أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مصطفى مجدي الجمال - معركة البحوث الاجتماعية في القضاء على الإيدز















المزيد.....


معركة البحوث الاجتماعية في القضاء على الإيدز


مصطفى مجدي الجمال

الحوار المتمدن-العدد: 3499 - 2011 / 9 / 27 - 19:48
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


معركة البحوث الاجتماعية
فى الحرب على الإيدز


فى أغنية شجية للموسيقى الكونغولى الشهير "فرانكو لوامبو"، خاطب نساء بلده، وكل نساء أفريقيا، بعبارات تشى بكل أحزان القارة السمراء، فقال:
"سيداتى،
إذا قيل لكن أن فيروس الإيدز قد ضرب أجسادكن،
فتحاشين أن تحملن طفلاً فى الأحشاء،
ما أسوأ أن تتجاهلن..
أن الطفل قد يموت صغيراً".
ويقال إن هذا الفنان نفسه قد مات بذات المرض، بعد أن كرس جزءاً كبيراً من حياته الفنية لحملات مكافحة هذا الوباء اللعين الذى يطلق عليه- عن حق- طاعون العصر. ومرض الإيدز يضرب جهاز المناعة البشرى ضد الأمراض، مما يعيد إلى خارطة الصحة العامة أمراضاً تصور العالم والعلماء أنها قد بادت، مثل مرض السل الذى يصيب 1.5 مليون أفريقي سنوياً، والتهاب الغشاء السحائى، والملاريا، والحمى الصفراء، والكوليرا.. الخ.
وإذا عدنا إلى كلمات المغنى الزائيرى، فسنجد دعوة لإيقاف "إعادة إنتاج" البشر، وهى ضمنياً دعوة للتوقف عن الحياة والاستدامة طالما لا يستطيع الإنسان حماية الثمرات. فهل هو انتحار اجتماعى؟ أم أن الأخطار سوف تدفع البشر إلى مزيد من التوالد على سبيل زيادة احتمالات الحياة؟ ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد.

معدلات وبائية
لسنا بصدد مرض عادى، وإنما نحن أمام وباء ينتشر بسرعة مخيفة حقاً. ومن أبلغ التعبيرات عن ذلك ما جاء فى وثائق المؤتمر العالمى الحادى عشر لمكافحة الإيدز (كندا- 1997): "لا يوجد وقت لنضيعه فى معركتنا ضد هذا المرض. قبل أربعة عشر عاماً لم يكن الإيدز قد أعطى اسماً بعد. واليوم أصبح الإيدز يضرب بلا رحمة". ورغم هذه الصورة السوداوية رفع المؤتمر شعاراً متفائلاً بقوله "غداً سيكون العلاج ممكناً".
ومن العوامل السياسية التى ساعدت فى تأخر مواجهة الوباء حرص بعض النخب الحاكمة فى أفريقيا وبلدان الجنوب عامة على التعمية على مشكلة لن تستطيع علاجها بإمكانياتها المحلية، أو الرغبة فى عدم الاصطدام ببعض التقاليد أو العادات المساعدة فى انتشار المرض، أو على الأقل البيروقراطية الشديدة التى تتسم بها أجهزة الحكم وعجزها عن رصد ومواجهة المشكلات فى وقت مناسب.
ومن المؤسف أن بعض أجهزة الحكم فى الدول الأفريقية الإسلامية لجأت إلى تجاهل تام للمشكلة بدعوى أن هذا "ليس مرض المسلمين" حسب تعبير مسئول كبير عن السياسة الصحية فى إحدى هذه الدول فى أوائل التسعينيات. ومع ذلك فإذا نظرنا إلى دولة تنزانيا كمثال لبلد ذى معدلات معتدلة فى انتشار المرض، فقد تم الاعتراف بأول حالة إيدز فى البلاد عام 1983، وبعد ذلك تصاعدت الأرقام الرسمية بصورة مذهلة لتصل عام 2000 إلى حوالى مائة ألف حالة، بل ترتفع التقديرات لدى البرنامج الوطنى لمكافحة الإيدز إلى حوالى 850 ألف حالة. وتفيد الإحصاءات أن 94% من هذه الحالات توجد فى الفئة العمرية (15-55 سنة). والمفزع أن 4% من هذه الحالات تقل أعمارهم عن خمس سنوات.
وبالمثل من المتصور أن أعداد المصابين كبيرة أيضاً فى الدول الإسلامية فى غرب أفريقيا، رغم حرص الحكومات هناك على التقليل من شأن الظاهرة، وإن كانت فى نفس الوقت لا تكف عن طلب المساعدة الدولية.
غير أن الحقيقة تقول بأن أكبر المعدلات توجد فى بلدان أفريقيا الجنوبية مثل جنوب أفريقيا وناميبيا وزامبيا وزيمبابوى حيث تتراوح نسبة الإصابة بين 20%-30% من السكان. بل إن بوتسوانا هذا البلد الصغير الفقير تصل النسبة فيه إلى أكثر من 35%.

