غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 3469 - 2011 / 8 / 27 - 23:28
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
في السياسةِ ، كما في الحربِ ، ثَمّةَ أشخاصٌ يصلونَ إلى أعلى المراتب القيادية من تحت السلاح. فهم لا يركبون إلى هذه المراتب وفق حسبهم ، أو نسبهم ، أو انتماءهم الطبقي، ولا حتى شهاداتهم العلمية ، بل يحتلّون مراكزهم بمواقفهم المبدأية وثوريتهم ووعيهم العميق بمبادئِ وأفكارِ حزبهم، وبكفاحهم ومثابرتهم وبسالتهم النابعة من التزامهم الأخلاقي، على الصعيدين الذاتي والثوري، و(أبو علي) من هذا النوع من القادة ، ففي كل سنوات حياتهِ كان حريصاً على التطابُقِ بين ممارساتهِ وأخلاقهِ ، بمثل حرصهِ الالتزام في السياسةِ بالمنطلقات الفكريةِ لحزبه .
وإذا كان الإنسان هو مجموع صفاته، فيمكن القول عن الشهيد القائد أبو علي مصطفى أنه تحلىّ بالصفات، التي يمكن من خلالها الحكم على مصداقية انتماء والتزام أي عضو في الجبهة الشعبية أو في أي حزب ثوري ، وهي صفات أخلاقية عالية، تتجلى في ممارسة قيم الصدق، البساطة والتواضع والتقشف والابتعاد عن الاستعراض، كما تميز أيضاً بالجرأة؛ المواجهة؛ الشجاعة المبدئية؛ والدفاع عن القناعات والمواقف، مستلهماً في كل ذلك سمات رفيقه القائد جورج حبش ، بمثل استلهامه للسمات التي تجسد السلوك الثوري والقيم الأخلاقية للكادر الجبهاوي، التي ركزت –وفق المنهج التربوي للجبهة- على تواضع العضو واستقامته وتفانيه ومثابرته ووعيه وانضباطه الحزبي ورفضه لأي شكل من أشكال الانحراف التنظيمي أو الفكري أو السياسي واحترامه لرفاقه، منطلقاً في كل ذلك من قناعته بمبادئ الجبهة السياسية والفكرية ، وموقفه من العمل الوطني والاجتماعي .
كان الشهيد (أبو علي) مثالاُ للمثقف العصامي الذي استطاع امتلاك مواصفات المثقف العضوي ، حيث امتزجت تربيته الفكرية والثقافية في الحركة والجبهة بالثقافة الشعبية المحببة غير المتعالية .
ففي العقدين الأخيرين قبل استشهاده، ارتقى وعي الرفيق (أبو علي) إلى حالة تراكمية من النضوج المعرفي الواعي بالماركسية ، إلى درجة أنه كان يؤمن تماماً بأنّ الهروب من تعبير الماركسية لدى بعض الأحزاب، هو هروب من التراث الماركسي كله، حيث أدرك أنّ التراجع عن الماركسية لحساب كلمة اليسار والمنهج الجّدلي، معناه أنّ البنية الثورية (السياسية والتنظيمية) ستتراجع بالضرورة، إذ لا يمكن موضوعياً، الحديث عن المنهج المادي الجدّلي دون الماركسية، وبالتالي، فإنّ الهروبَ من الماركسيةِ باسم المنهج الجدّلي، خُطَوةٌ تؤكد انتصار التيار الليبرالي البرجوازي الصغير، داخل الحزب الشيوعي أو اليساري من جهة، أو تَجسيدٌ للانتهازية الليبرالية أو لعدم الوعي بأهمية اعتماد الماركسية كشرطٍ للتعاطي مع المنهج المادّي الجدلي من جهة ثانية، إذ أنّ معنى تغييب وشطب كلمة الماركسيةِ من أدبيات هذا الحزب أو الفصيل اليساري أو ذاك ، يستهدف ليس إزالة الشكل أو الاسم فحسب، بل سيؤدّي –وهنا مكمن الخطر- إلى رخاوة وإضعاف مفاهيم النضال ضد الإمبريالية وحليفها الصهيوني، وضد كل أشكال الاستغلال والاضطهاد الرأسمالي من ناحية، وإزاحة مفاهيم الصراع الطبقي ومظاهر التبعية والتخلف والاستغلال الكومبرادوري في بلدان الوطن العربي من ناحيةٍ ثانية، إذ أنّ المنهج وحده سيفقد معناه وغايته إن لم يستند إلى النظرية بكل مكوّناتها الفلسفية والاقتصادية والسياسية وصراع الطبقات .
