أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال القواسمي - هزائم صغيرة - قصة قصيرة















المزيد.....

هزائم صغيرة - قصة قصيرة


جمال القواسمي

الحوار المتمدن-العدد: 3542 - 2011 / 11 / 10 - 12:30
المحور: الادب والفن
    


حالما عتَّب الشارع، داهمته مدينته، الرام. للمرة المليون يرى مدينته تقيُّحاً يسري متشظِّياً في بدنه. بنايات خرسانية متورَّمة تنفث في الجو رائحة الفوضى. شوارع تبتلع حفرُها الناس والسيارات، وفي الشتاء تصبح مستنقعات يتكاثر فيها نكد موحل. وارصفتها غير الموجودة تحفُّها اشجار وارفة من النسيان واللامبالاة. مرةً اخرى شعر بأنَّ مدينته حالة من صمت لا يمكن أن يفسرها أحد.
 
قبل اسبوعين استقال من الشارع. اعتكف في البيت لعلَّه ينسى هذه المدينة، الرام، المنسية عند حافة القدس، القدس القصية عن عينه والمُحرَّمة عليه. كان قبل اجازته يشعر كلَّ يومٍ بأنَّه يرى الرام للمرة الأولى، يفغر وجعَه على مصراعيه بصمت لا يمكن تفسيره، ويلعن اللحظة التي خرج فيها من القدس واستأجر بيتاً منذ تسع سنين في هذه الرام.
 
كان كلَّ يوم يقع في احدى الحفر المبثوثة في شوارعها، ويستغيث بالناس لكن لاأاحد ينجده. وكثيراً ما ظنَّ أن كلَّ شخص في الرام يقع في حفرة خاصة به ويستغيث من ذلك الصمت المُصمِّ الذي لا يمكن أن يفسره أحد. ولحقت به زوجته وهي ترجوه، "ارجوك يا سالم، لا تذهب! ادرك الآن اننا في وضع مختلف وجديد، لكنني زوجتك وأنت زوجي!"
 
-" ايناس، افهمي موقفي، ارجوك! أنا شخص آخر الآن، الرام ليست الرام، وأنتِ لستِ أنتِ!"
 
كان ثمة صمت طويل لا يمكن أن يفسره أحد يمتدُّ بينهما كأنَّه مسافة لانهائية من ثكل وحسرة. حاولت أن تخطف مُغلَّفاً كان بيده، لكنه انسلَّ بعيداً عنها، والناس تحملق فيه بضجر وشماتة. حاولت أن تتبعه، فوقف فجأةً وارتطمت به، "ارجوكِ، اتركيني! لا استطيع أن احتمل نفسي! منذُ عشر سنوات وأنا مخدوع بكِ وبأمي وبيتي والأهم من ذلك بنفسي!! لماذا لا تصدقينني!؟ يجب أن استقيل!"
 
تركته يذهب. القم جسده اقرب سيارة مُتجهة الى رام الله. إنَّه لا يطيق الرام. وهو محروم من دخول القدس. إذن، سيمضي اليوم بطوله في رام الله. وصل الى الصحيفة مُبكِّراً قبل موظفة الاستقبال والمحاسب والمدير الإداري. منذُ أن وصل ارتمى على أحد الكراسي جثةً هامدةً تلوك صمتاً لا يمكن أن يفسِّره أحد.
 
كان الجميع يحملقون فيه وهم رائحون وغادون. كان يرى مدير الصحيفة الإداري يصرخ بالسكرتيرات تارة وفي الهاتف طوراً آخر قائلاً، "نريد مزيداً من الاعلانات.. هاكم، انظروا الى الصحف المنافسة، وأنتَ يا وكيل الاعلانات المحترم، أُريدك الآن أن تحضر هذه الاعلانات الى صحيفتنا! كم مرة عليَّ أن اقول إن الصحافة هي الاعلان!؟"
 
رأى السكرتيرات ينقرن أزرار لوحات الحواسيب ويحملقن فيه بارتياب دونما سبب حملقةً جعلته اشدَّ وجوماً وتحفُّزاً للتحجُّر. صحا على صوت اجشٍّ ووجه اجرب، "ماذا تفعل وأنت جالس هنا!؟" من المؤكد انه المحرر المسؤول او صاحب الصحيفة. لكنه لم يقل شيئاً. لم يكن بوسعه أن يفعل شيئاً. نظر ذو الوجه الاجرب نحو جميع الموظفين نظرات تحمل السؤال نفسه، فاجابته موظفة الهاتف والاستقبال، "إنه هنا منذ الصباح، هكذا ومعه مغلَّف غريب."
 
