أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي أوعسري - قراءة متأنية في تطورات الوضع الليبي وتداعياته الاستراتيجية















المزيد.....



قراءة متأنية في تطورات الوضع الليبي وتداعياته الاستراتيجية


علي أوعسري

الحوار المتمدن-العدد: 3495 - 2011 / 9 / 23 - 08:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تمهيد
يعود الوضع الليبي، بتطوراته المتسارعة الأخيرة والتي بلغت ذروتها التاريخية بعد سقوط طرابلس ليلة 21 غشت 2011، ليطرح أمامنا جملة من التساؤلات الجوهرية التي هي ذات طبيعة جيواستراتيجية، تاريخية وإيديولوجية. ففي إحالة "سيميائية" لا تاريخية، عمدت أطراف أصولية (وهي الأكثر هيمنة وفعالية في "الثورة الليبية") على تشبيه "فتح طرابلس" بفتح مكة.... ولهذا دلالات ومعان واضحة المعالم، بل إن هذا التشبيه المفتعل يكاد يكثف ما تستبطنه هذه "الثورة"، من تحالف القوى الاسلاموية والرجعية العربية الخليجية والامبريالية، من عزم وخلفيات هذا التحالف لإقامة نظام ثيوقراطي أصولي في شكله، لكن متعاون ومتحالف مع القوى الامبريالية ومصالحها الاستراتيجية في مضمونه.
إن هذه التساؤلات ما كانت لتكتسب هذه الحدة من التعقيد وهذه المشروعية لو لم يكن هناك تدخل أجنبي. إن مقولة "التدخل الأجنبي" مقولة مفضلة ومقبولة لدى الاسلامويين ولدى العديد من النخب المنبهرة بما يجري في المرحلة التاريخية الراهنة من تطورات دراماتيكية وحاسمة؛ وهذا "التدخل الأجنبي" أضحى أمرا مقبولا وعاديا، بل لم تعد تجد هذه الأطراف حرجا للجهر به لأنه بحسبها –أي هذه الأطراف- يشكل الوسيلة الفعالة والقمينة بإزالة الاستبداد. ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن مقولتي التدخل الأجنبي والاستبداد هما مقولتان فضفاضتان أضحتا تشكلان أسس الخطاب الإيديولوجي والسياسي الجديد لمجموعة من القوى المحافظة والرجعية (وطنيا وإقليميا) في محاولة حثيثة من هذه القوى المعادية للديمقراطية لاستغلال اللحظة التاريخية (لحظة "الربيع العربي") أملا في الوصول الى السلطة والحلول محل هذا الاستبداد القائم بعيدا عن تضحيات الشعوب التواقة الى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحداثة... وإذ تتدعي هذه القوى النضال ضد "الاستبداد" ومساندة كل القوى الإقليمية الماضية في مناهضة هكذا استبداد (مساندة ثوار الناتو الاسلامويين في ليبيا)، فإنها لا تجد حرجا أخلاقيا وسياسيا في مناهضة من يناضلون ضد الاستبداد وطنيا (نقصد مناهضة العدالة والتنمية وأحزاب "الحركة الوطنية" لمطالب حركة 20 فبراير التي تناضل من أجل قيام ملكية برلمانية)....
هذه مفارقة لا ينبغي استصغار وإهمال ما تستبطنه من مناورات ليس هدفها سوى الحصول على السلطة (العدالة والتمنية) أو على الأقل إعادة التموقع فيها (أحزاب "الحركة الوطنية")، وكل هذا الذي يجري من مناهضة للاستبداد، على هذه الشاكلة، ليس فيه للجماهير الكادحة أية مصالح لا أنية ولا بعيدة المدى... لذا، ونظرا لما يستبطنه مثل هذا الخطاب الإيديولوجي والسياسي من مغالطات حول مفهومي الاستبداد والتدخل الأجنبي سنعود بتفصيل في هذا المقال لهاتين المقولتين للتفصيل فيهما وللبحث عن تلازمهما في فكر وممارسة هذه القوى ونخبها.

1- التدخل الأجنبي والثورة: قراءة نقدية لبعض المواقف الملتبسة من الوضع الليبي
ما يهمنا نحن هو أن هذا "التدخل الأجنبي"، لصالح بعض "الثورات"، أو قل ل"الثورة الليبية" على وجه الدقة، أفرز وضعا استراتيجيا وأمنيا وسياسيا خطيرا، في منطقة شمال إفريقيا بما هي منطقة متوسطية ظلت لعقود محل صراع مستبطن بين القوى الامبريالية بغية الهيمنة على مفاصلها الاقتصادية والحيوية؛ وهذا ما تحقق تحديدا لفرنسا التي أضحت، بعد "الثورة الليبية"، قوة مهيمنة اقتصاديا وسياسيا ليس فقط على مناطق نفوذها التاريخية (المغرب، تونس، موريطانيا) بل على مناطق نفوذ جديدة لاتاريخية بالنسبة لها، أي ليبيا وطرابلس الغرب التي هي مناطق نفوذ تاريخية للايطاليين في الحقبة الاستعمارية وللرومان في العصر القديم.
على أن السمة البارزة لهذا "التدخل الأجنبي" هو إشرافه عسكريا وأمنيا ومخابراتيا ولوجستيا على تنصيب قوى أصولية، مرتبطة في جوانب محددة بتجربة القاعدة (على الأقل تجربتها في أفغانستان في مرحلة محاربة الاتحاد السوفياتي) وبفكرها الجهادي والتكفيري المتطرف، على طرابلس من خلال قيادة رمز من رموز هذه القوى للمجلس العسكري لطرابلس. انه بالضبط عبد الحكيم بلحاج القيادي في الجماعة الليبية المقاتلة والتي تؤكد بعض التقارير الإعلامية تورطها في الأحداث الإرهابية ل 16 ماي بالدار البيضاء....
فكيف يا ترى تحالفت أمريكا وأروبا، وهي التي كانت تتدعي محاربة الإرهاب العالمي، مع قوى أصولية متطرفة ذات علاقة أكيدة بتجربة تنظيم القاعدة الإرهابي، لإزالة هذا الاستبداد الذي كان بدوره متعاونا في المراحل السابقة مع أمريكا وأروبا لمواجهة الخطر الإرهابي!?.... هذا هو السؤال الأساس والمفتاح لفهم ما يجري في ليبيا.
أما هذا الحديث الوجداني، العاطفي، الطفولي، الإيديولوجي، "الأكاديمي" غير الواقعي، الحامل لأمان وأحلام مجردة عن "الثورة"، فهو حديث سطحي لا يفي بغرض تفكيك المتغيرات الجذرية التي طرأت، بفعل من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة، على مصدر القرار الرأسمالي الاستراتيجي والذي أدى في أخر المطاف الى قبول هذه الدوائر الرأسمالية الامبريالية (واشنطن وباريس تحديدا) مرحليا بتحالف غريب مع قوى التطرف الاسلاموي، بل قل مع القاعدة نفسها، لإزالة هذا الاستبداد في الحالة الليبية تحديدا، وليس في الحالات الأخرى (البحرين، سوريا، اليمن....).
الكل اليوم يركب موجة الثورة: القوى الرأسمالية الامبريالية، القوى الخليجية والاخوانية الرجعية (تحالف البترودولار والاسلام السياسي)، قوى اليسار بتشكيلاتها الأممية و"القومية" و"الوطنية"، الليبراليون والعلمانيون والأمازيغيون و...، كل هذه القوى أضحت "ثورية" حتى أنه يمكن القول أن كل من تخلف عن هذا الركب "الثوري" الجديد صار من أعداء الثورة.... انها ذروة التفكيكية العالمية التي لم يعد بعدها للمفاهيم من معنى سوى معنى ركوب الموجة العولمية التدميرية التي جعلت من القيم والأفكار سلعا قابلة للبيع والشراء في مزاد علني عالمي قل نظيره...
