أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كامل السعدون - ذاك الذي أطفؤا قمره – قصة















المزيد.....

ذاك الذي أطفؤا قمره – قصة


كامل السعدون

الحوار المتمدن-العدد: 1062 - 2004 / 12 / 29 - 06:53
المحور: الادب والفن
    


إلى روح الحبيب داود بطل مدينة الثورة.

عبر هذا العمر العراقي الطافح كأسه بفيوض المرارة أشكالاً وألواناً، عبر رحلة الموت المجاني العراقي المجنون، وتساقط أوراق الأحبة واحدة أثر أخرى، في ألف خريفاً وصيفاً وشتاءاً من شتاءات بابل الملعونة، يظل وحده داود الجميل حد الدهشة، يظل نقياً بهياً في الذاكرة. لا أدري لِمَ أراه الآن أكثر صفاءاً في بحيرات الذاكرة من أي وقت مضى، أكاد أقول.. أكثر حتى من صفاء حضوره لحظة سقوط الصنم تحت أقدام حفاة مدينة البهي قاسم!

كلانا كنا حبيسين ذات المحبس في معسكر سعد في بعقوبة، وكلانا اليوم حبيسين، أنت في غربة الروح في جنة الرّب، وأنا في غربة الروح في شمال العالم! أبو سلمان، أوافتك الحبيبة يا ترى ، أم أن التيار أو الموت العراقي جرفها صوبك في جنة الرّب؟ كان فتىً من أهل خيمة النبيل الحبيب قاسم، لا.. لا تقولوا مدينة (ص) أو مدينة المعتوه (مق)، بل هي خيمة العراقي الأجمل والأنبل من كل قمامات هذا الزمن الفاجر!

كان فتى ولا كل الفتيان، عذب العينين، عميق الشقرة فيهما، كانتا ضاحكتان بأدب يمتزج بغموضٍ وتحفظ غريب، كان يبدو قاسياً بتجهمه الجميل وجسمه المثقل بالعضلات الرهيبة الحجم، كان صموتاً معتكفاً ركنه الأنيق في زاوية من السجن قصية، أنظر إليه على البعد، أشعر بحبٍ أكبر لهذا الوطن ولهذا السجن، وللمستقبل الذي لا بد أن يشرق يوماً، ليكتسح قمامات المثلث الجاثمة على رئة الوطن وقلبه!

أيه، أيها الحبيب داود! فاجئنا يوماً إذ دنا من مجلسنا وكنا ساعتها نتحدث عن الأرواح والأشباح وطلاسم الأفلات من الإعدام، هه.. كنت أحاول أن أشحن الأحبة الثلاثة الذين سيواجهون الحاكم العسكري صبيحة الغد ببعض الإيحاءات، التي يمكن أن تنفع بنيل المؤبد والافلات من الإعدام. وأمسك كتف عباس بقسوة وهتف وعيناه تنظران إلى الاثنين الآخرين بحبٍ ممتزج بإصرار رهيب:
- شباب.. كلنا لها، صدقوني حتى لو لا سمح الله، فليس للرجال إلا هذا. وردد البيت الذي كان أثيراً ليس عنده وحسب، بل عند أغلب (فتوات) العراق في تلك الأزمان البهية الغابرة:
السجن لي منزلة والقيد لي خلخال، والمشنقة يا أبا علي أرجوحة الأبطال!

-2-

في تلك الدقائق القليلة، التي كانوا يسمحون لنا فيها بالخروج للتشمس، كان هو يهرول صوب حلقات الكونكريت الجبارة، التي صنعها في الأيام الأولى لنقله إلينا من سجن الحارثية. وتشمخ ذراعاه في الفضاء كرايتين لفارسٍ من فرسان الأساطير، حاملتان الحلقات الكونكريتية الجبارة، وتهبطان، يتصبب العرق غزيراً، يلهث بعنف، يتوقف برهة، نراه يهمس لنفسه بشيء، ثم يواصل التمرين بهمة أكبر!