الرأى العام الأفريقى
ومرض الإيدز
أجريت دراسات عديدة حول موقف الرأى العام فى أفريقيا من هذا المرض. وقد كشفت هذه الدراسات عن صعوبة نجاح برامج مكافحة الإيدز فى ظل سيادة مواقف واتجاهات شعبية معينة تتصور أن الحفاظ على ممارسات اجتماعية ومفاهيم ثقافية تقليدية ثبت خطؤها وخطرها، هو أمر ضرورى للوقوف بوجه الهيمنة الغربية. فمثلا فى دراسة أجرتها "إدلين أنوغوم" (قسم الاجتماع بجامعة نسوكا فى نيجيريا) لاستطلاع تصور طلاب الجامعة لهذا المرض، أجاب 70% من الطلاب المبحوثين بأن الإيدز هو من اختراع الدول الغربية لتثبيت الشعوب الأفريقية "فى مكانها" والسيطرة عليها. ولا يمكن عزل هذا الاتجاه بالطبع عن الخبرة المريرة التى قاستها هذه الشعوب مع الاستعمار الذى حرص على نسبة كل مصيبة إلى السود. وأجاب حوالى 69% من الطلاب بأن حالات الوفاة من المرض هى أمر طبيعى. وحينما سؤلت هذه الشريحة الأخيرة عن سبب الوفاة فى رأيهم أجاب 38% منهم بأن الموت قضاء مقدر، ورأى الباقون أن الموت أمر يمكن أن يقع لأى إنسان أو أن الوفاة تتم لأسباب طبيعية.
وجدير بالذكر أن مثل هذه الآراء عند شريحة مثقفة تكاد تتماثل مع إجابات صدرت عن فئات أخرى أقل ثقافة مثل النساء القرويات فى الكونغو. الأمر الذى يبين بمنتهى الوضوح أن البحوث الطبية لن تكفى وحدها لمواجهة هذا الوباء، ولابد لها أن تتضافر مع الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية، لأن هذا الجهد المتكامل هو شرط أساسى لإحراز نجاح أولى فى هذا الصدد.