لا معنى تاريخي وتقدمي - والحال على ما هو عليه من سخرية - لثورة مدعومة من طرف أنظمة رجعية قروسطية (خليجية) ومن طرف قوى امبريالية لا تهمها مصلحة الشعوب لا في الديمقراطية ولا في العدالة الاجتماعية ولا في تقرير مصيرها. وعليه فان "الثورة الليبية" المدعومة من هذه القوى ليس لها من معنى سوى كونها ثورة كل هذه القوى الرجعية المحلية والإقليمية والدولية غير المتجانسة، فكريا وإيديولوجيا وسياسيا وطبقيا، على أحلام ومصير الجماهير التي هي في هذه "الثورة" - التي يقوده تحالف الرأسمالية والقاعدة – ليست سوى وقود وحطب هذا الدمار الجاري والذي قد يأتي على كل المنطقة.
إن ما جرى وما يجري في ليبيا هو أقرب الى التمرد والحرب الأهلية منه الى الثورة، ذلك أن كل ثورة، حتى تكون ثورة بالمعنى التاريخي والاجتماعي، ينبغي أن يتحقق فيها مبدأ استقلالية القرار الجماهيري الوطني، سياسيا اقتصاديا وثقافيا، وهو ما من شأنه أن يفرز وضعا اجتماعيا وطبقيا، بعد الثورة، لصالح الجماهير والفئات الكادحة التي هي الوحيدة ذات المصلحة من الثورة. بتعبير أدق لكي تكون الثورة ثورة ينبغي لها، في إطار من الاستقلالية الجماهيرية، أن تغير الوضع الطبقي لصالح الجماهير، وهذا ليس ممكنا إلا إذا كانت الثورة من تخطيط وتأطير قيادة سياسية تقدمية واعية تنظيميا واجتماعيا وتاريخيا بمستلزمات الدفع بالثورة الى تغيير الوضع الطبقي لصالح الجماهير الكادحة وقوى الشعب العاملة.
أين ما يجري في ليبيا من هذا الذي أوردناه حول الثورة ومستلزماتها... في ليبيا تحولت الحركة الجماهيرية في البداية الى نوع من التمرد المسلح به تم الاستيلاء عسكريا على مناطق شرق ليبيا التي كانت مؤهلة من قبل لذلك التمرد بفعل من شروط تاريخية (غياب الدولة الموحدة وعدم تشكلها إلا بعد الاستقلال) واجتماعية (قبلية وعشائرية) وايديولوجية (سيادة الجماعات الاسلاموية الجهادية وتجذرها في شمال شرق ليبيا).
ثم بعد ذلك عمل الناتو – وتحديدا فرنسا - وبعض دول الخليج – مشيخة قطر- على تزويد "الثوار"، الذين هم في أغلبيتهم من مقاتلي الجماعات الاسلامية المتطرفة العائدين من أفغانستان، بالسلاح والدعم اللوجستي وتمهيد الطريق أمامهم بالقصف الجوي المكثف الذي لولاه لما تمكن هؤلاء "الثوار" من "فتح" طرابلس" والوصول الى باب العزيزية الذي دك دكا قبيل اقتحامه بوابل من القصف الجوي.
ما من أحد موضوعي يستطيع نفي هذه الحقائق العسكرية، اللهم إذا كان ذا نزعة ايديولوجية تعمي بصيرته بشكل لا يقبل معها إلا بما يعتقده كائنا برغم أن ذلك الذي يعتقده كائنا ليس فعليا كائنا. نحن هنا حينما نستعرض بعض فصول ما سمي الثورة الليبية إنما نبتغي قول الحقيقة الموضوعية التي لا يقوى على قولها الكثير من النخب، سواء تلك التي كانت تحج الى خيمة القذافي لغايات ومصالح زائلة أم تلك التي لا ترى الواقع إلا من خلال ايديولوجية منغلقة ونعني بهذه النخبة تحديدا النخبة الاسلاموية التي لا ترى مانعا في التدخل الأجنبي لإزالة الاستبداد.
نقول لهذه النخب تحديدا: أما وقد، ارتضيتم التدخل الأجنبي وسيلة لإزالة الاستبداد في الحالة الليبية، فما موقفكم فيما يخص مناهضة الاستبداد المحلي الذي منه ليست بلادنا استثناءا?... بمعنى آخر وحتى تكونوا متسقين مع مواقفكم هذه هل ستقبلون بنوع من التدخل الأجنبي لتقويض أسس هذا الاستبداد المحلي إذا دعت الضرورة لذلك? أم أن لكم، في الحالة الوطنية، موقفا عكس ذلك الذي تتبنوه اليوم في الحالة الليبية?...
إنكم بكل بساطة، ومعكم كل القوى التي أغفلت عمدا في تحليلها الوضع الليبي ذلك الدور التدميري للتدخل الأجنبي، قلت إنكم في مأزق بسببه لن تقووا على تبني موقف واضح ومحدد من هذا التدخل الأجنبي الامبريالي ودوره التاريخي في إخضاع مصير الشعوب للاستغلال الرأسمالي الفاحش الذي ما كانت لتقوم له قائمة، محليا، لولا تواطؤ هذا الاستبداد الداخلي الذي ليس، في جوهره، سوى استبداد تاريخي لطبقة أو تحالف طبقي هجين، مسيطر سياسيا واقتصاديا وإيديولوجيا، لكن بدعم وترابط عضوي مع القوى الرأسمالية الامبريالية التي لا ترون فيها سوى "تدخلا أجنبيا" يبحث له عن تقديم "مساعدات إنسانية بريئة"... بئس إذن هذا التوصيف السطحي لحركية التاريخ عند هذه النخبة المسكينة.

2- في ظل شروط طبقية غير ثورية الامبريالية والرجعية تسيطر على الحركة الجماهيرية الليبية
طبقيا ليس في المجتمع الليبي طبقة عاملة وطنية واضحة المعالم والتشكل، بسبب من سيادة نوع من اقتصاد الريع النفطي غير المنتج؛ مما أدى الى الاستعانة بعمالة أجنبية، منها طبعا المغربية المنسية هناك، هي من تقوم ببيع قوة عملها لقاء كسب قوتها. بالمقابل هناك في ليبيا وضع عشائري وقبلي، وبشكل أدق كان هناك توازن قبلي عشائري باعتباره كيانا اجتماعيا وليس كيانا سياسيا، وهذا التوازن كان في صالح نظام القذافي العائلي والمستند الى قاعدة من هذه التوازنات لضمان استمراريته على مدى 42 عاما.
إن غياب طبقة عاملة مستغلة (بفتح الغين) هو ما أدى في نظرنا الى عسكرة سريعة للحركة الجماهيرية الليبية التي لم تجد اجتماعيا ما عليه تستند من فئات محرومة ومستغلة أيما استغلال عكس الحالة التونسية وما عرفته قبل الثورة من أحداث الحوض المنجمي وما أفرزته من حراك وتململ اجتماعي. ذلك أن الطبقة العاملة بتنظيماتها النقابية والحزبية تعتمد النضال السياسي والاحتجاجي السلمي للتأثير في موازين القوى لصالح الحركة الجماهيرية، وهذا ما حدث في تونس ومصر حيث الثورتين في هذين البلدين عرفتا انخراط الطبقة العاملة وتنظيماتها النقابية والحزبية ومختلف الفئات الشعبية وخاصة الطبقة المتوسطة، أي تحديدا البرجوازية الصغيرة.
المهم ليس هو عسكرة الحركة الجماهيرية الليبية بسبب من غياب قوى اجتماعية من الطبقة العاملة وحلفاؤها، بل المهم استراتيجيا هو أن ما حال دون صيرورة الحركة الجماهيرية ثورة بالمعنى التاريخي هو استناد هذه الحركة الجماهيرية، وقد تعسكرت، الى هذا "التدخل الأجنبي" لتعويض الدور المحوري والحاسم الذي لعبته هذه القوى الاجتماعية المنتجة في كل من مصر وتونس وسوريا حاليا.