حملق فيه المسؤول وسُرعان ما استظرفه. تساءل وهو يضحك، "ماذا يريد، إذن؟" فقال له المحاسب، "يريد أن يراك!"
 
-" ادخلوه!"
 
أراحه مكتب المحرِّر المسؤول. ثمة صورة كبيرة لمدينة نيويورك في الظلام، بنايات سامقة، تشعُّ فيها شبابيك كثيرة. امعن النظر ببعض النوافذ ولم يرَ ظلاً انسانياً واحداً. احسَّ بتربيتة المحرر على ظهره، فخرج حالاً من نيويورك الغارقة في مستنقع متألق من الظلام وعاد الى رام الله.
 
-" أنا كلُّ شيء هنا، المحرر المسؤول، رئيس التحرير، صاحب الصحيفة، وما شئت، لكن قبل كلِّ شيء، تريد قهوة او شاياً؟" سأله.
 
-" لا داعي. الوضع لا يحتمل!" قال وهو يكاد ينفجر من الغضب، ووضع مغلَّفه على طاولة المحرر الكبيرة.
 
-" على الأقل اجلس!"
 
-" لا وقت لدي. إنني انتظرك منذ الصباح. وأنا متعب أيضاً من الجلوس!"
 
-" ما بك اصبحت غاضباً؟" سأله المحرر وتناول المغلف، فتحه وقرأه مراراً بامعان، "أنا المدعو سالم عبد الرحمن اطلب أن تعفوني من... ما هذا الكلام؟"
 
-" كتاب استقالتي!"
 
-" استقالة من ماذا؟"
 
-" اوف، من ماذا يعني؟ من جسدي؟ من الرام؟ من حمولتي؟ من العمل طبعاً!"
 
-" لا داعي للصراخ، ارجوك! لا تُعطني انطباعاً بأنني ظالم وأنتَ المظلوم الذي هضمت حقَّه. إنني حقاً في صفِّك، وأريد أن اكون صديقك، والله! لا اعرف لماذا استلطفك، لكن على كل حال اشعر بأننا على الأقل يمكن أن نكون اصدقاء، صدِّقني!"
 
-" لكنني لن اتراجع عن استقالتي. لم يعُد بوسعي أن اعمل هنا!"
 
-" لكنك لا تعمل هنا!"
 
حملق كلٌّ منهما في الآخر. مسح سالم عرقه عن جبينه، وارجع خصلات شعره الأسود الناعم الى الوراء. ثمة نشيج صامت دوَّى في عينيه. كم أراد أن يبكي.
 
-" رغم ذلك اريد أن اقدِّم استقالتي!!"
 
-" افعل ما شئت، لكنني لن اقبل استقالتك!"
 
-" لماذا لا تقبلها، اللعنة؟ لا اُريد أن اعبِّيء فراغات وحسب. انني اكتب بدمي، باعصابي، بعذاباتي. كلُّ ما اترجمه واكتبه لكم من مقالات ومراجعات كتب ودراسات لا تعدو كونها مادة تملأُ الفراغ وحسب. إنَّ هذه الصحيفة تمضغ نسغي وتلفظه غائطاً على صفحاتها كلَّ يوم. كلُّ ما اكتبه كذبٌ ودجل، إننا نغسل أدمغة الناس، نبيع لهم اوهاماً، نضلِّلهم. لا استطيع أن احتمل هذا النزيف. آخ، رأسي يدور، قدماي تؤلمانني.." ثم أخذ ينتحب، وهمد على الكرسي جثةً بلهاء تلوك صمتاً لا يمكن أن يفسِّره احد.
 