معضلات أمام الأطباء
يتعرض الأطباء الأفارقة لمخاطر مهنية هائلة، كما يعملون فى مستشفيات تفتقد عادة الحدود الدنيا اللازمة لإدارة عمل صحى ناجع ( قصور فى الاجهزة والأدوات وحتى المياه والكهرباء)، ويحصلون على أجور شديدة التواضع. وربما تكون حالة الطبيب أفضل من مرضاه قليلاً، فهو كما تقول "فيمى سوينكا" (الأستاذة بكلية الطب جامعة أوبافيمى- نيجيريا) يستطيع تناول وجبتين يومياً، أو يرسل أولاده إلى مدرسة بائسة بدلاً من أن يقذف بهم إلى عرض الطريق. ومن الصعب أن ننتظر من هذا الطبيب أن يتعامل مع مريض الإيدز بإنصاف واهتمام ورحمة.
وفى دراسة "سوينكا" أجاب معظم الأطباء الذين أجريت عليهم الدراسة بصراحة شديدة أنهم لا يتعاملون بود مع مرضى الإيدز، وأن كل ما يشغلهم هو حماية أنفسهم من العدوى، وتأتى مصلحة المريض فى المرتبة الثانية. هذا مع افتراض أن المستشفى سوف تحتجز المريض ولن تلفظه خارج أسوارها.
بل إن حق المريض وأسرته فى معرفة حقيقة مرضه (وهو حق ترعاه الأعراف الطبية الدولية) يصطدم بإحجام الأطباء عن القيام بهذه المهمة الثقيلة، فضلاً عن خشيتهم من رد فعل المريض الذى قد يشبه رد فعل الغريق حينما يحاول أن يغرق معه من ينقذه. وتتفاقم المشكلة بفعل حرص معظم المرضى على عدم إبلاغ أهليهم لما لذلك من نتائج اجتماعية واقتصادية مثل تحطم زيجات وانفصال عن الأطفال والمجتمع، وافتقاد القدرة على الكسب والبقاء.
وفى النهاية قد يسقط عبء الإبلاغ كله على كاهل الممرضة، ذلك الطرف الضعيف فى عملية العلاج. وإذا كان حال الطبيب كما سبق، فإن أحوال أطقم التمريض فى أفريقيا تتصف بالبؤس ونقص التدريب والتعرض لمخاطر مهنية جمة. ففى دراسة لــ "غلاديس إفاهيب" (جامعة أوكسفورد- بريطانيا) عن موقف الممرضين والممرضات من مرضى الإيدز، أجاب 60% بأنهم حصلوا على معلوماتهم عن المرض من وسائل الإعلام وليس من التدريب المهنى، رغم أن 73% منهم تعاملوا بالفعل مع حالات مريضة به. بل حدث أن أقدم الممرضون والممرضات فى نيجيريا على الإضراب عن العمل عام 1995 لأن إدارة المستشفيات لم تكن تخبرهم بحقيقة إصابة المريض بالإيدز، ومن ثم يتعذر عليهم اتخاذ الاحتياطات الكافية.


