعليها أيضا بنيت كليشات الرؤية الأيديولوجية عما لا يتشابه أو يتطابق معها في تجارب الآخرين.
وقد جرى غرس إشكالية الدين والسياسة الأوربية بطرق شتى ومستويات عديدة في الوعي السياسي للعالم الإسلامي المعاصر. مما ساهم في إضعاف هويته الثقافية وكياناته القومية والاجتماعية.
وتجدر الإشارة إلى أن لهذا الغرس مقدماته الواقعية في تاريخ العالم الإسلامي نفسه أيضا. ففي العالم العربي جرى بعد سقوط الخلافة العربية وتهشم كيانه الثقافي بسبب السيطرة التركية، وفي تركستان (جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية) بعد خضوعها للسيطرة الروسية، وفي روسيا بعد ضم شعوب حوض الفولغا وشمال القوقاز إلى الدولة الروسية. وهي نتيجة تراكمت مقدماتها مع مجرى انحلال الدول الإسلامية وعدم قدرة الثقافة الإسلامية حينذاك على تقديم إجابات تتمثل تجارب الأسلاف العلمية والعملية و تستجيب لتحديات الزمن وضروراته.
وحالما أخذت ظاهرة التحدي تبرز إلى الوجود، بعد أن تحسس العالم الإسلامي للمرة الأولى انهياره شبه التام أمام الغزو الأوربي، بدأت تطفو إلى سطح وجوده الاجتماعي والسياسي ردود الفعل المتنوعة، التي جرى تصويرها بعبارات التحدي واليقظة والنهضة والانبعاث والثورة وغيرها. وهي أوصاف تعكس لحد ما جوانب الظاهرة الإسلامية لا حقيقتها.
ويمكن القول، بان اغلب التفسيرات الأوربية بهذا الصدد حاولت تحسس ورؤية الخلل في علاقة الإسلام بالسياسة . فهي تفسيرات تبني تأملاتها على منهجيات فلسفية وتاريخية وثقافية عن آفاق العلاقة الممكنة بين الإسلام والسياسة في مواجهة وتحدي الغرب.
وبهذا المنحى سارت اغلب الاجتهادات في العالم العربي والإسلامي المعاصر في محاولاتها تفسير ظاهرة الصحوة الإسلامية الجديدة. فالتفسيرات الاقتصادية حاولت البرهنة على أن الأسباب الأساسية القائمة وراء صعود "الإسلام السياسي" ترتبط إما بأزمة التطور الرأسمالي في العالم الإسلامي و بسبب فشل التنمية على النمط الغربي، وبسبب ضعف الطبقات والفئات الاجتماعية الحاكمة وطبيعة صيرورتها التاريخية المرتبطة بالغرب الكولونيالي. ومن ثم عجزها البنيوي في تطوير الاقتصاد والعلم بالطريقة التي تحفظ للدولة والأمة استقلالهما الناجز. أما التفسيرات الفكرية – السياسية، فأنها عادة ما تربط ظهور "الإسلام السياسي" بأسباب منها هزيمة الفكرة القومية على الصعيد الوحدوي والنظام الاجتماعي العادل والديمقراطية السياسية والأمن القومي، أو لعجز الأيديولوجيات الأخرى من ليبرالية واشتراكية وشيوعية وغيرها عن تحقيق بدائلها الاجتماعية - السياسية والثقافية. أما التفسيرات الثقافية – الروحية فتتمحور حول البرهنة على فشل أسلوب التحديث والعصرنة الغربي بسبب افتقاده إلى مقومات الأصالة الذاتية.
تعاني اغلب هذه التفسيرات والاجتهادات جميعا من نقص جوهري يقوم فيما يمكن دعوته بمشاطرة نفسية البحث عن الخلل والآفاق من خلال بناء عناصر التحدي. إلا أن الخلاف بينهم يقوم في أن التفسيرات الأوربية تبني عناصر البحث عن الخلل والتكهن حول الآفاق من خلال فكرة تحدي الغرب، بينما تبني الاجتهادات العربية والإسلامية تصوراتها وبحوثها عن البدائل من خلال تحدي النفس.