هذا التدخل الأجنبي الواعي لأهدافه البعيدة المدى والمسؤول عن قراراته الاستراتيجية كان يعي هذه الحقيقة الاجتماعية للشعب الليبي، كما أنه كان يعي جيدا أهمية استقلالية الحركة الجماهيرية الليبية في رسم معالم دولة مستقلة سياسيا واقتصاديا بعد الثورة، لتنظاف الى محاولات الثورتين التونسية والمصرية في التأسيس لدول ديمقراطية تحفظ فيها مصلحة الجماهير، رغم ما تتعرض له هاتين الثورتين من محاولات السيطرة عليها من قبل قوى الإسلام السياسي.
ما حدث أن الجامعة العربية وبعد أن أوعزت لها قوى هذا "التدخل الأجنبي"، وبطلب من أعضاء في المجلس الوطني الانتقالي، سارعت الى طلب "حماية دولية" للمدنيين من خلال استصدار قرار مجلس الأمن 1973 القاضي بحضر الطيران والذي تحول الى شن حرب على نظام القذافي والمدنيين في غرب ليبيا، بل تعداه الى إنزال أسلحة فرنسية وقطرية وأمريكية الى الساحة الليبية ومد ثوار الناتو بها في محاولة ل"فتح" طرابلس. وهذا ما تحقق بالضبط.
أي حظ هذا الذي أتيح للاسلامويين المتطرفين في الحصول على أسلحة متطورة ومجانا – من قبل أعداء سابقين- بها تنتصر على الاستبداد أو تستشهد في سبيل ذلك أملا في الجنة والحور العين!.... لقد سهل الناتو الامبريالي والرجعية العربية مأمورية الحصول على هذا المبتغى لهؤلاء المتطرفين الذين لم يكونوا يحلمون بهذا النوع من الأسلحة التي ألقيت عليهم مجانا!
بهذا تكون القوى الامبريالية والرجعية العربية الخليجية (المشايخ) والاخوانية قد استولت على قيادة الحركة الجماهيرية الليبية فحولتها من إمكانية ثورة جماهيرية مستقلة الى محاولات للسيطرة على السلطة بدعم أجنبي امبريالي رجعي، مما أفقدها – أي الجماهير الثورية - القدرة على المناورة في تحديد مصير البلد بعد سقوط نظام القذافي الذي، بطبيعته القومية العروبية العائلية والقبلية، كان قد سقط سياسيا وإيديولوجيا وتاريخيا منذ سقوط بغداد سنة 2003، على اعتبار أن الإيديولوجية القومية العروبية لم يعد لها من أثر مادي في الواقع في عصر العولمة، وان كان هناك من أثر لها فهو في الوعي المزيف المفصول عن الواقع الفعلي لنخبة لا زالت تستعمل مفردات متجاوزة من قبيل "المغرب العربي"، "الوطن العربي "، "من الخليج الى المحيط"، وهلم جرا...
للإشارة إن كان لهذا الذي يسمونه ربيعا عربيا من محاسن فهو جاء يضع حدا للقومية العربية من حيث أن الشعارات المؤطرة للحراك الشعبي هي شعارات ذات دلالات وطنية مرتبطة بتحقيق الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية التي هي قيم كونية وليست قومية. قد يعترض أحد من هؤلاء ذوي الوعي المزيف فيقول أن الدلالات القومية ل"الربيع العربي" تكمن في انتشاره من تونس فمصر وليبيا وسوريا وجل دول "الوطن العربي".... نقول لهؤلاء ألم تخرج مئات الآلاف أخيرا في إسرائيل تطالب بالعدالة الاجتماعية والمزيد من المكاسب من سكن ووظائف?!... هل هذا الحراك الإسرائيلي أيضا يندرج في إطار هذا "الربيع العربي"?!...

3- "الربيع العربي" والأزمة الاقتصادية العالمية: الأموال الليبية المجمدة والوضع الانتقالي
الحقيقة التاريخية لهذا الحراك الاجتماعي والسياسي الذي يجتاح منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مرتبطة بمأزق تطور النظام الرأسمالي العالمي، بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي تجد أسسها الموضوعية في أزمة انتقال تاريخي من طور محدد من نمط الإنتاج الرأسمالي الى طور أخر جديد من نمط الإنتاج الرأسمالي ذاته هو قيد التشكل منذ سنوات، سمته الأساسية أنه نمط رأسمالي مرتبط أساسا بالإنتاج اللامادي.
لا نرى المقام يسمح بالمزيد من هذا التحليل النظري، لكن بكل بساطة في هذا الطور الجديد من نمط الإنتاج الرأسمالي اللامادي تفرض الضرورة التاريخية لتراكم رأس المال المركزي (أمريكا بالدرجة الأولى) الى إنتاج خدمات لا مادية من تكنولوجيا ووسائط اتصال فيها يتحقق الربح السريع، أو قل فائض قيمة كبير، مما أدى الى تناقص حجم الاستثمارات في الصناعات الثقيلة وفي الفلاحة حيث نتج عن ذلك تناقص الإنتاج المادي وارتفاع الأسعار بشكل صاروخي على المستوى العالمي، وكل ذلك أدى الى تغيرات دراماتيكية في البنية الطبقية للمجتمعات وخاصة المجتمعات المتخلفة (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) التي هي تحت سيطرة وهيمنة طبقات برجوازية هجينة ووكيلة مرتبطة عضويا مصالحها ومواقعها بالرأسمالية العالمية...
وهذا ما يفسر لماذا كانت أمريكا وأروبا تدعم الاستبداد المحلي في هذه الدول قبل أن تتخذ لها قرارات استراتيجية جديدة بالانخراط في الحراك الجاري، سياسيا أم عسكريا حسب الحالات، هدفها تنصيب وكلاء طبقيين جدد ليس لهم من دور مستقبلي سوى تأمين المصالح الامبريالية في هذه الدول لما بعد الثورات. وهذا ما يتم تهيئته بالضبط في ليبيا التي هي النموذج الذي ما أن يستتب له الوضع حتى ينهض القائمون عليه – أي هذا النموذج - الى تعميمه في كل دول المنطقة لخلق وضع استراتيجي متحكم فيه لسنوات وعقود مقبلة.
في هذا السياق، يمكن القول إن عدم امتلاك "الثوار"، أو قل ثوار الناتو تحديدا، وكذا المجلس الوطني الانتقالي لقرارهم السياسي المستقل في تحديد مصير ليبيا بعد القذافي يتجلى واضحا في كون مصير البلد، اقتصاديا على الأقل، هو في مصير أمريكا والناتو الذين يضعون يدهم على الأموال الليبية المجمدة بالخارج، وذلك من أجل استعمالها في مشاريع "إعادة الاعمار" للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب المركز الرأسمالي العالمي.
بهذا المعنى ليست تلك الأموال أموالا مجمدة ستمنحها الرأسمالية الامبريالية للشعب الليبي متى كان في حاجة إليها، هذا وهم ما بعده وهم.... بل إن الأموال الليبية إنما جمدت لقطع الطريق على محاولات القذافي إبان الأزمة الليبية سحبها من البنوك الاروبية (وخاصة الفرنسية) وتحويلها الى الصين تحديدا، وهو ما لم يقبله إطلاقا ساركوزي لان ذلك من شأنه خلق أزمة سيولة مالية في الابناك الفرنسية مع ما سيترتب عن ذلك من تداعيات وخيمة على الاقتصاد (ملف تخلي القذافي عن شراء الطائرات الفرنسية مقابل 14 مليار دولار).
