أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - الانتماء المغاربي لسعدي يوسف ( قراءة في نصوص الشمال الإفريقي)















المزيد.....



الانتماء المغاربي لسعدي يوسف ( قراءة في نصوص الشمال الإفريقي)


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 3463 - 2011 / 8 / 21 - 18:20
المحور: الادب والفن
    


يمثل سعدي يوسف نموذجا شعريا فريدا في خارطة الشعر العربي الحديث من حيث إنه الشاعر الذي خبر جسر المقامات في البلدان العربية من مشرقها لمغربها، ورصد أحداثها الصغيرة والكبيرة على نحو يسمو بها نحو الشمولية وتجاوز خصوصياتها المحدودة ودلالاتها العابرة إلى التعبير عن رؤية كلية تحمل في طياتها اشتباكا عميقا مع قضايا الإنسان بصرف النظر عن ممكنات سياقاته أو انتماءاته المحدودة.
والإرث التاريخي – الجغرافي لسعدي يوسف من هذه الزاوية جعله يتملى تضاريس أرض تمتد امتداد الرغبة في الرسو على حافات العالم، ويصغي لأصواتها كأنما يسلم لها قياده، تبدأ من الألم النازف الذي يسكنه ويتعقب آثاره من فجر أبي الخصيب إلى كل الألم الطائف الذي رافقه في محطات ترحاله، وظل خيطا واصلا أو فاصلا يشده إلى الأصل ومتعة الجذور، رافعا رايات غربته التي تضغط بهواها على سواحل الحنين، الشرفة الوحيدة التي يتأمل عبرها رائحة الوطن ويشعل النجوم في سمائه ليقترب من دفئه ومن رصيف الجذور المتناثرة المبثوثة في كل جهات الأرض.
تباغتنا هذه "الجغرافية" المورفة في شعر سعدي يوسف والتي تسكن قصيدته وتحرك مياهها نحو البعيد ونحو الأعمق، حيث الذكريات العريقة ترسم خطواتها وتفوح دهشة أو خوفا أو بهجة أو أملا أو ظلمة تهوي في عماء العمر حيث تمضي الفاجعة محملة بالرعب وشظايا الصراخ الذي يعلو ويقطر في كل خطوات يخطوها سعدي نحو الوطن البعيد.
لذلك أحيانا كثيرة قد تسعفنا القراءة التاريخية لاختراق تمثلات وتمايزات النص الشعري لدى سعدي واختزالاته وفضاءاته، لأنه بكل المعاني نص يتحقق في التاريخ ويبني حقائقه وصوره ولغته وأشياءه من لحظة استيعاب فائقة وفريدة تتعالى عن السطح وتنفذ إلى الأعماق لتستنفر جمراتها وكائناتها الثاوية وتلقي بها في قبضة الشعري وامتداداته،وتتحول إلى أطياف ورموز وأصداء وارتعاشات لغة تهبط قعر التاريخ والمكان وتقتنص دوالهما لتشيد منها الحلم والأسطورة والصور الناطقةبكل الأسماء والأشياء، ويفرض علينا هذا الوضع في الواقع دورا مضاعفا لاكتشاف قصيدة سعدي وسبر أغوارها ولحمتها التاريخية المثقلة بسياقات شتى وبألوان من التجريب المتجدد الذي يبحث باستمرار في حقل استبطان الأسرار المودعة في إيحاءات اللغة وبراءتها وبساطتها، ففي كل لحظة يتدفق فيها التاريخ وتتوالى اندفاعاته، وتتوزعها جاذبيات ينابيع مشتتة تقترب من الفتنة وتفتح باب الدخول في مواسم أخيلة تسع الأرض والقيم ولا تتعب من الوقوف على كل شفق يستعيد عاداتها وطقوسها، وخط الرحيل الموشى بالمنافي والخيبات والثورات المهزومة التي لا يبقى من وهجها غير الدخان.
يبدأ التاريخ خطوته من السماء الأولى، أرض الميلاد، ليواصل طريق المعاناة ويقتفي المرارات، وفي كل لحظة بعاد أو نأي عن هذه السماء تبدأ سيرة جديدة لسعدي يوسف تفتح أفقها الخاص للحياة، للقسوة، وللبوح المتجدد.أكيد أن ثقل الأرض الأولى سيظل فيضا مشعا يلاحق الخطوات ويبني معالمها وملامحها، لكنه في الوقت ذاته يفسح الطريق لأن تولد على ضفافها ملامح تعبر الأفق الأكبر المغرق في الرحيل والتيه والحرمان وانعدام الأمان.
ومن هذه الزاوية يتأتى لنا القول إن سعدي يوسف شيد خط تاريخه أو قصيدته على تضاريس وفضاءات جغرافية شاسعة تمتد امتداد ارتحالاته التي حاصرت حياته، وهذا ما منحه على ما يبدو تلك القدرة الفائقة والبراعة على صهر خصوصيات المكان المتعدد المختلف في سياق شعري منتظم وإدراك أكثر اقترابا من جذوة الاستيعاب والقبض على القواسم المشتركة الفاعلة التي تؤجج حميمية الارتاط أو التعلق بمكان ما موجود وآخر مفقود، وبتاريخ يتوسله الحنين نحو فلك البدايات. إنها تجربة قاسية فعلا، أن يجد المرء نفسه في مواجهة المنافي المتناسلة المتجددة التي تغتال الظلال القديمة وتهوي بمعاولها على كل لحظة أمان محتملة،لكن سعدي جعل منها فعل حياة ومغامرة وممارسة وطد عبرها مقومات وجوده وخصوصيات قصيدته وظل يعزز باستمرارأفق خلق واكتشاف واقتناص أبعاد جديدة توجه لغته وصوره ومدركاته ومواده الشعرية الخام.
إن سعدي يوسف يتجاوز هنا عقبة التجريب لمستوى الاحتفاء بالواقع ومواجهته والتصدي لكل إحباطاته وإكراهاته وتجاوز انتكاساته المدمرة، وبذلك رسخ انتماءه الشمولي لكل سعة أو ضيق "المكان المتعدد" الذي عانقه، واستظل بإغراءاته ومتاهاته، ووقف أمامه يتأمله ويحاول أن يطبعه بصمته ولوعته ويقينه وتوتره وخوفه وقلقه وإصراره على المضي قدما في طريق المواجهة والبقاء، وتكريس إيجابيات الهدم والبناء وإعادة البناء، وإعلاء القدرة على استثمار وصياغة وتدبير خصوصيات جمالية جديدة تمارس فعلها ودورها في بناء الشعري والدخول إليه من منافذ ومداخل أخرى، وهو ما يضع قصيدته في صلب اشتغال صعب دائم ومرير على حافات الوعي بالمكان واحتواء تقلباته واستيعابها وتعميق دورة الإحساس به،والتملي بتضاريسه الخفية والظاهرة المحملة بالهموم والأحزان والآمال والآلام والأفراح ولحظات الانبعاث والبحث عن سياقات التفرد وصناعةالدهشة والإعجاب، ليكون ذلك السبيل الطبيعي إلى معرفة الوجود والاقتراب من أسراره. وتحولات المكان،من هنا، لا تلغي بذرة الانتماء وإشعاعاتها، بل تنفخ فيها من روحها، وتمنحها أبعادا جديدة لتزيدها ثراء وتشحنها بإيقاعات جديدة مفتوحة على امتدادات لا نهائية وانبثاقات متجددة تغري القصيدة باستمرار.
إن خارطة انتماءات سعدي يوسف شاسعة ورحبة رحابة ارتحالاته، وهي بعدد منافيه الكثيرة، وتعكس في الواقع مظهرا لهوية فيض شتات من الرحيل ومن الضياع ومن الصمود في وجه الأعاصير ونوبات الزمن وتقلباته،كما تعكس في الآن ذاته مظهرا للحرية والإبداع المتجدد الذي من المفترض أن تتغير مقوماته مع التغير الدائم للإقامات، وهذا هوالعامل البارز الذي يؤسس لخصوصية القصيدة لدى سعدي، ويعضدها بقوة لامتلاك آفاق وإمكانات تعبيرية وجمالية متغيرة ومغايرة، كما يتولى تحريضها على الاغتراف من عوالم جديدة تستمد منها موادها ولغاتها. لذلك يبني سعدي اكتشافاته واستشرافاته ووقائعه على هذا الانتماء المتعدد الذي يراكم قناعاته ورؤاه وتصوراته وطرائق الاشتغال على إنجاز قصائده ، وحمله على تأصيل العلاقة بينه وبين المكان وبين كل تجاربه وخبراته القائمة والممكنة، فالمكان بالنسبة إليه لا يحمل هوية متعالية، ولكنه جزء من سيرته واستمرار لعمليات الكشف والحفر عن الكائنات البسيطة الصغيرة الكامنة في تحققاته،" إنه حمال أوجه وأزمنة ومعان، يعيد المجرد إلى ملموسيته المفتقدة ، ويمنح المرء امتياز التقري والتملي والتأمل في آن."(1 ) ومن ثم فإن كل مكان يفتح الباب واسعا أمام تحول مجرى القصيدة واتساع أفق التفكير في بنائها وتنظيم وترتيب صورها ودلالاتها،كأن هذا الرحيل الدائم في متعة المكان، وقهره أيضا، يحرر القصيدة من تقاليدها ومن انكفائها وانغلاقها.
ولأن المكان له هذا الدور الفاعل والبارز في خلق وتشكيل القصيدة ومنحها كينونتها وهويتها فإن سعدي يلجأ عادة إلى إجراء وصل كل قصيدة وربطها بالمكان، مكان محدد، ربما حماية لها من أي مكان آخر.بل إن شعره كله ينطق بهذا التعلق الراسخ بالمكان ومنه يستمد بعض مقومات ومعالم وجوده، ومن ثم كانت أغلب مجموعاته الشعرية ترتد إلى المكان كمرجع وحيد، ومن السهولة ملاحظة هذه الخاصية كما تتجلى عبر هذه العناوين: قصائد بيروت، قصائد باريس، قصائد العاصمة القديمة، قصائد نيويورك، الديوان الإيطالي ( قصائد إيطاليا) وأخيرا قصائد (نصوص) برلين، علاوة على أن كثيرا من المجموعات أو النصوص الأخرى ذات حمولات مكانية غير خافية: بعيدا عن السماء الأولى، نهايات الشمال الإفريقي، تحت جدارية فائق حسن، يوميات الجنوب، الينبوع، جنة المنسيات، حانة القرد المفكر، يوميات أسير القلعة، ديوان شرفة المنزل الفقير، في البراري حيث البرق.. فجميعها تحيل إلى المكان في تجلياته المختلفة، وهذا مؤشر واضح على أن للمكان، في محدوديته ولامحدوديته، انفتاحه أو انغلاقه، سحره الخاص ودوره العظيم في بناء القصيدة والاشتغال على موادها وصياغاتهاالممكنة، ومن هنا أيضا نلاحظ حرص سعدي عبر مساره الشعري على تقنية التأريخ لكل قصيدة من جهة مكان وتاريخ ميلادها، وهو إجراء لايمكن إدراك مغزاه إلا من زاوية أنه المنبيء أو المحيل إلى حقيقة القصيدة ودلالاتها الكبرى التي لا تظهر إلا بمقدار ما يتم ربطها بسياقات المكان والزمن معا، فذلك ما يميزها، أي انتماؤها إلى مكان معلوم، وإلى لحظة زمنية معلومة. ويحق لنا القول انطلاقا من هذا إن شعر سعدي يوسف هو شعر مكان، أو أمكنة، لا يكاد ينعتق من سطوتها، وهو ما يرعاه كوحدة متماسكة، مهما تخللته أو اعترته الكثير من مظاهر التجريب والاختلاف.
وأبرز الفضاءات أو الأمكنة التي تركت آثارها وبصماتها التاريخية والجمالية على تجربة سعدي يوسف فضاءات الشمال الإفريقي بمغاربه الثلاثة: الجزائر، تونس، والمغرب، وهو أمر طبيعي وبدهي لأن سعدي يوسف استقر بالجرائر لمدة سبع سنوات بين 1964 و1971 ، كما استقر في تونس بعد ذلك لبعض الوقت قبل أن يغادرها مرغما لما شعر بالخطر الذي يتهدده، ورأى أن المكان لم يعد مناسبا له.(2) أما المغرب وإن كانت إقامته به لا تتعدى مواسم عبور، فإن حضوره ربما كان الأقوى في نصوصه(أرى أن المغرب هو أرضي، هو بيت أبي حيث حريتي الطبيعية.)( 3) .
والانسياق وراء البحث عن تجليات حضور هذه الفضاءات في نصوص سعدي أمر قد لا يسلم من المغامرة، لأن التجلي المحتمل لا يأخذ بعدا واحدا أو يسلك طريقا معينة، أو يرسو على شكل ثابت وإنما يتوالد وينمو ويظهر ويختفي بأكثر من شكل وأكثر من صيغة وصورة، وأكثر من لغة، ويتحرك داخل النص وطبقاته بحيث يصبح متعلقا بكل قصيدة يستوطن أفقها من خلال مستويات عدة تتداخل فيها آليات الجمع بين المجرد والمحسوس والمرئي واللامرئي والممكن والمحتمل والمتخيل وحل أوجه التآلف أو التخالف بينها، والسمو بالدلالات إلى أبعد من المعاني المقفلة على نهايات محددة، أي أن حضور المكان هو في وضعية لا تهدأ من الحركة والتجلي والتحول الدائم والتلون ويندرج ضمن تقاطعات شتى متداخلة تؤسس لعلاقات إدراكية ومعرفية خاصة توجه سياق الدلالات والرموز والإيحاءات، والملامسة السطحية لهذا الحضور قد لا تقود إلى أية حقيقة، الأمر الذي يفترض التوغل الممعن والحفر في تضاريس الإيماءات والإشارات الخفية التي لا تفصح عن ذاتها من خلال اللغة بالسهولة المنشودة، يعني هذا، أيضا، أن البحث في هذا المسعى يجب أن ينظر إلى التجربة في شموليتها كسياق من التجريب والإبداع المتكرر، يعيد ترتيب فوضاه ومواده وعناصره الأولية في كل مرحلة عن طريق ابتكار وسائل وأدوات جديدة لاحتوائها وتحصين دواعي استمرارها وترسيخ متغيراتها.والرهان هنا على أن حضور المكان وتجلياته لا يثبت على حال وإنما يتحرك في امتدادات النص وثناياه ولا يعلن عن نفسه باستمرار بل يلتف بأشكال انسراب متعددة في أعماق القصيدة ومفازاتها يمزج فيها بين الصوت والضوء في ما يشبه المخاطرة بالدلالات والقذف بها في قعر من التأويلات والأبعاد والتخييلات التي لا قرار له.
وتحضر فضاءات الشمال الإفريقي في نصوص سعدي يوسف من خلال هذه الصيغ أو التصنيفات:
1- قصائد تحيل إلى هذه الفضاءات من خلال الإشارة إلى مكان وتاريخ كتابتها أو ميلادها، والتي يمكن توزيعها كالتالي:
- نصوص الجزائر: وتتعلق بالفترة التي قضاها سعدي بالجزائر ابتداء من سنة 1964، وتتوزع كما يلي: نصوص الجزائر.(العاصمة) وتضم حوالي 32 قصيدة، نصوص سيدي بلعباس وهي خمس قصائد، نصوص باتنة وتضم 20 قصيدة، ونصوص أخرى تقوم على ازدواجية المكان، وهي نصوص "الجزائر – سيدي بلعباس" وعددها ست قصائد، ونصوص "الجزائر – وهران" وهي قصيدة واحدة، ونصوص "سيدي بلعباس – مالقا" وهي قصيدة واحدة كذلك.
2- نصوص تونس.وتشمل حوالي 13 قصيدة
3- نصوص تحيل بصيغة مباشرة إلى هذه الفضاءات من خلال عناوينها، وقد لا يرتبط مكان ميلادها أوكتابتها بالضرورة بهذه الفضاءات: إليك أيتها الجزائر. نهايات الشمال الإفريقي. نافذة في المنزل المغربي. مزرعة الزاهي محمد. أوراق من ملف المهدي بنبركة. قصيدة مديح إلى مؤرخ مغربي.باتنة.سيدي بوسعيد. مشرب جزائري.نابل في الشتاء. مغربيات سبع.قصائد طنجة...
4- نصوص لا تحمل أية إشارات مباشرة من خلال عناوينها، أو مكان ميلادها، لكنها تتأسس على استثمار هذه الفضاءات بشكل أو آخر: تنويعات استوائية. انتهاءات.البستاني.العمل اليومي.أبيات.الواحة.مجاز وسبعة أبواب. مسودة أولى. المتاهة.Repondeur...
5- نصوص تحيل إلى هذه الفضاءات من خلال عتبات الإهداء وهي قصائد: الرماة ( إلى ابن خلدون). إلى عبد اللطيف اللعبي. إلى بشير قهوجي. المقبرة البولونية ( إلى محمد شكري).
6- نصوص الأخضر بن يوسف باعتباره شخصية مغاربية أصيلة تسمى سعدي يوسف باسمه، واتخذه قرينا وقناعا، وهي سبع قصائد: الأخضر بن يوسف ومشاغله، حوار مع الأخضر، عن الأخضر أيضا، كيف كتب
الأخضرقصيدته الجديدة. أوهام الأخضر بن يوسف.انغمار. رسالة أخيرة من الأخضر بن يوسف.
ويمكن أن نضيف أو نلحق بها قصائد لا تخلو من خيوط تماس مع هذه الفضاءات، هي القصائد التي يمكن وصفها بالأندلسيات وهي : تخطيط أولي عن حصار غرناطة. ساحة اسبانية. غرناطة. عبور الوادي الكبير.
يهيمن حضور هذه النصوص بصورة رئيسية على هذه المجموعات:ديوان قصائد مرئية: نصف قصائده نصوص الجزائر وسيدي بلعباس.ديوان: بعيدا عن السماء الأولى: وكل نصوصه،على العموم، هي نصوص الجزائر.ديوان نهايات الشمال الإفريقي و يضم خمس قصائد. ديوان الأخضر بن يوسف ومشاغله ويضم قصيدتين.( ولو أن عنوان المجموعتين يرجح الأولوية والغلبة للشمال الإفريقي) .ديوان: من يعرف الوردة ويحوي قصائد باتنة وأربع قصائد كتبت في الجزائر، ونصوصه جميعها جزائرية. ديوان: خذ وردة الثلج خذ القيروانية ويضم قصائد تونس، إضافة إلى قصيدتين تضمنتها مجموعة قصائد باريس، وأخرى ضمن جنة المنسيات.