كان الحرس يحبونه ويهابونه، بل ويتباهى بعضهم إذ يقول أنه كان يعرفه قبل دخوله السجن أو أنه من ذات مدينته. وكان من جانبه نبيلاً كريماً معهم، إذ كان يبذل لهم ولنا جل ما يأتيه في الزيارة الأسبوعية من سجائر وفاكهة! كنا إذا تعسر بنا الحال ليلاً وقرصنا الجوع، أو نفد مخزوننا من أعقاب السجائر، نتوجه صوبه ونحن مطمئون إلى أننا لن يخيب أملنا، لأن خزين داود لا ينضب، بالمناسبة هو لا يدخن! وكيف لمثله أن يدخن؟! كان يأخذ في الليل واحدةً فحسب، وغالباً ما كان يدفعها صوب العملاق الآخر الأرمني هاكوب، رفيقه القديم في النادي وفي الحارثية وفي العشق والشعر أيضاً، إذ كانا كلاهما عاشقين قديمين لبنات من أيام الثانوية والجيران!


-3-

رباه! كم كان يحبها! ابنة الجيران الصغيرة النحيفة، التي كانت بالكاد تصل كتفه. كانت جميلة سمراء بعينين ضاحكتين، وشعر أسود فاحم بقصة (الكاريه)، كنا نراها تأتي برفقة أمه وأخواته الثلاثة، كانت تتعلق بعباءة أمه، وكانت تلك تضمها إلى صدرها وهما يغدوان الخطو قبل الأخريات صوب السجن. نتابعه بحبٍ رغم انشغالنا بأهالينا وزوجات المستقبل من بنات العمومة والحبيبات، نتابعه لأن ما لديه كان الأكثر حميمية من كل ما لدينا!

حالما تراه، تفلت يد أمه تهرول صوبه، يرتعش العملاق كسعفة في مهب الريح، يوشك أن يجري صوبها، يستجمع ذاته ويحدجها بقوة فتتوقف، ثم تنسحب..! بعد أن يحتضن أمه وأخواته، يلتفت لها، يتلفت حين يرى أن الكل قد أنشغل بما لديه، ينسحب وإياها بعيداً، يجلسان على بساط الحديقة الأخضر ويشرعان بالنظر المضطرب إلى بعضهما، يتحدثان قليلاً، ثم يعودان كل على انفراد ليلتحقان بالأخريات!
- داوود.. لم تردعها المسكينة؟! لم تعاملها هكذا وكأنك تكرهها؟!-
- أما ترى الكلاب، أقسم أنهم يتمنون لو أنني أحتضنتها وقبلتها، يا أخي هذه شرفي وعرضي، أتريدني أن أعرض حياتها للخطر؟! ثم (وأشرق بأبتسامة عذبة) كلها عامٌ آخر وأخرج..

ومر العام، أو أوشك، كنا فرحين منذ أيام ونحن نعيش أجواءٍ أحتفالية، وكأننا كنا جميعاً مقبلون على الحرية، رغم أن فينا من لا زال أمامه بضع سنين أخرى، وفينا من سيخرح من السجن إلى القبر بعد محاكمة قصيرة من قبل الجزار الفاسد عواد البندر!
- قاسم، أتظنني سأخرج حقاً؟!
- طبعاً داود ما عاد لهم شيء عندك، خمس سنين وأوفيتها بالتمام والكمال، ثم لماذا تشك بخروجك؟ ليس لديك قضية أخرى أليس كذلك؟!
- لا والله، أبداً! لكن لا أدري، لا أشعر بالاطمئنان، لا أريد أن أصدق، في القلب وخزة يا صاحبي!
- استغر ربك وتفائل يا رجل، ليس لهم عندك شيء بعد، ثم (واغتصبت ضحكة كانت إلى البكاء أشبه) ستخرج وتتزوج الغالية المحروسة حبيبتك، سأزورك يا صاحبي، سأخرج بعد تسعة أشهر من الآن، وسألتقيك، لا تنسى عنوانك قبل أن تخرج..
- الله كريم (همس بصوت خافت).