التعاون الدولى
فى مكافحة المرض
رغم أن أول حالة للمرض اكتشفت فى الولايات المتحدة عام 1981، إلا أن الإعلام السيار فى الغرب دأب على تصوير المرض على أنه "شأن أفريقى". هذا على الرغم من تفشى المرض بمعدلات وبائية فى قارات أخرى مثل آسيا. ومن المؤكد أن الفوارق الاقتصادية الفادحة بين بلدان الشمال والجنوب تلعب دوراً كبيراً فى انتشار المرض فى بلدان الجنوب بالذات، خاصة مع فقر الرعاية الصحية وانتشار الجهل وعدم قدرة المجتمعات على تحديث نفسها.
وقد رفع المؤتمر العالمى الثانى عشر لمكافحة الإيدز (جنيف 1998) شعار "ردم الفجوة" بين الشمال والجنوب فى هذا المجال، حيث لا يمكن بناء أسوار عالية تحول دون عربدة المرض هنا وهناك. ومن ثم دعا المؤتمر إلى ضرورة المساعدة فى تطوير برامج مكافحة هذا المرض فى الجنوب وتوفير سبل العلاج والوقاية والتوعية الصحية، وهو الأمر الذى يتطلب زيادة تبادل المعرفة والمهارات والخبرات بين الطرفين.
هل يمكن الاكتفاء بدراسة المرض فى المختبرات والمستشفيات؟ أم أن الأمر يتطلب أيضاً تحقيق إدراك معقول للبيئة الاجتماعية التى تنتجه؟ إن الخيار الأول قد يؤدى إلى نتائج فاعلة مستقبلاً على الصعيد العلاجى، ولكن الخيار الثانى يضيف أيضا ميزة تحقيق الوقاية أو على الأقل الحيلولة دون الانتشار.
ومن ثم فإن العلماء والباحثين أصبحوا مطالبين أكثر من أى وقت مضى بتطوير مناهجهم البحثية، وكذلك تطوير علاقاتهم بأولئك الذين يدرسونهم. كما بات مهماً دراسة ثقافة واقتصاد وسياسة تلك المجتمعات المنكوبة بالوباء.
إن تأخر اندماج الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية خاصة فى جهود مكافحة الإيدز ليس له إلا معنى واحد هو تعريض المزيد من ملايين الأرواح للخطر. فنظراً لأن الطريق ما زالت طويلة نسبياً أمام اكتشاف علاج سريع واقتصادى للمرض، تتزايد أهمية دور العلماء الاجتماعيين للكشف عن الأسباب والسياقات والبيئات المتسببة فى انتشار الفيروس، ودراسة المعوقات السياسية والإدارية والثقافية والاقتصادية أمام نجاح حملات المكافحة.
ومن خلال هذا يمكن للبحوث الاجتماعية أن تؤدى دوراً هاماً فى تعديل السياسات الصحية بكافة جوانبها الاجتماعية والمالية والإكلينيكية والأخلاقية. فهى البحوث التى تستطيع قياس اتجاهات الرأى العام، وفهم العلاقات المجتمعية على نحو صحيح، ومن ثم تصميم حملات للتوعية تقوم على إشراك أفراد المجتمع الفاعلين فى مقاومة المرض.
الأمل فى الدواء الشافى
هناك آمال كثيرة معقودة على قرب توصل العلماء إلى تركيبة فعالة من دواء "إيه آر فى"، خاصة وأن النتائج التى سجلت على تجربة هذا الدواء تعتبر مشجعة إلى حد كبير على الأمدين القصير والمتوسط. غير أن هذه الآمال تكاد تكون قاصرة على البلدان المتقدمة، أما الفقراء فإن الدواء الجديد سيظل بعيداً عن متناولهم لفترة طويلة. وحتى إذا تمكنت النخب السياسية والاقتصادية فى أفريقيا من الحصول على الدواء واستعماله، فإن الفقراء سيظلون مجرد متفرجين، وهم الذين يقفون فى طوابير انتظار طويلة للحصول على لقاح ضد أمراض أبسط بكثير جداً من الإيدز. كما لن تستطيع بلدان العالم الثالث تصنيع نسخة محلية من الدواء الجديد لأن منظمة التجارة العالمية ستقف لها بالمرصاد حماية لما تسمى حقوق الملكية الفكرية. وهكذا تقف أرباح التجارة- بغلظة- فى وجه الإنسانية والحضارة.
يتوجب إذن على العلماء الاجتماعيين ألا يستنيموا إلى قرب تعميم الدواء الشافى، وأن يتخذوا موقفاً حذراً إزاء التفاؤل بإمكانية تعميمه قريباً فى البلدان الفقيرة. فالتكلفة العلاجية لهذا الدواء تتراوح الآن بين ألف وخمسة عشر ألف دولار شهرياً، كما يتعذر توفير الوقت والنظام المطلوب لاستمرار هذا العلاج. إذ يجب على المريض مثلاً أن يتناول بين 15 و20 قرصاً يومياً لتجنب أية مقاومة يبديها الجسم البشرى للعقار. ومن الأمور الجوهرية فى نجاح العلاج أن توجد متابعة سريرية متطورة للاستجابات المختلفة للعقار لتقييمها علمياً. وجدير بالذكر أن هجوماً فيروسياً أقوى يمكن أن يقع إذا حدث انقطاع عن العلاج، مما ينذر بتدهور شامل فى حالة المريض.