لا يعني هذا أي حصر لدائرة حركة حضور الشمال الإفريقي في تجربة سعدي، إذ إن قراءة فاحصة لنصوصه ستطلعنا على مجاري تنوع وتنويع في استثمار فضاءاته، وليس من الضروري أن تكون أسيرة هذه المجموعات وألا تتجاوزها لسواها، ومن ثمة فإن دلالة البعد الكمي أو الحصر هنا إجرائية أكثر مما هي حاسمة في تحديد مناطق النفوذ أو حقول الاستثمار التي توظف فيها الإشارات الدلالية والرمزية المرتبطة بتلك الفضاءات.
ويجوزالقول بناء على هذا إن حضور الشمال الإفريقي في تجربة سعدي يوسف ارتبط بمنحى التحول والمنعطف الكبير الذي رسمه في شعره انطلاقا من مجموعة "قصائد مرئية" وهو التحول الذي قاده إلى القبض على أسرار عالمه الشعري، والتمكن من السيطرة على جهاته وتوجهاته، واستطاع أن يشيد على معالمه تجربته ويقودها نحو الاتساع والتميز والنمو المطرد،والنصوص التي اشتغل فيها سعدي على "أشياء" و"عوالم" الشمال الإفريقي هي التي فتحت أمامه طريق تطوير أدواته ولغاته وصوره وإيقاعاته ومواقفه، وآزرته على تحصين عناصر الاستقلال الكلي بطريقته في بناء القصيدة وصناعتها، أي أنها حاملة لجهد مضاعف في مجال التجريب ومجال تخصيب الدلالات والتوغل بعيدا في استثمار محتملات الشعري واقتناص مجاهيله، من هنا كان خروجه لضاحية الألفة واكتشاف عناصر الدهشة والتقاط البساطة في سيرورة الوجود والأشياء، وقراءة الواقع من منظور أكثر واقعية وأعمق فاعلية وأنفذ إلى أغواره للرسو على حقيقته، ومحاولة استدراج الوقائع وتوظيفها ضمن أبعاد جديدة في صور أفعال وحقائق تومض من بعيد، وتشتعل متسامية عن حرفيتها وسطحيتها لتكتسب معالمها الرمزية، وتجسيد طاقاتها الإيحائية بقدر كبير من المهارة التي يمارسها سعدي ليجعل منها طقسا شعريا بهيا وخاصا، ويتقدم في تجربته نحو الأسمى وتطوير وتثوير أشكال التعبير وأدواته. ولذلك ارتبط هذا الحضور بتحولات جوهرية في قصيدة سعدي على مستوى الشكل وعلى مستوى الإيقاع وعلى مستوى الموضوع، إذ عزز معالم الانعتاق من سلطة نير البدايات وترسباتها وعثراتها، وترسيخ آليات التنظيم الصارم للقصيدة دون أن تفقد تلقائيتها وعفويتها، والتجريب في دائرة الشكل والإيقاع عن طريق المزاوجة بين الإيقاعات المتعددة من جهة،والأشكال المختلفة من جهة حيث تتعانق القصائد القصيرة و القصائد المركبة، ويؤازر عمران القصيدة القديم هندستها الجديدة، ونسجل في هذا الباب أن قصائد باتنة، مثلا، في أغلبها هي قصائد قصيرة، بينما أبرز قصائد المرحلة برمتها تنحو نحو التركيب، هذا إضافة إلى أن سعدي أسس لعلاقات جديدة بينه وبين اللغة وطور بعض خصوصياته في مجال "تسريد الشعر" وتعميق البعد الدرامي، والتقاط التفاصيل كأداة استبطان واكتشاف، لينجز نصوصه الجديدة ضمن خصوصيات جديدة تتعايش فيها كثير من العناصر التي ترعى تناغمها وتوازناتها وسماتها المميزة.
وتزامن هذا الحضور كما هو معلوم مع بدايات غربة سعدي واغترابه وبعده عن السماء- الأرض الأولى، وهو عامل قوي آخرساهم في تعميق مسار هذا التحول والتغير الجذري الذي لحق قصيدته، وقادها إلى اقتحام حقول دلالات عميقة غامضة ومتفجرة تستغرق حدود المفارقات المفجعة بين واقع الانفصال عن الوطن والانسلاخ عن الجذور، وواقع المنفى الذي لا ينسج غير خيوط من تيه، حيث الجروح القديمة تفتت الخطوات وتبني قببها في مفترق طرق لا يؤدي إلا إلى أفق من سراب يفتح الباب للمعاناة والإحساس الخانق بالضياع والحرمان واللاجدوى، وبذلك تضافرت له خلال هذه المرحلة عوامل وعناصر وموارد خصيبة وينابيع وظلال متباينة تجمع بينها بؤرة الإحساس العميق والعنيف بقيمة وحرقة الانتماء ومرارة وقسوة الاغتراب، ونجح في توظيف كل هذا في اتجاهات التعلق بالوطن وفجيعة الانفصال عنه،وتوطيد أواصر حميمية مع الأرض الجديدة، وتقاليدها وأعرافها ولغاتها وهوائها ومائها.
مع ذلك تنبغي الإشارة إلى أن حضور الشمال الإفريقي وقضاياه في شعر سعدي يوسف يعود إلى ما قبل هذه المرحلة أي قبل هجرته للجزائر سنة 1964، فهناك عل الأقل ثلاث قصائد اشتغلت على هذه القضايا وترتبط بأوضاع الجزائر السياسية في العقد الخامس من القرن الماضي، أولاها كتبت 1956 بعنوان :"إلى أحد الجزائريين الخمسة" (51 قصيدة) (4)وهي قصيدة وفاء للمقاومة الجزائرية وقادتها الخمس، أما الثانية فهي بعنوان"مرة أخرى أيها الفرنسيون" (1958) (51 قصيدة)(5) وهي صرخة ونداء إلى الشعب الفرنسي وإلى فرنسا الثورة والجبهة الشعبية لوقف سيرة القتل والقتلة، ووضع حد لمواسم الخيانات والمقصلات التي تقتات من الاحقاد وأسرارها الدموية، والتي تتعقب عنق "جميلة"( بوحيرد)، أما الثالثة فهي بعنوان " إليك أيتها الجزائر"(1962)(نهايات الشمال الإفريقي)(6) وهي تحية تقدير وإجلال للثورة الجزائرية وانتصاراتها الكبرى، الثورة التي ركزت في الأعالي راياتها وتتقدم من تخوم الجنة الحمراء وجعلت من كل العالم ثورة. وحضور الثورة الجزائرية بهذا البعد ليس غريبا لأن سعدي عانق وآمن مبكرا بقضايا الثورة والحرية وبالفعل الثوري والكفاح من أجل مستقبل يرسم طريق الممكن المستحيل. وبقدر ما يحمل هذا الحضور أبعاده الثورية والنضالية يحمل كذلك بعده الإنساني والقومي حيث عانق سعدي في هذه المرحلة قضايا الإنسان وكفاحاته في كل مكان،وراهن على كل الحركات الثورية التحررية لتؤسس لعالم اكثر إشراقا وعدالة وأمانا وتعانق الشموس الحمراء في كل الأرض.
وسنحاول أن نراود هذه النصوص ونطرقها طرقا خفيفا في محاولة للاقتراب من دويها ومن بعض سماتها العامة، وفق هذا الترتيب:
1 – نصوص الجزائر:
تتوزع نصوص الجزائر(العاصمة) من الناحية الزمنية مابين 1964 و1971 ثم 1979، يشير بعضها من خلال عناوينها بصورة مباشرة إلى واقع الجزائر وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أو فضاءات الشمال الإفريقي على وجه العموم، منها مثلا قصيدة "لمحات جزائرية"( قصائد مرئية) (7) وهي تضمر على ما يبدو محاولات استكشاف عمق الجزائر وسبيل الذهاب الآمن إلى حبها، والاستئناس بفضاءاتها، وهي من أربع لوحات يسكن اللوحة الأولى عبق المكان:مقهى على البحر، ووشوة الفراغ الهامد، وبكاء سيدة وحيدة يتردد صداه في خليج الصمت والغسق الصيفي والبحر والمقهى.، بينما اللوحة الثانية تتغنى نشيد الأمل والحياة الجديدة والتفاؤل بنسائم الفرحة التي ترفرف على سطوح الريح وتداعب قميص العامل الأزرق وخطوات الطفل الغريرة، وعشب البحار وكل الساحات والبيوتات، حيث الأفق يلبس ألوانه الثلاثة: الأخضر والأبيض والأحمر. أما الثالثة فهي مشهد يقتنص دورة ظلال القمر التي تتسلل عبر أغصان صنوبرات التل وتضفي عليها بهاءها لتشيد منها شرفة ونافذة من أغصان تفتح مدى البصر على مرفأ غائم في البعيد، وبحر سماوي ونوارس تهبط في بستان نائم دون أن تثأر منها العيون. أما المشهد الأخير فيفتح باب الانبعاث والحياة المتجددة: تولد الساحة، وتملأ باحاتها همسات العشاق و دوي الأشعار.
وقصيدة رسائل جزائرية( بعيدا عن السماء الأولى)(8) التي هي عبارة عن رسائل قصيرة مكثفة ومشحونة إلى حد كبير بفورة الإحساس بالغربة والضياع والاقتلاع، حيث الساحة والكون مقفر، والتعب مطبق، والمرافيء مطفأة ولا مرسى غير الحانة، وحيث الميلاد والموت في جحيم الغربة يتجدد كل لحظة وكل ساعة.
وقصيدة "نافذة في المنزل المغربي"( بعيدا عن السماء الأولى)(9 ) التي تبني كيانها الدلالي على نحو أقرب إل التجريد، حيث الخطاب يطفح بلوعة الأسى والحسرة والشوق، يتعانق فيها الزمن والمكان ويلتحمان متجهين معا صوب حركة الماضي يسائلانه بقدر ما يرعيانه، وفي هذا التشابك يلتبس الخطاب حيث المخاطب المؤنث: أنت/ هي، يفسح المجال لاحتمالات أو تأويلات مختلفة، فقد يتعلق الأمر بالنافذة ذاتها التي يتحقق حضورها في المنزل المغربي بما يحيل إلى شبيه لها كان قبل اثنتي عشر سنة قريبا من اللمس، وكثير من القرائن في القصيدة قد تدعم هذا الافتراض، أو بحبيبة طال غيابها وطال الغياب عنها وظل طيفها حاضرا رغم موج المسافات الفاصل أو المانع، أو مدينة في البعد تستغرق ذكراها الوجود وتقتحم الحاضر باستمرار، ومع كل الاحتمالات فإن النهاية واحدة يضطر معها سعدي اجتراع الهجر أو النأي أو الوداع حتى الموت، حيث لاأمل يستدرج لحظة اللقاء.ونظرا للدلالة العريقة التي يستند إليها عنوان القصيدة فقد اختاره سعدي عنوانا لمجموعة القصص التي كتبها واستثمر فيهاوقائع الشمال الإفريقي والجزائر بشكل أدق.(10)
وقصيدة نهايات الشمال الإفريقي( نهايات الشمال الإفريقي).(11) التي تتحرك في عمقها باتجاه استعادة صدأ وصدى الذكريات الطليقة النائمة في قيعان النسيان، وتؤثث بطريقتها معالم وعناصر الاغتراب، التي تتكتل في مجرى بؤرة العودة إلى إحياء نشوة الافتتان بالأرض الأولى وبمدينة البصرة الأميرة الجنوبية بالذات، وتتمثل القصيدة بالنظر لتاريخ كتابتها وكأنها نهاية لفجيعة الاغتراب وفك الارتباط مع الشمال الإفريقي، لكنها في الحقيقة ليست إلا النهاية التي تعود بنا إلى البداية،حيث يعيد سعدي تركيب وترتيب لحظات الاغتراب والعذاب ومحطاتها الأساسية الكبرى من نقطة الانطلاق حتى لحظة الحلول، حيث يغدو المغرب الأقصى قاسيا وسلسلة من حدود يضيع الخطو في مداها ويرشق العمر بأهواله، ومن هنا يستشعر سعدي مرارة السنوات السبع التي قضاها منفيا غريبا يحمل على كتفيه ذكرياته الشريدة الجريحة والسعف البليل والطلع العاري ليسندها لهواء المنافي، يطبق العدد سبعة على الوجود في ما يشبه سيرة الخلق الأولى: السنوات سبع والمنافي سبع والأرضون سبع والسماوات سبع، والشاعر محاصر بهذه السبع السباع، والوطن ليس أحسن حالا محاصر بدوره، وكل منهما يبارز غربته وينزف دمه شريدا، تسع الغربة الأرض كلها من جداول البصرة لأسوار الرباط، وفي أسواق سيدي بلعباس حيث يرتدي جبة المهاجر وترميه الهمسات والغمزات" دخل المهاجر" ليستشعر هول المعاناة وحجم الجراح، ومع ذلك تظل الأميرة الجنوبية وكأنها لا تبالي. النهايات سيرة رحلة اغتراب، لكنهافي الوقت ذاته سيرة وفاء مكين لأن نخيل البصرة وسعفه ظل جواز المرور الذي لا يتبدل، والرمز الذي لا يفنى وبرج الانتماء المحمول على ناقة الحل والترحال والماء والرمل.
وتستظل مجموعة من هذه النصوص بعناوين تحيل إلى الطبيعة وكائناتها مثل: شجرة الدفلى( بعيدا عن السماء الأولى).(12)، حين تموت زهرة الصبير( بعيدا عن السماء الأولى) (13)، ثلج ( بعيدا عن السماء الأولى) (14) أغنية للرياح الخمس ( بعيداعن السماء الأولى) (15) الغصن والراية(بعيدا عن السماء الأولى) (16)، وباسثناء القصيدة الأخيرة فإن هذه القصائد جميعها تشتغل على لغة شعرية فريدة ومتميزة تفسح طريق الدلالات أمام مجموع شاسع من الدلالات المتعانقة القريبة أو البعيدة، حيث يوظف سعدي صورا شعرية وإيحاءات خاصة تنسج ظلال تواشج وتلاحم بين مجازات منيرة تعطي الكثير أو القليل من اللمعان الذي يتجمع حوله أفق حركة القصيدة ودلالاتها وجريانها بين أطياف ورموز ترتدي أكثر من ظل وتدعو لأكثر من دال. هكذا تضعنا مثلا شجرة الدفلى على حافتي الاغتراب أو العزلة والانفصال، وهاجس المقاومة والمواجهة والاستمرارية والقدرة على القصاص أو الثأر من العدم أوالهجران أو الصمت أو الانغلاق أو الخوف أو النسيان،وركوب شراسة العناد والإصرار لمواصلة الطريق رغم أعباء وثقل سنوات الغبار والأحذية الكاسرة والخطوات السوداء، بحيث تسمو شجرة الدفلى لدرجة "مثل أعلى" للصمود إذ تزاوج بين واقع مرارتها، وعنفوانها الذي تجسده النوارة، وهج وردها الذي يرفع راياتها الحمراء لتملأ كل الساحة.
والصورة ذاتها ترتديها،بشكل أو آخر، "زهرة الصبير"،سليلة الآفاق كلها: الصحاري وضفاف الأنهار، وشواطيء المدن الخريفية، ومتاه الطرقات والقلاع الحجرية، النابتة في كل التاريخ ومسافات الأصوات التي عبرته:في معرة النعمان وسيرة صلاح الدين وحروبه الصليبية الشائكة، حتى لتكاد تتحول إلى نشيد أو صيغة لموت أو دمار يغدوشعارا لكل الأوطان، وهذا هو البعد الأول في الصورة ومتغيراتها التي تحيل إلى مبدأ وعناصر وقيم اختلاط الموت بالحياة، وانهيار التاريخ حيث تهمد أشياء العالم وتلتف بخرابها وغربتها وعتماتها الشوكية، لكن الصبير مثلما هو مخزن الموت هو مخزن أو منبع الحياة إذ يملك قوته الذاتية الطبيعية لتحمل الجدب أو الظمأ أو الجفاف أو القهر، ولذلك تمنحه اللوحة الأخيرة من القصيدة هويته وحقيقته الأخرى إذ يغدو في ظل سماء "وهران" ينبوع إيمان وزهرة من عالم ثان موردة تفوح بلون شقائق النعمان وتعلن ميلاد عالم جديد، تاريخ جديد يصاعد راية مرفرفة في جسر "مغنية" مضمخا بعطر الحناء وندى الصحراء والماء والاشتراكية.
إن حقيقة الدفلى والصبير لربما تبدو واحدة أو متشابهة في الحدود الدنيا، فالدفلى تمتلك سلاح مرارتها كحزام أمان، ووردتها كينبوع أو وجه ثان لحقيقتها، والصبير يمتلك سلاح الأشواك الذي يؤمن له الحماية، وزهرته بدورها طافحة بالأمل والحياة، وهذه الخصائص لكل منهما هي التي استثمرها سعدي ويؤسس من خلالهما صورا موازية لأزمنة غربته وتعلقه بالأمل والحياة والميلاد الجديد رغم وطأة الظروف التي يواجهها.
إن فتنة الرموز هنا لا تتوقف، وتعطي أشياء الطبيعة دلالاتها الباطنية التي تتوغل في سمائها وتجمع شتاتها لكي تفضح خفاياها وتعري حقيقتها، وفي هذا المحيط يتجاوب الواقع والفعل والوجود الخاص مع سيرة هذه الأشياء والكائنات التي ترسم وجهها ببساطة آسرة ومثيرة.