- 4 -

ليس إلا يومان بعد ويخرج الفتى داوود، صيف بعقوبة حزين هذا الصباح الجو ملغوم بشيءٍ عسير على الفهم! ثقيلٌ هو هذا الصمت، حتى العصافير أكاد لا أسمع سيمفونيات نزقها الأزلي، رباه حتى ياسين الحبيب سجين العشر الماضية، عضو الدعوة، والذي لا يكف عن التسبيح والصلاة ليل نهار، كان واجماً هذا اليوم، كان يركع الركعتين بسرعة ثم ينهض، ليقف عند أضلاع الباب، وكأنه يريد أن يرصد الموت، أو الطوفان قبل أوانه (أستغفر الله.. أستغفر الله.. أست.... وجعلنا من بين أيديهم سداً.. ومن خلفهم سداً و..)...!
- ياسين.. مولانا.. ما الأمر؟!
- الأمر لله وحده، (وترقرقت في عينيه دمعة) لله وحده.. وحده.. أستغ...!

حتى هاكوب، العملاق هاكوب، صديق داوود الأقرب، كان هذا الصباح في حالة إيمانية غريبة لم نعهده عليها من قبل، حتى في أعياد الميلاد والقيامة ورأس السنة، كان راكعاً أمام شمعته قبالة أيقونة السيدة العذراء!
فجأة أنفجرت فقاعات الصمت الثقيلة دفعة واحدة، اضطربت الحركة في الخارج دفعة واحدة، الحرس يهرولون بأحذيتهم الثقيلة هنا وهناك، تهتز ألواح باب السجن بقوة.
- السيد القائد.. السيد القائد.. احلقوا الذقون بسرعة.. رتبوا أفرشتكم.. ارتدوا شيئاً نظيفاً وتهيأوا للخروج.. هيا بسرعة...!
ضجت أروقة السجن بالحركة المقيتة العجلى، اللعنة ألسنا سجناء ماذا يريدون منّا أكثر؟ (هتف المشبوه المدسوس علينا منذ قرابة الشهر، القميء سعدون)، لم يجبه أحد فليس فينا من لا يزال يثق به!

أرتفعت الأقدام بقوة، هبطت على بلاط الممر الخارجي بعنف أرتج لها السجن بجدرانه العتيقة السوداء، رُفعت البنادق، هُزّت بعنف في الفضاء بحركةٍ سريعةٍ، ثم انتصبت بحرابها اللامعة الحادة متعامدةٍ مع الأفق أمام الوجوه المشدودة الخائرة من الرعب!

رأينا كرشه يتقدمه مشدوداً بقوة تحت الحزام اللامع بينما المسدس (البراوننغ)، يتدلى باستهانة وقد حُل قفل حزامه السافل! وكأنه في ساحة حرب لا سجن!
- هيا اخرحوا الجبناء لأفتش السجن، بسرعة!
- أمرك سيدي..
وخرجنا بجلبة وإرتباك وخوف، وقفنا في طابور من ثلاثة صفوف عرضية، ووجوهنا جهة باب سجننا، شملنا بنظرة، دنى منّا، محاطاً بكوكبة من حرسه! ألتفت إلى آمر السجن.
- هل تظن أن عندي فندق لهؤلاء الغجر، ما يسري من قوانين على الشرفاء الجند في الوحدة، ينفذ على هذه القمامات!
- أمرك سيدي..
- وأين هو أمري؟ وهذا.. (وأشار بعصاه إلى ياسين) لم يحلق ذقنه؟!
- سيدي لديه تقرير طبي يؤكد أصابته بمرض جلدي!
- تقرير من أين؟! من روح الله الفارسي...هه! وهذا (وأشار صوب آرام)..
- سيدي هذا أيزدي وهم معفوون من ال...
- أيزدي أم شيوعي؟! هه...
- أنت شيوعي يا ول.. أليس كذلك؟!
- كيفك سيدي..!
قهقه بقوة حتى أهتز كرشه: أنظر الملعون مهذب ابن (ال....)، وألتفت صوب داوود، حدجه بقسوة تبادلا نظرة طويلة، ثم فرّ بسرعة ليدخل السجن للتفتيش! تنفسنا الصعداء برهة, ثم انفجرت جلبة في الداخل، قرقعة قدور وتحطم أطباق، وبدأ الركل والرفس والرمي صوبنا بالأطباق والحقائب والمجلات والقدور ومواقد الطبخ الصغيرة!