علماء "الشمال"..
فى أفريقيا
تقدر الأموال المنفقة سنوياً فى مجال بحوث مكافحة الإيدز بمئات الملايين من الدولارات. غير أن علماء "الشمال" المتقدم يتصدرون بالطبع القيام بهذه الأبحاث. وإذا كان هذا مفهوما فى مجال الأبحاث الطبية، فإنه لا ينطبق بالضرورة على مجال البحوث الاجتماعية، حيث إن "أهل مكة أدرى بشعابها".
ومن القضايا المطروحة بقوة الآن مدى توافر الالتزام الأخلاقى والإنسانى عند الباحثين الأجانب المشتغلين فى أفريقيا. يشكو الباحثون الأفارقة من أن الباحثين الاجانب لا يكترثون بهم فى أحسن الاحوال، ولا يكفون عن التشكيك فى قدراتهم، حتى فى فهم المجتمعات التى يعيشون فيها.
ولما كان التمويل هو الذى يحدد "الأجندة" البحثية (أى جدول أعمال البحوث) فإن الباحث الوطنى يجد نفسه مضطراً للمشاركة فى بحوث قد لا يتفق مع أولوياتها ومناهجها. كما أن المخططين فى الوكالات الدولية والغربية المانحة هم الذين يحتكرون اتخاذ القرارات الهامة فى التخطيط للبحث أو التدخل الميداني، وتكون البداية بتكليف "خبراء دوليين" لكتابة تقارير موجزة حول ماذا يجب فعله. ومن المنتظر من هؤلاء الخبراء الأجانب أن ينقلوا معرفتهم الفنية والإدارية والترويجية والاجتماعية- العلمية إلى الباحثين والنشطاء الميدانيين فى العالم الثالث. وتسمي هذه العملية "ببناء القدرات المحلية".
وحسب "كريستين أوبو" (جامعة بوردو- فرنسا) فى دراسة مهمة وردت فى كتاب صدر حديثا فى باريس عن دار "كارتالا" بعنوان "خبرة وفهم الإيدز فى أفريقيا".. فإن عملية بناء القدرات هذه تفشل فى الغالب بسبب حرص المستشارين الأجانب على إشعار "المحليين" بالدونية، حيث يقتطفون كثيراً المقولات من المجلات العلمية الصادرة حديثاً (غير المتاحة محلياً) ويسهبون فى إلقاء الخطب والمحاضرات التى تلتهم وقت الاجتماعات، وتمجيد أعمالهم فى مناطق أو بلدان أخرى، فضلاً عن قدراتهم الحقيقية والاستعراضية فى استخدام أحدث تقنيات الحواسب الآلية. باختصار يتكلم الباحث الأجنبى أكثر مما يستمع، وينتظر من الباحث المحلي أن ينفذ ما يطلب منه لا أن يشترك فى تحديد مسار البحث.
لعل أهم ما يشغل الخبير الاجنبى هو سمعته العلمية التى يمكن أن توفر له مقعداً متميزاً فى المنظمات الدولية أو مراكز أبحاث الشركات الكبرى. وليس غريباً أن الأسماء التى هيمنت على برنامج الأمم المتحدة فى مكافحة الإيدز هى ذات الأسماء التى عملت فى زائير فى الثمانينيات (وكأنك تقرأ فى كتاب مفتوح).
وعندما يحصل الخبير العالمى على جائزته فإنه يقلل إلى أدنى حد من إسهامات زملائه الجنوبيين، وربما لا يشار إلى أسمائهم من الأصل. كما يتم تهميش جهود هؤلاء من خلال حصر أدوارهم فى جمع البيانات، وحرمانهم من المشاركة فى تحليلها حيث تتم هذه العملية فى المراكز البعيدة فى الشمال. وهكذا يختزل دور مساعد الباحث إلى مجرد "رجلنا فى بانغا بانغا" أو "واق الواق". وهذه نسخة أخرى من التقسيم السائد فى العمل الدولى.

