|
عالم الدهشة - قصة قصيرة
جمال القواسمي
الحوار المتمدن-العدد: 3515 - 2011 / 10 / 13 - 12:30
المحور:
الادب والفن
-1- كان الرجل قد وجد ان كل شيء يدهشه. بعد جلستين مع الطبيب النفسي، أكد الطبيب النفسي ان مشكلة اندهاشه ليست نفسية بل ربما تكون فسيولوجية، وربما لا بد من دواء، فقال للطبيب النفسي، "ووواااااووو.. كلامك مدهش!" وبعد اجتماعه مع الطبيب، قال له الأخير، "الوضع ليس له علاقة بالفسيولوجيا، ربما يحتاج لجراحة تجميلية، لا غير.." اتَّسعت عيناه وفغر فاهه دون ان يستطيع ان يتفوه بكلمة واحدة. وحين استشار الجراح التجميلي، قال له الأخير، "انفعال الدهشة رد فعل طبيعي.. وهو يزيدك جمالاً، فلا حاجة للعلاج التجميلي. قد تكون المسألة نفسية تماماً، وربما كانت وراثية.. ربما تحتاج لاستشارة وراثية!" وقال الرجل للدكتور، "يا إلهي، بالتأكيد لا احتاج الى استشارة وراثية.. أنا أصلاً غير مندهش!" فقال له الدكتور، "عزيزي، أحذر.. انت في حالة نكران!!" -" انا مندهش تماماً من تحليلك.." -" هذا ما اقوله.. لاحظ كلمة مندهش.." هوى الرجل المندهش على الكرسي حزيناً باندهاش.. أي قناع تلبسه! أي دي.أن.أيه أورثه إياه والداه! أي حياة مدهشة مملة يعيشها!! قال للدكتور، "ماذا أفعل!؟" فقال له الطبيب، "ليس لدي إجابة." فقال للطبيب، "كلامك مدهش!" فقال له الطبيب، "صدقني أحسدك على اندهاشك.. أنا لا شيء يدهشني يا رجل!"
* * * * * * * *
-2- كان عبَّاد قد أفاق من كابوس طويل، أخذت عيناه تبحث في أرجاء الغرفة عن أي طبيب، واندهش من ذلك الحلم. أدهشته طراشة البيت القديمة وتساءل لماذا لم يفكر بطراشتها مجدداً؛ أدهشه فنجان القهوة الذي ينتظره على الكومدينة قرب الساعة المنبهة التي تحتاج الى بطارية منذ شهرين. وماذا سيحدث في العالم لو صمتت الساعة وارتاحت عقاربها؟ أدهشته أصوات زوجته وابنتيه. رأى ألبوم صور لآخر فيلم حمضه، كان مُلقى على الكومدينة بجانب سريره منذ أكثر من أسبوع؛ بحث عن بابوجه وسرعان ما وجده، انتعله وخرج من غرفة النوم وهو يحتسي قهوته. ادهشته زوجته وهي تعد ساندويش اللبنة الذي سيكون عصرونته في المدرسة، واستغربت زوجته دهشته فعادة ما يبدي معارضته لساندويش اللبنة بالتحديد؛ وأدهشته ابنتاه وكأنه يراهما لأول مرة في حياته بزيهما المدرسي في الصفين الأول والسادس؛ ووقفتا أمامه وهما ينظران اليه مكشرتين مستغربتين نظرة عينيه المندهشتين. وحين سألهما، "صباحك، نور، صباحهم الحلوين، ليش الكشرة ع الصبح!؟" اشارت له زوجته بإشارات يديها انه لم يقبلهما قبلة الصباح، فاندهش لتصرفه. قالت الكبرى، "الله أكبر، شو بيصير لو اخدنا بوسة!؟" قالت الصغرى، "بابا، انت عيان اليوم؟" قالت الأم، "صباح النور، يللا صبايا، بلاش تتأخروا، وردة ما تنسي الصورة القديمة، ياسمين، شدي شوي بالعلامات.. احنا في آخر السنة.."ڤف لم يكن مريضاً بالفعل. قبَّل ابنتيه وقال وهو يركز نظره بياسمين الكبرى انه يقدر الجهود الدراسية وانه يدهشه دائماً إصرارهما على بذل الجهود وهو يؤمن بقدراتهما وإمكانياتهما، وانه يقبلهما كما هما في نهاية الأمر. قالت الصغرى، "بابا، أنا ما باخد علامات، انا كل شي ممتاز.." قالت الكبرى، "يعني العلامات مش مهمة!" قال لها، "الجهد مهم برضة.." قالت الكبرى، وهي تعي انه يقصدها بكلامه، "بابا نام استاذ، صبَّح شاعر. وواااوو!" قال عبَّاد، "طول عمري شاعر، بس لسة بستنى الشعر ييجي.." قالت الأم، "ياسمين، ابوكم بحلم ولسة نايم.. الجهد ضروري والعلامة ضرورية.. اذا ما بتجيبوا علامة كويسة مش راح يكون لكما مستقبل، يللا ع المدرسة.. وردة، ما تنسي تاخدي الصورة اللي ما بتهبل فيها ابوك.." قالت ياسمين، "بس بابا في الصور القديمة كلها فيها مكشر.. وهذه فيها بضَّحك!!" وقالت وردة، "أنا ما بدي، بدي الصورة اللي بضَّحك فيها.." - كلمة وحكيتها.. لأ.. خلِّي أختك تاخذ الصورة القديمة.. ويللا ع المدرسة قال عبَّاد، وعلى وجهه دهشة ضاحكة، "شو قصة الصورة، يا جماعة!؟" قالت نور زوجته، "طلبت المعلمة من البنات يجبوا صورة للعيلة.. نشاط.. أعجبها صورة الك بتتهبل فيها.." أمسكت وردة ابنة السادسة بصورة ودنت من أبيها، "بابا، المعلمة طلبت صورة للأسرة، وماما اعطتني صورة قديمة فيها انا صغيرة.." - " مش هون المشكلة،" قالت ياسمين ابنة الثانية عشرة، "المشكلة كشرتك بابا في الصورة.. راح تخاف المعلمة والمدرسة كلها.. هـهه ههه..." -" شو بتحكي!! تخاف من صورتي؟ يا ويلي انا!!!" تعجب الأب. وتدخلت نور الأم لتنهي الأمر وتكشهم من البيت، لكن ياسمين احتكمت الى ابيها، "طب، خلينا ناخد رأي البابا.." قالت الأم، "رأي البابا من رأيي!" وحين نظرت إلى عبَّاد زوجها، شعرت بأنها خسرت المعركة، فموقفه متساهل ومشكوك في قوته، فما زال سادراً في دهشته وسارياً في ضحكته البلهاء. -" كل صوري مكشر أنا فيها؟ معقوول؟ يا إلهي!" -" استنى، لحظة،" وتناولت ياسمين أحد الألبومات العتيقة، "شوف، شوف!" ناولته البوماً قديماً، تصفحه: الجدية، الكشرة، ملامح صامتة، متحجرة، رسمية، وقفة معتدلة، اليدين عند الخصر. نظر إلى ألبوم آخر، الأمر ذاته. أشغلت الصور دهشته غير المحدودة. أحقاً هو دائماً مكشر في صوره القديمة؟ وجد نفسه يذهب ويلتقط آخر ألبوم صور عند سريره؛ لحقتاه ابنتاه وزوجته، "استنوا، استنوا شوي،" قال لهم. عاينوا الصور. -" شايفين؟ شايفين، ههه هههه.." قالت ياسمين مقرقرة ساخرة، سعيدة مدهوشة باكتشافها اللذيذ. -" ههه ههه، ياسمين صح، ياسمين صح!!" أيدتها وردة. كان عبَّاد في كل الصور مبتهجاً، مسروراً، إمارات الدهشة والتعجب والتهريج تطل من ملامحه وتقطر من عينيه. -" انا بقول ما تضيعوا وقت، يللا على المدرسة، بنات.." قالت الأم. -" شو بيصير لو شافو بابا بضَّحك؟" -" ولا ايشي!" أجابها والدها، "معهم الحق، والله!!" -" عبَّٰاد!؟" - "اشوف الصورة اللي نقِّتوها!" كانت صورة جميلة، معهم ابن اخيه الصغير وابنة أخية وهم يجلسون حول طاولة القهوة، ياسمين على يساره، وردة على يمينه، نور جاثية على البوڤ على ركبتيها بجانب طاولة القهوة تصبُّ الشاي، وعلى وجهها ابتسامة تنظر للكاميرا، عبّاد يمسك في يديه كثيراً من الفاكهة بين أصابعه كأنَّه يفضِّل المصوِّر وأمامه صفط من الفاكهة، زاماً شفتيه وعيناه ضاحكتان مثل بهلوان، والصغار حوله كلهم يضحكون. -" صورة كلها تهريج.." -" بس حلوة كتير،" قالت وردة، أيدتها ياسمين بهز رأسها وإيماءة صامتة من عينيها وزم شفتيها. -" والله حلوة.. حلوة بجد.. شوفي.. انت منورة يا نور.. وانا مش معبِّد وجهي.. طالعة حلوة.." تركتهم زوجته، يئست منه، يئست من كسب معركة الصورة، وفتحت باب البيت، وانتظرت خروجهما من البيت، قبلات صامتة في الهواء تطايرت من اصابع البنات وضحكات خافتة. قبل خروجهم بلحظات نادى الأب وردة: -" five little ducks.." فردت عليه: went out one day, over the hills and faraway، وتضاحكت، وأغلقت الباب. -" بتدهشني هالبنت، حفظت النشيد.." أزعجه ان تغادر ابنتاه البيت ونظرة الاندهاش البلهاء ملتصقة بوجهه. أمسك بالصورة. وتذكر ما قالته ياسمين بأن صوره القديمة كلها مكشر فيها. وحدجته زوجته بنظرة عتاب، "شو بدي أقول؟" -" موضوع صورة هيك يعمل فيك!؟ مش مبسوطة بنتك حفظت النشيد؟.." -" كل شي فيك متغير يا عباد.." -" زي ايش!؟" -" عن ايش ولا أيش أقول؟ خليني ساكتة احسن.." -" شو راح يصير اذا اخذوا صورة بدل صورة؟" -" سيبك من الصورة، انساها، يعني، باقي شهر ونص لتخلص المدرسة وبتقول لبناتك انو العلامة مش مهمة!؟" قال لها بعد نظرة تأمل، "وشو بيصير لو نزل المعدل أو ارتفع كم علامة! شو بدو يصير في الدنيا؟" قالت له، "خير!؟ ما لك، عبَّاد؟ وينك!؟ ما لك؟" قال لها،"اليوم أنا في إجازة، إجازة مرضية!" -" ليش الإجازة؟ عيان؟ مش عوايدك تغيب حتى وانت مريض!" قالت له، ثم دنت منه وهي تحس جبينه، "شكلك ساخن!" - لأ، مش ساخن، المهم انو ياسمين مضغوطة منا ومن العلامات، ممكن توقعاتنا منها عالية، حرام، لازم ما نضغطها.. - سيبك من هالكلام، سيبك!؟ شو قصة إجازتك! بقي صامتاً يعلك دهشة بوجهه لدقيقة او نحوها ثم وجد نفسه يروي لها كل شيء حدث معه في المدرسة. أخبرها عن دورة الأساليب التربوية التي أجبره المدير على الانخراط فيها لمدة أسبوع خلال إجازة نصف السنة. كانت الدنيا تمشي أمامه بلا طعم وهو مكانك سر. ثم أتت الدورة وتعلم فيها كيف يقدر كل جهد صغير يقوم به أي طالب، وكيف يحفز الدافعية والتعلم بالاكتشاف والمبادرة الذاتية وتقدير الذات قبل تقدير الآخرين والتعزيز السلبي والإيجابي. وتعلم كيف يتحول العجز عن الانجاز الى كبت وهروب ومرارة وجيل ضائع في النهاية. ولقد أغرم بأسلوب الاستاذ وشخصيته البهيجة وكيف يتعامل مع المعلمين والمعلمات كأنه رسام وهم ريشته والحصة لوحة رائعة تحققت اهدافها واستمتع فيها الطلاب. وهو ما يزال يتذكر كيف بألعاب بسيطة كان استاذ الدورة يجعل كل المعلمين المشاركين في الدورة فاعلين في الحصة حيناً وكيف كانوا صامتين حيناً آخر ينتظرون إشارة أو نظرة منه. وهو لا يستطيع ان ينسى انه شكى طلابه لمعلم الدورة كرههم للغة الإنكليزية التي يعلمها، قائلاً له، "كيف نخرج من هذا المأزق: نمارس الضغوط عليهم لحفظ وبصم ما نريده منهم وفي الامتحانات يرسب معظمهم؟ ثم تأتي من الوزارة في نهاية العام تعليمات الترفيع التلقائي؟ كيف يمكننا أن نجعلهم يشعرون أنهم يستحقون نجاحهم اذا كانوا بكل الأحوال في نهاية السنة سيتم ترفيعهم؟" فقال له معلم الدورة انه من الضروري تذويت المادة المنهجية من خلال اللعب والنشاطات وربما الأغاني، وكذلك ان يكون المعلم ذا شخصية نمطية مضحكة وغريبة، حتى ان بدا مهرجاً أحياناً، او على الأقل أن يدع طلابه أن يروا شخصيته على حقيقتها ويروه يحب المادة التي يعلمها لكي يبدأوا بحبها. احياناً يدخل الى الصف يضع طاقية، ويخلعها ويصبح عليهم، أحياناً يدس رأسه من الباب ويسألهم بالعربية وكأنه طالب مشاكس: "الاستاذ جوا؟" واحياناً يقول لهم ان عليهم الاتصال بالاسعاف اذا ما غاب عن الوعي من الجوع.. ومنذ بداية الفصل الدراسي الثاني أحبه الطلاب أكثر، وهو يندهش من كل شيء، من جهودهم الصغيرة وحفظهم لأغاني الحضانات، مسابقات لكتابة جمل بسيطة أو عصف ذهني، سألهم ذات يوم عن أسوء شيء في تعليم الانكليزية فقالوا كلهم: ديكتيشين، فألغى مادة الإملاء تماماً من خطته، وأضاف الاملاء بطريقة غير مباشرة من خلال لعبة المشنقة، وكتابة الطلاب على اللوح وتصحيحهم لأنفسهم، والتهجئة اللفظية لبعض الكلمات المهمة؛ ومع الوقت أصبح يشعر ان الطلاب يستمتعون بالحصة وبدأوا يحبون حصة اللغة الإنكليزية قليلاً. بل طال تأثره الجديد ابنته الصغيرة وردة التي اصبح يمضي كثيرا من الوقت معها يحفظان الاناشيد التي لا تتعلمها في المدرسة.. اليوتيوب عالم رائع.. حين تغني وردة وتتسع عيناه كحقلين من عباد الشمس، يا لسعادتها!! حين تكتب اسمه ولا تخطأ بين b وبين d، ويندهش ويصفق لها، أي جني عجيب اسمه الدافعية يراها تركب وتحلق في سماء النشوة.. لقد تمنى منذ الفصل الثاني ان يكون طلابه قريبين منه مثل ابنته لأنه فعلاً يحبهم، ولكن كان يدرك ان ذلك مستحيل. فمن الطلاب من يؤثرون العلامات على التعلم، لقد تربوا هكذا، فلا ذنب لهم. وقد تأذى من حيث لم يتوقَّع، فقد سخر منه زملاؤه بتعليم المادة وكذلك مديره من تفاؤله المفرط وتعامله المنفتح مع طلابه ومحبتهم له، وساء موقفهم منه بعيد امتحانات الشهرين، واتهمه زميله في تعليم اللغة الانكليزية انه لا يعلم مادة الإملاء لتجهيل طلابه. بات معلماً يتجنبه كثيرون، حتى جرى تلاسن خلال اجتماع الطاقم واتهمه المدير بأنه غير كفؤ للتعليم. وانتهى شجاره مع المدير بأن عاضده السكرتير وطلب منه ان يأخذ اجازة مرضية ليومين ليعيد التفكير بما يفعله على نحو مخالف لخطته السنوية، وإلا فإن المدير سيعطيه لفت نظر وربما ينذره او قد يوصي السنة القادمة للوزارة بنقله الى مدرسة أخرى. نصحته زوجته بعدم التغيب عن الدوام، فاندهش من خوفها المفاجئ على عمله، وأخذت زوجته تحملق به غير مصدقة عدم اكتراثه وتفاؤله ودهشته البلهاء واحتفائه الغريب بساندويش اللبنة الذي كان حتى فترة قريبة لا يحب تناوله، بل وأعد كأسين من الشاي لهما وطمأنها بأن كل شيء سيكون على ما يرام. كان قد رأى كيف باستطاعته بسهوله ان يطمأنها وهو واثق بنفسه. - السنة الدراسية في آخرها، راح اندهش جداً إذا حدا ممكن يصدر قرارات مصيرية في هالوقت، ما تقلقي. فقالت له زوجته، "الله يسترنا من شر نوبة اندهاشك ويعدِّي هالأزمة ع خير!"
********** -3- وهكذا كان يأمل؛ ومع ذلك فقد اندهش كيف اقتنع بنصيحة زوجه، فاستحضر برنامج حصصه الاسبوعية وأعدَّ أربع خطط حصص في ذلك اليوم وذهب الى عمله، ولحسن حظه فقد كانت حصته الأولى فراغ، فإذ بالحصة الثانية على الباب، ورآه السكرتير وتعكَّر مزاجه ولم يصدق، وسرعان ما حدثت جلبة في غرفة المدير، وأتى المدير فاتحاً باب صفه ليحضر حصته كمراقب، دون سابق تنسيق. وانزعج الاستاذ مندهشاً من اسئلة المدير للطلبة يسألهم لماذا علاماتهم منخفضة؟ ولماذا لا يدرسون للإملاء ليرفعوا علاماتهم، وشرح لطلاب الصف السابع كيف كانوا قبل أربعين عاماً يدرسون صفحات كاملة ضمن الإملاء. هكذا أمضى الاستاذ وقته حتى قبيل نهاية السنة الدراسية تحت ضغوط، يندهش من قسوة الزملاء وغباء المدير وكولساتهم مع الأهالي وحتى بعض الطلاب. لقد أدهشه كيف يفسر الناس انفتاحه على الجميع وقبوله بهم كما هم، وكيف يفسرون دهشته وتفاؤله على نحو مغلوط وكأنها ضعف في الشخصية ويعتقدون ان بوسع أي شخص ان يتحايل ويضحك عليه بالتسويف والكلام المعسل. وكان يعذر الجميع ويسامحهم، فهم عادة مكتئبون وحزانى ومغلوبون على أمورهم ومساكين. كان يبدي دهشته من تصرفاتهم الفهلوية احياناً، الانتهازية احياناً، أو المتعالية حيناً آخر. وتحذره زوجته من الناس، وتطالبه بألا يطمِّع الناس به، بل هم يستغلونه. احيانا تسخر منه وتذكره بأنه ليس نبياً يغدق غفرانه لخطايا البشر، وأحياناً عند احساسها بالعجز كانت تستجير بأخيه الشيخ. لكنه أراد ان يتفهم الجميع: مصلح الغسالات الذي يماطل بإصلاح الغسالة ويدَّعي بحثه عن قطعة لتصليح غسالته، ويتركه ينتظر لأسبوع او عشرة ايام، وصاحب الدكان الجديد الذي كان قد سحب خط كهرباء من بيتهم بشكل مؤقت حتى تمدده شركة الكهرباء واتضح لاحقاً انه يسرق منهم الكهرباء ولم يقدم طلب ساعة في محله، وطبعاً تدخل أخوه الشيخ وحل الموضوع بأقل الخسائر. بائع متجول يبيع أغراضاً لا يحتاجونها وتكتشف زوجته نور انه ضحك عليهم بالسعر، فيقول لها بكل هدوء، "وماذا سيحدث في العالم لو ضحك علينا البائع بشيكلين او خمسة او حتى عشرين؟ ممكن احنا زباينه الوحيدين!؟" **********
-4- تنتهي السنة الدراسية وتبدأ الاجازة الصيفية فتتكشف له حقيقة الناس، ويبدأ ينزعج من نق زوجته، وسخرية الناس ولمزهم به، وحماية أخيه الشيخ التي ليس لها داعٍ. وأحلامه تعج بجلسات علاجية مع أطباء كثر لم يلتقِ بهم في حياته. مع الوقت احس ان الجميع لا يؤيدون رأيه. وكان جيرانه وأقرباؤه يحدجونه بنظرات الاستهجان والسخرية. وشعر بالانزعاج حقاً حين سافر أخوه الشيخ الى الحجاز لأداء العمرة، فقد بات في العطلة الصيفية يقرُّ بينه وبين نفسه بأنه لا يستطيع توقي شر الناس وظنونهم به. وها هم بعض طلاب وطالبات التوجيهي الذين لم يسدد بعضهم ما يدينون له به من مال، وتحجَّجوا بقصر اليد ووعده بعضهم ان ثمة مبالغ آتية لا محالة وان حقه محفوظ، ولكنه قال لزوجته انه سيعتبر ديونهم له كهدايا منه لهم، فانزعجت واتهمته بالتنازل والتغاضي عن حقه. -" الحق حق!" قالت زوجته. -" وشو بيصير اذا ضيعنا مية شيكل او مائتين!؟ بننكسر؟ بنموت جوع؟ اعتبريها صدقة! او هدية!!" -" راسي، راسي راح يفقع!!" -" يا بنت الحلال ما تزعلي.." -" سيبني بترجاك.." أحسَّ بنوع من الهشاشة السريعة في مواقفه إزاء الجميع، مع عائلته وبناته وزوجته وجيرانه والناس؛ ثمة ليونة في تدخلاته في المشاكل وطريقة حلها كانت تزعج زوجته؛ فقد كان في السابق قطعياً وحازماً في قراراته ولكنه الآن غدا متساهلاً، متسامحاً، وعنده قاموس كامل يتشكل: "هذا القرار مش نهائي".. "معليش يا عيني، جربي مرة تانية.." .. "هدا مش كلام منزَّل!"... "بصير هيك، وبصير برضة هيك" ... "مش مشكلة، المهم أن نكون مقتنعين.." ... "ماشي" ... "اللي بدك اياه بيصير!" .. ثمة ليبرالية في مواقفه من الحياة والسياسة والدين.. بدأت في خلافات صغيرة في النقاش مع زوجته حول ما تشاهده بناته على التلفزيون والمواضيع التي يناقشها أمامهما. ذات يوم تفاجأ بزوجته تضع على رأسها إيشارباً، اندهش ولم يقل شيئاً، لكنها استفزته ليبدي رأيه، فقال لها ان ذلك قرارها إذا كان ذلك يريحها. تمنت ان يسألها عن السبب، ولكنه لم يفعل. شعر أكثر من مرة ان زوجته مكتئبة، متعبة وإيثارية وتحتاج الى تغيير ما في حياتها يشعرها بتجدد النشاط، ربما تحتاج الى ان تخرج للعمل خارج البيت. واندهش ذات يوم من ابنته الصغيرة ذات الستة أعوام اعوام وهي تقلد امها وتضع على رأسها منديلاً، وشعر بسعادة غامرة حين عارضت زوجتُه نور نفسها ابنته وردة بشأن المنديل قائلة لها انها ما زالت صغيرة وان من يريد أن يضع المنديل عليه ان يحترمه دائماً، لا أن يرتديه ساعة ويخلعه ساعة اخرى. لطالما حلم بتغيير هائل في حياته ونظرته للحياة والناس والمجتمع، وكأن تلك الدورة التي أجبره عليها المدير هي العتبة التي أدخلته الى حياته الجديدة. انزعج كثيراً من تفسير الناس لقوة اندهاشه منهم ومن تصرفاتهم ومن مواقفه المائعة. وكثيراً ما سمع بعضهم يفسر مواقفه: "أجت غنت، راحت غنت!" لكن ثمة اشياء بالمقابل كانت تؤكِّد له كل يوم، كل دقيقة وكل لحظة بصواب تغير شخصيته ومبرراته المستحقة، فقد كان ثمة رضى كبير عن النفس ومنها في كل موقف متساهل ومتسامح له، وكان يسعده مقدار السعادة التي يثيرها حوله وفي وجوه الناس، وكانت ابنته ياسمين أكبر المتأثرين والمستفيدين. قال لها ذات يوم، "حليانة ياسمين، ضحكتك بتلون البيت بالفرح يا عيني.." اجتاحتها مشاعر بهيجة أخرستها فالتصقت بخاصرة أبيها وبللت بلوزته بالدموع. قال لها، "بقولوا انا متغير.. معقووول، ياسمين!؟" بعد برهة سيطرت على مشاعرها، وقدَّر عبَّاد انها تخجل من النظر إليه، وقالت، "بابا، ما ترجع جدِّي كتير زي قبل.. هيك أحلى..." داعب شعرها وجبينها، وعانقها. -" حاضر، خلص،" قال لها وسألها، "مش راح تزهقوني هيك!؟" -" انت احلى هيك.. بتدهشني بابا، بتضحكنا كتير، ههه..." -" بجد؟! أهلين فيك في عالم الدهشة!!" كانت دهشته تصريحاً منه بأنه لا يتوقع من أي شخص أموراً روتينيةً، وان كل شخص مميز بفكره وقراراته وحياته وقصصه اليومية العجيبة؛ فبقي يندهش من كل شيء. يندهش من تلميع أرضية العمارة، وسعة ثقافتي جاريهما العجوزين اللذين يفصل شقته عن شقتهما حائط مشترك، وملابس الجار الأنيقة في الطابق الأول وطول ابنة جاره في الطابق الثاني، وكان يلاحظ السعادة التي يحصدها من على وجوههم جميعاً، هؤلاء المكتئبين جميعاً، ابتسامات وضحكات خجولة ومشاعر لذيذة باحترام الذات والأهمية. كانت دهشة عيني الاستاذ تحقن مَنْ يتحدث اليه بتقدير الذات. اندهش من انسبائه وجيرانه وأقاربه وزملاء عمله وزوجته وابنتيه وافعالهم ومواقفهم، وخاصة ابنته الكبرى ياسمين، التي لاحظ مع الوقت انها تقلده بدهشات وجهها وحركاتها الإيمائية الساخرة؛ وكانت الأولى في البيت التي تشجَّعت لطراشة البيت، وأمضت العائلة خمسة ايام وهم يطرشون البيت؛ ضحكوا، التقطوا الصور وفيها كثير من الهبل، خططوا كل أنواع الفوضى في البيت في مؤامرات لحظية ضده هو نفسه، ومؤامرات ضد وردة، ومؤامرات ضد زوجته نور، ومؤامرات ضد ياسمين نفسها. كانت الطراشة لياسمين ووردة مخيماً صيفياً بيتياً لهم، رأوا فيه أباهم على نحو مختلف تماماً، رضي وبهي، ضاحك ومندهش، متساهل