ففي الوقت الذي تقدر الأموال المجمدة الليبية بحوالي 200 مليار دولار نجد أن الناتو وأمريكا تتفاوض مع المجلس الوطني الانتقالي في إطار من المؤتمرات الدولية لمنحه فقط ما يناهز 2 مليار دولار... أين الباقي من هذه الأموال ومتى سيفرج عنها ? الباقي هو "تكلفة الحرب" التي شنها الناتو وأمريكا على ليبيا، وليس فقط على نظام القذافي، ولن تنال منه ليبيا سوى خفي حنين. إذن ما الفائدة في كل هذا الدمار لمقومات الشعب الليبي من بنية تحتية وطرق ومدارس وشبكة مياه ومحطات كهرباء، وقتلى ومصابين بالآلاف..
إن قوى التدخل الأجنبي الامبريالية، بعقدها لهكذا مؤتمرات دولية من أجل إعادة الاعمار وما شابه ليست تفعل شيئا أخر سوى إعادة تقسيم مناطق النفوذ وعقود النفط بما يتماشى مع الأدوار "الجليلة في تحرير ليبيا" التي قامت بها دول الناتو، وخاصة فرنسا. إن سيف ديموقليطس المسلط على رقاب المجلس الوطني الانتقالي، ومن خلاله على مطامح الشعب الليبي، هو هذه المؤتمرات الدولية بالذات.
فهل يا ترى احتاجت الثورتين التونسية والمصرية الى هذا النوع من المؤتمرات الدولية لتقرر في مصير المرحلة الانتقالية بعد انجاز الثورتين? بالطبع الجواب سيكون بالنفي. لكن لماذا حصل ذلك في ليبيا ولم يحصل في تونس ومصر?... الجواب بسيط للغاية وهو أن الثورتين التونسية والمصرية، بالحفاظ على استقلاليتهما الجماهيرية من هذا "التدخل الأجنبي"، الذي لامانع للاسلامويين وللوطنيين وللأمازيغيين ولليساريين فيه، قلت أن هاتين الثورتين مكنتا القوى السياسية والمدنية في تونس ومصر من تدبير المرحلة الانتقالية بعيدا عن سيف ديموقليطس هذا.
أما الوضع "الانتقالي" في ليبيا فهو محدد في توجهاته العامة في إطار من هذه المؤتمرات من أجل إعادة الاعمار التي ليست سوى مؤتمرات لفرض الهيمنة الامبريالية –الفرنسية تحديدا - على مستقبل ليبيا بشكل خاص والمنطقة المغاربية بشكل عام في إطار جيواستراتيجي عام من إعادة توزيع مناطق النفوذ والهيمنة بين القوى الامبريالية. في هذا الإطار الاستراتيجي لم يبق أمام المجلس الوطني الانتقالي لتدبير المرحلة الانتقالية كما يقولون سوى هامش مناورة ضيق، وهو هامش سيتمحور إيديولوجيا حول جزئيات وشكليات "ديمقراطية"... أما استقلالية القرار السياسي والاقتصادي والثقافي الذي هو هدف مركزي لأية ثورة، حتى تكون فعليا ثورة بالمعني التاريخي، فليس محقق ولن يتحقق في الحالة الليبية. وهذا ما نـأسف وتأسفنا له منذ البداية.

4- في ماهية الاستبداد: المجلس الوطني الانتقالي استبداد قديم-جديد
بهذا المعنى فان ما يسمى استبدادا وجب إسقاطه، وقد سقط، تم استبداله بشكل أخر مقبول من الاستبداد. ولئن كانت أصول الاستبداد الحالي في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا، وبغض النظر عن شكل نظامه السياسي المختلف من دولة الى أخرى، يعود الى مرحلة التحرر الوطني التي فيها تواطأ الاستعمار مع هذا الاستبداد، ولئن كان هذا فان الاستعمار ظل يرعى هذا الاستبداد ويحميه. لا لشيء سوى لكون هذا الاستبداد له دوره المركزي في ضمان المصالح الامبريالية بعيدا عن مصالح الجماهير، ما يعني أن مصلحة الجماهير هي في استقلال قرارها عن هذا الاستبداد وعن هذه القوى الامبريالية التي لا يرى فيها مثقفو القوى الأنفة الذكر سوى مجرد تدخل أجنبي عديم الأثر على طموحات ومصير الشعوب.
ليس الاستبداد مجرد تسلط رئيس أو زعيم وممارسته القهر والتهميش والإقصاء في حق الشعب وحرمانه من أبسط حقوقه الأساسية... إن الاستبداد بهذا المعني يتشخصن وهو ليس كذلك، أي أن الاستبداد ليس مجرد علاقات قهرية بين شخص متسلط وجماعة خاضعة له، بعيدا عن الواقع الاجتماعي وتناقضاته الطبقية. لا يمكن فهم الاستبداد إلا في إطار علاقات الإنتاج السائدة وما تحدده من تركيبة طبقية في المجتمع والدولة معا. لذا فان الاستبداد هو في حقيقته ليس سوى استبداد طبقة أو تحالف طبقي مسيطر على وسائل الإنتاج، ومن ثم على الدولة التي يسخرها جهازا قمعيا في حق طبقة اجتماعية سلبت وسائل إنتاجها، في شروط تاريخية محددة، ولم تعد تملك لكسب قوتها سوى بيع قوة عملها بأبخص الأجور لتلك الطبقة المسيطرة والتي لا يمكن لها السيطرة إلا في ظل هيمنة فئات، أو فئة هي من تتحلق حول الرئيس أو الزعيم الاستبدادي. ليس المجال هنا يسمح لتشريح طبيعة هذه الفئات المهيمنة، لكن ما يمكن قوله في حالة الدول المتخلفة هو أن هذه الفئات ليست سوى عشيرة، أو قبيلة، أو عائلة ذلك الزعيم الاستبدادي الذي، بهالته الأسطورية، يخفي دور تلك الطبقات المسيطرة ومعها الفئات المهيمنة على وسائل الإنتاج التي تمارس في الواقع أشد أنواع الاستبداد فتامة في حق تلك الطبقة المسودة التي لا تملك لكسب قوتها سوى بيع قوة عملها.
من هذا المنطلق فقد اتخذ الاستبداد، عبر التاريخ، أشكالا متعددة تتحدد بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة؛ على أن ما يهمنا في المرحلة التاريخية الراهنة هو أن الاستبداد في شكله الراهن إنما هو وليد علاقات إنتاج رأسمالية، بحيث أن النظام السياسي السائد في معظم الدول المتخلفة هو نظام طبقة برجوازية هجينة في وضعية تبعية عضوية للرأسمالية الامبريالية التي ترعا تلك الطبقة الهجينة المحلية، هذه الأخيرة تلعب بالوكالة دور رعاية المصالح الامبريالية الاستعمارية ضدا على مصالح شعوبها. ومن هنا تلازم الاستبداد ونظامه السياسي القائم مع الامبريالية.
بهذا المعنى، ليس إسقاط الاستبداد هو إسقاط الزعيم وكفى؛ هذه نظرة سطحية للاجتماع والتاريخ. إسقاط الاستبداد هو إذن تقويض أسس طبقة مسيطرة على وسائل الإنتاج وإسقاطها من موقعها السياسي الذي ليس سوى الدولة الاستبدادية. ولما كانت هذه الطبقة المسيطرة محليا مرتبطة بالامبريالية كشرط تاريخي لديمومة سيطرتها الطبقية فان إسقاطها يعني من بين ما يعنيه مواجهة الامبريالية. وهذه حتمية تاريخية لمن أراد إسقاط الاستبداد المحلي.
لكن ما العمل حينما يتحالف من يريدون إسقاط "الاستبداد" مع الامبريالية التي هي شرط ديمومة هذا الاستبداد المحلي باعتباره استبداد تلك الطبقة المسيطرة وليس كما يتبدى استبداد زعيم أو رئيس. بكل بساطة ليس هؤلاء الذين يتحالفون مع الامبريالية لإسقاط الاستبداد سوى جزء من الاستبداد القائم، هذا على المستوى النظري. أما على مستوى تحقق هذا الذي أوردناه في الواقع، فيبدو لي أن ذلك ساطع من خلال التجربة الليبية التي فيها انشق أعضاء من الاستبداد القائم (نظام القذافي) وشكلوا مجلسا وطنيا انتقاليا به سيطروا على الحركة الجماهيرية بتعاون من الامبريالية؛ إنهم بكل بساطة ليسوا سوى استبدادا قديما-جديدا جيء بهم من أجل النهوض بأدوار ليست أقل قذارة من أدوار الاستبداد القائم.