يتضاعف شكل هذا الحلول في الطبيعة وأشيائها من خلال قصيدة "أغنية للرياح الخمس"(بعيدا عن السماء الأولى)(17) وإيقاعاتها التي ترسم خارطة عبور افتراضية أو حقيقية من الجذور إلى ما يشبه اختراق عوالم يأخذها الموج في كل خطوة، تنحني الريح أمام حدة السؤال وأمام العتاب والعذل، ولا يبقى منها غير أن تكون أداة أو عاملا للترحيل أو التسفير بلا رجعة، نكاد نلمس نبرة توسل لكل الرياح بأنواعها لتلقي بأي سفينة ولو ورقية أو وهمية من أجل الخلاص، إن لحظة الخلاص هذه هي المفقودة، ويستنفر سعدي رياحه الخمس من أجل هذه اللحظة، لكن دون جدوى، فريح البحار لا تأتي إلا غامضة مطوية الأهداب، تحن لصيحتها القلوب، ولا ترسو على أي مدار، فحسبه اليوم أن يتمنى رؤيتها، وريح الصحراء رمل في المياه لا هو ارتوى ولا هي ارتوت، أما ريح الجبال فلا تحمل غير ذرات الموت يفتح الممرات، وعبر ريح الجنوب يتم التقابل بين "الفاو" و"وهران"حيث كل شيء في "وهران" يبتعد عن حقيقته فالنخل غريب، غابة من شحوب وصمت عريق.الريح الوحيدة الطيبة هي ريح بغداد.تشق هذه الرياح جميعها تضاريس غريبة تتلاطم أمواجها بين محاولة الاقتراب من لمسة سماء أو أرض قريبة توخز الألفة والقرب وتضع الذكريات على كفة القبض، والحنين إلي أية لفحة، أية نسمة تعيد الصحراء لكينونتها والجدول المثقل لمائه والنبع لرقرقته، وتسعف الغصن الحزين المقطوع عن جذوره أن يتجرع ملء كوبه قليلا من رطوبة الرمل والطين والأكواخ المضاءة، فكل الأرض، إلا أرض بغداد، غريبة، وكل الرياح، إلا ريح بغداد، خبيثة.
أما قصيدة "ثلج" فيقوم نسيجها الدلالي على آلية انتقاء خاص لموادها الشعرية، بحيث لا يستثمر فيها غير عنصر البياض، ماهية الثلج أو هذا بعض ما يجوز أن يحيل إليه، والخطاب في القصيدة يتمحور حول المتكلم من خلال الفعل " أنفض" الذي يهيمن على مجرى نمو الدلالة وعناصرها، والنفاض تتوالى أشياؤه وفق نطام تدرجي على هذا الشكل: زهور السماء، نبلوفرا أبيض في الغسق الأبيض، فضة. وجميعها تِؤلف سياقا متلاحما لرمزيتها أوإحالاتها المباشرة للبياض، الموصولة بالضرورة بحقيقة الثلج،حتى حين يتحول السياق إلى النداء في الأسطر الأخيرة من القصيدة فإن الدلالات والأشياء تتلبس بالبياض، ولا تتحدد هوياتها إلا من خلاله:
يا قمري الأبيض
نافذتي ألقت عليها الشموع
فانوسها الأبيض.
وبذلك يبني البياض هيمنته ويستكمل قوته ويملأ الأشياء لتغدو وكأنما هي ملتقى لطرق البياض الصاعد من كل الجهات: الشعر، والأهداب والنافذة، والمنثور في كل الجنبات، كأنها مضاءة بفوانيس بيضاء. والمشهد كله يتكتل حول حزمة بياضات متعانقة تذهب حتما إلى الثلج الدال الذي يؤويه العنوان وتتولى القصيدة تفتيت وتشريح عناصره وصياغة ملامحه ومعالمه البارزة.
في المقابل تحيل مجموعة من القصائد إلى المكان بصورة مباشرة مثل: جزيرة الصقر(بعيدا عن السماء الأولى) (18)،قصيدة:"وفاء إلى نقرة السلمان"(بعيدا عن السماء ألأولى) (19)،عن المدن الأخرى(بعيداعن السماء الأولى) (20)،باب سليمان (21).العمادية (22) الجسور الثلاثة(23)،ومعظم هذه القصائد يتجاذبها انتماءان، ويستقطبها مكانان بفرضان بقوة سيلانهما وانسرابهما في ثناياها وامتداداتها، تحتشد على ضفاف المكان الأول ظلال الذكريات الأولى وصيحات الطفولة وسواحلها المهجورة، وصدى الأغنيات الشريدة التي كانت تغري موج الماء والطين والنهر والأمسيات المقرورة، وتحتمي بكل التفاصيل والأشياء الخبيئة الداكنة المليئة بأطياف العمر الجميلة في امتداد الأرض المسقوفة بالحنان والنخيل الوارف وقصيدة "جزيرة الصقر"تحتمل فتنة هذه الاستعادات وتغوص في أشياء الطفولة ومشاهدها لتؤسس صورتها المكثفة للمكان بطريقة عاتية وعالية، يتجاور فيها الأمس والخطو باللحظة الراهنة، وتسدل الذكريات ظلالها لتختزل الكون في تداعيات تتعقب الأشياء المضيئة في سماء العمر وقد ينطبق الوضع ذاته على قصيدة "العمادية". أما قصيدة "وفاء إلى نقرة السلمان" فلا تنأى عن هذا السياق غير أنها تستعيد ذكريات السجن والتعذيب والقتل.
وتحتمي بالمكان الثاني مظاهر التوتر والإحساس بالغربة والاحتراق والحنين، وقصيدة "باب سليمان" تؤسس فضاء متميزا في هذا السياق، حيث يقدم سعدي نفسه غريبا ترتد إليه كل الأسئلة التي ينحتها وتصدمه، وهو يبحث عن الطريق إلى النهر البعيد المشتت في جداول من نخيل تلوح كالحلم، الملقى على بعد المزار، ويمكن القول إن سياقاتها تتقاطع مع سياقات قصيدة "عن المدن الأخرى" وتتداخل بشكل أو آخر من خلال صور متقابلة أو موازية تراود الحلم الراسخ بالعودة إلى الأرض الأولى والتملي بأعشابها وسمائها الندية، متضرعة بالشكوى من هذه الأرض الغريبة التي تشبه الخواء حيث لا شيء يغري فيها غير وجه السماء.أما قصيدة "الجسور الثلاثة" فتراهن على التكامل والتداخل الحميمي بين السيرة الخاصة والسيرة المحتملة للجسور، التي يتمتع كل منها بهوية وكيان خاص.
وثمة قصائد أخرى لا تنأى عن هذا السياق تستثمر العلاقات الخاصة أو بعض عناصر الانتماء لاستعادة الوطن وصورته الزاهية والذكريات المنسية في أرباضه يعبر منها سعدي إلى شرفات غربته، من خلال حبل الصداقات التي يلتفت إليها ويقرأ سيرة أحبائه مطوقا بالوفاء للذكريات العالقة باللحظات المضيئة المشتركة، فقصائد:بطاقة زيارة (إلى رشدي)(بعيدا عن السماء الأولى)(24)، واستطراد (إلى محمود البريكان) (بعيدا عن السماء الأولى)(15)جميعها تقتنص مساحات ومسافات من حدائق الماضي ومن تاريخ الوطن،لتعيد ترتيب رمادها وحطامها وترسم طرق التوق لعناق الأسلاف ومناجاة الأحباب والصداقات المختبئة في مدائن النسيان، وكأن الأمر يتعلق بالبحث عن مرفأ آمن يرسو فيه سعدي ويترك أحزانه ليجمع شمل شتات الحكايات والأحلام الصغيرة ويلونها بلون غربته حيث يفتح الباب ولا يكاد يعرف صديقه، وحيث يسير مع الجميع وخطوته وحده.
و تعود نصوص الجزائر التي تضمنها ديوان"من يعرف الوردة"إلى مرحلة زمنية متأخرة نسبيا(1979) ولذلك تجسد منحى آخر مغايرا في بناء قصيدة سعدي على مستوى الإيقاع واللغة والصور والرموز بحيث يتحقق لها الانعتاق والتحلل من العوالم والأطياف الرومانسية أو الشبيهة التي قد تكون وشحت الكثير من النصوص الأخرى، وبذلك تمثل ضربا من التحول في معالجة القضايا والتعامل مع الأشياء، ففيها انحياز واضح إلى الاقتصاد على مستوى الشكل وعلى مستوى اللغة والإيقاع، واعتماد على التكثيف والتركيز والتجريد أيضا، وعل الرغم من أن معطم القصائد مركبة وتتأسس حركاتها على مقاطع أو مشاهد مستقلة، أو حتى على مساحات بياض صامتة، إلا أنها تتخلص تماما من ظلال النفس الملحمي أو الطول الذي يغطي الكثير من القصائد الأخرى.
وقدوطد سعدي عبر هذه القصائد عادة الاقتراب من العالم وأشيائه الصغيرة البسيطة التي يستريح على تفاصيلها مستعيدا تقنيات السرد أحيانا وشحن الإيقاعات والدلالات بفيض من الكثافة والانتظام والاختزال لدرجة الفراغ. وتشتغل أغلب هذه القصائد بدورها على المكان متعقبة فجواته الجمالية: القبو (26)، محطة(27) أو ما يتعلق بفضاءاته: مسافرون(28)، منفيون(29) وهو ما يعني الحضور الدائم للتقاطب المكاني الذي اشتغل سعدي على مفارقاته ولا يكاد يوقف اصطدامه به، فالذهول من الأرض والسماء ومن واقع الغربة مازال ينفث المعاني وتستغويه الصور التجريدية المشعة التي تربك الحواس:
"مقهى على البحر"
ولكنك لا تمضي
إلا مع الصحراء. (30)
على كل فإن نصوص الجزائر تقودنا إلى سلسلة اكتشافات ينتقل سعدي بين أطرافها ومراميها ليؤسس إطار رصيد حقيقي للغته وقصيدته وخصوصية صوره ودلالاته، تبدأ هذه السلسلة بالمكان ببعديه: الشاهد والغائب، أو الماثل والمفقود، حيث يحضر بصيغته الأولى مقام غربة أو اغتراب، منفى، وفي صيغته الثانية باعتباره مقدسا، لأنه المكان الأول مستودع وخزان الذكريات وحامل بشارات الطفولة وطقوس البدايات، وثمة ثراء في لغة استعادة هذا المكان ورموزه حتى إن كل الصور ملتبسة بالبحر والنخيل والنهر والندى وأشياء الطفولة وظلالها المكسوة بالأزهار والذكريات الصغيرة المريرة، وقد استطاع سعدي أن يوفر أسباب التعايش أو التكامل بين المكانين ليدور الزمن دورته باتجاههما، بما يحملان من عناصر وأبعاد وتمثلات ورموز تضعهما أحيانا في دائرة التقابل أو التضاد لكنهما سرعان ما يتوحدان وكأنهما يواجهان معا مصيرا مشتركا.، وبهذا نجح في أن يخلق مكانه الخاص، كي لا نقول وطنه الخاص، الذي يقول كل شيء ويحضر في كل الأمكنة.
أما نصوص "سيدي بلعباس" فترتبط زمنيا بالسنوات 1964 و1967 و1969، وهي المدينة الأولى التي أقام واشتغل بها سعدي بعد هجرته للجزائر، ويمكن التأكيد أن نصوص سيدي بلعباس لا تبتعد عن السياق العام الذي تتحرك فيه نصوص الجزائر على الأقل في ما يخص مسألة التعامل مع المكان واستثمار عناصره وأشيائه ورموزه، وقصيدة "شط العرب"(بعيدا عن السماء الأولى)(31) تصب في هذا المنحى، وهي قصيدة تتوزع مقاطعها الثلاثة أحلام: حلم1، ،وحلم2، وحلم 3. ينفتح أفقها جميعا على استعادة مراتع الذكريات وظلالها البليلة التي سقطت من قبضة الزمان والمكان، يتملى الحلم الأول النهر (الماء) ينبوع الحياة، الذي يفسح الباب أمام عناق البصرة ومائها، أما الثاني فيستعيد الخطوات الصغيرة تحت السماوات الأليفة والعصافير الطليقة، ورعشة الجد وقبضته الحنون والماء اللامع في البعيد، أما الثالث فيسنعيد مغامرات الطفولة على شطآن "كوت الزين" والأهواز و"كارون"، حيث الماء يرتدي الأشياء.كل حلم يصعد ويولد من البصرة وينتهي إليها، ويستنشق هواءها وماءها، وكل الماء يعود إلى البصرة، الكنز الذي تحتمي به الذاكرة، ويحن إليه غبار السنين في مقام الغربة.
القصيدة الدرامية "أبراج قلعة سكر" (قصائد مرئية)(32) تختار الطريق نفسه لتستعيد تاريخا مثقلا بالغموض والرفض والتمرد والرحيل الدائم، وحضور السندباد فتى البصرة الأسطوري لتقديم رحلته، يراكم فعل الحضور الدائم للوطن والبصرة بالذات، وسيرة الاستدارة نحوهما في كل لحظة.
وتتميز القصيدتان:"الشخص الثاني"(قصائد مرئية)(33)،ومحاولة(قصائد مرئية)(34) بطابعهما الخاص الذي يلامس حدود التجريد، فالقصيدة الأولى تتأسس على ثلاث لوحات تجسد حالات أو مواقع الشخص كما يتم عرضها، في المشهد الأول يكون اللقاء، والمكان هو المطعم الشتوي، الشخص مزدوج الأدوار مراقب( بكسر القاف) ومراقب(بالفتح) في آن واحد، ينغلق المشهد فجأة ويتم وقف مراسيم اللقاء، ويغادر الشخص المكان ملتفا بمعطفه الباهت.أما المشهد الثاني فيكون مكان اللقاء أرحب( في المحطات تقابلنا) ويبقى فعل المراقبة واردا،ليكون الفراق المفاجيء مرة أخرى هو النهاية بلا وداع، أما المشهد الأخير فتضيق فيه سعة المكان (غرفتي) و يتغير الموقف، حيث يبدو وكأن الشخص يختفي وراء الإحالات الجديدة التي يوظفها المشهد: الأغنية والرجفة في الشباك والريح،والمطر الناعم وغصن الليمون والوطن الغائم الملقى في العتمات كأنما الريح تدعو إليه أو تحمل عبيره من بعيد، و ربما هذا البريق،الأفق من الأغنية أو الريح ورائحة الوطن المفترضة فيهما هومايعيد الحياة والحيوية للشخص لتشع من عينيه الأغنيات الموشاة بالرغبة في عناق الوطن القائم في البعد.
وتزاوج قصيدة "محاولة" بين قطبين ( متكلم ومخاطب) يستبد بهما الشوق والرغبة في السفر للشاطيء الثاني والعبور من مقام الرؤيا لمقام اللقيا،حيث تمطر الدنيا ويضع المسافر حقيبته في بر الاشتهاء ويمضي في طريقه للضياء، يرصد الشرفة الوحيدة بين النخيل والأغنية المخبوءة والقصيدة الأخرى.
أما قصيدة " تأملات عند أسوار عكا"(بعيدا عن السماء الأولى)(35) فتشتغل على تداعيات نكسة حزيران (يونيو1967)، والهزيمة المدوية التي صنعتها جيوش السلاطين، وطوت رايات تاريخ كان من الضروري أن تطوى.
هناك مجموعة من النصوص تنتمي لهذه المرحلة تتميز بازدواجية أمكنة كتابتها، أي أنها نتاج أكثر من مقام أو فضاء منها مجموعة قصائد كتبت في الجزائر وسيدي بلعباس، ويتراوح زمن كتابتها مابين سنوات:1965 و1967و1971، قصيدتان منهما لهما خصوصيتهما في هذا الباب، الأولى بعنوان: مرثية.إلى بدر شاكر السياب(قصائد مرئية)(36) والثانية:كلمات شبه خاصة.إلى عبد المجيد الراضي.(بعيدا عن السماء الأولى)(37) وكلاهما يستثمر يقينيات الأرض الأولى والصداقات العتيقة والذكريات التعيسة التي تقمر في متاهات العمر وتتقاطع في نوباتها أشياء الجنة والنار.
وفي قصيدة:"خواطر في مدينة قريبة من البحر"( بعيدا عن السماء الأولى)(38) يقترب سعدي من الإنصات إلى مشاغله ومكابداته،حيث يضطرم الشوق ويصاعد الحنين إلى برية النخيل الذي يهب الأسماء، ويؤجج الإحساس بالاختناق، فالليلة الألف تلتف بالعمر والمنفى ينخره،ويقذف به غصنا مقطوعا تائها تئن أوراقه تحت السماوات الغريبة، وعبثا يحاول ألا يرى جرحه، البيت والمنفى.
وتبدو قصيدة "تسجيل"( نهايات الشمال الإفريقي)(39)وكأنها تحاول القبض على تضاريس المكان، وتعبر إليه باطمئنان، فكثير من المعالم تحضر بقوة، وتضج بخصوصيات الجزائر وتلبس إغواءاتها، ويظهر أنها ذات أواصر خفية مع قصيدة: "وأنا أنظر إلى الجبال"( الأخضر بن يوسف ومشاغله)(40) ما لم نقل إنها امتداد لها بشكل أو آخر، إذ إن آخر سطر شعري في "تسجيل":"كان ينظر عبر الجبال" هو الذي سيغدو عنوان القصيدة الثانية، وثمة ما يدعم هذا التلاحم أو التكامل بينهما من حيث إنهما معا تتعاملان مع فضاءات الجزائر ضمن عوالم موحدة، وإيماءات متقاربة تحاول أن تقرأ تاريخ الجزائر الحديث وثورته وتتجه نحو البعيد الذي تختبئ فيه الحقول والأشجار والجبال والينابيع والمدن القرميدية أو تكون الطريق إليه حيث الصواري وحدها تزرع الضوء فوق الجبال.
أما قصيدة "كابوس" ( الأخضر بن يوسف ومشاغله)(41) فترسم تضاريس الكابوس في فندق رطب بالجزائر تنسج وقائعه دقات الجرس التي تتكرر على مساحات كبرى من تفاعل وتطور الأحداث، وتجلو سيرة وصورة المسافر الغريب الذي تلتصق خطاه الغريبات بالأرض الغريبة وتتقدم حقيبته لتسقط في الظلام.