ومتسامح، فاعل وقليل الكلام؛ وكان الجميع مع الوقت قد تعودوا عليه كشاعر كما قالت له ابنته ذات صباح، فكان يندهش ويضحك وكأن الشعر مرض. صار يجالس ابنتيه أكثر بكثير من السابق. كان عند العصر يتمشى معهما حتى الدكان القريب لشراء الحليب والخبز والفطورات. احياناً يجالس ياسمين على البرندة في المغرب والعشاء. كان دائماً يستفزها ويداعب شعرها. اصبحت تحب ذلك، تستسلم لأبيها وتلقي بنفسها في حضنه وتعانقه. مع الايام بدت له إبنته الكبيرة تشبهه، ففيها شاعرة كبيرة وشخصية ساحرة، لها ولأختها ضحكة جميلة تسعده، ينتظرها بشغف ويغبها بإدمان. عاد أخوه المستشيخ سعيد من العمرة العاشرة أو الثالثة عشر، لم يعرف بالضبط، وحمد الله على عودته، وسرعان ما زاروه ليهنأوه بسلامة عودته ومعهم هدية هي عبارة عن قميص أصرت زوجته ان تشتريه. وكان أخوه يذهب كل سنة لقضاء العمرة وأحياناً مرتين، فقد ملّ البلاد والاحتلال وتديَّن في العشر سنوات الأخيرة من حياته. وكثيراً ما نصحه عبَّاد، قبل سنوات، حين تقاعد من عمله، بأن عليه مراجعة طبيب نفسي لأن التغييرات الكبيرة في حياته تشير الى بوادر اكتئاب، لكن أخاه رفض نصائحه وشكره. وكلما ذهب فيها الى العمرة عاد بهدية له هي عبارة عن قنينة عطر، الماركة ذاتها والحجم ذاته، وكثيراً ما أدهشه ذلك وأضحكه، وكثيراً ما فكر بالأمر ولم يهتدِ إلى السبب وراء شراء العطر نفسه. لكن أثر دهشته على من حوله في بيت أخيه كان جميلاً ومرضياً، وأمضى وقتاً جميلاً وهو يتابع مباراة رياضية مع ابناء أخيه وأبن عمه حيناً، وتحدث مع أخيه حول العمرة واجراءات السفر، والمدرسة. وكان قلقاً عليه عما سيفعله العام المقبل في المدرسة، ونصحه سعيد بأن يفعل ما يريده المدير منه. وتحدثا عن الرياضة، برشلونة وريال مدريد، والجميع يحبون الرياضة. أحس أن أخاه الشيخ يترفَّق به ويحنُّ عليه ويأخذه باللين، وليس كالسابق حيث اعتاد أن ينتقده على كل كبيرة وصغيرة، أن يستميله للصلاة والالتزام دينياً. واندهش من أخيه وهو يراه يمتنع عن الوعظ ويقترح عليه أن يشتري حاضنة وكرت اشتراك لمحطات رياضية، الأمر الذي اندهش أن نور تؤيده، وشعر كأن ثمة مؤامرة يحيكها أخوه وزوجته. قدَّر ان الجميع لا يقبله كما هو، وأن احداً لا يعرف كيف يتعامل مع شخصيته المتساهلة واللينة. وسمع أخاه سعيد يقول له انه سيأتي الى بيتهم ليأخذ جهاز الرسيڤر الخاص بهم ليجهزه عند صديق له بحاضنة وكرت اشتراك. وغادر بيت أخيه وهو مندهش ضاحكاً وكذلك زوجته، فقالت له: "اكيد بتضحك عشان ما في الك هدية، شوف شو جاب لي.." فتناول الكيس منها ورأى فيه سجادة صلاة، وأجابها: "سألني: شو قصة الشعر اللي صرت تكتبه!؟ صاير شاعر من ورانا؟ مش عارف من اللي حكى له هالكلام." فضحكت ياسمين ثم زوجته، ثم ضحكوا جميعاً، فقال عبَّاد: "ياسمين، والله أنتِ مش قليلة!" قالت ياسمين: أنا ما قلت له انك بتكتب شعر. قلت له: بابا مش بحاجة يكتب شعر تيصير شاعر!! ضحك عبَّاد وسألها: وعمك سعيد شو قال؟ - كان بتمسخر ويقول لي: ضايل يكتب شعر! - وانت ِ شو قلتِ لهُ!؟ - قلت له ابوي عايش في شعر، بتنفس شعر، هو عباد شمس عايش مع النور في حديقة كلها ورد وياسمين.. ضحكوا جميعاً. فقال عبّاد: صار نفسي اكتب شعر.. بس صعبة عليّ.. فقالت ياسمين: بابا راح اندهش كتير اذا ما كتبت شعر في يوم!! فضحك عبَّاد قائلاً لها: الله يسهل!! فقالت نور: ما تخاف عليها ياسمين، هي مش قليلة.. قالت وردة: بابا انا برضه برسم شعر، بالبيت بفرجيك.. - معقووول!؟ يا إلهي.. وووواااوووو.. - مصير بابا يتعلم منك يا وردة كيف يكتب شعر... راح يكتب سلطة! - هههه هههه - برسم وبكتب شعر والله! - اسكتي بس تتعلمي ترسمي حرف الهاء! - انتِ بابا احسن واحدة بترسم شعر.. واحسن طالبة صف أول بتكتب شعر، وياسمين وماما وأنا كلنا بنحبك.. - هههه هههه، شايفة!؟ *********** -5- كانت المدرسة تشغل حيزاً كبيراً من ذهنه. لقد اعلم المدير مراراً في نهاية السنة الماضية انه ينفذ ما تعلمه من الدورة التي أجبره عليها. وكل كلامه عن أساليب اجراء الاملاء غير المباشرة في الحصة لم تمنع المدير من رفع كتاب شكوى بحقه. أعلمه السكرتير بالأمر حين عادوا للدوام في الأيام الدراسية والتحضيرية، فأبدى دهشة غير مكترثة. في الحقيقة لم يثق بكل ما قاله السكرتير. وفي الاجتماع طالبه المدير بإعداد خطة سنوية وفيها الإملاء يحتل ركناً أساسياً. أدهشه صمت الجميع وانتظارهم لكلمة منه، لكن عينيه فقط تحدثتا، لم يفهم احد ما قالتاه. عاد الى البيت قلقاً، فبعد ايام قليلة تبدأ المدرسة. في البيت أدهشته تسريحة شعر زوجته، الأمر الذي أسعد زوجته فطبعت على خده قبلة خافتة مترددة كانت كفيلة بادهاشه، وأدهشته رائحة المقلوبة بالزهر، الطبخة التي لا يحبها، وهي الرائحة التي لا يطيقها أبداً؛ واندهش حين اعتذرت منه زوجته بشأن الزهر لأن البيت خلا من أي خضار آخر، وذكرته نور ان أخاه قادم ليأخذ رسيفر الفضائيات ليعيد برمجته ويفتح قنوات رياضية يريدها عبَّاد، فعاتبته نور: "ما الذي يدهشك في الموضوع؟ لقد اتفق معك ليأتي ويأخذ الرسيفر!" فقال، "ما أغباني! كيف نسيت؟ تصوري!! ولكن لماذا مقلوبة بالزهر؟" -" آسفة، نسيت موضوع رائحة الزهر المسلوق.. كيف يومك؟" -" شو بدي أقول!!" -" كيف المدرسة؟" -" بتجنن. بدهم اعلم املاء.. اللغة عندهم املاء.." -" علِّم إملاء، طيب! اعطيهم ايشي سهل.. نجِّحهم كلهم.. علامات كاملة، اعطيهم.. النظام كله فاشل، مش راح تصلحه إذا لغيت إملاء أو أعطيت إملاء.." - بس الطلاب مش راح يحبوا الحصة، ومش راح يحترموني..." كان ثمة طرق على باب البيت. ذهب ليفتح الباب ظاناً انهم إبنتيه اللتين كانتا عند ابنة الجيران، لكنه رأى جيران الحيط بالحيط، العجوزين المتقاعدين، الذين جاءا ودعيا نفسيهما على كأسي شاي بالنعنع. أدهشته صراحتهما الفاضحة بسبب زيارتهما المفاجئة، فقد تعطل تلفزيونهم وجاءا ليشاهدا مسلسلهما المفضَّل. وجلس عبَّاد معهما وزوجته؛ تركوا احاديث كل القضايا المهمة في الحياة وجلسوا يأخذون جرعة زائدة من دهشة مسلسل مكسيكي يقطع نياط القلب. كان عبَّاد قد اُتخم بالاندهاش، وأخذ يراقب نور، وشعر برغبة ليعانقها فقد رآها مشغولة تماماً بمتابعة مسلسل غير مدهش في عاديته وتفاهته، لكنه سامحها وتفهمها تماماً فهي مكتئبة هذه الأيام، وحاول كثيراً في الماضي ان يخرجها من اكتئابها فلم ينجح؛ وكذلك أدهشته وقاحة جاريه باحتلال صالون بيته وريموت تلفازه وحتى كرسيه المفضل الذي يجلس عليه كلما أراد مشاهدة التلفاز. كان كل شيء هادئاً في جبهة الصالون وهو يتعاطى دهشته بملل حيناً ويجتر بقايا دهشات بايتة حيناً آخر. حتى أتى أخوه إلى البيت، تصافحا ولم ينتبه عباد ان أخاه يحمل علبة مغلفة وضعها بجانب خزانة التلفزيون، وبادر بسؤال سعيد، "جاي تأخذ الرسيڤر، شيخ!؟" فقال أخو بنبرة خافتة مستهجنة، "مش هيك اتفقنا؟" -" صح، شكراً.." -" راح أخلي صاحبي يعيد برمجته ويحضره بحاضنه وكرت اشتراك لسنة، واذا ما بنفع، بجيبلك رسيڤر جديد، بس لازم تأيد برشلونة مش الريال.." -" ووواااوو.. ماشي.. الله يسهل.. ممكن اطلع ريالي؟" -" مع اني مقتنع تماماً انك لو تطلع مرة معي عمرة، راح تنسى حالك.." -" والله؟ بجد!! يا سلاااام!! انسى حالي ويا مصيبة مرتي وهي بتدور عليّ!" -" بكتب اسمك ع ورقة وبعلقها ع رقبتك.." قالت نور. ضحك الجميع، واعترض الجاران على فك الرسيڤر لأنهما يتابعان المسلسل. والحقيقة ان عبَّاد ونور خشيا عليهما من أثر حرمانهما من مشاهدة الحلقتين فقد لاحظ عليهما بوادر اكتئاب في الفترة الأخيرة، ولم يشأ هو أن يقترح عليهما التوقف عن مشاهدة المسلسلات التافهة. فاقترح الجار أن يأخذ التلفزيون إلى بيته ليشاهدوا المسلسل المكسيكي، فوافق ووافقت زوجته؛ وسألت زوجته سلفها وجيرانها فيما إذا يحبون المقلوبة بالزهر، فأيدوا الفكرة؛ وشاهد عبَّاد أخاه يحمل التلفزيون، وشاهد جاره وهو يحمل الرسيڤر الخرب، ووجد زوجته فجأة تقف بجانبه حاملة صينية كبيرة وعليها طنجرة مقلوبة، قائلة، "خلص، راح ابعد الريحة من البيت، وأخوك يحبها بالزهر، والجيران مساكين مقطوعين من شجرة.." وسألها، "البنات، شو راح ياكلوا؟" وضعت الصينية على خزانة التلفزيون وطمأنته، "طبعاً، مقلوبة، بس لما يجوا، بروحوا عند الجيران بياكلوا.. بتركها عندهم عشان الريحة، حبيبي.. ما تندهش.. انا بفكر فيك.." - وأنا شو بدي آكل؟ - بعمل لك ساندويشة لبنة.. - بجد؟ اليوم افطرت ساندويشة لبنة... وتعشينا امبارح لبنة وشطة.. شو بتحكي!!؟" -" ما تقلق، بقلي لك بيضتين.." -" بيضتين!!؟" -" آيوة، بيضتين.." -" بيضتين مع قرن فلفل حرَّاق.. قلاية.." -" قلاية بندورة، حاضر.." كان مندهشاً ومنزعجاً من الموقف الغريب. جلس على كرسيه المفضل امام تلفزيون غائب ورسيڤر غائب، متجاهلاً قدر استطاعته رائحة الزهر التي يكرهها. لو لديه قنوات رياضية، كما قال له ابن عمه، لما شعر بالضجر. وتمنى لو انه يشاهد الآن مباراة مباشرة في مكان ما من العالم، يجالس جمهورا صاخباً مجنوناً مدهوشاً في ملعب، في مسرح، في حديقة عامة.. التلفزيون مكانه فارغ. لا يوجد احد من الناس الذين يعرفهم ولا يعرفهم إلا ويشجعون نادياً رياضياً، رغم انهم جميعاً معجونون بالاكتئاب. قام وهوَّى البيت كله، وهو مندهش من الهواء العليل والهدوء ودزينة أمور أخرى غير مهمة رأها عبر الشبابيك وابواب البرندات. رأى عمارات وبيوت وشبابيك، كل شباك يحوي قصة مختلفة وناساً مختلفين لكن الكآبة هي ذاتها نفسها. أمضى أكثر من ساعتين وحده امام المروحة حيناً وأمام الشباك حيناً آخر يطمئن على رعيته المكتئبين كل في بيته. كان بوسعه سماع ابنتيه مع ابنة الجيران في الطابق الثاني، يلعبون معا، قراقراتهم وصياحهم، وكذلك موسيقى المسلسل المكسيكي المدهش عند جاريه العجوزين، آذان صادح، أصوات سيارات، كل شيء أمامه وحوله، الطبيعة والناس، على مسافة قصيرة منه ومن دهشته، دهشته التي أفاق ذات يوم وسكنته.