وعليه فان ما جرى في ليبيا هو تغيير استبداد، أو قل على وجه الدقة تغيير رأس الاستبداد، لم يعد مقبولا لا تاريخيا ولا إيديولوجيا ولا سياسيا، بشكل من الاستبداد هو مقبول في شكله وخطابه و"تماهيه" مع الشعارات الكونية لحقوق الانسان. وهذا ما يفسر طبيعة المجلس الانتقالي الذي يتكون في جزءه المعروف والمقبول، جماهيريا ودوليا (على اعتبار أن أعضاء غير مقبولة هي مرتبطة بالتنظيمات الجهادية لم تكشف عن وجهها ولم يتم تسويقها إلا بعد سقوط طرابلس) من أعضاء نافذين في النظام الاستبدادي السابق.
إنهم، أي هؤلاء الأعضاء، كانوا جزءا عضويا ومكونا من الاستبداد السابق. ولما احتدمت الحركة الجماهيرية الليبية تسللوا الى موقع القيادة في المجلس الوطني الليبي أملا في الحفاظ على وضعهم الطبقي السياسي لما بعد "الثورة"؛ ولو كان هؤلاء لا يمتون بصلة للاستبداد السابق، لما رأيناهم قبلوا بالتدخل الأجنبي الذي في نهاية المطاف هو من حملهم الى موقع الهيمنة في الاستبداد الجديد الذي ليس سوى شكلا مقبولا من الاستبداد في هذه المرحلة التاريخية.
ولأن طبيعة الاستبداد هي الحفاظ على المصالح الامبريالية، كما وضحنا أنفا، والإجهاز على حقوق الجماهير داخليا، فان هؤلاء، من المجلس الانتقالي، الذين خرجوا من الاستبداد السابق ليسوا سوى صورة طبق الأصل منه، وربما كانوا أكثر استبدادا من السابق بسبب من تبعيتهم المطلقة للقوى الامبريالية التي لولاها لما انوجدوا في هذه المواقع القيادية الجديدة.

5- الوضع الاستراتيجي ومأزق القوى الداعمة للتدخل الأجنبي بعد سيطرة القوى الأصولية المتطرفة على طرابلس بدعم إمبريالي
للإشارة فقط، لا بد أن نؤكد على مسألة غاية في الأهمية وهي أن بعض الاسلامويين- وخاصة بعض "مثقفيهم"- لا يرون مانعا في هذا التدخل الأجنبي والحجة هي "إزالة الاستبداد" مهما كانت النتائج الوخيمة سياسيا، جيواستراتيجيا وأمنيا. على المستوى السياسي ينذر سقوط طرابلس بيد الجماعة الاسلامية المقاتلة وحلفاؤها، من الداخل والخارج، الى احتمال قيام نظام ثيوقراطي/إمارة على شاكلة ما هو قائم في أفغانستان الطالبان، صومال شباب المجاهدين ودولة العراق الاسلامية القاعدة ومن قبل سودان تحالف البشير مع الجبهة الاسلامية القومية.... وحيثما تولت هذه التنظيمات الاسلاموية الماضوية أمر الحكم، سواء بشكل مباشر أو بتحالف مع العسكر، في دولة أو في إمارة مقتطعة من دولة ما نشبت الحروب الأهلية والمجاعة والأمية والفوضى وأصبح القانون السائد هو قانون أمراء الحرب (بمعنى عام انه ارتداد تاريخي الى الوراء، وليس ثورة على الإطلاق ذلك أن الثورة حتى تكون ثورة وجب أن يكون لها طابع تقدمي وليس ارتدادي رجعي بغد النظر عن الفاعلين والقائمين عنها).
على المستوى الجيواستراتيجي، هناك عودة القوى ذات التاريخ الاستعماري الأكثر فتكا بالشعب الليبي (فرنسا، ايطاليا وبريطانيا) الى السيطرة على منطقة حيوية من شمال إفريقيا وصحراء الساحل التي تؤكد كل الدراسات أنها أضحت ذات أهمية استراتيجية كبيرة بحكم اختزانها لاحتياطات كبيرة من الغاز والبترول وبعض المعادن النفيسة. إن هذه العودة للقوى ذات التاريخ الاستعماري المشين – تحت يافطة إنسانية وهي حماية المدنيين - ليست عودة من أجل تبييض هذا التاريخ الاستعماري الأكثر فتكا بالإنسانية كما يتوهم بعض "مثقفي الربيع العربي" الذين لا يستطيعون قراءة الوضع الحالي قراءة تاريخية موضوعية، إنهم يكتفون فقط بركوب الموجة الإعلامية العتية وترديد مقولات تم إطلاقها في غرف قيادات إعلامية بات من الواضح أنها غرف قيادات عسكرية تخطط وتوجه هذا المد الأصولي في أفق استيلاءه على السلطة. وهذا ما عبر عنه بكل وضوح مهندس هذه الغرف ومفتيها القرضاوي حين افصح على أن الوقت هو وقت الاسلاميين بعد أن كان للعلمانيين والليبراليين. قلنا إن عودة هذه القوى ذات التاريخ الاستعماري هي عودة لن تسلم من تداعياتها كل منطقة شمال إفريقيا ومنها الصحراء المغربية، على غرار ما وقع في الشرق الأوسط.
أما على المستوى الأمني، فالإشكالية الكبرى هي في انتشار السلاح في هذه المنطقة المغاربية وفي منطقة الساحل وخاصة في يد البوليساريو والجماعات الاسلاموية "الجهادية" التكفيرية التي ستحول لا محالة منطقة شمال إفريقيا الى نسخة طبق الأصل لمنطقة باكستان وأفغانستان حيث الفوضى والدمار والقتلى بالمئات يوميا.
بالعودة الى التساؤلات الأنفة ذات الصلة ب "التدخل الأجنبي" وبماهية هذا "الاستبداد" الذي ينبغي، بحسب هؤلاء الاسلامويين، إزالته ولو بتدخل أجنبي، يمكن القول أنها تساؤلات مرتبطة بمسألة السيادة الوطنية ومدى استقلالية القرار الاقتصادي والسياسي والثقافي بعد إزالة الاستبداد بتعاون مع القوى الأجنبية. غير أن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن قبول التدخل الأجنبي في الوضع الليبي ليس سمة خاصة بقوى الإسلام السياسي فقط، بل بات أمرا بديهيا في تكتيكات جميع القوى السياسية الوطنية والإقليمية، سواء أكانت يمينية أو يسارية، عروبية أو أمازيغية...
أكثر من ذلك فالدولة المغربية دعمت هذا التدخل من خلال تمثيليتها في مجموعة الاتصال وفي مؤتمرات إعادة الاعمار في ليبيا، وهي بذلك تتحمل المسؤولية الاستراتيجية والأمنية في ما سيؤول إليه الوضع من عدم الاستقرار خاصة إذا تمكنت الجماعات الاسلاموية "الجهادية" من إقامة إماراتها الثيوقراطية المحتمله على الأراضي الليبية مع ما يستتبعه ذلك من محاولات تصدير هذا النموذج المتخلف الى دول الجوار.
إذن هناك مسؤولية واضحة تقع على عاتق الدولة المغربية في ظل هذه التطورات الاستراتيجية التي هزت كامل منطقة شمال إفريقيا، ونفس المسؤولية تقع على هذه الأحزاب التي لا موقف لها سوى موقف الدولة ذاته، فهي عودتنا على الصمت المطبق إزاء أية قضية ما لم تخرج الدولة بموقفها. ومتى خرجت الدولة بموقف ما من قضية ما سارعت هذه الأحزاب الى ترديد ببغائي لنفس الموقف. أليست هي – أي هذه الأحزاب - التي بعثت بوفودها الى القذافي في صيف السنة الماضية تطلب وده في قضية الصحراء?...