وخرج ثانية، تلفت صوب حمايته، همس بشيء ما لهم فأحاطوه بقوة ثم زمجر:
- يا ( ول ) داوود، مملوحة البنية صويحبتك!
ارتعش جسد العملاق الواقف إلى جواري، ضغطت على كفه بقوة مهدئاً، ألتفتت صوبه عشرات العيون، لمحت عينا ياسين وشفاهه تستغفران، جحظت عينا داوود وزادت شقرتهما حمرة، بينما الغريم في الجهة المقابلة يبتلع ريقه ليهتف:
- يا ول إذا طلعت عود، راح تلكاها عندي.. أذبلك إياها من (أخل...)..

في ذات اللحظة، توقف الزمن، توقفت القلوب عن النبض، شُدت الأعصاب،
وماتت اللحظة، وجفّ رحيق الإستغفار على شفتا ياسين المقروحتين، وأنبثق العملاق كالبرق شاقاً الصفوف، أنسحب الآخر متعثراً وأنفجر الرصاص من أكثر من عشر فوهات جبانة!

ألتفت الجبان صوب مأمور السجن وهو لم يزل يلهث وهتف به، سجل في شهادة الوفاة محاولة إغتيال السيد القائد..!

__________________________________________________

هوامش لا بد منها :
1- القصة حقيقية وقد حدثت في منتصف الثمانينات، وأبطالها جميعاً حقيقيين بما فيهم الكاتب ذاته.
2- يا (ول) مختصر كلمة يا ولد بلهجة أحبابنا في المثلث الأسود...!



#كامل_السعدون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لكي تكون عظيماً ...عش العظمة في لحظتك هذه – مقال سيكولوجي
- صورة – قصة قصيرة
- سحر الحواس - مقال سيكولوجي
- كيف نحقق الشخصية التي نحلم لها ؟
- التلباثي ---وجيزٌ عمليٌ تطبيقي
- عباءاتهم وفضاء العراق ـ شعر
- ان كنت حبيبي ـ شعر
- ثانيةٍ على عتبات ميرا ـ شعر
- الشيوعيون وحدهم ـ الجزء الثاني - شعر
- الحوار المتمدن – واحةٌ ظليلةٌ للغرباء والسائرون عكس التيار
- ببغاء – قصة قصيرة
- الشيوعيون....وحدهمُ ــ شعر
- تهدجات على عتبات ميرا – شعر
- سحر ميرا - شعر
- أقولُ لكْ….شعر
- يتولاني - شعر
- شباك ميرا - شعر
- هلّ…ليْ - شعر
- تقنيات التنويم المغناطيسي الذاتي – Selv - Hypnosis
- وفي البدء كانت الكلمة – مقال سيكولوجي


المزيد.....




- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...
- شعراء أرادوا أن يغيروا العالم
- صحوة أم صدمة ثقافية؟.. -طوفان الأقصى- وتحولات الفكر الغربي
- غَيْرُ المَأسُوْفِ عَلَيْهِم -
- وفاة الفنان العراقي عامر جهاد
- غَيْرُ المَأسُوْفِ عَلَيْهِم
- غَيْرُ المَأسُوْفِ عَلَيْهِم .


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كامل السعدون - ذاك الذي أطفؤا قمره – قصة