أما الرؤية التقليدية (العربية والإسلامية)، فأنها "تتعالى" على جدل البحث عن العلل، وتقرر وجود الأشياء كدليل بحد ذاته. من هنا سيادة الدعوى القائلة بان الإسلام بحد ذاته سياسة، أو أن الدين والدنيا لا انفكاك لهما في الإسلام، أو أن الدين والسلطان في الإسلام توأمان. وهي دعاوى لها معناها في الماضي ، و إشكالاتها في الحاضر.
إن الاجتهادات النظرية المتنوعة في مساعيها للكشف عن علاقة الإسلام بالسياسة انطلاقا من واقع هذه العلاقة أو من ضرورتها تهدف في نهاية المطاف إلى بناء صرح تأويلي يؤيد أو يعارض هذه العلاقة لا إلى تأسيسها العلمي والعملي بمعايير الحاجة التاريخية والانتماء الثقافي.
حقيقة أن هذا التأسيس هو الإشكالية الأعقد من الناحية النظرية والعملية، لأنه يفترض في آن واحد البقاء في حيز الانتماء الثقافي لعالم الإسلام وتقاليده المتنوعة، ومجاراة العالم المعاصر في إبداعات العقل والوجدان.
وسوف تؤسس الشعوب الإسلامية، دون شك، لهذه العلاقة كل بما هو ميسر له. وسوف يصل الجميع إلى إدراك المبادئ الكبرى التي بلورها الإسلام في رؤيته التوحيدية عن الإنسان والمجتمع و الطبيعة بعد تمّثلها النوعي الجديد. وهو أمر يصعب بلوغه دون إدراك الحاجة التاريخية لهذا التمّثل بمعايير الانتماء الثقافي للتاريخ الذاتي( الإسلامي). حينئذ تتحول علاقة الإسلام بالسياسة إلى إشكالية يصبح تأسيسها النظري وتحقيقها العملي جزء من المرجعيات الثقافية للوجود والوعي الاجتماعي والقومي والإسلامي.
ولا يشذ تاريخ الإسلام في روسيا عن هذه "القانونية". فإذا كان الإسلام في روسيا "غائبا" عن الحياة الاجتماعية والقومية والإسلامية في روسيا وخارجها، فلان الشعوب المعتنقة إياه لم تتوصل، بفعل أسباب سوف أتطرق إليها في الفصول اللاحقة، إلى إدراك هذه الحاجة التاريخية بمعايير انتمائها الثقافي الخاص. وحالما تحسست للمرة الأولى بعد انهيار القيصرية وللمرة الثانية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إمكانية وجودها القومي والسياسي المستقل، فان شعور الانتماء الثقافي دفعها بالضرورة إلى تلمس خيوط الارتباط التاريخي بالإرث الإسلامي لأنه ارثها الروحي الكبير. عندها أخذت تنمو عناصر الوعي السياسي لهذا الانتماء ومن ثم بروز الإدراك الأولي لمستويات الواقع والممكن والواجب لعلاقة الإسلام بالسياسة، أي بين الإرث التاريخي الروحي ومتطلبات الواقع المعاصر. فالعلاقة هنا هي ليست فرضية أو تجريبية قابلة للأخذ والرد، بل حاجة تبرز بالضرورة في مجرى تكامل وعي الذات الاجتماعي والقومي. ولا يمكن لتكامل كهذا أن يحدث دون وعي تاريخي مناسب. والإسلام هو مكون جوهري لهذا الوعي. وسوف يعاني كل شعب إسلامي بطريقته الخاصة عقبات الطريق لأجل بلوغ الصيغة المعقولة والفعالة لعلاقة الإسلام بالسياسة. وتجربة الإسلام في روسيا رصيد لم يكتشف بعد، يمكن توظيفه بما يخدم الكل الإسلامي والعالمي استنادا إلى الأبعاد الإنسانية والحكمة الخالدة في التراث الإسلامي.