أليست هذه الوفود هي من عجزت عن الرد في حضرة وفي خيمة القذافي على كل خطابات القذافي التي لم تقم وزنا للسيادة الوطنية في قضايا مثل القضية الأمازيغية. إن هذه القوى – ومعها الدولة - توجد في مأزق استراتيجي هو هو مأزق تبعيتها للسياسات الامبريالية الجديدة، وهذا ما يضعها من حيث لا تبغي، جنبا الى جنب مع التنظيمات الاسلاموية المتطرفة التي هي الرابح الاستراتيجي الأكبر من كل ما يجري في ليبيا والمنطقة المغاربية والعربية.
إن تركيزنا في هذا المقال على المأزق الاسلاموي، بعد ما أل إليه الوضع الليبي، ليس يعني أن القوى الأخرى (اليسارية، الوطنية، الأمازيغية) ليست بمنأى عن نفس المأزق، بل انها في مأزق أكثر وضوحا بسبب من تناقض مواقفها وممارساتها السياسية مع طروحاتها الإيديولوجية في مناهضة الرأسمالية الامبريالية (قوى اليسار) والدفاع عن السيادة الوطنية (القوى الوطنية) والدفاع عن العقلانية والحداثة والانفتاح (القوى الامازيغية التي وان كانت تدافع عن الحداثة إلا أنها تتحالف في الشأن الليبي مع الرجعية الخليجية والاخوانية والاسلاموية المتطرفة وهو ما ينفي عنها الطابع التقدمي والحداثي).
غير أن تركيزنا على المأزق الاسلاموي يجد أساسه الموضوعي في الدور الذي لعبته قوى الإسلام السياسي، بمختلف تشكيلاتها (الاخوانية، السلفية، الجهادية، المعتدلة والراديكالية والمرتبطة بالقاعدة)، في صيرورة الثورة الليبية تعاونا وثيقا، وتحالفا استراتيجيا بين مقاتلي هذه الجماعات الاسلامية الجهادية – أبرزها الجماعة الليبية المقاتلة – وحلف شمال الأطلسي، بحيث أدى هذا التعاون الاستراتيجي الى سقوط طرابلس (وليس فتح طرابلس على منوال فتح مكة) في قبضة المجلس العسكري لطرابلس، وهو مجلس للإسلاميين المتطرفين بزعامة عبد الحكيم بلحاج.
للإشارة فان هذا الأخير هو "جهادي" سابق في أفغانستان ومعتقل سابق بغوانتانمو قبل أن تسلمه المخابرات الأمريكية لنظام القذافي، حيث أمضى ما ينوف عن اربع سنوات في سجون القذافي قبل أن يتم الإفراج عنه سنة 2010 من طرف النظام الليبي في إطار صفقة "مصالحة"، وبوساطة اخوانية ممثلة في جهود القرضاوي، وكان النظام الليبي يتغيى آنذاك إعادة ترتيب أوراقه الاستراتيجية مع القوى الرأسمالية أملا في المزيد من الانفتاح على أروبا وأمريكا بعد سنوات الجمود والحصار.
هناك درس بالغ الأهمية نستخلصه من هذا الذي جرى في ليبيا وهو أن "المصالحة" مع قوى الإسلام السياسي المتطرفة والتي تلطخت يدها بدم الأبرياء إنما هي مغامرة استراتيجية قد تؤدي الى عكس ما يمكن ترقبه من نتائج بخصوص تلك المصالحة. ففي الوقت الذي ادعت فيه الجماعة المقاتلة الليبية نبذها للعنف والقتال في سياق المصالحة مع نظام القذافي سابقا عادت وتحالفت مع الامبريالية للقتال تحت إمرتها لا يهمها في ذلك إن هي نقضت وعودها أم لا... إن هذا الدرس ينبغي أن يؤخذ به في أي ترتيبات وطنية في ما يتعلق بملف السلفية الجهادية الملطخة يدها بالدماء، أما الأبرياء الذين اعتقلوا من دون أن يكون لهم يد في ما جرى في أحداث 16 ماي فينبغي إطلاق صراحهم حالا وجبر ضررهم.
إن هذه الممارسة التي كشفت عنها الجماعة الليبية المقاتلة لا تترك أي مجال للشك بخصوص ما قد يسميه البعض من الاسلامويين ب"مراجعات" يقوم بها هؤلاء؛ فهذه "المراجعات" ليست سوى خدعة ووسيلة لا أثر لها في طبيعة الأهداف المعلنة وغير المعلنة لقوى الإسلام السياسي كافة. أما هذه الأهداف فليست سوى إقامة الإمارات الاسلامية متى سنحت الفرصة بذلك في أفق تجميعها في إطار خلافة إسلامية. وهم يتوهمون أن هذه المرحلة التاريخية مناسبة لإقامة خلافة إسلامية عثمانية يتزعمها خليفتهم التركي أردوغان..
على أي هناك تبادل أدوار بين الجماعات الاسلامية "المعتدلة" والمتطرفة، ويتكشف ذلك وطنيا من خلال سلوك العدالة والتنمية منذ "الربيع العربي"... لا هو انخرط فعليا في الدينامية الجماهيرية ولا هو منضبط ل"القواعد الديمقراطية" المعمول بها... تارة يدافع بكل ما أوتي من قوة على النظام (حالة الدولة الاسلامية في الدستور) وتارة يهدد بالاصطفاف مع 20 فبراير إن لم تعطى له الضمانة لرئاسة الحكومة؛ انه موقف انتهازي، لا أخلاقي، لا جماهيري ولا تاريخي... إنهم يهددون بما آل إليه "الربيع العربي" في ليبيا ومصر وتونس من عدم استقرار وفوضى وذلك من أجل تحقيق مكاسب سياسوية ضيقة، زائلة، ويدعون قدرتهم على تحريك الشارع للوصول الى غاياتهم التي ليست هي غايات الجماهير ولا غاية المصلحة العليا للبلاد.
أن تؤول "الثورة الليبية" الى سيطرة رمز من رموز الجهاد الاسلاموي المتطرف على طرابلس، من خلال ترؤس بلحاج للمجلس العسكري لطرابلس، فهذا هو مكر التاريخ بعينه. فإذا كانت إزالة الاستبداد أمرا تقدميا ومحمودا لأنه يدفع عجلة التاريخ الى الأمام، فان تعويض الاستبداد بقوى أكثر تطرفا وضلامية يعد تقهقرا وردة في حركية التاريخ وفي مصير ومستقبل الشعوب التواقة الى الانعتاق والحرية والمدنية كما هي متعارف عليها كونيا.
نحن لن نكون هنا إلا واضحين تمام الوضوح، فإذا كان التاريخ في تعقيداته لا يطرح أمامنا سوى أمرين لا ثالث لهما في هذه المرحلة التاريخية: إما ديمومة الاستبداد المحلي أو قيام الحكم الثيوقراطي الضلامي، وهذا ما أفرزته فعليا صيرورة "الربيع العربي" –مع استثناء في تونس التي هي أيضا ليست بمنأى عن الخطر الاسلاموي- فإننا بكل تأكيد ضد قيام الحكم الضلامي، خاصة إذا كان برعاية امبريالية.... ليس أمامنا، والحال هذه، سوى التصدي لمحاولات إقامة حكم ثيوقراطي ضلامي وتبنى النضال الديمقراطي المستقل عن أجندات الاستبداد المحلي وعن الأهداف الامبريالية، خاصة البعيدة المدى.