-" لماذا لا تشرب شيئاً، ها؟ شاي؟" سأله المحرِّر، فهزَّ رأسه دلالة الموافقة. "هل أكلتَ منذ الصباح؟" هزَّ رأسه نافياً. "سنأكل معاً بعد قليل، لكن يبدو لي انك بحاجة امسٍّ الى شيء واحد اكثر من الشراب والطعام، تعرف ما هو؟"
 
-" الحذاء!"
 
-" هه هه هه.. نعم، كلا، كلا.. أنتَ حقاً تحتاج الى حذاء، الآن فقط لاحظتُ انك لا تنتعل حذاءً.. هه هه.. منظر فريد، رائع.. لكنني قصدتُ.. هه هه.. شيئاً آخر.. وهو العمل. اسمعني، اسمعني جيداً، اسحبْ استقالتك اولاً، ثمَّ قدِّمْ طلباً جديداً وسوف تحصل على عمل جديد لا تكتب فيه شيئاً لكي لا تمضغه الجريدة وتلفظه كالغائط.. هه هه.. آ، واللهِ!.. اكتب فراغاً، اكتب بياضاً، اكتب سواداً، وبالاشكال التي لا معنى لها، والاحجام التي تريد، اكتب ما شئتَ.. أنت طاقة ابداعية، من المؤكد انك تحب كرة القدم.."
 
-" بل العدو!"
 
-" لذلك قدماك داميتان؟"
 
-" كلا، قدماي داميتان لأنني لم اجد حذائي في البيت هذا الصباح."
 
-" وكيف ضاع؟"
 
-" ارجوك، لا تحرجني!"
 
-" قُل لي؟"
 
-" إِنه سر مزعج!"
 
-" هيا، قله!"
 
-" لا استطيع!"
 
-" ارجوكّ!" كانت السكرتيرة قد احضرت صينية عليها سُكَّرية، وملعقة وكأسي ماء وشاي فيه شريحة ليمون، فشكرها وارتشف بضع رشفات متلاحقة. قال له المحرِّر، "من أجلي، قلْ لي ما هو السر!"
 
فقال، "استيقظت صباح اليوم وشعور غريب ينتابني. بدأت القصة من الحذاء. منذُ اسبوعين وأنا في اجازة من الصحيفة. في الاجازات احبُّ قضاء كلَّ الوقت في البيت. استيقظتُ على لمسات زوجتي وقبلاتها كأنَّها تودعني الوداع الأخير. قلتُ لها: سوف اتأخر عنكِ ثماني ساعات واعود اليك والاولاد. ومع ذلك امضينا وقتاً ممتعاً واستحممنا معاً، ثم حلقتُ لحيتي، قصصتُ اظافري، غسلتُ ملابسي التحتية -هذه عادة تعلَّمتُها وأنا ادرس في الخارج- ثم ارتديتُ بذلةً كانت بمقاسي، لا اعرف من اين أتت، لم أرَها من قبل، لم اشترها، لم تشترها زوجتي، اعجبتني فارتديتُها، ثمَّ بحثتُ عن حذائي ولم اجده، تصوَّر؟! لم اجد حذائي!"
 
كان المحرِّر المسؤول مأخوذاً بكلام سالم عبد الرحمن. ومنذ أن ذكر قصة البذلة، أخذ ينظر اليها وهو لا يصدِّق. كان المكتب قد تكدَّس فيه المحرِّرون، والفتيات الطابعات، والحرَّاس، والمحاسب، وموظفة الاستقبال، والموزعون، وسكرتير التحرير، والسائقون، والسكرتيرة، والمدير الإداري، وهم يُصغون اصغاءً تاماً.
 
-" لم تجد حذاءك؟"
 
-" كلا، بل وجدتُ هذه البذلة،" قال سالم عبد الرحمن وعبَّ ما بقي من الشاي دفعةً واحدة.
 
-" ثم ماذا حدث؟"
 
-" ادركتُ عندئذٍ انني لم اكن في بيتي، وان تلك المرأة التي احبُّها واتشاجر معها منذ عشر سنوات ليست زوجتي، واولئك الاولاد ليسوا أولادي، وانني لستُ ايايَ، وانني فوق كلِّ هذا استمتع بقضاء اجازة ليست اجازتي!"
 