وهنا يجدر القول، بان الظاهرة الإسلامية ليست فرضية أيديولوجية مجردة، كما أنها ليست مجرد "تسييس" للإسلام. فالجدل المتمحور حول ما يسمى "بتسييس" الإسلام هو من بقايا التحزب الأيديولوجي النابع من انعدام أو ضعف إدراكه للحقيقة القائلة بان "الظاهرة الإسلامية" هي أولا وقبل كل شئ الإشكالية الثقافية السياسية الأعقد والأكبر للعالم الإسلامي. من هنا تنوعها وخصوصيتها، والتي ينبغي البحث عنها في كيفية الانقطاع الذي حدث تاريخيا بين المرجعيات الثقافية والواقع المعاصر للإسلام في هذه المنطقة أو تلك. ومن هنا عالمية الظاهرة الإسلامية، باعتبارها بحثا عن المرجعيات الثقافية الذاتية.
ويمكننا القول، بان العالم المعاصر يحتوي على ظاهرتين عالميتين فقط من حيث سعة انتشارهما وتأثيرهما الروحي، ألا وهما الظاهرة الغربية والظاهرة الإسلامية. وهو أحد الأسباب الجوهرية للصراع الخفي والعلني، المباشر وغير المباشر بينهما. وهو صراع حدده بالأساس تكامل البنية العقائدية واختلاف الرؤى العملية للوجود الإنساني وغاياته. أي أن لكل منهما عقائد متنوعة ولكنها تنتمي في الوقت نفسه إلى مرجعيات ثقافية خاصة، مما حدد بدوره خصوصية رؤيتهما لمعضلات ومشاكل الوجود الطبيعي للمجتمع في مختلف مستوياته وميادينه، ومعضلات الوجود الماوراطبيعي.
وإذا كان زمام المبادرة التاريخية في مجرى القرون الخمسة الأخيرة يعود للظاهرة الغربية (الأوربية)، فان مركزيتها العالمية أخذت بالانحلال مع انحلال إمبراطورياتها(النمساوية والإنجليزية والفرنسية والروسية) في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وأخذت بالضعف والتراخي أكثر فأكثر مع هيمنة القطبية السوفيتية – الأمريكية. أما الهيمنة الأمريكية الحالية، فهي صيغة فجة للإمبراطوريات القديمة. أنها عرضة للزوال السريع بسبب ضعف أسسها الروحية. كل ذلك يشير إلى اضمحلال الهيمنة الغربية في مركزيتها الأوربية وصيغتها الأمريكية المعاصرة. وهو واقع يشير أيضا إلى أن القرن الحادي والعشرين هو قرن المواجهات الثقافية(الحضارية).
فالتاريخ الحقيقي، الثابت والراسخ في الوجود والوعي الاجتماعيين للأمم هو تاريخ الثقافة. ومن ثم فان الثقافة هي القوة الوحيدة القادرة على الاستمرار والفعل في ضمائر الأمم وعقولها. أما الهيمنة الثقافية للغرب الأوربي في مجرى القرنين التاسع عشر والعشرين فهي أخذت في الزوال والاندثار إلى غير رجعة، بعد أن استثارت في عالم الإسلام الظاهرة الإسلامية نفسها من سباتها الطويل تحت عروش الاستبداد. من هنا، فإن صعود الظاهرة الإسلامية نفسها لم يكن رد فعل على الهيمنة الأوربية (المادية والمعنوية)، بقدر ما كان رد فعل على الذات.
فالثقافة الإسلامية التي شارك في بناء أسسها وإرساء دعائمها المادية والروحية تاريخ حضاري عريق لأمم عريقة في حضاراتها، غير قابلة للاندثار والتلاشي. إذ أن تاريخها الحقيقي والثابت والراسخ في كيانات "الأمة الإسلامية" وشعوبها وأقوامها، يقوم في قدرته الدائمة على الاستبطان والتجدد. بمعنى قدرة الثقافة الإسلامية على صهر حصيلة التجارب الثقافية للآخرين وتجديدها بمعايير رؤيتها الخاصة. وهي قدرة حددتها المبادئ الجوهرية الكبرى والمرجعيات الروحية المتسامية للثقافة الإسلامية نفسها.