وفي هذا الجانب ، نستذكر رفيقنا الخالد جورج حبش ، بمثل ما نستذكر رفيقنا أبا علي والعديد من الرفاق، الشهداء منهم، والأحياء الذين ضحوّا وقضوا معظم سنوات عمرهم في سجون العدو في مقدمتهم رفيقنا المناضل الوطني والقومي الأممي أحمد سعدات، فقد ارتأى كل هؤلاء ومعهم العديد من القادة والكوادر أنّ مفهوم الثورة لا يتحدد معناه ومغزاه الحقيقيان ولا يكتسب عقلانيته إلاّ في الماركسية ومنهجها المادي الجدلي معاً، في إطار النضال الوطني والقومي ببعديه التحررّي والطبّقي الديمقراطي.
أما موقف الرفيق (أبو علي) وقناعاته الذاتية والموضوعية بالماركسية ، فقد أوضح هذا الموقف في مقابلته مع فضائية الجزيرة (أيار/مايو 2000)، رداً على سؤال مقدم البرنامج حول أزمة الجبهة وموقفها من الماركسية فقال " إننا نقرّ بأنّ هناك إشكاليات على صعيد البنية التنظيمية، وعلى صعيد البنية الفكرية والسياسية، وتحتاج إلى معالجة، نحن لا نهرب من الأزمة، وإنمّا نواجه الأزمة، ونواجهها بأسئلةٍ موّجهة للذات كمعنى بنيوي، هذا الأمر واضح لنا، ونحن نصارح أنفسنا فيه بمنتهى الشجاعة " ... أما بالنسبة للماركسية فأقول: " نعم نحن لا زلنا نعلن عن أنفسنا أننا ننتمي إلى عالم الماركسية كنظرية علمية، فالماركسية ملك للبشرية، وسيظّل مضمونها وجوهرها النقيض للرأسمالية وكل أشكال الاستغلال والاضطهاد، هو المحفز لشعوب العالم الفقيرة في الخلاص من شرور الرأسمالية ... وبغض النظر عن كل الذي جرى في العالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، ستظل الماركسية هي المرشد بالنسبة لنا في الجبهة في كل مسيرة نضالنا في المرحلة الراهنة كما في المستقبل .
إنّ إيمان (أبو علي) بمبادئ الجبهة من ناحية وبالإنسان عموماً ، وبالإنسان الفلسطيني والعربي خصوصاً ، هو الذي دفعه إلى التمسك بالمشروع الماركسي وترابطه الوطيد بمفاهيم التحرر الوطني الديمقراطي على صعيد فلسطين والوطن العربي .
في الذكرى السنوية العاشرة لاستشهاده ، نستذكر رفيقنا الغائب الحاضر ونقول بفخر "ليس محل شك أنّ (أبو علي مصطفى) هو الفلسطيني الوحيد ، ويكاد أن يكون العربي الوحيد، الذي يصبح فيه عاملٌ فقير ٌأميناً عاماً لحزبٍ سياسي ، وتكشف هذه الظاهرة الممتنعة النادرة في بعض عبارتها الفكرية الثقيلة عن : فك التباسٍ حقيقي بين مفهوم الطليعة ومضمونها الطبقي. لقد بقى هذا الالتباس مشروعاً ومبرراً في نظرية الانسلاخ الطبقي، فقط على يد (أبو علي مصطفى) استحال مفهوم الطليعة طبقياً خالصاً ؛ بل طبقياً حاراً ومباشراً دون انسلاخات طبقية" وما أحوج جبهتنا الشعبية اليوم ، إلى بلورة وتحقق مفهوم الطليعة، عبر سياقه أو وعاءه الطبقي الطبيعي وأقصد بذلك الشرائح الفقيرة والكادحين من العمال والفلاحين .
كما نفتخر أيضاً ، بأن رفيقنا الشهيد القائد أبو علي تميز بشخصيته الجمعية المقتّدرة متعددّة المعاني والأبعاد ، والباحثة عن كل ما هو جدّي وخلاق في حياة الوطن والحزب والناس ، والمفعمة بالصدقية والمبدئية والنزاهة والجدّية وطول النفس ، والحاضنة الخصيبة الدافئة للآراء والاجتهادات .