ازدرد ذو الوجه الاجرب جرعةً من الصمت لاكها بكسل. امتقع هدوؤه. وبعد برهة مشحونة بنظرات الموظفين، قال، "الغريب انني ايضاً شعرتُ بهذا الشعور ذاته هذا الصباح، لكنني كابرت ثم ضحكت على نفسي. الحقيقة انني شعرتُ انني لستُ أنا نفسي، لستُ المحرِّر المسؤول، ولا رئيس التحرير، ولا مالك الصحيفة، وكنتُ اليوم في بيت لا اعرف مَنْ كان فيه."
 
-" وما الذي جعلك متأكِّداً من ذلك؟" سألته السكرتيرة.
 
-" الحذاء.. لقد وجدتُ في بيتي حذاءً ليس لي. قلتُ لزوجتي: هذا ليس لي! ضحكت وعانقتني وقبلتني وقالت: يا عيب الشوم، لمن يكون إذن يا بايخ!
 
- واللهِ ليس لي!
 
- هيا انتعله! لا تكن ثقيل دم!
 
قلتُ لها مئة مرة أن الحذاء ليس لي وأنا احاول أن اكظم غيظي وهي تقول: بل لكَ! هيَّا انتعله، يا سمج! قلتُ لأمي وبناتي: أتذكرن حين اشتريتُ حذائي معكن.. هذا ليس حذائي! لم يقلنَ شيئاً، فأدركتُ انَّ من رافقني لشراء حذاءٍ لي لم يكونوا امي وبناتي، وانني كنتُ مخدوعاً بالجميع منذ أمد طويل، وذهب كلُّ واحد منهم ليبحث عن حذائه، وأدرك الجميع انهم ليسوا هم انفسهم. إنَّ الأمر غريب. زوجتي لم تكن زوجتي، وامي لم تكن امي، وبناتي لم يكنَّ بناتي. لكن احداً لم يجرؤ على أن يقول شيئاً. كانت ثمة جبال صلداء من سكوت متواطئ يفصل ما بيننا جميعاً. لكنَّك علَّمتني أن انطق بالحقيقة.. كلا، لستُ محرِّرا ولا بطيخاً. لأخلع حذائي. اتركوني، ارجوكم.."
 
كان سالم عبد الرحمن شارد الذهن منذ وهلة وهو يتأمل بامعان صورة نيويورك مرة أخرى. يبدو انه لم يسمع المحرر المسؤول وهو يناجي نفسه، ولم يره وهو يخلع حذاءه ويشقُّ اجساد الموظفين ويخرج من بناية الصحيفة. وحالاً أخذ الموظفون في آنٍ واحد يخلعون أحذيتهم ويدركون حقيقة انهم ليسوا هم انفسهم، وخرج الجميع الى الشارع، وتركوا سالماً وحيداً يناجي حيادية نيويورك الغارقة في ظلمة متألِّقة. حاول أن يبحث في الصورة عن انسان، ظلِّ انسانٍ، شيءٍ ما يرمز لانسان، وفعلاً رأى ظلاً انسانياً في نافذة في احدى الطوابق العليا من ناطحة سحاب. قال له، "هالو، هالو، كيف الحال؟"
 
-" لا بأس!" ردَّت علية امرأة لم يرَ إلا ظلَّها.
 
-" اكتشفتُ اليوم انني لستُ اياي!"
 
-" هذه مصيبة! كيف حدث ذلك؟"
 
-" لم اجد حذائي في البيت. عندئذٍ أدركتُ انني منذ عشر سنوات اعيش في بيت ليس لي، واعاشر زوجة ليست زوجتي، واعيش في مدينة متقيِّحة.. أنا انسان آخر.."
 
-" لا اسمعك!"
 
-" اقولُ لكِ انني اعيش في مدينة متقيحة.. وانني انسان آخر لستُ اياي.."
 
-" لا اسمعك، ارفع صوتك!"
 