غير أن المبادئ الكبرى للثقافة أيا كانت عرضة للتغير وللتجدد وللتطور وللانتكاس، أي لكل الاحتمالات الممكنة. إذ الاحتمالات القائمة هي لبّ الصراع داخل الثقافة نفسها. من هنا فان الاجتهادات المتنوعة داخل الإسلام والعالم الإسلامي لتأسيس الهوية هي جزء من المباحث الذاتية للثقافة وجزء من تعميق ما أسميته بالمركزية الثقافية. والمركزية الثقافية شأن كل مركزية هي نتاج تركيز دائم للقوى الروحية والمادية في إدراك قيمة ومعنى التوحيد الاجتماعي والروحي على أسس معقولة للحاضر ومقبولة في استجابتها لتجارب الماضي. وفيما لو تجاوزنا الآن تاريخ الظاهرة القديم وخصوصيتها في مراحل ازدهار الدولة السياسية – الثقافية(الخلافة)، فان آليتها الفعالة المعاصرة بدأت مع صعود الحركة الإصلاحية الإسلامية. فقد تمّثلت الإصلاحية الإسلامية تقاليد الدفاع عن النفس وتأسيس الهوية الشرقية في مواجهة الغرب الأوربي الكولونيالي. فقد كان الشرق في مواجهته الأولى للغرب في نزوعه العملي الموحد وأيديولوجيته الكولونيالية الموحدة، ذرات متناثرة. أي انه كان يفتقد للمركزية الذاتية. إلا أن المواجهة اللاحقة بدأت تراكم في عقول وضمائر الأمم الشرقية ليس فقط إدراك الغرب الأوربي، بل والنفس أيضا. وهو إدراك بلوره وحدده ليس التطور التلقائي الثقافي للشرق، بل آلية المواجهة والتحدي والصراع مع الغرب.
فقد اضطر الشرق منذ اللحظات الأولى للصراع إلى أن يواجه غزوا "متمدنا"، وأن يتحسس روح الفضيحة القائمة فيه. فقد كشف التوسع الخارجي للمدنية الأوربية عن زيف مبادئها الكبرى المعلنة. إذ تجسدت مبادئ الإخاء والمساواة والحرية والديمقراطية والحق في الإذلال والظلم والجور والاستبداد والعبودية للآخرين. وكشف تاريخها اللاحق عن أن نموذجها المتمدن ما هو إلا أنانية قومية. وبفعل اشتراك شعوب القارب الأوربية وأممها بهذه الصفات، فانه أدى إلى تعميق وترسيخ "مركزيتها الغربية"(الأوربية). مما ضاعف من تجذر مواجهتها للشرق، وأجبرت الشرق بتنوع قواه القومية والثقافية والدينية على البحث عن "شرقيته" في بادئ الأمر لمواجهة "غربية" الغرب، وفيما بعد تجزؤ هذه "الشرقية" إلى شرقيات متنوعة، حصلت في عالم الإسلام على صيغتها الأولى بظهور مفهوم "الشرق المسلم" وتعميقه اللاحق في تيارات متنوعة عمّقت بمجموعها عناصر ما يمكن دعوته بالمركزية الإسلامية. واتخذت هذه المركزية الإسلامية في مجرى تطور العالم الإسلامي صيغا وأبعادا سياسية متنوعة ومختلفة، عبّرت بمجموعها عن حوافز المواجهة والتحدي واستثارة الإرادة. أي كل ما كشف سياسيا وثقافيا عن نزوع الإسلام للتعبير عن المصالح الجوهرية للعالم الإسلامي من خلال تحوله إلى "مشكاة" المواجهة الثقافية مع الغرب(الأوربي) آنذاك. وهو تحول تعمق في مجرى القرن العشرين رغم التحولات العاصفة فيه. مما يكشف عن تجذره الراسخ في صيرورة ما أسميته بالمركزية الإسلامية في الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي لدول العالم الإسلامي.