ولعلي بهذا النضال من الصعوبة بمكان، لأنه ليس طريقا سهلا وينبغي فيه التأكيد على الثقافة والتربية والمعرفة لبناء وعي تاريخي تقدمي قمين بإزالة الاستبداد المحلي وتقويض أسسه الإيديولوجية المتخلفة ونقل دولنا الى مصاف الدول المتقدمة. أما في ظل الظروف التاريخية الراهنة المتسمة بسيادة الوعي اللاهوتي في مجتمعاتنا فلا بديل منتظر في ظل هيمنة الجماعات الاسلاموية المتطرفة سوى الارتداد الى الوراء وسيادة أنظمة شمولية دينية لا توفر أدنى الحقوق الإنسانية المتعارف عليها كونيا. نحن ضد الأنظمة الدينية الشمولية الوهابية التي لا تتيح للمرأة حتى قيادة السيارة.
في هذا السياق الإقليمي والتاريخي، ما من أحد كان يعتقد أن أمريكا والناتو – الامبريالية العالمية الجديدة - وهي التي ما فتئت تحارب القاعدة والإرهاب الاسلاموي الدولي، سيفسحا المجال (انكشاف نوع من التواطؤ بين الاسلامويين والامبرياليين) من خلال تدخلهما العسكري في ليبيا لوصول قوى اسلاموية مقاتلة ذات صلة بالإرهاب الى مواقع السيطرة العسكرية والأمنية على طرابلس.... كذلك لا أحد كان يصدق أن القوى الوطنية والتقدمية واليسارية والأمازيغية في المنطقة بشكل عام وفي المغرب بشكل خاص، ممن يدعون الى الحداثة والمدنية والوطنية، ستصفق لهذا الذي أسفر عنه هذا التعاون الوثيق بين الجماعات الاسلامية الجهادية وحلف الناتو.
هل يمكن القول بكل بساطة أن كل هذا الذي جرى في ليبيا هو فعلا من أجل إسقاط الاستبداد?... أليست الوجوه الجهادية من الجماعة الليبية المقاتلة التي ظهرت على حين غرة في طرابلس بعد سقوطها أكثر استبدادا وضلامية ورجعية من نظام معمر القذافي?... وإذا كانت مواقف جل القوى السياسية عندنا مؤيدة لما جرى من أجل إسقاط الاستبداد في ليبيا على هذه الشاكلة، فما هي مواقفها بخصوص أي تدخل أجنبي محتمل في بلادنا لا قدر الله في ضوء ما تحمله تداعيات الوضع الليبي على المنطقة المغاربية ككل، وفي ضوء صيرورة ملف الصحراء المغربية الذي هو ملف فيه تفاوض تحت رعاية الأمم المتحدة، أي أنه ملف قابل للتدويل وللتدخل الأجنبي متى ارتأت القوى الامبريالية مصلحة في ذلك ?
إن هذه القوى، وحتى تنسجم مع ما عبرت عنه في الوضع الليبي من مواقف بخصوص قبولها التدخل الأجنبي لإسقاط الاستبداد، ينبغي لها أن تعبر عن نفس المواقف في الحالة الوطنية، مما يعني قبولها بالتدخل الأجنبي في قضايانا الوطنية وخاصة في محاربة الاستبداد. أما إذا كان لها موقف مغاير، وهو ما نعتقده بسبب من عدم تملكها الشجاعة السياسية للتعبير عن مواقف مماثلة في الساحة الوطنية، فهذا هو النفاق السياسي بعينه.
في كلتا الحالتين فان هذه القوى توجد في مأزق سياسي وأخلاقي ووطني بسبب من عدم تملكها لقرارها السياسي المستقل، ولكونها لا تخرج بمواقفها إلا بعد وضوح موقف الدولة المغربية، أو تحديدا موقف النظام المغربي، وهذا ما جرى بخصوص مواقف هذه القوى من الشأن الليبي. فهي، أي هذه القوى، تقبل ضمنيا بالتدخل الأجنبي وهذا ما عبرت عنه في الوضع الليبي، لكن تراها ترفض شكليا هذا التدخل في أمور وقضايا وطنية مثلما حدث في مسيرة الدار البيضاء حين جند المخزن هذه القوى للتنديد بالتدخل الاسباني في شؤوننا الوطنية بعد أحداث أكديم ازيك.

6- عود على بدء: في التدخل الأجنبي
ما معنى هذا التدخل الأجنبي? ظاهريا يبدو التدخل الأجنبي كما لو أنه تدخل شكلي، عابر، مؤقت، إنساني، غير مخطط له، لا أهداف وأجندات استراتيجية له... يبدو أيضا كما لو أن هذا التدخل الأجنبي ليست وراءه مصالح قوى إقليمية عربية رجعية (خليجية واخوانية بالتحديد) وقوى دولية (عصابة الامبرياليين ممثلة في الناتو)، بل انه يبدو وكأنه تدخل لحماية المدنيين وإحقاق الحقوق وإرجاعها لذويها، ثم بعد ذلك عودة هذه القوى الأجنبية الى عقر دارها والى حال سبيلها لتنتظر أي مشكلة أو أي خرق آخر لحقوق الإنسان حتى تعود الى مهمتها "الإنسانية النبيلة" في الدفاع عن المدنيين وحقوق الإنسان..... جميل إذن هذا التدخل الأجنبي.
إن هذا المنطق السطحي البئيس وهذا التجريد اللاتاريخي، يشكلان رؤية وخلفية تكاد تجمع عليه قوى الإسلام السياسي ونخبها، التي لا غاية استراتيجية لها سوى إقامة الإمارات الاسلامية في كل بلدان المنطقة في أفق تجميعها وإدماجها في إطار خلافة إسلامية راشدة، قلنا إن هذا المنطق البسيط الذي يرى في التدخل الأجنبي عملا "إنسانيا" ويقبل به في الوضع الليبي بدعوى إسقاط الاستبداد سرعان ما يتهافت واقعيا حينما نرى أن قوى التدخل الأجنبي (العربية والدولية) هذه تتفرج على المجازر الذي تتعرض لها الجماهير الثورية في سوريا.
إذن لا حاجة لنا في المزيد من توضيح الواضحات، فأصحاب هذا التدخل الأجنبي ليس يهمهم لا حماية المدنيين (ولهذا تراهم لا يتكلمون إلا على قتلى النظام الليبي ويتجاهلون قتلى المدنيين من الناتو) ولا تحقيق الديمقراطية بعد أن يمكنهم الناتو من "إزالة الاستبداد"... كل ما يهمهم إقامة إمارات اسلاموية ضلامية ماضوية لا أفق تاريخي وإنساني وحضاري لها....
إن هذه القوى الماضوية ليس يهمها سوى الوصول الى السلطة وتطبيق الشريعة حسب تأويلات "السلف الصالح"....ثم إن هذه السلطة التي يقاتل من أجلها الإسلامويون بشتى فصائلهم "المعتدلة" والمتطرفة (هم كلهم متطرفون في الغايات والأهداف الاستراتيجية، والمعتدلون منهم فقط في الوسائل والتكتيكات) لن تكون سوى سلطة شكلية وتابعة للاستراتيجيات البعيدة المدى للقوى الامبريالية بسبب من تعاون الاسلامويين مع قوى التدخل الأجنبي هذه. وهذا ما لا تقوى هذه القوى الاسلاموية على الجهر به. انها تعرف حق المعرفة أن هذا الذي تسميه "التدخل الأجنبي" سيرهن البلاد سياسيا واقتصاديا وثقافيا، أي استراتيجيا، ورغم ذلك فهي ماضية في طمس هذه الحقيقة طمعا، أو توهما، في استلاب الجماهير الكادحة التي هي هدف وغاية كل ثورة.
كيف يمكن أن نفهم سرعة تحرك الناتو وفرنسا تحديدا في الأزمة الليبية عكس ما يجري في سوريا وما جرى في تونس? الموقف الفرنسي في تونس كان ضد الحركة الجماهيرية وكان مساندا لنظام زين العابدين بنعلي، وحسب روايات معينة ربما كانت فرنسا قد أرسلت قوات خاصة لقمع الحركة الجماهيرية التونسية قبل سقوط بنعلي. في سوريا حيث التقتيل جار على مدار الساعة، لم تتحرك الرجعية العربية الاخوانية وعصابة الامبرياليين (الناتو) لدعم الانتفاضة السورية وحماية المدنيين....