-6- وماذا سيحصل لو لم يحاول ان يتفهم الناس!؟ ماذا سيحدث لو فطمهم من دهشاته المسرحية، شهقاته المضحكة، كلماته وتعبيراته المبالغة في ذهولها وحركات جسده البليغة!؟ سيعود الى كشرته المزمنة التي خلعها عن وجهه مثل ثوب الحية. سيعود يبني حواجز بينه وبين ابنتيه، سيكره عمله والمدرسة، سيعود ذلك المعلم القوي المخيف الذي يخشاه الجميع. ماذا سيحدث لو تخلى عن عالم الدهشة، عالم القبول الصامت بماهية الأشياء العادية وأخبر الجميع بحقيقة أنفسهم وحقائق الأشياء العادية التي ليس فيها ما يدهش!؟ في نهاية اليوم ستبقى الأمور على حالها ولن يفرق اذا ما قبلتَ الصخرة على عاهاتها او خبطت فيها رأسك!! قبل ان يعود ليجلس في كرسيه الأثير، لاحظ وجود طرد صغير ملفوف بورق هدايا موضوع فوق التلفزيون، شك ان أخاه وضعه هناك وقال في نفسه انها لا بد قنينة عطر. الغريب انه كان في جعبته اسلحة الووواااووووو، بجد، شو بتحكي، مش معقول، يا دلي، يا ورادي، اوووووف، اووووه، وتعبيرا وجهية كثيرة وحركات جسدية عديدة؛ ولكنه لم يندهش من الطرد. ولم يقل كلمة او عبارة اندهاش واحدة؛ لم يشعر بحركة عضلية في وجهه تنم عن دهشة ولا حركة جسد مثل طرقعة يديه او ضرب الأرض بكعبه. لطالما شعر بأنه لديه رعية قطيع من المكتئبين، وأدرك رغم ساندروم او علة الاندهاش انه لا بد انه مكتئب مثلهم تماماً. فبكى وحده في البيت قبل مجيئ إبنتيه وعودة زوجته، بكى كثيراً حتى لم تدهشته دموعه وحزنه وعصبيته وغضبه، غضبه الذي تعرف عليه للتو، رغم انه نادراً ما عبِّر عنه منذ بداية الفصل الدراسي الثاني، ولم يندهش من زخم غضبه وقوة أمواجه، غضبه من عمله، وزوجته، وجيرانه، وأخيه وشعبه، ومن الاحتلال الاسرائيلي والجنود اليهود ودباباتهم وطياراتهم وصواريخهم، وحتى نشرة الأخبار. كان مستغرقاً في بحر الهدوء غارقاً في عاصفة مشاعر طارئة خالية من الدهشة رغم شعوره بها لأول مرة منذ زمن طويل. ولم تدهشه زوجته حين دخلت البيت ورأته بجانب التلفزيون وبادرته بقولها، "شفته؟" -" قصدك الطرد؟" -" لاحظت الشيخ وضعه فوق خزانة التلفزيون.." -" أنتِ متأكدة ان الشيخ جابه؟" -" لأ، بس لمحتُ بيده ايشي.. إذا كانت علبة عطر عربية فهي منه؛ بيهديك واحدة كلما اعتمر وعاد من مكة." -" دقيقة، بتصل فيه،" قال لزوجته. -" وليش تحكي معه؟ مش شايف اخوك قديش مكتئب!؟ كيف بمشي، كيف بحكي؟" -" بجد، كيف ما لاحظت!؟ ليش عليَّ أنا أن الاحظكم، أتابعكم، أقلق على الجميع!!" -" سأتصل به، لحظة.. كيفك؟ أيوة، أيوة أنا.. الرسيڤر جاهز.. منيح، بتجيبه كمان شوي؟ منيح، يسلموا إيديك.. بدي أسألك عن علبة صغيرة فوق.. لأ، لأ.. أخوك مش جنبي.. أخوك في الحمام.. هي هدية.. جايبها له.. قنينة عطر؟ والله حسّـني قلبي انها هدية منك، يسلموا ايديك.. طيب، شوف، بخبيها ولما تجي بتفاجؤه فيها.. خلص، ماشي.. صحتين وعافية.. ما شفتك أكلت إلا لقمتين.. طيب منيح المقلوبة أعجبتك، أخوك ما بعجبه العجب ولا الصيام برجب.. سلام.. سلام.." وأغلقت الجوال. فسألته، "شو رأيك؟" لم تكن ثمة ردة فعل واضحة على وجهه؛ غرقت الدهشة في اعماق صمت عينيه وتحجّر نظرته. "أنا اللي ما بعجبني العجب ولا الصيام في رجب!؟ بدك اكون مبسوط؟ حليتي مشكلة اخوي المكتئب على حسابي؟ يعني لازم اندهش واقوووول وووااااوووو!! شو هالهبل هدا!؟ شو رب هالعيشة هاي!؟ انا مش دكتور أداوي الناس، انا مش مطرب اطربهم واخليهم يكيفوا، شو بتفكروني!؟ انا مش طبل اجوف، ومش اخرس تحطوا الكلام بتمّي، انا مش اهبل تشفقوا عليه، ليش انتوا قاسيين!؟ انتوا ليش قاسيين!!؟..." المسكينة لم تتوقع ردة فعله، وكان في صدرها وجيب هادر، وقد حضنت بذراعيها ابنتيها اللتين هرعتا الى البيت بُعيد صراخ والدهما ووقفتا تبكيان، كانت أمهما صامتة تنظر لزوجها الذي لم يصمت أبداً، مندهشة مصعوقة، وتسلل إلى البيت جاراهما العجوزان واقفين عند الباب، قلقين، شاعرين بخيبة أمل وبالذنب، حتى دخل الشيخ سعيد فواصل عبَّاد صراخه بنبرة أعلى حتى صار الرضاب يتطاير من جانبي فمه وهو يسب ويشتم ويعاتب ويشكو ويتذمر.."لبنة؟ تلات مرات في اليوم باكل لبنة؟ ما أزكاها اللبنة! لبنة مع شطة، لبنة مع زيت، لبنة مع لبنة.. الكل بيضحك علينا، احنا مخوتة احنا؟ التلفزيون برة البيت، البنات برة البيت، المرة برة البيت، وشو رب هالرياضة اللي ماخدة عقل الناس!؟ ماخدة عقل الطلاب، وانت بدك اندهش من قنينة العطر؟ انا أصلاً عرفت انها منك.. شو اعمل لك!؟ ييي، شو هده!؟ اووووو.... يا ربيييييي.. قنينة عطر؟ وووووواااااووووو... عيني بفتحهم، وووواااوووو.. بشهق: ولاووووو.. القنينة اللي بتجيب لي اياها كل مرة، هي نفسها.. نفس الحجم.. نفس النوع.. وانا بندهش.. وووواااااووووو... يا زلمة ليش مغلب حالك، فاجأتني يا زلمة، توقعت تهديني مسبحة او مصليِّة، بس شو هده الهدية الغريبة: قنينة عطر!؟ وكل سنة بتهديني زيها!؟ مش مرة، مرتين! يا زلمة اتركني، يا زلمة.. اتركوني يا عالم، انتوا مش قادرين تشوفوني.. ما حدا قادر يشوفني.. انتوا عالم خالي من الدهشة.. وانا خلص، خلص مش قادر اندهش.. مش قادر.. شو اعمللك!؟" كان قد عانقته ابنتاه وزوجته، كان أخاه سعيد دامع العينين، أحس جبين عبَّاد وتبين له ان حرارته مرتفعة. فاستدرجه الى الصالون العملي الذي ينفتح ليصبح سريراً، ساعده بتمديد جسده. العجوزان أغلقا باب الدار، وأعدت الجارة استكانة من البابونج، سرعان ما انضمت اليها الزوجة. بذل جهوداً كبيراً للسيطرة على انفعالاته، ورأى أخاه يتكلم مع زوجته جانباً، بل سمعه يقول لها: حاولي ان تنصحيه بأن عليه رؤية طبيب نفسي لأن التغييرات الكبيرة في حياته بتدلّ على وجود اكتئاب! فوجد نفسه يضحك، بصخب ومجون وسخرية. كم تمنى أن يقول له انه سبق له وقال لأخيه المستشيخ النصيحة ذاتها. -7- ورغم ذلك، تفهم أخاه فها هو يحضر الرسيڤر، وتفهم جاريه اللذين تساعدا بإحضار التلفاز وأعدَّت الجارة العجوز البابونج، وتفهم زوجته التي كانت سعيدة بزرع ابتسامة على وجه زوجها، وتفهم ابنتيه اللتين تودان أن تريا أبيهما كما تعودتا، فاعلاً حين يجب، محباً في كل قرار وقوياً بشخصيته وطريقة تفكيره؛ تفهمهم حقاً، وماذا سيحصل لو لم يحاول ان يتفهم الناس!؟ ماذا سيحدث لو فطمهم من دهشاته المسرحية، شهقاته المضحكة، كلماته وتعبيراته المبالغة في ذهولها وحركات جسده البليغة!؟ كان عند خزانة التلفزيون ورأى طرد هدية أخيه، وأدرك انه بلا شك قنينة عطر عربية؛ لن يكشف لأخيه انه خمن. وطبعاً لن يشاجر زوجته بشأن أمور تافهة، مثل تناوله اللبنة في ثلاث وجبات في اليوم، ولا بشأن أهمية القنوات الرياضية أو ضرورتها لقتل الوقت. كم تمنى أن يكسر حاجز الصمت بينه وبين زوجته، ومع أخيه، ولم يعرف كيف يفعل ذلك، وكان حزمه فيما مضى وكذلك عصبيته الزائدة ما يمنعاه من الصراحة والتصارح مع الآخرين ومن الإفصاح عن مشاعره وما يقلقه أو يزعجه. وكانت جملة ابنته الكبرى ذات يوم مفتاحاً يلذُّ له أن يتمسك به: "بابا نام استاذ، صبَّح شاعر... وووواااااووو!" بقي أن يكتب الشعر!! لكن الشعر لم يسعَ إليه، كان يريد أن يعيشه، أن يتنفسه مع عائلته وابنتيه الصغيرتين، لا أن يكتبه. وماذا يعني لو ضحكوا عليه لأنه متساهل ولين!؟ وماذا يعني لو ترك عمله كمعلم، كصاحب سلطة وكمطالب بتنفيذها!؟ وماذا يعني أيضاً لو راجع طبيباً نفسياً!؟ كلا، لن يخيب أمل أخيه الكبير بهدية صغيرة ربما كانت ما يستطيع ان يشتريها له، ربما ليس لسعيد عادات السوق ولا محبته، وعبَّاد يريد أن يرضي أخاه. لن يسمح لنفسه القديمة أن تثور وتركب نوبة غضب جارفة تعيبه أمام جيرانه وأهله!؟ لن يؤذي زوجته ولا ابنتيه.. سيشرب البابونج؛ وها هما الجاران قد احضرا التلفزيون، شبكه أخوه بالرسيڤر، طلب من جارته أن تعد البابونج فقالت له انها أحضرت من بيتها زهورات، فاحت في البيت، ابنتاه تساعدا عمهما، وهو يشكر زوجته على اصرارها بتجهيز تلفزيونهم بالقنوات الرياضية؛ ثم فجأة أخوه ربت على كتفه، التفت نحوه، رآه يحمل طرداً، العلبة ذاتها التي رآها على التلفزيون، إمارة دهشة خارقة تشرع بالابحار على صفحة وجهه، "شو هاي!!؟إلي؟ إلي أنا!!!؟ لا!!!!!! كتير هيك!!!! يسلموا، يسلموا ايديك!! والله كتير... حبيبي.. اكيد الريحة اللي بحبها... يسعد ربك!! يسعد ربك!!! يا إلهي... ووووااااووو.. فكرتك نسيتني.. يسعد ربك!!!!!"
27-9-2011
* جمال القواسمي قاص فلسطيني يعيش في القدس، من مواليد 1966، عمل سابقاً في الترجمة والتعليم؛ له ثلاث مجموعات قصصية: جاي معك 1990، شامة في السماء 1997، هزائم صغيرة،1998. عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين، عضو برنامج الكتابة العالمي IWP / أيوا. له مدونة باسم : هزائم صغيرة-غرفة جمال، http://jamalqawasmi.blogspot.com
#جمال_القواسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحلام سعيدة- قصة قصيرة
-
سبع قصص قصيرة جداً
المزيد.....
-
استمتع بأجمل وامتع الأفلام والبرامج الوثائقية على قناة ناشيو
...
-
مش هتقدر تغمض عنيك .. تردد روتانا سينما نايل سات وعرب سات 20
...
-
قصة ميشيكو.. كيف نجت فتاة يابانية من القنبلة النووية؟
-
-ذاكرة أمّ فلسطينية-.. أدب يكسر قيود الأيديولوجيا
-
فيديوهات مخلة.. فنان مصري شهير يتعرض لعملية ابتزاز
-
بعد سقوط نظام الأسد.. الفنان دريد لحام يوجه رسالة إلى السوري
...
-
اكتشاف كنز من التسجيلات غير المنشورة لمايكل جاكسون
-
تعرضوا للخسارة أو شاركوا في القتال.. 5 فنانين تأثروا بالحروب
...
-
ورشات الأطلس في مراكش.. نوافذ للمخرجين السينمائيين الشباب عل
...
-
الثقافة أولاً .. تردد قناة بابل 2025 الجديد على النايل سات و
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|