-" طظ!" وبصق على الظل الانساني الصغير، فزوبعت في سماء نيويورك عاصفة شتائية شطفت وحدتها وحياديتها وظلمتها، ولم تعد متألقة كما كانت في عينيه من قبل. ترك بناية الصحيفة. أخذ يمشي في شوارع رام الله. كانت رام الله هي ذاتها التي يراها كلَّ يوم قبل قضائه اجازته من العمل، لكنَّ ثمة حركة غريبة وامارات غريبة تحترف اجساد الناس ووجوهم. ودنا من سالم شرطيُّ خلع حذاءه وشكا إليه اكتشافه المذهل، "وجدتُ اليوم انني لست شرطياً.. وانني انسان لست انا.."
 
لكن سالماً شعر باعياء شديد وملل قاتل، فترك الشرطي وحيداً يخاطب نفسه، ولم يعُد يهتم بكلِّ الناس الذين كانوا يقفون على الارصفة والشوارع، يخلعون احذيتهم، ويقولون تفاهات. وقال راكب صعد الى سيارة السرفيس المتجهة الى الرام من ساحة المنارة، "اعرف انَّ حذائي ليس حذائي، وأنا لستُ نفسي، وفرحي غير العادي اليوم ليس فرحي، ربما كان من المفروض أن اكون حزيناً اليوم؟ ربما نهبتُ فرح شخصٍ آخر؟"
 
ثم اوقف السائق السيارة في مكان ما. وحين استفسر الركاب ما عدا سالم عن سبب التوقف، قال السائق وهو يبكي، "اكتشفتُ الآن انني لستُ اياي، وانني اسوق منذ عشرين عاماً سيارة ليست سيارتي، واتحدث مع ركاب ليس من المفروض أن يكونوا ركابي، تصوَّروا؟ والأدهى من ذلك، ماذا يضمن لي انني اتجه الى المكان الذي يُفترض أن اتجه اليه؟ اليس من الممكن أن نتجه الى المكان الخاطئ؟"
 
نزل الركاب من السيارة، ونزل معهم سالم. كانت سيارات كثيرة قد توقفت في عرض الشارع العام واعاقت حركة المرور. لم تكن ثمة صفارات مزعجة، ولا شتائم نابية، ولا عراكات. وأخذ سالم يمشي في شارع رام الله-القدس العام وهو يشعر بملل شديد من كلام الناس التافه واسئلتهم الممجوجة. آلمته قدماه الحافيتان، وشتم حذاءيه، والصحيفة، والمحرر المسؤول، والناس، والسيارات والطريق العام.
 
كان الطريق العام حاوياً حاذقاً يعرف تماماً كيف يجرجره الى اعتاب الرام بشعوذته وسحره. كان مفرق الرام على غير العادة خالياً من السيارات والناس. كانت ثمة هالة غريبة من غموض وصمت لا يمكن أن يفسرها أحد تخيم على الرام كلها. وقف. اصاخ السمع. وجد قدميه تسوقانه الى الحاجز العسكري الذي يمنعه جنوده من دخول القدس. شيئاً فشيئاً أخذ يرى جيبات عسكرية، وسيارات شرطة عسكرية، وقوات مشاة. لم يرَ سيارة واحدة يسوقها عربيٌّ تتجه الى القدس. كان يعلم أن الجنود لن يسمحوا له بعبور الحاجز العسكري ودخول القدس لأنهم كانوا قد سحبوا هويته منه، فلم يعد يحق له أن يدخلها.
 
رأى سيارة جيب تمرق من الحاجز، وقفت وترجَّل منها ختيار، دفشه الجنود وقالوا له، "إذا عدتَ الى القدس، سنشلع أذنيك، هل تفهم؟"
 
اقترب سالم من الختيار، وسأله، "ما الأمر؟"
 
-" قبل ساعات حدثت هنا أمور غريبة، وفاضت القدس بفلسطينيين تدفَّقوا اليها. ثمة حملة كبيرة الآن تشنها السلطات لاخراجهم منها.."
 