مرضى أم "مجرد حقل تجارب"؟
فى مؤتمر علمى دولى عقد عام 1990 فى كينشاسا (عاصمة الكونغو) قامت عالمة اجتماع غربية بعرض ورقة عن "مشروع" علمى أجرى فى هذا البلد قبل ذلك بعامين. وسؤلت العالمة سؤالا بالغ الإحراج: "لماذا لم تخبروا الناس الذين أخذتم منهم عينات دم بحقيقة حالتهم الخطرة؟ ولماذا استلزم الأمر مرور عامين حتى تظهر نتائج المشروع البحثى؟" ردت الأستاذة باقتضاب: "إنهم يدفعون لى مقابل إجراء البحوث، وليس لى علاقة بالنشاط التدخلى. وقد استلزم الأمر مرور عامين حتى تنشر النتائج فى مقالة أخذت دورها فى النشر فى مجلة علمية".
أى نوع من الأخلاقيات البحثية هذا؟ وهل يجوز أن يكتفى الباحث بدراسة التاريخ الطبيعى للمرض دون التدخل بتقديم المشورة أو التوعية؟ وهل من المعقول حرمان الناس وصناع السياسات من نتائج البحوث حتى تقدم فى مؤتمر دولى أو مجلة علمية؟
أما عن البحوث نفسها، فيشير الكتاب المذكور إلى موقف بالغ الحرج تعرض له أحد العلماء المشهورين فى المؤتمر الثالث عشر لمكافحة الإيدز (أمستردام 1992). فقد عرض الباحث لورقة علمية عن بحثه فى إحدى المدن الكونغولية، وقامت بمناقشته مواطنة أفريقية حضرت المؤتمر ضمن وفد للمنظمات غير الحكومية المحلية، وأثبتت المناقشة أن كاتب البحث ليست لديه معرفة واقعية بالمكان الذى تحدث عنه.
وقد أبرزت هذه الواقعة مشكلة "الخبراء المتعجلين". فالسائد أن الخبير الأجنبى يقوم بزيارة البلد موضع الدراسة لمدة قصيرة، ويكتب تقريره "العلمى" بعد التحدث مع الاجانب المقيمين فى هذه البلد لمعرفة "ماذا يجرى؟"، أى أنه يرى البلد بعين غيره، وهى عين أجنبية أيضاً. وقد يلجأ الخبير إلى تعيين "باحثين مساعدين" محليين، يحدد لهم البيانات المطلوب جمعها ويدفع جزءاً من الأتعاب، ثم يغادر البلد إلى موطنه أو لمتابعة مشروعات مماثلة يشرف عليها فى أماكن أخرى. ويقوم المساعدون بكتابة تقاريرهم من وحى ما يعرفونه بالفعل دون تكبد مشقة الأسفار ومعاناة البحث، فتخرج التقارير روتينية أو فقيرة، خاصة إذا كان لدى الباحث المحلى تحفظات على موضوع أو مناهج البحث. ومع ذلك تظهر فى النهاية التقارير العامة التى يكتبها الخبير الدولى، وتصبح مرجعاً يقتبس منه خبراء آخرون.