ويجدر القول إلى أن المركزية الإسلامية لا تشبه في شيئ المركزية الأوربية، لا من حيث مكوناتها ولا من حيث مبادئها الكبرى ولا من حيث غاياتها العملية. فقد سعت المركزية الإسلامية، من الناحية التاريخية، إلى وضع أسس الرؤية النقدية تجاه التجربة الأوربية وتطبيقاتها السياسية والاجتماعية والأخلاقية في العالم الإسلامي. أي أنها أرست بصورة تدريجية معالم الوحدة الضرورية بين الوعي السياسي والاجتماعي المعاصر وبين تاريخ الأمم الإسلامية. أنها حاولت استعادة اللحمة المنفرطة بأثر الغزو الكولونيالي، بين التاريخ وبين الوعي، بين الرؤية الواقعية وبين مرجعيات الثقافة الخاصة، بين البدائل وبين مصادر الوعي التاريخي والثقافي. ومن ثم إعادة ترتيب الأحجار الضرورية لبناء صرح التلقائية الفكرية في العلم والعمل.
وقد كان من الصعب بالنسبة لهذه التلقائية أن تتخذ في بادئ الأمر توجها سياسيا – دينيا صرفا، لأنها لم تتحدد بآلية النظام الثقافي المستقل. فهي لا تشبه بشيء آلية الإبداع الثقافي الإسلامي في عصور الخلافة المزدهرة، رغم الاستقلال النسبي للعالم الإسلامي، بما في ذلك في أواخر مرحلة الدولة العثمانية.فقد افتقد العالم الإسلامي بعد سقوط مراكزه الثقافية الكبرى (دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة) أعصاب حياته النشطة. وتحولت الدولة إلى ميدان الفروسية العضلية. فالسلطنة العثمانية إسلامية المظهر استبدادية المحتوى. مما افسد عليها وفيها كل من الدولة والثقافة على السواء. لهذا أصبح تاريخها زمنا فارغا. إذ لا تحتوي القرون العديدة للسيطرة العثمانية على مصادر روحية للوعي الاجتماعي والثقافي الإسلامي المعاصر. أما الشيء الوحيد الذي استطاعت الحفاظ عليه، فهو استقلالية نسبية هشة خاملة. ومع ذلك ساهمت هذه الاستقلالية في بلورة تيارات إسلامية تراوحت بين التقليد الجامد والثورية الإنسانية. بمعنى احتواءها على أطياف سياسية متنوعة. وبغض النظر عن تنوع هذه التيارات، فإنها كانت لحد ما نتاجا للتأثير السياسي الأوربي. إلا أن موضوعاتها تمحورت في الوقت نفسه حول إشكاليات العالم الإسلامي.
فقد عانت الحركة الأولى للتلقائية الثقافية الإسلامية من انفصام حاد عن مصادر وعيها التاريخي، ومن ضغط الثقافة الأوربية. مما كان يعّرضها على الدوام لعواصف التغيرات المفاجئة والطارئة. لهذا سرعان ما انحلّ التراكم الفكري والروحي والاجتماعي الأولى في أواخر الدولة العثمانية الذي ساهم في بلورة تيارات سياسية وفكرية جديدة ونشطة مع سقوط السلطنة وتجزئة العالم الإسلامي بشكل عام والعربي بشكل خاص. ورافق ذلك شرذمة القوى الاجتماعية والفكرية والسياسية. وكسر هذا التحول المفاجئ والطارئ تقاليد الرؤية المتراكمة في غضون قرن من الزمن. مما أضطر الوعي الاجتماعي إلى أن يقع من جديد في نفس آلية ما أسميته بالحركة الأولى للتلقائية الثقافية الإسلامية، ولكن ضمن شروط جديدة تجسدت بسيادة الرؤية الدنيوية(العلمانية) وحركاتها السياسية (من ليبرالية وقومية واشتراكية وشيوعية وغيرها). وتعرض هذا التراكم بدوره في مرحلة النضال من اجل الاستقلال الوطني وما تبعها من الانقلابات العسكرية وصعود الدكتاتوريات الحزبية والفردية والعائلية والقبلية إلى كسر وهدم جديدين.