إن ما يميز القصائد الثلاثة الأخيرة اعتمادها الكلي على مواد خام لها ارتباط فعلي بفضاء الجزائر وأشيائه، وإن كانت تخفي لهيب الإحساس القوي بالاغتراب، لكنها تحقق لونا من التماهي مع واقع الغربة وأسئلته الممعنة في القسوة، وتتخلل ضراوته لتأخذ من يديه رموزه وصوره التي تقارب العوالم الخاصة والعامة وترعى أسباب التوازي أو التداخل بينهما، بشكل يجسد طقس احتواء يستطيع من خلاله الشاعر أن يتجاوز ذاته وواقعه معا.
و من ضمن هذه القصائد قصيدة "حانة على البحر المتوسط"( نهايات الشمال الإفريقي)(42) وهي من ثلاث حركات تتجه في اتجاهات متداخلة متكاملة يحكها الفعل "أعتم" الذي يشكل المفتاح الأساسي لامتدادات الدلالة، تأخذ الحركة الأولى صيغة " أعتم البحر.. منذ الظهيرة" ويخفي السياق صراعا بين زمنين العتمة( بوادر الليل بعد غياب الشفق) والظهيرة(حد انتصاف النهار. الهاجرة) رغم أن كلا منهما يلقي وجهه على الثاني ويمثل وجهه الآخر، يدخل البحر شيئا فشيئا برزخ العماء، يختفي من العيون ويعانق ضباب الزوايا وغموضها الذي يشبه غموض المرايا والدخان.أما الحركة الثانية فيأخذ فيها النهر مكان البحر: "أعتم النهر، منذ الظهيرة" يدخل العتمة بدوره شيئا فشيئا ويختفي في سمائه النخل، تغزو ذكرى باب المعظم بهجة الخلاء والفرات الذي يجيء من ورائه الرصاص القاتل. وفي الحركة الأخيرة تكتمل الصورة تكون الصيغة أقرب من الملموس: "أعتم الوجه، منذ الظهيرة" يعتم الوجه شيئا فشيئا ويطبق السواد على كل الهواء، يقترب الوجه من الحتف، ومن حافة الإعدام، ربما قريبا من البحر أو النهر أو فيهما معا لأن الجميع يدخل زمن العماء والموت والتلاشي ولا أحد يريد شيئا من النار.
وتشكل قصائد "باتنة" ( 1979 – 1980) خطوة محورية وأساسية في بناء قصيدة سعدي، إذ تشتغل كما ألمحنا على اقتصاد وفير في استعمال خامات القصيدة ومواردها، حيث يمكن القول إن القصائد القصيرة بدأت تفرض صيرورتها، وهي خطوة بدأها سعدي قبل، ولكن قصائد "من يعرف الوردة" تجسد حركتها الدائبة، وهذا تجريب واختيار تشكيلي وإيقاعي سيسيطر في ما بعد على منحنيات تطور القصيدة لديه. إن التحول هنا لا يقتصر على جانب الشكل فحسب بل يتعداه إلى اللغة والصور والرموز حيث تنمو القصيدة في مساحات تكثيف عريقة تعمق أبعاد الذلالة والتأويل، وتؤسس لآلية الاختزال في اللغة وعناصرها، وكأنها تتقهقر، وتتراجع لتبني القصيدة وفق منطق تقتير قاس في توظيف موادها، إضافة إلى هذا فقد اعتمد سعدي تقنية الحذف أو البياض، حيث تنقطع امتدادات أغلب القصائد على حين غرة، وتنتهي بفعل تمزيق أو تفتيت يشتت حركتها أو يفجرها في اتجاه خلق إطار تعدد مشاهد مكثفة تحتل المركز على مستوى الدلالة.
وتعتمد قصائد "باتنة" سياق الخامات والفضاءات المألوفة التي تعامل معها سعدي، فضاءات لم تنقطع عنها تأثيرات الزمان والمكان، والإحساس بالاغتراب، فالوطن حاضر كمعدن للدفء القديم، كأرض أو بلاد في العراء البعيد لا سماء لها ولاقرار:
للبلاد البعيدة
نحن نمضي.. وأين البلا د؟
للسماوات نمضي
وأين السماء؟ (43)
كل الأشياء مطفأة في البعد، والأرض لا تقترب وإن ظلت رائحتها تتبع الخطى، ولذلك يلتف سعدي بتغريبة بني هلال ويقايض مغامرات رحلاته بولائم من حنين يسند وجعها المنفى الدائم الممدد على العمر والرحيل العاصف المتجدد.
والاقتصاد الذي يوجه حركة القصائد يبدأ في الواقع من صيغة العنوان، إذ إن العناوين تستظل بانكفاء ملحوظ ولا تكاد تتجاوز الكلمة أو الكلمتين، وتتوسد في أغلبها المكان أيضا(وطن،سؤِال،بنت، سر النافذة.هلاليون..)
لتسكب تداعياتها في صورة الوطن والمنفى الأرض الغريبة.
2 – نصوص تونس:
تعود قصائد تونس إلى سنوات 1985،و 1990 و1992 وهي في الغالب قصائد تتمم طقس التحول الذي بدأه سعدي من خلال القصائد القصيرة ذات الكثافة الدلالية العالية، ومن خلال بعض العناوين(إحساس، دوران، العزلة، استعادة..) يمكن القول إن هذه القصائد تتحرك في دائرة تشخيص مواقف وأحاسيس وعواطف وانطباعات لا تبتعد عن الآفاق التي تستثمرها أو تمتح منها لغة وقصائد سعدي. تلتقط قصيدة "إحساس"( خذ وردة الثلج) (44 ) أصداء وشظايا تاريخ من الحطام مليء بشفرات ورماد لوعة تعلو أو تهبط في هوادة الأعماق المشهد بسيط تماما، لكنه يحفر في اتجاه البعيد واقتناص ملكوت من نسيان يتراءى راكدا في الذكرى. اللقطة العابرة التي توقظ الإحساس هي بهذه البساطة أيضا:" قرب دكان أشرطة، سمع الأغنية"، الدكان مستودع مغلق تصطف فيه الأصوات النائمة في مجاري العمر، الشريط الملقى عند جذع التاريخ، تصعد منه الأغنية، المثير الذي يفتح كتاب السيرة، ويوقد نار الفتنة، لتستعيد لحظات الأنس المنفلتة من القبض، تلقي الأغنية بدويها العظيم على الذكرى كما تلقي امرأة حجرا في البحيرة الراكدة، الأغنية شبيه المرأة أو شبيه الحجر، كلاهما سيان، لأن الأثر المتولد في الحالين يهز الأعماق ويتصاعد الدفء فيها من رذاذ مطر يعانق زجاج المخازن، حيث تنحدر دموع السرو لتعانق سماء البحيرة. تحرك الأغنية ضجيج تاريخ وذكريات ومياه تنزل ضفاف الحلم، وتنسج رعشات التحام وثيق بأزمنة تشتبك بجذوة الماضي وأرصفة الحاضر. الأغنية لحظة سماع، لكنها تتحول إلى لحظة عصف يقود لأعتاب تلوح في مرارة البعد والتاريخ الهارب المبلل بعطر الطفولة والصبوات المنتشية بنبع السماوات الأليفة، حيث تتكسر الخيبات على إيقاعات الأغنية الذكرى ويتدثر العمر بغمرة الإحساس بالأمان والاحتماء بطيف الوطن الراكض في البعيد. ولهول هذه الجاذبية التي ترعاها الأغنية والإحساس الجارف الذي خلقته، ولمواجهة أي انكفاء أو انغلاق، ورغبة في إشاعة نوبة الإحساس، يغلق السؤال:"هل سمع الشارع الأغنية؟" احتمالات التوحد، فالأمر لايتعلق بعزلة تخيط الأغنية أمداءها، وتغلق أبواب السماع والشيوع، بل بانتماء وانصهار في الشارع / الكون الذي يضمن بوادر الخلاص، والإصغاء العريق لصوت الذكرى وهي تطرق سماوات الغربة الآسرة.
دورة الإحساس ذاته تتكاثف بصيغة أخرى من خلال قصيدة"دوران"(خذ وردة الثلج)(45) التي ترسم سيرة اغتراب آخر مزمن، حيث يرتد صدى العمر ليلا محملا بأشواك الغربة ( غريبين في الليل) ويتسع لكل الرياح التي تقود للمرارات والخيبات، تدور الأرض وتدور دواليب الوقت، لكنهما لايغسلان التاريخ من انكساراته، فكل شيء يشيد واقع اغتراب بين رحى الزمن الحرون: بحة البحر واللمس والفندق التونسي والدهاليز الصماء التي تلاحق الظل، كأنما الحلم يتهدم تحت طائلة الدوران وتذهب الخطوات سدى، حيث البحث لا يجدي، والصفة التي تتجه لضفة الوجود مفقودة، ولا شيء غير الإنصات لخلوة الليل والغربة التي لا تفضي إلا لباب الخسارة.
إن هذا الواقع المفجع بكل أثقاله الهائلة يحفر عنيدا في اتجاه مسارب الحيرة والسؤال المضني الذي يتعلق به سعدي ويستعيد من خلاله رعشة الحياة والمنابع الأولى التي توقظ الفراغ المسكون بتفاصيل غامضة تمارس سلطتها على الذات والوجود، وهذا ما ترشح به بطريقة شبه مباشرة قصيدة "استعادة"(خذ وردة الثلج )(46) التي تطوي صورة البعد والجراح الصغيرة التي ترسم تضاريسها في القميص المخطط: المقهى على البحر، وقناني النبيذ، والنبض البعيد الذي يجتاح الإغفاءة ويهز الرغبة المحاصرة في طعم الأسئلة التي لا تحيل إلا إلى احتمالات أجوبة مبهمة، غامضة، تغرق القميص والمقهى والبحر في لحظة نافرة تستعيد باب الحكايا المودعة في قارة النسيان.ويحضر النبيذ برمزيته الاستثنائية في هذا السياق حيث يطلق سعدي لالتماعاته عنان حرية التنقل واصطياد المسافات أو اختزالها بين السواحل والتلال والشرايين والعيون وتفاصيل أغنية تفتح باب الرسو على حافة لحظة فاصلة تؤلف خيط انتشاءات تمارس لهوها في سعة العيون. (47 )
وبكثير من التناغم يهيمن بعد الاغتراب والإحساس باللاجدوى على كثير من فضاءات قصائد تونس حيث تتلبس به الأشياء، ويحرص سعدي من خلالها على استثمار التجربة الذاتية الداخلية التي تطلق عيارات إشاراتها المتعددة، وتشحن الكون بطاقة هائلة تتشابك فيها ألوان متناثرة تكون كتلة من الأحاسيس والوقائع الممتزجة بكل معالم الغربة والشعور القاسي بوطأة الواقع المستبدة، ففي قصيدة "منظر"( خذ وردة الثلج)(48) التي تتغلغل في تفاصيل الضاحية، حيث الشجيرات تحتمي بالضباب الشفيف، تغزل متعتها، وترسم أثواب نيسان في السر، وتخيط نشوة الفرحة الخضراء بكل هدوء خياطة الحي التي توقظ غيبوبة السقوط وتلهب صدى النهايات المفجعة، حيث الذهول سيد الوقت، ولا خير يرجى، ولا أحد قد يرتدي ثوب الحياة:
إنها الآن تنسج ثوبا لنا
مات من يرتديه...
لا تبتعد قصيدة العزلة (خذ وردة الثلج)(49)عن ترسبات هذه الأجواء وامتداداتها التي تترنح تحت دورة الحلم البعيد، وضجيج الشهوة غير المكتملة حيث ترسم تضاريس فضاء مأهول بالوحشة والوحدة والانفصال، والمقابلة بين العبارتين مفاتيح القصيدة: " يجلس في الغرفة" و في الغرفة يجلس" لا تخلو من دلالة عميقة ومن بعد متحول في الوضعين معا يوجه حركة القصيدة ودلالتها، ويسيج تفاصيل العزلةوتلاوينها.الغرفة كون مسكون بالزرقة، الزرقة " الخلاء الأكبر" التي تمنح الغرفة وأشياءها صفاءها ونقاءها وعزلتها اللامتناهية، ومن عمق هذا الفضاء تبدو العزلة وكأنها فعل احتماء ، أو فعل خلاص أو طريق هروب من تبعات أمور وأشياء أصبحت مألوفة حد الضجر، غير أنها في الواقع ليست كذلك فهي عامل انجراف أو دمار أو تحول تتسع لرجة الأضداد وتصادمها حيث الرعد يجلجل بالأمطار، والحديقة تخفت أجراسها، أو تموت، والمصباح تعتريه الرجفة، ينطفيء ويغدو الكون أعمى، وتحتفي أشياؤه بالظلام، ولا معنى للبحث عن شمعة ما تغري النور أو تستدرجه، تتقدم الأشباح من ماء النافذة تشاكس سدوف الظلام، أنامل من ماء وضحكات وخطوات شارع يصر على أن يشرب نخب الأنخاب من كأس العزلة.النهايات الموجهة لحركة القصيدة الكلية تصنع الحدث الدلالي من خلال تقلبات اللون، حيث في المشهد الأول تظل المرآة جزءا من المدى الأزرق وتلبس لوعته، بينما في المشهد الثاني تتحرر المرآة من عبء الزرقة، وتستريح من سطوتها.
قصيدتان من بين قصائد تونس تحملان تقريبا عنوانا واحدا، الأولى قصيدة "الزيارة" (خذ وردة الثلج )(50) والثانية" الزيارة الطويلة"(جنة المنسيات)(51) وتقاسمهما العنوان لا يعني أي بعد تكرار للسياقات، ولكنه يضعنا أمام مفارقة بنائية وتشكيلية فريدة، فالشكل بالنسبة للقصيدة الثانية يكسر نمطية الكتابة ومظاهر علاقاتها التقليدية، استنادا إلى عامل الطول الذي يوجه حركة بنائها، ويرسم طريق انتشارها في امتدادات مبعثرة، تجعل إيقاعاتها شتاتا سائبا،وصدى متناثرا في أرجاء الصفحة، يفرض تجميع عناصره انتقالات صوتية وإيقاعية مفاجئة،بطيئة ومتعددة، وارتحالات عبر أمكنة وأزمنة ترهن التحول والمجرى الدلالي للقصيدة، وبذلك تنسج علاقات تأليفية بين الصوت والصدى وبين الكلمة وقطاع غيارها وأجزائها المفككة التي تصنع إيقاعها الخاص المتولد عن خصوصياتها الفردية والخاضعة لمنطق خاص، هو الفوضى و الانشطار.
في الزيارة الأولى تولد العلاقة بين الشاعر وحديقة ياسمين مفتوحة على سيل من رذاذ غزير، تلتف به وتتعلق باسمه، وتدخل البيت هادئة، ضيفا صامتا يتنفس هواء الغرفة، تغدو الغرفة غابة وبادية مباركة، ويحتار الشاعر في متاهاتها متسائلا أي طير سيغلق عليه بابه، ويلتقم شعره هذا المساء، ويرتد السؤال إلى أبعد من احتمال وارتباك، تتناسل اشتهاءاته وتبدو الحديقة وكأنها أنثى، تنفرط كائناتها تحت ضغط الافتتان، وتهدأ الصورة ليعاود السؤال الكرة: هل انتهى اللوز، وهل نامت الياسمينة تحت الرذاذ الغزير شجر اللوز الذي يولد من عشق الحديقة، والياسمينة التي تسكن في الهوى. والبياض/ الصمت الذي يفصل القصيدة عن نهايتها يحمل الكثير من الدلالات والتفاصيل المحجوبة التي يدعونا الشاعر لاكتشافها، ويتركنا أحرارا في أن نقف على مشارفها، ونقبض على أطيافها النابضة، حيث يجري التوليف بين الحقيقة والخيال، بين الياسمينة والتحام المعالم التي ترج الدلالة، ليتجه كل شيء نحو الصعود باتجاه سدرة الرتاج أو السياج الأخير، والاستلقاء على ذروة إلغاء الحدود بين الموجودات وبناء حدود التوحد بينها، حتى ليمكن القول إن الشاعر يلقي بذراعيه على ياسمينة أو حديقة أو امرأة ويلهب سرها.هكذا يصنع سعدي عالمه ويرتاد أشياءه سالكا طريقه المهجور إليها، يخرج فيها الحي من الميت والميت من الحي ويغذي رموزه بأسئلة تتحسس ظلالها في عبوات الدلالات المغلقة.
أما "الزيارة الطويلة" فإن تقنيتها الشكلية تراهن على صيغة تجنيس واستثمار خاص لطاقة الأشياء والكلمات ضمن دائرة صراع غير مرئي يرعى وهم التطابق" الشقرق المتوهج، تتمطقه أفعى ذاهلة، الشرشف يهوي منزلقا عن ظهر الأفعى، ليأتي قمر ويسيل حليب نحاس يقطر ويقرط ظهر الأفعى". إن سيريالية الصورة تنهض على تشكيل غريب يحاول خلق موازنات أو تقابلات بين: الشقرق والشرشف، ويقطر ويتقطر، ويقرط والحرشف واللألاء، وهو تشكيل يرشح بتلوين خاص يحاصر أشياء الصورة وأبعادها، تمتد عناصره من الشقراق المسكون بوهج الألوان، والشرشف والحرشف والقمر والنحاس، كأن الصراع هنا صراع بين الألوان والتحولات التي يرتديها أي منها، وما تخفيه من أواصر تحافظ على تماسكها وكثافتها الرمزية أو الدلالية. في الصورة الموالية تكاد الدلالة تنحرف وتخفي ضوء المتاهة، إذ لا تقود إلا لسقوط في هاوية أخرى من العلاقات غير المتجانسة المعمدة بالمفارقات الغريبة:
الغرفة غائبة.
والسلم منحدر
في سورات تعوي
وسهوب نساء.. (52)
القائمة هنا تتشكل عبر تقاطعات: الغياب الانحدار، العواء، الامتداد أو اللامحدودية التي تفرض فوضاها على المشهد، حيث تفقد الغرفة معالمها وينحدر السلم نحو فراغ رهيب وهوادة يشب فيها الخوف والرعب.
وقد يعفينا السياق من افتراض أية علاقة بين القصيدتين لكن ذلك لا يحول دون أن نفرغ بعض الرموز في بعضها أو نخلق مسافة اقتراب و تواشج بينها،فالانحدار عامل مشترك في السياقين: "الشرشف يهوي منزلقا.."، "السلم منحدر.." والغياب غير بعيد عن هذا في سياق محصلات المشهد الأول حيث الشقراق يقودنا إلى هذا المنحى.