ما هو المطلوب حقاً؟
إن الكثير من الباحثين الاجتماعيين فى أفريقيا قد دب فى قلوبهم اليأس من قيمة البحوث المشتركة مع الخبراء الأجانب، حتى إن اضطروا إلى الاشتراك فيها من أجل تحسين أوضاعهم المادية المضعضعة.
إن حجم المأساة التى يرونها بأعينهم، وفداحة الأخطار التى تنذر بتحطيم شعوب القارة.. قد زادا من درجة التزام هؤلاء العلماء تجاه شعوبهم. وتبلورت مدارس بحثية وتدخلية جديدة فى مكافحة هذا المرض، وغيره من الكوارث التى تحيق بأفريقيا. ومن أهم هذه المدارس "مدرسة التنمية من أسفل" التى تشعر بالإحباط من السياسات الحكومية ومن التعاون الدولى فى آن.
وتهتم هذه المدارس الجديدة بتشكيل فرق بحث جماعية من أفرع علمية متعددة، وإشراك الناس العاديين فى جمع المعلومات والتقييم الأولى لها وتحليل المشكلات واقتراح الحلول. وتنفيذها.
كما زاد الاهتمام باستخدام الفنون- سيما الشعبية- لشرح المشكلات والأولويات والحلول وهكذا يتم الجمع بين العلماء والنشاط الاجتماعيين والمواطنين العاديين فى منظومة واحدة لتفسير الثقافة السائدة وإعادة تشكيلها.
لقد تطلب الأمر وقتاً طويلاً حتى يقر العلماء الأفارقة بأنهم فعلاً لا يعرفون بالضبط كيف يفكر الفقير والفلاح البسيط والمواطن الأمى، وأن هناك حاجة ماسة للاستماع إليهم والتحدث معهم. هذا إذا أردنا حقاً أن نعرف ماذا يجرى، وتحديد المعانى والقضايا موضوع الخلاف، وما هى آليات انتشار المرض، وكيف يمكن ترجمة المعلومات عن الوقاية من الإيدز إلى معرفة قابلة للفهم وقادرة على التغيير.. أو ما يطلق عليها "معرفة من أجل البقاء".
وكما يقول أحد هؤلاء العلماء: "يجب أن نعمل خارج مكاتبنا، وأن نستمع إلى ما يقوله الناس، ولا نركن إلى ما نظن أن الناس يقولونه.. فنحن كوطنيين نتملك ميزة إدراك أنماط الحديث والصمت وحتى إشارات الجسد. ونحن كعلماء اجتماع مدربين يجب أن نسيطر على الأدوات النظرية والمنهجية لتقديم دراسات قد تتجاوز المنظورات المختلفة السائدة للمشكلة. إن حكمة الدراسات الإنسانية تتجلى فى الوقوف على مسافة معقولة من الناس حتى تتمكن من حل الألغاز والتناقضات بين الأفعال والكلمات".
وهى رؤية جديرة حقاً بلقب "المثقف العضوى" الذى تحدث عنه المفكر الإيطالى الشهير "غرامشى". وعلى هذا النهج كانت أغنية شهيرة أخرى للمغنى الكونغولى "لوامبو" خاطب فيها رجل الدين (كل دين) بقوله:
"استخدم منبرك للمساعدة،
بَّصر المجتمع بما يجب أن يعرفه عن الإيدز،
لا تتقاعس عن واجبك فى أن تخبر الناس...
أن الإيدز هو عقاب الله،
أنه تكرار لعاد وثمود فى الأزمان الغابرة،
صلَّ للرب حتى يهبنا طريق الخلاص".



#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استراتيجيات إدارة المشروع الوطنى فى عصر المنافسة المفتوحة
- عندما تكونت جبهة التروتسكي والإخواني
- اليسار والمال.. من يقهر الآخر ؟!
- عندما تتناقض حرية الرأي مع حرمة الوطن
- كيف كنا نتساءل عن أزمة الديمقراطية المصرية قبل ثلاثة أعوام؟
- وطني وصباي وعبد الناصر !!
- تقدير موقف للثورة المصرية ومبادرة للحزب الاشتراكي
- فيروس الانقسامية في اليسار المصري
- الفطام الذي طال انتظاره
- المال السياسي
- الإخوان وأمريكا .. الغزل الماجن
- الديمقراطية .. والمدرب الأجنبي !!
- إنقاذ الثورات العربية من الاختراق
- ترجمة أفريقيا
- إصلاح الشرطة يبدأ من -كشف الهيئة-
- ميلاد الاشتراكي المصري.. والسماء تتسع لأكثر من قمر!!!
- الجبهة في بلاد العرب (محاولة في تنظير الواقع)
- عودة الدكتور -بهيج-
- الاشتراكي والعربي .. منظور مصري
- حوار مع كريم مروة


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مصطفى مجدي الجمال - معركة البحوث الاجتماعية في القضاء على الإيدز