-" ماذا حدث؟"
 
-" لا نعرف كيف حدث ذلك. الأمر ببساطة إن جنود الاحتلال عند الحاجز خلعوا بساطيرهم، وصحوا فجأة على حقيقة انهم ليسوا هم انفسهم، وانهم يحملون اسلحة نارية لا تخصُّهم، ويرتدون بزات عسكرية ليست لهم، ويتحدَّثون لغةً منذ طفولتهم ليست لغتهم، ويربضون في مكان لا يعرفونه، ويشعرون بأنَّ ثمة مشاعر بغض اثمرتها في قلوبهم وفي قلوب كثير من الفلسطينيين حروب صغيرة لا يعرفون حتى الآن لماذا شاركوا فيها وقتلوا فيها اشخاصاً لم يؤذوهم، وقُتِلَ فيها اصدقاء لهم لم يؤذوا احداً أبداً، ثم تركوا الحاجز، وتدفَّق أهل الرام الى القدس.." قال الختيار لسالم، الذي اعتراه وجوم لا يمكن أن يفسِّره احد. "ما بِكَ يا بُني؟"
 
لكن سالماً لم يستطع أن يقول شيئاً. ودَّ لو يقتحم بجسده الحاجز ويذهب الى القدس. عاد ادراجه الى الرام الخالية من الناس. شتم الاستقالة التي قدمها. شتم نفسه. لو بقي في الرام اليوم، لتسلَّل الى القدس مع من تسلَّلوا اليها. بصق. تفاجأ انه يتجه الى البيت الذي ادرك هذا الصباح انه ليس بيته. وقع في حفرة عميقة في وسط أحد شوارع الرام. استنجد بأحد ما، أيِّ أحد. وفعلاً أتت زوجته وابناؤه وانقذوه. سألهم، "ماذا تفعلين هنا يا ايناس؟ الم تذهبوا الى القدس؟"
 
قالت زوجته بحنو وأسى، "امُّك وابنك البكر، اللذان اتضح انهما ليسا أمك وإبنك، ذهبا الى القدس، فالقى الجيش القبض عليهما واعادهما. انهما في البيت، صامتين صمت الحجر. اما أنا، فلم ارغب أن اترك البيت واجعل رجلاً -عشتُ معه منذ عشر سنوات واتضح انه ليس زوجي- ينتظر عودتي بفارغ الصبر!!"
 
ذهب معهم الى البيت. تناولوا الطعام معاً، شربوا الشاي معاً، تابعوا آخر الاخبار معاً، وتفرَّقوا بعد السهرة كلٌّ الى غرفته لينام. مرةً اخرى تمدَّد سالم الى جانب ايناس في لسرير. ورغم ان ايناس شعرت بأنَّ هذا الرجل الذي تعاشره منذ عشر سنوات ليس زوجها، وانها ليست هي نفسها، ثمة دافع صامت داخلها لا يمكن أن يفسره أحد جعلها تحاول أن تجسر الهوة التي بينهما. لاطفته، وضمَّته الى صدرها، فأخذت روحاهما تنشجان بصمت لا يمكن أن يفسره احد، وناما في احضان احدهما الآخر وهما يدركان بأنهما في بيت ليس لهما، ويشعران بلذة وألمٍ ليسا لهما، وانهما ليسا نفسيهما، وانَّ هذا الصمت البلقع الذي لا يمكن أن يفسره أحد ليس صمتهما.
 
15 آب 1996

جمال القواسمي قاص فلسطيني يعيش في القدس، من مواليد 1966، عمل سابقاً في الترجمة والتعليم؛ له ثلاث مجموعات قصصية: جاي معك 1990، شامة في السماء 1997، هزائم صغيرة، 1998.



#جمال_القواسمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجندي المعلوم- قصة قصيرة
- ثلاثية القُبَل- قصص ق جداً
- الكعكة - قصة قصيرة
- أربع قصص قصيرة جداً
- صدفة - قصة قصيرة
- مدينتي - قصة قصيرة
- ثلاثية خداش- ثلاث قصص قصيرة جداً
- لعبة قذرة - قصة قصيرة
- عالم الدهشة - قصة قصيرة
- أحلام سعيدة- قصة قصيرة
- سبع قصص قصيرة جداً


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال القواسمي - هزائم صغيرة - قصة قصيرة