وتتحول نهاية القصيدة لالتقاط تفاصيل مشهد آخر: كأس فيه مكعب ثلج يضيء عتماته، يسبح في غمراته، قل يغيب أو ينزلق هاويا ليلتقطه ظل الغياب، وعلى السجادة صيادون وجوارح يدغدغون فرائسهم وطرائدهم ويمضون في سهوب فلواتهم يتلذذون بطعم الظفر الصافي، وقمر يلقي بذراعيه على أفعى وتنتهي الزيارة. تلتقي صورة الأفعى ربما بالأنثى ويتوحد المشهد ضمن علاقات تجاور مفترضة لا تبتعد عن أجواء اللقاءات الحميمية التي يتجه فيها كل شيء نحو الانصهار والالتحام.
وفي كل حال فإن ثمة على ما يبدو خيطا رفيعا يجمع بين الزيارتين ويوحد بينهما، يختفي بين وقائعهما الجارية بقدر ما يطفو على سطح حركتها واحتمالات "التحول" أو "الحلول" التي تتورط فيها كل مواد وأشياء القصيدتين لتلقى جميعها المصير ذاته: الغلغلة في القميص والصعود نحو السياج الأخير، والارتماء في أحضان الأفعى والصعود نحو الشهوة المتكسرة..
3 – نصوص" أندلسية":
في ما يشبه التماس الطريق إلى الفضاءات والأزمنة القصية والحميمية التي تبدو امتدادا للشمال الإفريقي وتاريخ تقلباته الجغرافية والسياسية والاجتماعية والثقافية، يهبط سعدي يوسف إلى قعر كنوز الأندلس، الفردوس المفقود وفرحه المهدور، يستلهم ذكرياته المشبعة بالمرارة ويرسم من خلاله طريق العبور والانكسارات، متجرعا طين الحنين لمجد دارس مازال ينتظر من يرعى الركض في متاهاته. وحضور الأندلس بكل ألقه المتدفق في عروق النسيان، يعني حضور تاريخ مبدد ومسند لعزلة الخيانات والتحليق في مساربه ومسالكه، هو بمعنى ما حفر في تضاريس الشمال الإفريقي وتواريخه وأمكنته ورموزه ومداراته ودواله، باعتبار الأندلس جناحا له وامتدادا أصيلا له، واكتشاف الشمال الإفريقي لا يمكن أن تكتمل معالمه دون استحضار فعلي لتاريخ الأندلس وقراءاته وتفكيك وقائعه.
وأولى القصائد التي تستعيد فضاء الأندلس هي قصيدة ( تخطيط أولي عن حصار غرناطة) (أغنيات ليست للآخرين)(53) وهي قصيدة تنتمي عمليا إلى مرحلة البدايات(1953)، وتحاول أن تضعنا إيقاعاتها على حافة زمنين متقابلين أو متوازيين يوقظان أجنحة التاريخ المكسورة، يقودنا زمنها الأول لتاريخ عريق طوته غيوم النسيان أورقت فيه غرناطة تحت وطأة الحصار، وقاتلت الأعداء حتى آخر نسمة، قبل أن تستسلم وتضع مفاتيحها بأيدي الغرباء، ويذهب العويل في أرجائها يرج الخيول والفوارس والجنود ويرتفع الصليب فوق أعاليها، أما الثاني فيقف على عتبات الراهن حيث غرناطة تحمل سلة جراحها وتحوك أسرار ساحاتها حيث يسقط كل الأعداء وكل الذين ذهب الملك على يدهم، وكل الذين يشتهون زهرة الأمل ويمضون للأفق القادم، إنه زمن الحلم المجهض أو الهارب من لذة القبض، وكلا الزمنين يتراجع أمام زمن آخر سيأتي يبسم فيه الفجر للضباب، وتوقظ الدوالي مزارع الزيتون والحقول، ليطرق باب الحانات المغلقة وتصعد النار للقلاع حمراء تنزف الدم والظفر الأمل الأحمر القاني.
أما القصيدة الثانية فهي قصيدة "غرناطة"( بعيدا عن السماء الأولى)(54) وهي قصيدة تعتمد بناء هندسيا خاصا، إذ هي في الواقع قصيدتان متضافرتان ومتلاحمتان، بقدر ما هما منفصلتان، يمكن قراءتهما بمعزل عن بعضهما دون أن تنهار حدود تماسك دلالاتهما، والقصيدتان،بمعنى ما، تقتربان من إعادة استثمار فضاءات القصيدة الأولى، فهما معا يتقاسمان زمن غرناطة الراهن والماضي، ورموزها التاريخية:"لوركا" في الزمن الحاضر و"عبد الله الصغير" في الزمن الماضي، وكل منهما يحمل تفاصيل محنته وسيرة انهيار الحلم بين يديه، ويجسد خيط مأساة غرناطة التي تقتادها القوات العمياء نحو حتفها، ويمثل التنهيدة الأخيرة لنشيد غرناطة وتاريخها الممتد بين رعب الموت والقتل الرهيب، والانكسارات والهزائم الآبدة، حيث عبد الله يفارق اسواره ولوركا يفارق وجوده.
ويمكن القول إن قصيدة "ساحة اسبانية"(قصائد مرئية)(55) تستعيد المأساة ذاتها، لوركا المتعب وتاريخ أشيائه: الساحة والقيثارة، والغجر، والحانة والنجوم المخبأة في نهر الحياة، وفي شبابيك الموت المنذور..إن العتبة هي أبيات للوركا، تحيل إلى دائرة زمن مغلق ليس إليه، وليس له منافذ غير استتباب اليأس، الساعة مترعة بأشيائها: الأغاني الشاحبة والخطوات المبحوحة والقيثار الناحب والحلم المفقود الملقى على أي ساحة تنأى في أعراق النسيان. الرحلة إلى مزارات الساحة مغروسة في ظلال من اليباس والشحوب، تلقي الساحة بثقلها العظيم هنا كملاذ، وكمنطقة حزام أمان لحماية الذات" ما أشد البرد في الساحة" ولكن لا مفر من الارتماء في زحمتها، وسعتها حيث تطبق أجفانها على الوجود، كل شيء أخذه البحر وأسلمه للريح تذروه في أعالي الجبال. البحر يرسم طريق اللاعودة وطريق الهجرات التي لا تنتهي والساحة وحدها المصير:
تركت في البحر مفاتيحي
أسلمتها لليل والريح
حتى إذا أغلقت الأبواب دوني
جئت للساحة.
تصل الغربة لمداها البعيد: الوجهات مغلقة، والحانات مغلقة، ولا يجد الشاعر مفرا من الاستنجاد بغجر الحانات ( نتذكر لوركا) ويسأل عن الفارس الليلي وتطوافه الغزير، والباب الموعود والبستان المثقل بالليمون والنجوم والزيتون، والشارع المقفر الدافيء. وحركة القصيدة هي حركة رحلة طويلة، رحلة سندباد تتجدد في كل ليلة، يحضر السندباد وتجربته العريقة في الخلاص والنجاة الممكنة، والخروج بسلام كل مرة من رعب الرحيل، وحين يقتحم الباب لا يرى غير "أفعى تلتف على زهرة" وهو ما يعمق معاناته وعجزه ولكن يوقد رغبته المشاكسة دائما في الاكتشاف واكتناه أسرار المغارات والرحيل في عتماتها ومائها.
تثير الساحة الشجن القديم، ويتضور سعدي اغترابا وألما، لأنه يجد نفسه سيد الأرصفة، أرصفة الموانيء التي تقطر تعبا وتحمي خطواته من الوحشة، حيث تكون الأرض الأولى والأخيرة، ما دامت الأرض الحقيقية ضاعت ولا يصافح منها غير الحلم بالماء والريح، وفي كل هذه الأرصفة يرقب لقياها، ولا يجد لها طريقا، هل سيكون أودعها أرصفة الميناء وخذل ضوءها البعيد المغسول بدورات الريح، قد يكون، لكنها تظل السر الذي ينام في الأعماق مهما طارت الريح باسمه واختلى الماء بمداه.
وفي الواقع فإن سعدي يوسف يرسم ساحتين متقابلتين تتعانقان مع ساحته هو وساحة لوركا، وتتحرك تضاريسهما وأشياؤهما لوجهة التلاحم بين سيرتين عمادهما الاغتراب، واليأس وفقدان الأمان في زمن كل بواباته مغلقة، وتتسع دائرة الساحة بهذا المعنى لتستغرق الوطن أو الأوطان وتستعيذ من الضياع بالإصرار على كتمان حالها وتفاصيلها المنحدرة إلى سويداء القلب.
ويمكن إدراج قصيدة " الحي العربي" (بعيدا عن السماء الأولى) (56) في هذا الباب، وهي قصيدة كتبت في مليلية، المدينة المغربية المستعمرة من لدن الإسبان، من حيث تلاحمها القريب أو البعيد مع كثير من الدلالات التي تفصح عنها أندلسيات سعدي، إن لها فعلا سياقها الخاص ولكنها لا تمتلك فرصة الانفلات من قبضة الحركة في اتجاه السياقات الكبرى التي توجه أفق الدلالات لدى سعدي. ويكاد النص العتبة ليولسيس الذي يفتح من خلاله سعدي باب الاقتراب من جمر القصيدة يتوازى بشكل أو آخر أو لنقل يتكامل ويتداخل مع النص العتبة لقصيدة "ساحة اسبانية"، فكلاهما يحمل دلالات الاغتراب والإحساس بالضياع وعنت الهجرة والرحيل الدائم المضني، والقهر الذي يمارسه فعل الزمان والمكان معا، وتستعيد المقاطع الأولى منها محاولات الاقتراب من الحي ورسم تفاصيله التي تتوسل التاريخ البعيد والعميق والصراع بين الأسياد والعبيد لتشيد معالم الحي الراسخة، لكن سرعان ماترتد الصورة وتداعياتها إلى الذات والشعور بحرقة الانتماء ودفء القرابات وحميمية الأشياء:
سلاما أيها الحي الذي لم نغترب فيه..
وهو ما يحمل الشاعر على أن يستعيد رائحة مدينته التي تمسي شبيها، وتتخلل مدار الذكرى لترسو على سيرة الريح يشتم فيها سعدي ألم البعاد وضوع المدينة المزهرة في ثناياه.
أبرز قصائد هذه المجموعة قصيدة " عبور الوادي الكبير" (الأخضر بن يوسف ومشاغله)(57) من حيث هندستها التشكيلية ومن حيث ثوابتها الدلالية، إذ تستلهم، بمعنى ما، نفسا ملحميا تترامى عبره أشتات من تحولات وذكريات وتاريخ من الألفة يرسم آثاره على حياة المكان وتقلباته وقدسيته أيضا.إن استثمار الكلمات "عبور"، "الوادي الكبير" في بعده، لا يخلو من إيحاءات مباشرة إلى الارتباط المتين والقوي بالمكان، وبقدر ما تحيل لفظة العبور إلى حالة الاغتراب والانفصال والتجاوز والانتقال بين مقامين أو انتماءين،فإن لفظة الوادي الكبير لا تسلم من هذا البعد، وحمولاتها الدلالية مطهر لذلك، إذ تحيل بالضرورة إلى فضاءات الشاعر لوركا وإلى مناطق اشتغالاته، مما يضفي نبرة خاصة على تداعيات العنوان التاريخية والثقافية والسياسية والحضارية، بحيث يتحول إلى رمز آهل له صلاته المباشرة بالمكان وبالزمان.
إن الانفصال/ البعد/الرحيل هو باب القصيدة، وقد يكون مرماها: البعد عن النخل المنساب في هوادة الأحلام، النخل رمز الوجود الدائم، والرحيل المحمول على جناح الريح، حيث تنأى الذكريات وأشياء الطفولة والقرى والبيوتات والأكواخ، وتركض ركضها الشديد نحو الغياب، وعلى إيقاع هذا البعد تبدأ سيرة ضياع لا حدود له يقود نحو التيه والاضمحلال، تغلق الغربة المنافذ والنوافذ، وتهرب المنازل من بريقها ومن أمانها، تذرع السفن عباب المدى محملة بعباءات النسيان والمجد المسكوب على الأرصفة. الوطن مغلق، المنازل مغلقة، ونشيد الغربة يعلو، يرشق الأقدام الشريدة، حيث الخوف يتعهد نداها ويرعى الناس حيث لا أحد بمقدوره أن يفتح ذراعيه أو بواباته لاحتضان النبوءات البعيدة.
تمسح الغربة أو هو العبور دموع الأوج والسؤدد الأموي المنكسر على أسوار قرطبة ومضارب غرناطة، والشرفات المهزومة التي يظللها النسيان القديم وتنام على حافاتها المتاعب القديمة وعويل النساء والأطفال المتعبين. كأن العبور يرتد عبورا إلى لا مكان، من لامكان، وانغمارا في متاهات لا متناهية لا تكون إلا وقودا للضنى والوصب، والغياب حيث تغور الشواطئ وتسقط القصائد في عز الطريق، ومع ذلك يتقدم فارس العبور، فارس الليل والنهار حاملا سماء الرايات وهتافاتها المنسابة المتأججة، معانقا برد المسافات المجهولة، ويضيع في سراب الرحلة وأشواك الهزيمة التي توصد بابها على اسمه، فآخر أبراج غرناطة ينهار، دكته خيول الشمال، ولا معنى أن يتذكر الفارس شرار المنازل المتناثرة في اتساع الذكرى. تذهب ظلال الأهل في شأفة البعد والنسيان، لا الطير تحمل أخبارهم ولا أخبارهم تصل منتهى القبض، ارتجت بوصلة الطريق ولا عبور إلا لهذا البعد حيث يضيع نجم الطريق. ينال التعب والرجفة من فارس الانتظارات المؤجلة، ولا يتراءى أمامه غير بارقة من خوف على مرمى الروح، فيختار الرحيل، ليسمع نبض العصافير وهي ترفرف بين الأفنان وتلتقط النجوم الخفيضة، وتناوئه الرهبة في أنها ستموت مع تباشير الصباح.
تحضر قرطبة الواقفة على باب الفناء، ويتسع في مداها أفق من تاريخ عنيد، وضباب نافر مشتبك مشبع بطقوس شرسة من الغربة والحكايا الأسطورية والقمصان الموشاة بدم الهزيمة وطعم التعب العريق، ورغبة الخروج في رحلة عبر سياج الزمن والمكان يمد فيها الموت يديه ويرسل مواعدها كحلم بعيد، يصيح التاريخ المنسي في الأرجاء، ويبكي طويلا ذعر المدينة خلف الأسوار حيث لا ملاذ غير قارعة الطريق، يعتلي الفارس صهوة الجواد مسافرا على كتف الذكريات وينادي الفجر المستحيل، يحط راياته على ضفاف الوادي الكبير ويعبر نهاياته إلى قرطبة العارية، ما بين الحضور والغياب، يتسع العبور وتترامى شساعاته لكنه يظل عبورا لمسافات عابرة بمحاذاة ليل التاريخ الطويل، والأمكنة تصعد للريح مزدانة بعبق الذكريات الأثيرة: غرناطة، قرطبة، والمنازل المقيدة بالفرح المصادر والجموح الذي يراود السماء.
يروي العبور ظمأ السنين ويشرع للتاريخ أبجديته القادمة، وكل خطوة منه في اتجاه الضفاف مأهولة بطقوس اغتراب وانتشاء وامتلاء بالفاجعة، الألم يعبئ صوته، والطريق لا تتبعها الإشارات، والتفاصيل الصغيرة تسكن المستحيل حيث الموت يملأ الفراغات المستديمة، ولكن الفارس لا يؤرقه نسيج الأشواك ويتقدم ليصنع ملحمته ويغرس راياته على أبواب غرناطة النائمة في جبة الحلم، ويتوغل في جنون المطلق الذي يعبر إلى مغناه.
تتساكن في القصيدة لغات "نفس ملحمي" فريد أقرب إلى رعشات تزاوج بين المتنافرات والأضداد على مستويات عدة، بحيث تتداخل الأجناس وتتجاور وتتآزر الأشكال لتحقق للقصيدة أبعادها الدلالية الظاهرة والخفية، فبقدر ما تغوص في رغبة استكشاف سرائر التاريخ واستعادة وهجه الضائع، تبذر في كل جنباتها محطات تقاطعات بين "السرد" و"الحوار" و"المونولوج" و"الحذف" والصمت، والإحالات التي تتوسل العبور إلى ذاكرة التاريخ واللغة ودلالاتهما المتعددة المصادر والأبعاد، وهي من ثمة تجمع بين المتقابلات وتتأسس على منطق بناء يؤجج حركة التفاعل والجمع بين الأدوات والإمكانات الافتراضية التي تجعل القصيدة مفتوحة على أفق احتمالات دلالية عديدة تخلق مرجعياتها ورموزها من خلال المزج بين أكثر من صياغة أو طريقة تعبير، ويتصاعد هذا المزج لمستوى الجمع بين إيقاعين متباينين: إيقاع قديم وإيقاع حديث، يجسد وجها من التأليف أو الجمع بين "سلالتين إيقاعيتين" مختلفتين، وهو شكل من "التهجين" الذي يتوخى خلق نوع من "المفارقة تجمع بين "وعيين شعريين متابينين" (58) وهو ما يوسع دائرة العبور بين مضايق ومجاري دلالية دائمة الإشراق. ومن هنا تعبر القصيدة نسيجها لتضعنا في قلب علاقات تماس وتجاور مع قصيدة "المرقش الأكبر"(59) الذي تتخلل مأساته فضاء القصيدة، وربما يكون العبور منها إلى تشييد الواقع، وحضور معاناة "المرقش الأكبر" يمنح دلالة العبور أفقا إيحائيا أو إشاريا آخر، وامتدادا في اتجاه الجذور واعتناق الشبيه أو المعادل الذي يلفه الغياب، ومن المؤكد أن تجربة المرقش الأكبر ورحلة التيم التي أطفات حياته بين يدي حبيبته تغوي الكثير من الدلالات والإحالات في ثنايا وسياقات القصيدة وهي تجربة تلتحف العبور دليلا: العبور من الحياة إلى الموت ومن الحب إلى الموت ومن الموت إلى الحب بما يحمله هذا العبور من متاهات ومن معاناة واغتراب وضياع وخيبة (كيف التماس الدر والضرع يابس)، وزيف وانكسار وإحباط (ما بالي أصاد ولا أصيد)، وإذا كان المرقش الأكبر قاده حبه إلى حتفه فإن سعدي يعبر كذلك إلى ضالة أسمائه كي يسند راياته لمتسع من حرية يقول فيها ما يشاء ويكون فيها من يشاء، وليس لديه ما يخسره سوى أغلال العبور ليفتح نار عشقه على غرناطته الوحيدة.