كشف هذا الانقطاع عن وجود هوة عميقة بين التاريخ الإسلامي وبين الواقع المعاصر، وكشفت في الوقت نفسه عن غياب الرؤية العقلانية والثقافية، وبالأخص عند الحركات السياسية، تجاه الإشكاليات الواقعية الكبرى. غير أن هذا الانقطاع المفاجئ أدى أيضا إلى تعميق وترسيخ التوجه العام القائل بضرورة التأسيس الذاتي(الثقافي) للرؤية التاريخية تجاه الماضي والحاضر والمستقبل، باعتباره إحدى المرجعيات الفكرية الكبرى. وعليها أيضا ظهر التحسس الأولى لأهمية البديل الثقافي – السياسي. بمعنى تنامي براعم الرؤية التاريخية والسياسية عن ضرورة التحّصن الثقافي، وما يترتب عليه من استقلالية حضارية في العالم المعاصر. وهو أمر جعل من التفعيل السياسي للإسلام جزءا من البحث عن البديل الشامل في حوار الحضارات وصراعاتها في العالم المعاصر.
فالحضارات القديمة، على سبيل المثال، لم تتحصن فيما بينها بالطريقة المميزة للوعي الاجتماعي والسياسي والقومي المعاصر. فقد كانت القوة العسكرية هي القوة الظاهرة فيما مضى، أما القوة الباطنة فهي القوة الروحية (الدينية والفلسفية). لهذا كان بإمكان القوى البربرية أن تستولي ظاهرا على من هو أوسع منها ثقافة وارسخ، وأن تخضع مع مرور الزمن لمعاييرها وقيمها وتصوراتها. أي أن الغلبة في نهاية المطاف للثقافة، إلا في الحالات التي جرى سحق الثقافة وحملتها الأصليين. وهو فعل عادة ما يؤدي إلى حرمان القوى البربرية من الدخول في التاريخ، ومن ثم اضمحلالها من الوعي التاريخي والبقاء في تقويم المؤرخين كحدث عابر أو إشارة ذات مغزى لا حدثا ذا معنى مرجعي ومؤثر في الفكر.
ذلك يعني أن البقاء في صراع الحضارات ومواجهاتها فيما مضى كان للأقوى روحا والأرسخ ثقافة . لهذا كان تجمع وتراكم الفكر في عملية متوسعة ومتعمقة. أما الآن فان أولوية التكنولوجيا والعلم التطبيقي أديا إلى سيادة وأولوية القوة الآلية والعقل التكنولوجي، ومن ثم سيادة القوة المقننة والمغلفة للجسد العاري من روح المعاناة الأخلاقية، ومن معاناة الجمعية الإنسانية. وكشف مجرى القرن العشرين منذ بدايته حتى أعوامه الأخيرة (وقبلها بضعة قرون من النزوع الكولونيالي المباشر للهيمنة الأوربية) عن انه لا فرق جوهري في مبادئ الحضارة الأوربية تجاه غيرها. أما أحداث العالم في العقود الاخيرة، وبالأخص بعد انحلال الاتحاد السوفيتي، فأنها برزت حقيقة الحوافز الكامنة والمكبوتة بعد الحرب الإمبريالية الثانية، لروح الاستكبار والتجبّر والاستبداد والغطرسة والاستعلاء لما دعاه الفلاسفة القدماء بالنفس الغضبية (الحيوانية)‎. لقد كشف ذلك بجلاء متزايد عن أن بريق "العولمة" هو لمعان الغرائز. ومن هنا ابتزازها للآخرين و نفورها الدائم من كل ما يحدّ أو يكبت "قوتها الشهوانية". وهو أمر يفسر الأبعاد الثقافية والروحية في معاداتها للإسلام والثقافة الإسلامية.