إن أية محاولة للقفز على هذه الحقيقة السياسية والتاريخية من طرف نخبة التيار الاسلاموي واليساري والأمازيغي والوطني ليست سوى توصيفا مغلوطا لما يجري من أحداث في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وهذا التوصيف المغلوط ليس ينبع من محاولة قراءة ما يجري قراءة موضوعية، بل تمليه اعتبارات سياسية وإيديولوجية ظرفية (وهي واضحة جدا عند الاسلامويين)، بحيث ما يهم هذه القوى ونخبها هو الاستفادة أقصى قدر ممكن من هذه "الفرصة التاريخية" لتحقيق أحلام ايديولوجية وشعبوية ليست بالضرورة في صالح الشعب وخاصة فئاته الكادحة.
بهذه القراء السطحية وبهذا التجريد اللاتاريخي يتجنب مثقفو التيار الاسلاموي الحديث عن طبيعة هذا التدخل الأجنبي وغاياته الواضحة. لذا بات من الضروري المساهمة في تحليل الضرورة الاستراتيجية التي حملت فرنسا تحديدا على التدخل في الوضع الليبي. بعد تمكن الشعب التونسي، في استقلالية تامة عن الدوائر الخليجية الاخوانية والامبريالية، من انجاز مهمته في تغيير رأس النظام (وليس النظام كله) بات من الواضح أن الشعب التونسي المدني ذي النفس الإصلاحي التاريخي العميق سيواصل سيره على درب تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في إطار من دولة الحق والقانون التي تمتلك قرارها السياسي، الاقتصادي والثقافي، أي بشكل أدق قرارها السيادي.
على هذا النحو من الاستقلالية، ورغم تمايز التجربة التونسية والمصرية، تمكن الشعب المصري من إسقاط رأس النظام أيضا، مما منحه فرصة استكمال مراحل الثورة وانجاز متطلبات المرحلة الانتقالية في إطار من السيادة الوطنية واستقلالية القرار الوطني.

على سبيل الختم
الوضع الليبي مختلف تماما عن الوضع في مصر وتونس، سواء من حيث التركيبة الاجتماعية الطبقية للمجتمع الليبي، أم من حيث تركيبة الدولة أو من حيث موقعها الجيواستراتيجي (بين دولتين نجحت فيهما الثورة بشكل مستقل نسبيا عن القوى الامبريالية) وكذا مواردها النفطية. نحن هنا لن ندخل في تفاصيل وجزئيات ذات صلة بالحركة الجماهيرية الليبية العفوية قبل أن يصار بها الى حركة مسلحة عمودها الفقري هم مقاتلي الجماعات الاسلامية المتطرفة.
بالمعنى الاجتماعي الطبقي، هل كانت هناك ضرورات اجتماعية ومقدمات أزمة اجتماعية خانقة ساهمت في تفجر الوضع الليبي وخروج الجماهير الكادحة المستغلة (بفتح الغين) للمطالبة برفع التهميش والاستغلال الذي لحق هذه الجماهير. حسب علمنا لا شيء من ذلك كان سببا في الحركة الجماهيرية الليبية. ففي سوريا حيث القتلى يوميا وحيث النظام البعثي يقصف الشعب السوري بكل ترسانته العسكرية، في سوريا وهي كذلك تحت القصف يخرج المواطنون يوميا للتظاهر دفاعا عن مطالبهم في تغيير النظام وإسقاطه، وهو ما يستحق كل التحية والتقدير للمطالب المشروعة للشعب السوري.
في اليمن تجري تظاهرات يوميا مما يعني أن الشعب حدد مصيره واخذ زمام أمره بيده. في تونس ومصر كان نفس الشيء من التظاهرات حتى سقوط النظامين. في ليبيا، وحيث الناتو يؤمن المناطق الشرقية ل"الثوار" لم نرى في وسائل الإعلام وخاصة الجزيرة ذلك النفس التظاهري وذلك الحجم من التظاهرات التي لو حصلت لما ترددت قناة الجزيرة عن نقلها. كذلك بعد سقوط طرابلس لم نرى أية احتفالات بمئات الآلاف أو بالملايين؛ كل هذا يعني أن الشعب الليبي لم يقل كلمته بعد.
أما الكلمة التي ينبغي له قولها فهي الثورة الحقيقة على الناتو بما هو قوى امبريالية وعلى المجلس الانتقالي بما هو جزء من الاستبداد السابق وكذا الثورة على كل القوى ذات الصلة بالقاعدة. من دون ذلك سيصار بليبيا الى نوع من أفغانستان جديدة في منطقة شمال إفريقيا وفي ذلك خطر داهم. يمكننا القول بكل تكثيف: "هناك خطر أصولي ضلامي يحوم حول منطقة شمال إفريقيا ومعه سيسود الجهل والجوع والفوضى والفراغ وهذا ما تنزع إليه القوى الامبريالية ومحافظيها الجدد عرابي "الربيع العربي". لنتأمل ما ذا يفعل برنارد ليفي في هذا "الربيع العربي" وللحديث بقية.



#علي_أوعسري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات في المسألة الدستورية في ظل المتغيرات الإقليمية والوطن ...
- في نقد البيان الديمقراطي
- أية آفاق بعد إقصاء دكاترة التعليم المدرسي من نتائج الحوار ال ...
- في اعتصام الدكاترة العاملين بقطاع التعليم المدرسي: يوم مأساو ...
- في مخاطر الأزمة الليبية على منطقة شمال إفريقيا
- في إضراب دكاترة قطاع التعليم المدرسي تتكثف أزمة السياسة التع ...
- ملف دكاترة التعليم المدرسي بعد أسبوعين من الإضراب المفتوح
- استثناء الدكاترة من تسوية ملفات الفئات التعليمية وضرورة محاس ...
- في نقد إسقاط ما يجري في تونس ومصر من أحداث على الواقع المغرب ...
- في جديد و تعقد ما يجرى في تونس من أحداث
- في السؤال الثقافي: بخصوص تنامي وتيرة الدعوات والبيانات الثقا ...
- قراءة مركبة في أحداث العيون: رهانات وتحديات ما بعد مخيم أكدي ...
- بين تقرير اللجنة الأممية حول التمييز العنصري ومزاعم اختراق إ ...
- سؤال السياسة اليوم
- في المسألة اللغوية: أو الايدولوجيا في المسألة اللغوية
- توضيحات أخرى بخصوص ملف دكاترة قطاع التعليم المدرسي
- مخاطر الشعبوية وهي في قلب البرلمان: استقالة الرميد نموذجا
- توضيحات بخصوص تطورات ومآل ملف دكاترة قطاع التعليم المدرسي
- -فعاليات- الشعب المغربي في خيمة القذافي
- تبعثر الحقل الاجتماعي وأزمة علاقة النقابي والسياسي


المزيد.....




- السعودية.. أحدث صور -الأمير النائم- بعد غيبوبة 20 عاما
- الإمارات.. فيديو أسلوب استماع محمد بن زايد لفتاة تونسية خلال ...
- السعودية.. فيديو لشخصين يعتديان على سائق سيارة.. والداخلية ت ...
- سليل عائلة نابليون يحذر من خطر الانزلاق إلى نزاع مع روسيا
- عملية احتيال أوروبية
- الولايات المتحدة تنفي شن ضربات على قاعدة عسكرية في العراق
- -بلومبرغ-: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائ ...
- مسؤولون أمريكيون: الولايات المتحدة وافقت على سحب قواتها من ا ...
- عدد من الضحايا بقصف على قاعدة عسكرية في العراق
- إسرائيل- إيران.. المواجهة المباشرة علقت، فهل تستعر حرب الوكا ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي أوعسري - قراءة متأنية في تطورات الوضع الليبي وتداعياته الاستراتيجية