وبذلك يكون العبور صعودا واكتشافا وإصغاء لنبض التاريخ والواقع والذكريات في اتجاهات متعددة ومتعانقة، إلى الذات وإيقاظ هاديء لفجائعها، وإلى أزمنة يسكنها البوح الدفين الذي يتلمس طريقه نحو الفرحة الغامرة، وإلى أمكنة ساطعة في البعد والقرب تجلس مفاتنها على ضفة العشق، وليكن الماء الوادي الكبير هو البؤرة، الجسر الذي يختاره سعدي ليكون الباب الأمامي والخلفي للتيه والعشق الأبدي القاتل، وثقل التاريخ وأناته وعبق الذكريات والمنازل المطعمة بعناء السفر المضني والتعب المتناثر على طول الطريق.
4 – نصوص تحيل مباشرة إلى فضاءات الشمال الإفريقي:
خارج مؤشر تاريخ ميلاد أو كتابة القصيدة ثمة نصوص أخرى تتحرر من هذا السياق وتحيل بصورة مباشرة إلى فضاءات الشمال الإفريقي، وغالبا ما تتم الإحالة من خلال العناوين أو من خلال النصوص ذاتها خارج إشارات العناوين، وأحيانا من خلال عتبات الإهداء.
من بين القصائد التي تحيل إلى هذه الفضاءات من خلال عناوينها، قصيدة "أوراق من ملف المهدي بنبركة" (تحت جدارية فائق حسن) (60) وهي إحدى مطولات سعدي، وتتألف من أربعة مقاطع ( أوراق) كل ورقة منها تتألف من مشهدين بحيث يبدو وكأن القصيدة في الواقع مؤلفة من ثمانية مقاطع، والتوزيع الشكلي هنا له دوره في توجيه حركات القصيدة، إذ إن المشاهد أو الحركات الأولى من كل ورقة/ مقطع تترصد سيرة ويوميات المناضل المغربي المهدي بنبركة، وترسم تضاريس المضايقات والمتابعات الاستخباراتية التي تعقبت ظله في باريس أو في أي مكان. وقد أفلحت القصيدة في أن تؤسس إطارا فعليا لعملية الاختطاف والقتل عبر الإصغاء الدقيق إلى اللحظات المحتملة التي صنعت الحدث، والخطوات التي كانت تهيأ لإنجازها وضمان شروط نجاحها، ومن خلال خلق سياق حكائي يتفيأ الوقائع والأحداث ويتعقبها الواحدة بعد الأخرى واللقطة تلو الأخرى، وبحسه الشاعري المرهف يبني تاريخ وشريط انبعاثاتها،في جلبة الضواحي، وباب العمارة الهدف والسلالم التي تخبيء المفاجآت. وتظل المشاهد الأولى وفية لهذا البعد في استقصاء الجزئيات وتفاصيل الوجوه والشخصيات أبطال المشهد في شموليته، أما المشاهد الجزئية فتبدو استطرادا أو لوحات موازية تسند حركة المشاهد المركزية أو المحورية للقصيدة، فالورقة الجزئية الأولى، الثانية من حيث موقعها داخل نسيج القصيدة، يتوجه فيها الخطاب إلى ضمير المؤنث المخاطب بصيغته التجريدية، قد نفترض أنه المدينة الحلم أو الثورة المشحونة بالبهاء السري، والتي ينتشر جياع المغرب باسمها الممنوع في البقاع والممرات والحدائق، يلتمس منها الشاعر أن تصاحبه للمضي بعيدا في العشق والهبوط إلى أعماق الوطن وإضاءة عتماته، والتوغل في ربوعه وبيوتاته في القصور والأكواخ والثكنات والحانات لإعلان الميلاد والخروج لبرية البهاء. أما الورقة الرابعة فتعود لا ستثمار ضمير المتكلم وترصد سيرة الاغتراب والاضطهاد وأجواء المطاردات والترهيب التي تمارسها الأنظمة ضد المعارضين وغير الموالين لها، وتنسج الورقة أجواء من الرهبة خافية وظاهرة يتحرك فيها المخبر في كل امتداداتها من الشرايين إلى بريق العين والكرسي والمكتبة والباب والكتاب وأوراق الكتابة والنوافذ والمحطات وكل الغضون، كابوس يفتح باب الجحيم اليومي ويبعد الخطو عن حنان الأرض.
أما الورقة السادسة فتتمم دورة المشهد حيث لا يبقي في الواجهة غير صورة القتل الذي يسرج كل الاحتمالات من أجل أن يغرس نهاياته في الطرقات، يلبس القتل خف راقصة شاهرا سيفه في الممرات ووحشة الأحلام، ويتقد ليصنع مراسم الخطوة والشهقة الأخيرة، ويرد الراوي المفترض الرغبة في الرقص ويعلن أنه أسير التعب يحمل رايته ويتقدم ولا يخفي هويته مهما كانت الطريق مخيبة للآمال..
أما الورقة الثامنة فتجسد حركة نهاية القصيدة في تداخل مستوياتها ومشاهدها لتضع نهاية المناضل المغربي المهدي بنبركة، الذي يفتح عينيه على العالم السفلي، يداه موثقتان والأمواه تحمله عبر المحيط إلى الرباط، الرباط القريبة كالسيف الذي يضع حدا لبهجة الحياة في دماء المهدي ويشعل لذكراه مواقيت النسيان.
وعلى امتداد حركة القصيد وتطوراتها يتحرك أبطال من طينة خاصة: رجل يرتدي معطفا مطريا، المخبر ، ضابط الأمن، شخص طويل الخطى، يد ترتدي خنجرا مغربيا، وأماكن تتكيء على الوقائع وتبني تلاحمها: الغرفة الجانبية، المطبعة، باب العمارة، السلم، الرصيف، مشرب المغاربة، الضواحي/ الحزام الشيوعي، المطار ، المعبر، السيارة الداكنة، عتبة البيت.. وكلها أماكن أو أدوات تشكل خارطة حياة الملف والأوراق، ومن خلالها تستمد القصيدة بعض دراميتها، إنها بمعنى آخر مسرح الجريمة، ومجال تحرك الأبطال الذين تبادلوا أو وزعوا الأدوار والمهام وتنازعوها، وأمعنوا في صناعة شروط إطفاء حياة بنبركة النازفة. إن المرء ليشعر عبر القصيدة أنه قريب من كل أطوار المطاردة ويعرف خيوطها وأسرارها المسكونة بالحذر، وطاقات الألم والوجع، يحصي نبضها وأنينها حتى الطلقة الأخيرة، حيث الرباط تكون المقبرة ولحظة الخسوف الأخير.
وفي الواقع فإن المزاوجة بين التجربة الذاتية ووقائع سيرة المهدي بنبركة أغنت حركية القصيدة على مستوى التفاصيل وأضفت عليها نوعا من الدينامية التي انتشلت الأوراق من البرود، كما قوى إيقاعات الرعب التي تتساكن داخلها،والانتقال بين المشاهد/ الأوراق وفر أيضا عوامل التحرر من أي تنميط مسبق لشخصية بنبركة، ووفر حيزا أرحب للبوح والكشف الأعمق لكثير من الجزئيات واللقطات التي تدعم المشهد العام وتقوده نحو التفاصيل العريقة.
من بين القصائد أيضا قصيدة "مزرعة الزاهي محمد"(تحت جدارية فائق حسن) (61) التي يقول عنها سعدي يوسف إنها مزرعة حقيقية، والزاهي محمد شخصية حقيقية، والقصيدة بمعنى آخر إنتاج حقيقي لحياة حقيقية وفعلية، واحتفاء بمداها وبأطياف الذكريات التي كانت تترقرق بين أشجارها وأحجارها، ولا يفرط سعدي في أي من أصدائها وتداعيات معاناته الخاصة وإحساسه العابر بأنه مجرد زائر أو عابر أو لاجيء على المزرعة وإلى الجزائر على العموم، لكنه يكتشف يقظة الأشياء وفجاءتها، وامتداد التاريخ/ لأرض بين طرقات تلمسان لحدود وجدة المغربية، ويغور في الذكرى ليصل طيبة العشب والأوراق المورقة وطيبة الناس الذين ينتهون عند مغيب أغنيات قليلة يتعذر فيها الفصل بين الصواب والخطأ والحق والواجب، لكأن القصيدة مرثية الزاهي محمد الذي زرع المحبة في مزارع الكرم الممتدة مرمى العين وخاض حرب التحرير وقاتل في الصحراء ومدن الريف والجبال واجترح الرفض وكانت نهايته الإعدام.
وتتضافر أو تتداخل أجواء القصيدة مع قصة" القلعة الرومانية" التي تضمنتها مجموعة " نافذة في المنزل المغربي" القصصية، إذ بطلها هو الزاهي محمد الذي يحكي جزءا من سيرته النضالية خلال حرب التحرير. (62)
ولا تبتعد قصيدة"قصيدة مديح إلى مؤرخ مغربي"(الليالي كلها) (63) عن مجال جاذبية استيحاء ورصد التحولات التي شهدتها منطقة الشمال الإفريقي إبان حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وخاصة في بلاد المغرب، الذي كان يكتب تاريخ الصراع بين النظام الملكي والمنظمات الثورية اليسارية التي تعرضت للقمع الشرس والاعتقالات والمحاكمات الصورية المعروفة، إضافة إلى المحاولات الانقلابية التي شهدها، والقصيدة قد تكون مديحا لهذه المتغيرات والأفق التاريخي والنضالي الذي كان يرعاها، وللتاريخ الجديد الذي كانت تهفو إلى كتابته وصناعته، وحضور ألفاظ: الريف، سبتة، مراكش ، غرناطة.. هو حضور لتاريخ من التحدي والإصرار على أن السقوط أو الغرق قد لا يوقف الصراخ، وليس هناك شيء في العالم يمكن أن يغلق ريح البذرة أو يصادر أزمنة النظرة الأولى التي تبلل يمن القدمين. وقد استعاد سعدي أخيرا القصيدة ليضيف إليها الإهداء: "إلى حسن أوريد" ونشرها في موقعه مع هامش مضاف، دون أن يغير من صيغتها الأصلية. وربما كان للبعد الدلالي العام الذي يحتمي به عنوان القصيدة أثر كبير في تحويل اتجاهها أو سياقها إلى الزمن الراهن، بمناسبة تعيين حسن أوريد مؤرخا للمملكة المغربية، وهي المهمة التي لم يستمر فيها كثيرا، إذ سرعان ما تم إعفاؤه، ويبدو وكأن الإهداء الجديد يقلل من حجم الفجوة بين مرحلة السبعينيات من القرن الماضي والمرحلة الراهنة، أو على الأقل يرسم خيط تداخلات وامتدادات لسياقات أو ممارسات هي جزء من بنية النظام السياسي المغربي في الماضي وفي الحاضر.
ومن أبرز النماذج أيضا قصيدة:" خذ وردة الثلج خذ القيروانية"(64)وهي من القصائد الطويلة أو المركبة، وتتوزعها عشرة مقاطع يقوم كل منها كالعادة على مشهدين أو لوحتين، عدا المقاطع الأخيرة: 8 و9 و 10 ، وهي التقنية ذاتها التي غالبا ما يعتمدها سعدي في مطولاته، ولأن عامل السرد أو الحكي يفسح المجال أمام توسيع دائرة حركة الدلالات في القصيدة، ويتيح الانتقال من فضاء لآخر وحبك احتمالات تشابكها، فإن القصيدة كما يحيل العنوان ذات نطاقين أو اختيارين لا محيد عنهما معا، وردة الثلج، والقيروانية، وكلاهما يرمزان بشكل أو آخر إلى بعض من تداعيات الحب أو الصداقة، وفي كلا المجريين يتم تكثيف اللحظات التاريخية لحد الخصب المحمل بعبق التاريخ والذكريات الأفق الذي يفتح النوافذ على المصاريع ليجعلنا أقرب من مدينة القيروان وأهاليها وحقولها الشاسعة ومزاراتها الأليفة، ونغطس أحلامنا في قبة الهواء، ومقام أبي زمعة البلوي صاحب الشعرات، ونقرأ أسماء القبور الهلالية والثكنات الحجرية التي لاترد السلام، تحط الذكرى على أريج القيروان وبطولاتها، وتبكي التاريخ والسلاح واستراحات القوافل: التاريخ المتعب، والخيل متعبة، وعقبة الفاتح متعب، ولكن الأرض خضراء يلوح فيها الزيتون لحسابات الريح، فإلى أين الوصول، وأين الخيول:
أنا من ساعة البرج،
من ساحة الثلج، أنقل خطوي الخفيف
إلى جامع القيروان..
أقول لعقبة:
عقبة أين الخيول
وأين نريد الوصول؟
لا تستقيم قراءة القصيدة في اتجاه واحد، إنها تضعنا أمام مفترق طرق تتراكض فيه الأشياء وتعبر مدارج الذات وتاريخ الاغتراب، "عقبة" جزء من سيرة الاغتراب الطويلة، والظلال الرمادية التي توشي القيروان، تمتد للوطن ولبغداد والمدن الساحرة. الموعد مع القيروان موعد مع قطار الطفولة وقطار الضواحي والفضاءات المترنحة بالثلج والعشاء الأخير والصلاة الأخيرة والمساء المهيأ والهواء المباغت في مشرب البيرة الفاترة والتنزه بين المحطات في باطن الأرض وبذلك تبدو القصيدة وكأنها عبور من التاريخ الخاص إلى التاريخ العام، إلى فضاءات القيروان وموسكو، وهي من ثمة مجموعة من لوحات/ مرايا تسعى إلى التأليف بين ما لا يأتلف، وتجميع أشتات من مواد وأشياء ترفرف كالأغاني في الذاكرة وتحط في هذا العالم الرحب الذي تخلقه القصيدة وتذهب به إلى أبعد من التداخل والتشابك، بحيث تتحرك القصيدة عبر تموجات دلالية تتضافر من أجل صياغة تاريخ معقد بين أزمنة وأمكنة متباعدة ينفتح بعضها على البعض وينهض امتدادا له يمحو النسيان ويفتح الأمل الأبيض الذي يجعل الشاعر يكتشف ذاته وحلمه ويتغنى بالخلد الأحمر.
هذا الطراز من التعامل مع المكان يجعل سعدي وكأنه يحمل أسرار المكان ويثابر على الانخراط فيه والمشاركة في طقوسه الصغيرة المحيطة به، و يمكن القول إن سعدي يضفي القداسة على كثير من الأمكنة التي عبر إليها ومنها لأنه يبني صلات ووشائج حميمية مع الأشياء المرتبطة بفضاءاتها، ويتعامل معها من منطلق الثقة التي تمنحه القوة على اكتشاف الفتنة السرية الكامنة فيها، ومن هنا يمكن إدراك عامل تخليد سعدي لكثير من المدن المغاربية باعتبارها تجسيدا لفضاء معين على الحياة ورد الخطو إلى الأرض.
ومن المدن التي سجل ذكراها مدينة "سيدي بلعباس" الجزائرية، المدينة الأولى التي انتهت إليها خطوات ارتحالاته في البدء، وكانت المرفأ الذي آوى العمر لمواجهات أزمنة الاغتراب الفائض، يقول في إحدى مقاطع قصيدته "رسائل جزائرية"( بعيدا عن السماء الأولى)(65) بعنوان "سيدي بلعباس":
سماء بلعباس لا تنحني فيها ولا تمطر منها
النجوم
سماء بلعباس مبنية
قرميدة حمراء فوق الكروم
سماء بلعباس صخرية.
وهي صورة لمدينة مبنية فوق الحقول والبساتين، شامخة لا تنحني سماؤها، تفتح باب الضباب والغربة والقسوة، وسماؤها الصخرية بلا نهاية، إنها المائدة الأولى في خلوة الاغتراب ولا غرابة في أن تكون صورتها بهذه القسوة والجفاء.
ويخلد من خلال قصيدة "الواحة"(من يعرف الوردة)(66) اسم مدينة "طولقة" الجزائرية، الواحة المترامية الأطراف التي تقهر الصحراء أو هي الصحراء تقهرها، المدينة المهاجرة، ويهاجر إليها سعدي هجرة الخارجي إلى الباطن كما يقول، ويرسم مشاهد من سيرتها وتضاريسها التي يظللها الدخان والتراب وأوراق الزيتون والكرم والجذوع الصاعدة في برج السماء، والزاوية التي تسكنها وواكبت تاريخها العريق، وكأنما الحنين يشده إلى باطنه، إلى النخل الأصيل المروي بالذكريات السارحة، ومزار السماوات المفقودة فيعانق "طولقة" دهشة وملاذا وانبعاثا وميلادا جديدا هو الذي جاء إليها ميتا يهش على خطواته الأخيرات.
أما قصيدة "باتنة"(من يعرف الوردة) (67) فتكاد تعكس صورة اغتراب وجودي يرسم سعدي معالمه من خلال هذه التضاريس:
جبال كمكة جرداء
واد كمكة لا زرع فيه..
وهي وجه سافر لانحسار وقهر وحرمان طبيعي، يحمل أمارات الفناء والموت والغياب، ولا يترك مجالا للحياة أو الأمان، ويستكمل المعالم من خلال سيرته هو:
وأنت الهلالي
أقفر من ذرة الرمل
بدلت تيها بتيه..
إنها تغريبة سعدي التي يتقدم في متاهاتها ليشرب الصحراء ويعانق تيهها اللامتناهي، ويلون خطواته بها، إنه يرحل من صحراء لصحراء، ومن تيه لتيه، يتلون الوجود بلون المرارة والألم ولا يعود معنى للحياة غير الوحشة التي تملأ ثنيات الخطو الذي يقف في مهب كل الريح.