فالثقافة الإسلامية هي ثقافة الحدود المتسامية، المرتكزة إلى مبادئ الجمعية الإنسانية والعدالة. وهي مبادئ لم تتوصل إليها الثقافة الاوروأمريكية بعد. وليس مصادفة أن تتصادم في مجرى القرن العشرين(قبل صعود الظاهرة الإسلامية المستقلة وانحلال الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية) قطبي الشيوعية والليبرالية الإمبريالية. وأن تتخذ المواجهة هيئة الصراع بين الشرق والغرب. فقد كانت أوربا الشرقية ووسطها(ألمانيا) "شرقية" بالعرف الاوروأمريكي الغربي. وفقدت "شرقيتها" مع انخراطها في الفلك الاوروأمريكي الأطلسي. ولا يغير من ذلك شيئا كون الشيوعية(كعقيدة وأيديولوجية سياسية) إبداعا فكريا أوربيا. فقد جرى تحسس مبادئها على أنها "متحجرات شرقية". وهو تحسس تلّمس فاعلية المبادئ المشتركة بينهما(وحدة الجمعية الإنسانية والعدالة في الإسلام والأممية وإلغاء الطبقات في الشيوعية). وهو أمر يفسر تحول العداء الاوروأمريكي الغربي صوب الإسلام بعد السقوط المؤقت للشيوعية.
لقد تحول الإسلام في تياراته المتنوعة واستقطابه المتنامي لمختلف القوى الفكرية والسياسية، إلى ميدان التحرير الثقافي للنفس. ومن ثم استعادة المركزية الثقافية الإسلامية على أسس جديدة قادرة في المدى القريب على إبداع نظما معقولة ومقبولة في العالم المعاصر. أي أننا نقف أمام إجماع خفي متراكم في الوعي الاجتماعي والسياسي المعاصر في العالم الإسلامي على ضرورة تأسيس نظم للحياة تستمد مرجعياتها الفكرية والروحية من التاريخ الثقافي للحضارة الإسلامية وأممها المتنوعة. ومن ثم تحول جهادها واجتهادها في مختلف الميادين إلى "قطب" روحي فعال في الصراع الحضاري، مع ما يترتب على ذلك بالضرورة من تفعيل سياسي لمكوناته الثقافية. فهي المرحلة الضرورية التي ينبغي أن تقطع أمم العالم الإسلامي ودوله أشواطها من اجل تكاملها المادي والروحي في نظم حكومية وسياسية وثقافية على المستوى القومي والإسلامي والعالمي. ولا تشذ الظاهرة الإسلامية في روسيا عن ذلك، رغم خصوصيتها الكبرى.
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهاشمي أم الهامشي ومعضلة النخبة السياسية في العراق المعاصر
- (وصية) بليخانوف الأخيرة، أم آخر اختراعات -التكنولوجيا القذرة ...
- الفكرة الإصلاحية في (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده
- شخصية ومصير - الهجويري
- التوتاليتارية وإشكالية الحرية والنظام في العراق
- التوتاليتارية والراديكالية (البعثية- الصدامية) - أيديولوجية ...
- التوتاليتارية – أيديولوجية الطريق المسدود
- نبوة المختار – قدر التاريخ وقدرة الروح!
- السياسة والروح في شخصية المختار الثقفي
- العقيدة السياسية لفكرة الثأر الشامل في العراق (الماضي والحاض ...
- فردانية المعرفة الصوفية ووحدانية العارف
- كلمة الروح وروح الكلمة في الابداع الصوفي
- النادرة الصوفية
- فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (5-5)
- فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (4)
- فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية(3)
- فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (2)
- فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (1)
- مذكرات الحصري والذاكرة التاريخية السياسية
- بلاغة طه حسين وبلاغة الثقافة العربية


المزيد.....




- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ميثم الجنابي - الظاهرة الإسلامية في روسيا (1-6)