وارتباطاً وانعكاساً لهذه السمات ، لم يكن صعوده على رأس الجبهة، خاضعاً لأي تساؤل ، بل كان صعوداً ديمقراطياً بما يشبه الإجماع ، وليس من المبالغة القول أنّ هذا الصعود كان متعالياً على أية "تناقضات داخلية " ، أو لنقل "مجموعات شللية أو تكتلات شخصية أو محاور اجتهادية، هي غالباً ما تلعب الدور الرئيس، داخل فصائلنا وأحزابنا ومجتمعاتنا في تحديد رأس الجماعة لأسباب متنوعة؛ أهمها التخلّف في الوعي وضعف المصداقية الثورية. بالطبع كان صعود رفيقنا (أبي علي) نقيضاً لكل مظاهر التخلّف أو الأزمة الداخلية ، وكان صعوداً منسجماً مع طبيعة البيئة التنظيمية والفكرية الداخلية للجبهة التي تحتكم لمعايير الكفاءة والموهبة والاقتدار في صياغة المسؤليات القيادية ، وهذه المعايير التي لم تزل حتى اللحظة مُحَددّاً أولياً في وثائق الجبهة ونظامها الداخلي ، هي ما يجب أن يُعَوّل عليها لاستيعاب وتجاوز الأزمة الراهنة صوب النهوض، وهي إمكانيةٌ قابلةٌ للتحقق، إذا ما توفرت عناصر الوعي العميق بمبادئ الجبهة وأسسها التنظيمية وهويتها الفكرية الماركسية ومنهجها .
إنّ المسار النضالي ، الفكري والسياسي والكفاحي لرفيقنا الخالد (أبو علي) ، محمولاً بكل سماته الشخصية الأخلاقية ، ومواصفاته الثورية، ومصداقيته العالية، وقناعاته النابعة من وجدانه وعقله الشغوف بفكر جبهته وهويتها ومبادئها ، تجلّت بعد عودته إلى أرض الوطن عندما أطلق شعار " عدنا لنقاوم لا لنساوم" ، وفي ظل تطور وتنامي دور الجبهة ، واستعادتها لبعض عافيتها وشعبيتها وجماهيريتها، أدرك العدو حجم المخاطر، التي يمثّلها مثل هذا القائد، ليس فقط لما قام به من جهودٍ كبيرة على صعيد أوضاع الجبهة الشعبية؛ بل لما لعبه من دورٍ إيجابي على صعيد وحدة النضال الفلسطيني ، الأمر الذي جعل رأس الدولة الصهيونية، يتخذ قراراً بتصفية هذا الرمز والقائد الفلسطيني، مراهناً بذلك على تفكك الجبهة.
ولكن جاءت التطورات اللاحقة لتثبت بالملموس، أنه على الرغم من الخسارة الكبيرة، التي منيت بها الجبهة بفقدان هذا القائد الكبير، إلاّ أنها استطاعت أن تحافظ على بنيتها ، ونتقدم بخطوات إلى أمام -خاصة في الوطن المحتل- على طريق استردادها لدورها وفعلها، على الرغم من كل الظروف المجافية من حولها وفي محيطها العربي والإقليمي والدولي .
يقول غسان كنفاني في قصة "المدفع": "كم هو بشعٌ الموت، وكم هو جميلٌ أن يختار الإنسان القدر الذي يريد".
اختار (أبو علي مصطفى) قدره عندما اختار طريق النضال، ولأنّ (أبو علي) اختار قدره، فقد اختاره القدر ليكون قائدا قدوة في التطابق الخلاق بين الفكر والممارسة ، كما في النضال والتضحية.
سيرة (أبي علي مصطفى) ودوره في مجرى العمل الوطني الفلسطيني. لا تستحق أن تدّرس فقط لتُخَلدّ في ذاكرة الأجيال، بل تستحق أن تدّرس أيضاً لأنها ، "تنم عن السبب الذي حمل صانع القرار (الإسرائيلي) على تصفية صاحبها. وهي في أي حال سيرة رجل امتزجت حياته الشخصية امتزاجاً كاملاً بالحياة العامة فقدمت إيجازاً بليغاً لمسيرة العمل الوطني الفلسطيني منذ العام 1948".
إنّ فقد الساحة الفلسطينية لـ(مصطفى الزبري) يشكّل خسارةً لن ينفع التعزّي في التقليل من حجمها. أما وقد وقع ما وقع، فللجهود الرامية إلى التعويض أن تتجّه في اتجاه تقليل تأثير هذه الخسارة على الجبهة وعلى مجمل العمل الوطني. والأمل في هذا المجال معقودٌ على استمرار النهج الذي اختطه القائد الراحل.
وإننا إذ نحتفل اليوم بالذكرى العاشرة لاستشهاده ، لنستلهم من تجربته بوعي واحترام عميقين دروساً وعبراً، ونؤكد أيضاً على الرغم من كل مرارة اللحظة الراهنة- أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، هذا الحزب الذي ترعرع في أوساط الجماهير الشعبية وضم في صفوفه الكثيرين من خيرة أبنائها وطلائعها، سيظل وفياً لمبادئه وتضحيات أبنائه ، وفي المقدمة منهم (أبو علي مصطفى) ، الذي ظل ملتزماً بمبادئ الجبهة وهويتها الفكرية ، الماركسية ومنهجها المادي الجدلي ، في صيرورة تطورها وتجددها الدائمين في كل مسيرة حياته النضالية، حتى لحظة استشهاده وخلوده الأبدي .
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