ولهذه الصورة امتداداتها في غير موقع، وقصيدة "الجزائر" (من يعرف الوردة)(68) تتلبس بالصورة/الوضع ذاته، لكن من خلال توظيف عناصر أخرى يتصل أفقها التعبيري بما يمكن أن يكون تجسيدا للشعور بالوحدة والخوف وعدم الأمان، والصورة التي تشكل جوهر الدلالة مكانية، تختزل إحساسا داخليا برعب المكان، البؤرة فيه هي المقهى،مقابل بؤرة زمنية، والقهوة باردة، وهو سياق لجدلية افتراض استشراء البرودة وإطباقها على الزمن والمكان معا، وربما كذلك على طريقة التقاط التفاصيل بالدقة والبرودة الحريصة على التقصي والتملي والتحديق العميق والرغبة في تزيين كل شيء بالجزئيات التي تضع المشاهد والحركات جنبا إلى جنب، وتفتح باب تناغمها وانسجامها، يدخل الشرطي المقهى، يأتيه النادل بالقهوة ساخنة، عكس السائد في المقهى، يشربها ويغادر، يكتظ المقهى بعد ذلك، ويمضي النادل ليغلق باب المقهى.وبين تصارع أفعال الدخول والخروج والفتح والإغلاق والشرب والبرودة والسخونة تتحرك القصيدة ومواقيتها لتحتكم إلى نظام قاس يحيل بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى الإحساس بالغربة والإحباط والضياع، حيث كل الأفعال سرعان ما تندفع أضدادها لتمارس محوها وتقود إلى الانتفاء أو الفراغ.
وتستظل قصيدة "سيدي بوسعيد"(خذ وردة الثلج..) (69) بسحر التاريخ المفدى ونور البيوتات والأبواب والشبابيك العتيقة، ومقامات تجليات الأولياء السائحين المحمولين على الأسرار وكنوز الحياة الآمنة، ويراهن سعدي على انتمائه لذرية الشيخ ( أبو سعيد الباجي) الذي تحمل المدينة اسمه المنقوش على رمالها وصخورها، ينادي من الشبابيك المتعانقة متسائلا عن سر المدينة وعن بهائها وعن شجرها وعن نسائها وأبوابها المفتوحة على لون الحناء، يسأل عن غرناطة والألواح التي أغرقت والأزمنة البهية التي غاض نبضها والتقفتها الريح بعيدا، لكن سرعان ما تشتعل في القلب نيران المزيد من الأسئلة، ليأتي الجواب، ويكون هو أبو سعيد الغريب الذي يواجهه الصدى من عمق الجهات:
البلاد التي تحب... بعيدة.
والبلاد التي يراودها الحلم تنأى عن الخطو وستظل ذكراها تتأرجح في أكثر من بلاد.
وتنقل إلينا قصيدة "نابل في الشتاء"(قصائد الحديقة العامة ) (70) مشاهد تتعقب التفاصيل القريبة من عمق المدينة حيث تتجمع الأمطار وتقترب الصلوات من النوء ويمتد الكورنيش عميقا في الفتنة والحريات المحتمية بالريح، والسوق المفتوح على ساعات ميلاد تعيش على حافة الكساد حيث لا سواح ولا أشباح ولا زبائن، وتظل المدينة على شأفة الانتظار: من سيأتي غدا؟. ومع ذلك فإن "نابل" تعانق الحياة وردة متلالئة:
إن "نابل" تحتمي بالبحر
"نابل" تدفع الصحراء عنها والأذى..
وقد نشرت قصيدة "نابل في الشتاء" ضمن ثلاث قصائد تحت عنوان: "ثلاث قصائد مبتلة" وهي قصائد تحيل جميعها بدرجات مختلفة إلى أجواء الشمال الإفريقي، فإحداها مثلا تحمل عنوان "رياح الأطلسي" .
في قصائد "مغربيات سبع"(في البراري حيث البرق)(71) يدون سعدي ما يشبه يومياته في مدينة مكناس المغربية، المدينة الطليقة الأنفاس كما وصفها، ويتقرى أمكنتها وفضاءاتها من خلال: النزل، والشاطيء البربري، والمدبغة وبار نوفلتي، وخزانة جامع القرويين، وساحة الهديم، والطير المهاجر اللقلق، أخيرا، وهي فضاءات يشق الطريق إليها من خلال حميمية مشحونة تمعن في الأقاصي وتمضي للدواخل لتحلق قريبا من جذورها، يقف النزل على تلة في المدينة، وعمره عمر الشاعر، العمر المثخن بالجراح وتاريخ الحروب والمسرات، الإحساس بالضياع كأنما ينساب من برود هذا التاريخ، ولكن سعدي يلملم أوراق القلق من أغان تزهر على إيقاعات الجاز حيث يصنع النزل أنسه ويستكمل معناه. ويرسو على الشاطيء البربري محاولا القبض على ذكريات كانت تسكن دربه العتيق الممتد على طول الشرق المغربي الذي يصل وجدة بسبتة ويحتمي بالفتنة، حبل النجاة الذي يشكله هذا الشاطيء والبلاد التي يخبيء أعشابها في الأعماق ويكن لها الحب المستحكم الذي لا ينطفيء.
ولأن للتفاصيل بلاغتها مهما كانت بسيطة فإن سعدي يلتقط معالم المدبغة القائمة أو المحتملة ويرسم وميضها وإيقاعها المغربي الإفريقي مبتهجا باكتشاف لون الماء والشمس الباردة والجلود الناضجة، شمس إفريقيا هي باب المدبغة وتفتح باب الحياة والموت في آن واحد حيث الماء يفقد ما هو الماء، وقطيع الماعز يستريح على طلقة الأشياء في عرائها ونضج الجلود.
ويصب سعدي حميميته على "بار نوفلتي" وصديقته "جوان" التي يأسرها الشرب وتوقظ في سرير البار نشوة تمد ذراعيها للفراديس الموعودة، ليهبط قعر مدينة مكناس من خلال "ساحة الهديم" الساحة الرمز التي تجسد نبضها وعنوانها وميراثها الخالد، وعبر الساحة يصرخ بالسلطان مولاي إسماعيل الذي منح مكناس عنفوانها ووجودها التاريخي والجغرافي، متوسلا إليه أن يقف عند حده، ويطلق جنون المدينة ليخرج أزهارها ويفتح للغيم بابا لترتوي من سحرها، وتستعيد أنقاضها فلا وقت للهدم.وآخر السبع قصيدة " سيدي اللقلق" الطائر الجواب الذي يتماهى سعدي مع سيرته الكبرى ويتقاسمه صخر الأرض ورغبة البناء..
آخر فضاءات الشمال الإفريقي التي انغمس فيها سعدي مدينة طنجة المغربية التي خلدها عبر عشر قصائد، كلها بوح منحاز لسحر وجاذبية أجواء طنجة، تاريخها، وناسها ومقاهيها وحاناتها وفنادقها وشوارعها وأقبيتها وبحارها ونبيذها ولياليها المتعبة بالأسرار وشواطئها وساحاتها وجبالها وكل امتدادات التضاريس المريرة، يمنحها كل الوقت محدقا في مرآتها ولياليها الأسطورية المخفورة بالغواية:
طنجة سيدة الأنوار السبعة
أغنية البحار..
والقصائد تلبس عباءات المكان بولع منقطع النظير، يستقصي فيه سعدي سماته وحركات الأشياء والكائنات، ووهجها العظيم، ويكتشف نبضها من خلال خرائط طريق تفرغ الأحلام في ينابيع المدينة وأسمائها المتعددة.
5 – نصوص تحيل بصفة غير مباشرة على فضاءات الشمال الإفريقي:
ثمة نصوص أخرى كثيرة تحيل على فضاءات الشمال الإفريقي دون أن تعتمد مؤشراتها الكبرى التي تدل عليها
من خلال مكان وتاريخ ميلاد القصيدة أو عنوانها، وإنما نصطدم بهذه داخل ثناياها وتموجاتها أو بعض مقاطعها.ومن هذه النماذج قصيدة" تنويعات استوائية"(الأخضر بن يوسف ومشاغله)(72) فهي من خلال تجليات العنوان وإيحاءاته القريبة لا تحيل إلى فضاءات الشمال الإفريقي ولكن القصيدة في تفاصيلها تتعقب تخومها. توظف القصيدة دلالات التنويع لتفتح العين على ذكرى ما، في محاولة إعادة إنتاج تاريخ يمر عابرا في فوضاها وفوضى الواقع وقسوته الجارفة، وتوظيف صفة استوائية لربما كانت له دلالة العودة على طقس السواء، وهو ما يمكن أن تقود إليه صيغة جملة الاستفهام التي توجه حركة تموج التنويعات ونموها: "ما الذي قد صنعت بنفسك" وهي التي تبدأ بها حركة مقطعي القصيدة المقطع الأول يحيل بصفة مباشرة إلى الجزائر الواسعة مثل إفريقيا، الغابة مثل إفريقيا، والمسكونة بالنخل المنتشر في كل المفترقات ، والبحر المترامي ككل إفريقيا.كأن الذكرى تتعلق بالبحر وترميه إلى الواجهة، لكن الضمير يعود في السياق ليعانق الغياب بعد أن كان مرتبطا بالمخاطب، وهو تحول يؤشر لمظهر التقاطع أو التماس المحتمل بين الأنت والهو والأنا. مع ذكرى البحر تحضر عطاياها وظلال حياة هاربة صاغت لحنها سيدة مهووسة بالسؤال: السيدة المشتهاة، الناحلة، الهشة التي سرعان ما تختفي ويختفي وجهها خلف الضباب. يتحرك الحوار وكأنه يتجه نحو طريق مسدود، أو يقف على حافة الإحباط، ويضيق العالم ودائرة الحب مثلما الشرفة الضيقة التي تركض نحوها الأسرار. الخطو تماما لم يبلغ البحر ولم يبلغ الحب، ولكنهما معا يعقدان أواصر محبة ما تنام تحت شهوة اللقاء. هذه العلاقات الغامضة التي تتواتر بين الذات والآخر والنحن وبلاد الجزائر الحاملة لكل صفات إفريقيا تختزل تاريخا وواقعا ملتبسا يتخذ صفة ذكرى تجري إلى البحر، وتضيق أمامها لحظات الوجود، وفيها مع ذلك ضرب من الاحتفاء ومن الرفض والتبرم، وهو ما يمكن أن نلمسه من خلال السؤال المحوري الذي ظل بلا إجابات حاسمة.
يقترب المقطع الثاني من القصيدة من خيط هذه الإجابات، لكن السؤال ذاته يفرض ثقله الدلالي وتتحدد بعض المواصفات على نحو أكثر دقة وأقرب إلى الملموسية، الضمير يعود ليرتبط بالمخاطب لكنه الآن يحقق بعض انتمائه، إنه الوجه المغربي المحترق في ظهيرة القهر والليل الجاثم الذي يقود غيوم الضياع نحو الاستغراق، حيث تسود ظلال من تاريخ الاستعباد والذل والقتل والصلب الموشى بغبار العصور البويهية المغرقة في الظلام، كأن تاريخ العراق الدامي يلاحق الوجه المغربي وتطارده لحظاته المشؤومة لذلك لا يجد غير الصراخ ملاذا: انتفض. ليعود السؤال اللازمة للواجهة: ما الذي صنعت بنفسك؟ يحفر في اتجاه مسآلة الذات والتاريخ المهجور، ويعود كيان اللحظة الأليمة مهيمنا، ويورق في الجزائر وعصفها وخبزها الداني. يتوحد الوجه المغربي مع البحر والرمل والسواحل الراحلة وتبدأ سيرة نضال أو صراع يطال الخطى من البحر للبحر ومن الموج إلى الموج، ويظل الوجه المغربي في خندق المواجهة يصوب طلقاته للعدو الممكن والمحتمل، العدو الذي يرتدي كل الأسماء. وكأن لا جدوى من المواجهة يعترف الوجه المغربي بالهزيمة أمام عدوه: الحنين/الأنين، الوطن الذي ظل يحمله في أعماقه ويخفض له أجنحة المحبة التي لا تفنى، ويتراءى له في كل الملكوت، في الشجر والحجر والماء وسقوط الثمر، وسطور الجريد والجريدة، ويلقي بنفسه في هواه خوفا منه، وعليه، وتوقا إليه ساعيا إلى ملاقاته انتسابا أو انتماء، وينتظر ميلاده على مشارف البحر أو الغيم.
إن الوجه المغربي في الواقع هو وجه مواز لسعدي، ويجسد انتماءه المغاربي خلال مقامه بالجزائر، ولذلك تستعيد القصيدة وابلا من المرارات التي استشعرها سعدي في غربته وارتدائه للوجه المغربي، الباب الذي يفتح عبره مجاري الجراح التي عانى من وطأتها خلال غربته، وتوزعه بين أوطان متصارعة" وطن أول بعيد(مدبر)، معدن البشارات الأولى، مخبوء في بئر الأعماق مسند بالحب الأول والحنين الدائم، والأنين الذي يحيل الحبيب إلى عدو، ووطن آت (مقبل) يشرب من دورة الأحلام ويغفو إلى جوار المستحيل، وهما معا يتنازعان الحب، ولا يقتربان من الخطو، في مقابل وطن (شاهد) يعانق فيه الشاعر الوجه والوجود المرحلي العابر، وبين هذه الأوطان الثلاثة يوزع نفسه وجراحه وآلامه وآماله، ويجمعها في الوقت ذاته، فكل منها ملاذ أو مأوى وموئل، لكن طريق العيش أو الارتباط بها غير متكافئة، وتولد اتجاه كل منها رغبة خاصة ، وتقود إليه ثقة خاصة تقدم قرابينها التي ترعى سيرة الغربة والترحال التي لا تنتهي.
ويمكن اعتبار قصيدة"انتهاءات"(الليالي كلها) ( 73) وجها آخر للتنويع على فضاءات الشمال الإفريقي، فهي كما يدل عنوانها رصد للحظات الانفصال أو الخروج من سحر هذه الفضاءات، وتحاول أن ترسم خط بدايات ونهايات رحلة وأواصر حاصرت الوجود بعيدا عن نخيل الطفولة. الرحلة تبدأ من شرفات وهران حيث يترك الشاعر زمنه العاتي ليلوذ بزمن مشبع بدهشة النخيل وظلال ذكريات شاردة تعلق معطف الطفولة، وتخلد في الروح، تنطلق الرحلة تحت نور شمس صباح هو الأخير. تتنهد وهران تحت فسحة البحر، كل المتاع منثور في غرف الوداع، طيور متدافعة مع الموج يغويها الرحيل، والريح تهتف بالغياب.. الرياح البعيدة مرهفة بالأغاني، والحنين يلتهب، والسفينة تهتز والأحلام القديمة تهتز، وكل شيء يمضي نحو البلاد البعيدة التي تهبط في الأعماق حيث تنأى أضواء المصابيح ورمال وهران والمغرب البربري...
في قصيدة "البستاني"(الساعة الأخيرة) (74) يتم استيحاء هذه الفضاءات أيضا، والقصيدة في الواقع عبارة عن قصيدتين متوازيتين تنساب إحداهما في مقابل أو بموازاة الأخرى وتتشابك معها في علاقات تكامل أو انصهار. وقراءة القصيدة/ القصيدتين قد لا يتأتى بسهولة لأنها تعتمد في الوقت نفسه صوتين ينطلقان من نقطة أو ينبوع واحد ويتجهان نحو هدف واحد، ولذلك فإن شكلها الكتابي قد يربك عملية التلقي وكما يشير سمير خوراني فإن القصيدة قد لا يستقيم تلقيها أو إلقاؤها إلا على خشبة المسرح إذ إن اقتران الصوتين يفترض الاستماع إلى كليهما في آن واحد.( 75) وتستقصي القصيدة سيرة تحتفي بالتجربة والمهارة والحنكة والرغبة في التعلم وإدراك مغزى الحياة والانتماء والاغتراب، إنها نشيد طفولة تعتز بالمطر والشجر والأرض والجذور ومعرفة أسرارهما، وفي الوقت ذاتها تتغنى بخط الانتماء إلى فلسطين وإلى حرفة الكتابة وإلى الحرية، والإحساس الجارف بالاغتراب، كما يمكن أن توميء إليه مقبرة سيدي بلعباس، وكأنها المنحدر وخطوة الانتماء إلى الغياب أو الموت:
في "سيدي بلعباس" مقبرة بيضاء
وفي الأعياد ترتدي البيض والأخضر:
عباءات النساء
والصنوبر
كثيرا ما فكر أنه سيدفن فيها.
وهي صورة مشحونة برهبة الاغتراب التي تزرع الوحشة ولا تقود إلا للإحباط والغرق في هاوية الفراغ والخوف من الخطوات التي لا تتربص بها غير هاوية الموت.
وتقترب بنية قصيدة "العمل اليومي" (الأخضر بن يوسف ومشاغله ) (76) التشكيلية من قصيدة "البستاني"، إذ تراهن بدورها على تعدد الأصوات، وتستثمر فضاءاتها آفاق الشمال الإفريقي، وهي من ثلاثة مقاطع ينتهي كل منها بأغنية يتم تسييجها بإطار مما يوحي بانفصالها عن السياق مع أنها جزء من الامتداد الطبيعي للمجرى الدلالي للقصيدة .
وتتماهى المقاطع الثلاثة بعضها مع بعض من حيث بنائها واستثمارها موادها، ويمكن القول إن بناءها متشابه ومتداخل وهو ما يعني بالضرورة التشابك الدلالي الذي يهيمن عليها، وثمة أفعال مضارعة "مكانية" هي التي تميز كل مقطع أو مشهد على حدة، هذه الأفعال هي التي تحدد"هوية" الفاعل المسند للغياب، في المشهد الأول يكون الفعل "يهبط"، ويتكرر مع بداية كل سطر شعري، هو المفتاح الدال المركزي الأول، وفي المشهد الثاني يكون الفعل "يجلس"،ويتكرر خمس مرات، وفي المشهد الثالث يكون الفعل"يفتح"، ويتكرر خمس مرات كذلك.وفي كل سطر شعري تتغير تحديدات أو توصيفات الأفعال الثلاثة ضمن دائرة متغيرات مختلفة، تجسد طقسا لأوضاع تتعانق تجلياتها في ما بينها وتصنع تضاريس هويات متلاحمة ومتراصة، إضافة إلى أن كل مشهد أو مقطع يتضمن دالا مكانيا ثابتا ومركزيا لا يتغير هو: "غرفة بالطابق الرابع، في عمارة ، في ساحة التحرير" وهو تدرج مكاني مقصود ينزع نحو الضبط والتدقيق، لكنه في الوقت ذاته يؤسس لحركة الخروج أو الانعتاق من دائرة الأفق الضيق إلى الأفق الرحب والشاسع. وفي غمار دورة هذه الأمكنة تتمركز الدلالة على أشياء مكانية، لها علاقة وطيدة مع دلالات الأفعال المشار إليها، في المقطع الأول يتعلق الأمر ب"مكتبان" وفي الثاني "كرسيان" وفي الثالث "دولابان" مع ملاحظة أن بنيتهما منتظمة داخل التثنية. يراكم المكتبان الغبار ويغلقان الأفق وشهوة الأغصان، حيث ترتمي العينان ولا ترى غير أسراب من نوارس ملقاة على الشطآن،بينما الكرسيان رماديان يبتعدان عن بعضهما بقدر الأسماء، وتمسح عنهما الستائر طعم الشيح والموج والشطآن، والدولابان مغلقان على أسرارهما، يراكمان الأحقاب والأحقاب، تقتحمهما فجأة فتاة فلا تلقى غير الفراغ، وتخرج عارية اليدين.كل الأشياء إذن مطعمة بفكرة الفراغ، وتكرس الاغتراب والشعور باللاجدوى والضياع، وتعمق الإحساس باللاانتماء، وهو ما تعلن عنه حركة أفعال: الهبوط، والجلوس والفتح، فكلها تحشد مجموعة من المواصفات تفتح رغبة الانتماء و تقود نحو اعتناق أكثر من هوية وكأنها تتوخى احتواء الوجود/ العالم كاملا: الهبوط من غرناطة، ومزارع الكرم الفرنسية، والمنافي، البئر المغلقة، والجلوس بين العشب والجند والماء والأسماء وتحت الأضواء، وفتح الباب المغربي باب المقامرات والجراح.. تغلق الأغنيات الثلاث امتدادات الأفعال الثلاثة، وتبدو وكأنها إطار إعلان لهوية واختيار يبدأ من النبع ويرفد الأرض ويجمع الخطو المشتت في السفر المفتوح.
على كل فإن القصيدة تقدم العمل اليومي بوصفه روتينيا قاتلا وفاقدا لنسغ الحياة، ولكنه مع ذلك يوقد بارقة إيمان وأمل في البئر المظلمة والظلمة المدلهمة، ويدفع للإبحار دون اعتبار لحسابات الريح.
في قصيدة "أبيات"(خذ وردة الثلج) (77) يتولد الإحساس بالضياع والألم الجمر بصيغة أخرى، حيث يرسم سعدي تغريبته ويروي جذوعها بهذا الإقرار:
ليس لي من أعالي الرباط
سوى وردة ذبلت
وقميص امرأة...
فماذا عساه أن يفعل بهذه الوردة الذابلة التي تلقاه في نهاية رحلته أو بداياتها وهذا القميص الملطخ برائحة امرأة رحلت صوب المجهول، وظلت ملامحها خافية في قاع الذكرى، قد يطول السفر أو يقصر، قد يطبق الظلام أو يباغته فجأة بعض الضوء العجيب، لكن مع ذلك لا وطن يقترب من الهمس، ولا يظل في الخطو غير الجمر الأنس الوحيد الذي يغور في رجفة العمر..
وتعكس قصيدة "محاولة انفلات"(حانة القرد المفكر) (78) الحيرة المستبدة التي تعبث بقدر سعدي، وتجعله أكثر اقترابا من دوامات القبض على الفراغ، والعنوان يشير لحالة الحصار واليأس والضيق أو الاختناق ولحظة البحث عن فسحة انعتاق من حدود هذا الفراغ المقيم، والعنصر الثابت في كل تموجات القصيدة هو السؤال الذي يشتهي القبض على اليقين ليهزم قامة الشك:
كيف لي أن أسافر هذا المساء إلى طنجة؟
تبدو طنجة المغربية حلما، أغنية غامضة في فضاء ما، تنشر أجنحة سعادة مفرطة، لكن كيف السبيل والريح ترتد إلى الخطو، والمساء آخذ بالخناق، والوحشة تشق الصمت، والحديقة يابسة يباس الوجود، والبرد يئز في هدوء المحطات.؟
لا تكون طنجة الملاذ أو الوجهة المفتوحة القمصان، ولا كوستاريكا، حيث الأصدقاء يلملمون ذكرياتهم الليلية.. ولكن سعدي "يريد المكان" أي مكان ليبني من أجزائه غرفته التي يذرع فيها حريته، غرفة في الفضاء تطير بعيدا، ولا يلقى فيها غير نبضه والهواء القادم من الأعالي.
ويظهر وكأن قصيدة "مسودة أولى"(شرفة المنزل الفقير)(79) تراهن على توفير سبل محاولات الانفلات التي قام بها سعدي، وتقدم الجواب عن السؤال "كيف"، ويكون القرار:
سوف أمضي إلى المغرب:
انفتحت باب سبتة..
وفي زحمة الطريق ربما يحرص على أن يختار طريقه الضائع، أن يقيم الصلاة ويعلي البرنس ملاذا ومنزلا، ويرتدي كل الصفات التي تجعله مغاربيا، غير أن الصدمة مرة أخرى تثقل كاهله وتقتل أغصانه وتباعد بينه وخطاه وأمنياته المطوقة، يدخل باب المغرب كأنما يدخل باب السبات، لا طير ولا حجر التفت إلى ذكراه، لذلك يحمي بجبته ووحدته، وحالة التيه/ البياض الذي يمنحه هويته، عباءة الصوفي العاشق:
إن سبيلي الفلاة...
بذلك يفتح المغرب بابه للاغتراب والارتحال الجريح.
الملاحظ أن سياق الأسئلة الكبرى التي تعكس حرقة الأسى وقسوة الاغتراب، غالبا ما يستدعي الفضاء المغاربي بشكل آلي وطبيعي، وكأنه بارقة الأمل والخلاص التي يسبح سعدي بحمدها.
يتجدد السؤال الوجودي في قصيدة"المتاهة"(الشيوعي الأخير يدخل الجنة) (80) ويورق على مشارف القلق الرحيب:
إلى أين أهبط في مهبط الليل؟
الليل صاخب، طويل كليل امريء القيس، عريض كليل النابغة، ثقيل كالصمت أو الموت أو الرصاص، يحاصر نبض الروح ويوقظ برج الذكريات الشجية التي تجلس على قارعة العتمات، يدور السؤال دورته ويخرج ما بذره العمر من خطوات وما نزفه من دماء، وما طرقت الأقدام السائرة على حافة الوله: حانات القرى الغاربة، والنساء الراسيات على فلك النهايات، والقطارات التي تمر سراعا، ويهزم صفيرها الحنين، والمطر المتلألئ على أعقاب الزجاج..
ما أجمل السفر، وما أجمل الرحلة، ولكن من بمقدوره أن يحملك على أن تطير، وتحلق في السماء والغياب؟ لا يفقد سعدي مودته مع العالم، مع رغبته في الهبوط والرحيل والسفر، لكن المسافات تخونه، ومع ذلك يتذكر أن ثمة سماء عالية علو السماء قد يشد إليها الرحال، ويعانق فيها فرحه الأول ويروي ظمأه الآبد للرحيل، سماء أبعد من جامع عقبة، ومن أسوار مراكش الحمراء اللامتناهية، ومن بلاد السند والهند والبهار ومن كل إفريقيا المبللة بالأساطير:
ثم سماء سماوية
هي أبعد من جامع القيروان
ومن سور مراكش اللانهاية.
أبعد من زنجبار والبهار
ومن كل شاطيء شرقي لإفريقيا
ومن مركب الهند...
إن شئتها جئتها.
إحدى القصائد المتميزة في هذا الباب هي قصيدة "مجاز وسبعة أبواب"(محاولات)(81) وصيغة العنوان تعكس البنية التشكيلية للقصيدة، إذ تتوزع بين مجاز وسبعة أبواب أو مقاطع، على اعتبار أن المجاز يحافظ على بعده المكاني ( المكان الذي يجاز فيه) وهذا قائم لأن المقطع يحيل إليه، حيث تتردد في ثناياه أصداء هذه الاستفهامات: أي باب منك أطرق؟ كيف أدخل؟ وهي الأسئلة العتبات التي تقودنا إلى الغوص في تفاصيل امتدادات القصيدة والعبور من أبوابها السبعة التي تنفتح على عوالم مسكونة بالخوف والرهبة والعسف والارتحال وتاريخ يضيء ردهاتها مزهو بمواعد من نور. ومنذ المجاز تتابع الأسئلة عن أي الطرق تؤدي إلى مراكش الحمراء، لتنتهي عند أسوارها الشاخصة، واكتشاف أسرارها، وهو اكتشاف يوجهه ولع جارف بفضاء مراكش الأسطوري الموشى بلون النحاس وبهار التاريخ العريق.
في الباب الأول نقف على سيرة سفر غير مرئي يتخلل الفصول والأمكنة، تجيء غرناطة، يلفها الثلج والرمل والشمس، وتستدعي أبعد من ذلك، حيث يحضر نخل الضواحي ليفتح الخطو على امتداد أرض الله، يهاجر النخل، تقلع السفينة لترسو على سواحل إفريقيا المنفى والملاذ البعيد، ويتولد الإحساس بالغربة والوحشة، حيث لا أنيس وحيث الطواف حول الأسوار يمضي للانهاية، ويتصاعد الشوق إلى عناق الأحبة الذين ذهبوا. وفي كل حال فإن الإشارات التي يتم استثمارها عبر هذا الباب تحيل إلى عتمات رحلة تتسع لبياض العمر وتتبع خيط أمل يعلو في الأفق برجا وحيدا يتوسد البعاد، وينزل في متسع العزلة..
تضيق الدائرة عبر الباب الثاني ليغدو "البيت" البؤرة الدلالية المهيمنة، الأفق والملاذ الذي تستثيره رحلة الاغتراب والانفصال ليلملم الوجود والخطوات، ويتوسد تاريخ الأنين الذي يملأ سعة الحياة وضيقها، البيت علامة الاستقرار المكاني والوجودي، يقودنا إلى مسارات من طفولة شقية تستند إلى حائط ذكريات يوقظها: البيت محاصر بالماء من الجهات الثلاثة، يأتيه من بعيد، حيث الذرى تبدو عصية على التدقيق، لكنها بيضاء تخفي وراءها امتداد الصحراء ومعالم إفريقيا السوداء ومملكة الممالك "تمبكتو" مدينة الأساطير والرجال الملثمين، تضاريس تفتح العين على خارطة من فروض جغرافية وتاريخية تكاد تضعنا أمام المرآة لنتقرى الملامح الطبيعية التي يمكن أن ترتديها مراكش الحمراء، أو على الأقل هكذا تغرينا الحدود المرسومة. ومن صلب هذه الصورة أو الخارطة تولد صورة أخرى موازية للبيت، المواصفات ذاتها، البيت محاصر بكل الماء وجداوله تداعبه أيدي الطفولة اليانعة وتعبث بفوضى أعشابه، لعل شمسا أو قمرا يصعد من الأعماق، ولكن هيهات، فالبيت خلف غيمة، ولم يعد ملاذا أو موئلا للأغاني والصلوات الغريرة.صورتان متقابلتان لبيت يتدلى عبر رحلة العمر في كفة حلم يعبر مسالك وعرة وحادة تجعل الخطو أشلاء تذهب حيث تشاء وحيث لا تشاء.الصورتان مشدودتان إلى البيت الأول كعلامة تذكر وعلامة حياة، وسيرة الاغتراب والخطو المعلق على جسر سنين الارتحال المتعاقبة تضع هوية البيت موضع تساؤل، إذ حين يغدو أبعد من تخوم النجوم، ومن حدود العين، وتنأى جهاته عن القبض فإنه يصبح بلا معنى:
إن كانت جهات البيت في مراكش التاثت
فهل معنى لهذا البيت.
وإذا كان الطريق إليه ملتبسا، علي أنا
فما جدوى طريق البيت؟
وينفتح الباب الثالث على سيرة خاصة يختار عبرها الشاعر أن يمتهن أعرق وأقدم الحرف والفنون في التاريخ (سأكون خزافا) مهنة الخلق، ويستعجل الرحيل لأن الصناعة التي يتولاها تمضي به إلى أبعد الحدود، إنه من يخلق أو يبدع أو يشيد الكون، ويخضع الصلصال لصورة الطير، ويستطيع أن يطير. صانع الطيران هو أول الطائرين. وطقوس الحرفة وثمراتها الساقطة تعود بنا إلى التاريخ حيث البنادق المشهرة والأسواق الشعبية المكتظة المزدحمة باللغات والثورات المهدورة التي يستعيد من خلالها سعدي ابن حفصون الثائر الأندلسي الذي كانت ثورته " سمر الركاب وحديث الرفاق"(82) والتماهي مع مقاومته للسلطة والطغيان، ويكون ابن حفصون المعلم والمنارة التي يستهدي بها، غير أن الالتجاء إلى التاريخ لا يلغي راهنية الأحداث والوقائع. سيرة الترحال وكل ما جرته سنوات الاغتراب لا تضفي على الصناعة إلا بعدها المتمرس، وتفتح باب الاكتشاف، هي التي جعلت منه الطائر الجواب، الذي ينتهي عند تاريخ / مساء صعب فيحتار أي اختيار يتبناه:
أدخل
أم أغادر مرة أخرى؟
لقد وشى سعدي سيرة انتمائه التاريخي والثوري بنطاق من الألفة والبساطة من خلال هذه الحرفة الأليفة التي تعلن عن إرادة حقيقية للخلق ومواجهة وحشة التاريخ، هل تحمل شقاوة الخزاف ظلالا من سيرة ابن حفصون ونهاياته الموؤدة، قد يكون الأمر كذلك، لأن وجع الثورة هو ما خلق لحظة التماهي واستعادة ابن حفصون ثائر جبال الثلج الأندلسية.
ويدخل الشاعر من الباب الرابع طلقة المدينة طارقا مراياها، لكنه يدخل مرة أخرى كالحائر تتوزعه أسئلة الوجود عمن سيلقاه أو يفتح له أحضانه، هو المتعب الذي أضناه السفر وأنهكته وحشة الطرقات، وكل المساء، وكل المدينة موصدة، والعسس يراقبون سماءها الجميلة، ولا يجد غير أن يستغيث بعائشة، عائشة البهية، الشمس النبع الجديد الذي سيعود به إلى لقاء الحلم/ الأرض ثانية، يناديها أن تفتح من قصرها المسحور نافذة وتطل لهذا القادم من بعيد ، وخانته المواعد كلها، وخابت الطريق بين يديه، وهو مع ذلك بحاجة إلى مزيد من البقاء، لكن تذهب خطاه سدى، وكل هتافاته تذهب أدراج الرياح، وأفق الفجر ينأى فمراكش الحمراء مغلقة الجهات، لا همس ولا تلويح، وعائشة تبتعد يداها ولا تقترب مفاتنها من النافذة، والبقاء للصمت وللبعاد، وحدها الطرقات تحتمل السرى على المضض، وترتضي النار مهدا أو ميلادا جديدا..
ويفتح الباب الخامس سيرة الهوية من زاوية خلق أخرى، قد تكون قراءة الكف واستقراء الخطوط، صورة الخزاف حاضرة بقوة، الخزاف صانع خطوط، كائنات تنزف حياة من نوع خاص، الخطوط متشابكة، خطان متعانقان وثالث متجه نحو السبابة يغور فيها أو يغريها أو يرغمها على أن تشير أو تسير إلى اليسار، الخط الأبدي العريق، ومع ذلك فالليل ما يزال يذرع ببطئه مدارج السور، والمدينة محروسة والبنادق ما تزال ترعى دفئها..
كأن عالم صناعة الخزف، يقود إلى رؤية أبسط وأعمق للواقع، لكن باب الرزق فيها مغلق، لأن كل الرياح تذهب بخيراته وخيرات البلاد،حيث تبدأ دورة السرقات وتتسع السماوات والمدائن للبناء، تتعالى الأسوار والأبراج ويتكاثر الجند وتتناسل السجون وتغدو الدولة الناهبة، الشجرة الوحيدة، ولا أحد يظلل المسافر الذي أنهكته المسافات.
تقود قراءة الخط من خلال الباب السادس إلى عالم رهيب، إلى السماوات الرماد، وإلى لحظة اعتقال في فجر أسود من تاريخ مراكش الحمراء، تتأجج نيران القهر والاضطهاد والقمع ويمضي الغربان بالفرائس نحو الباب الذي بلا سماء وبلا أرض، وبتقنياته السردية البارعة يتولى سعدي رصد هذه التجربة عبر تفاصيل دقيقة ومدهشة تكتنز كثيرا من الحقائق التي تختزل الأشياء والأفعال وتتولى تكثيفها في لحظة خاطفة معبرة.
أما الباب السابع فيقودنا إلى بوابات ومداخل شتى لكون، ربما لا حدود له، لكن يحكي ويؤوي في كل لحظة قسوة أزمنة النفي والاغتراب والقهر، وبارقة الأمل الذي يغطي جمر الساحة، ويحمله سعدي على طول الطريق إلى مدينة الحلم الأبدي"حلم آباد" التي ترعى زهرة الإكسير ، زهرة الخلود..
لا بد من التأكيد أن قصيدة "مجاز وسبعة أبواب" ذات أهمية خاصة، إذ بالإضافة إلى أنها تحفر في تضاريس وذاكرة وتاريخ مراكش الحمراء وسيرة لياليها، وتستكشف العالم من داخلها أملا في امتلاك جزء من بريقه النائي، تحبل بملامح ملحمية وأسطورية تستلهم أهوال العالم الآخر ( الجحيم) كما تستلهم فضاءات ملحمة جلجامش الخالدة التي يرسم سعدي من خلال شذراتها وأضوائها البعيدة صورة لعالم من ألوان ومن سيرة تنام فيها الأهوال وتمد جذورها في كل دورات التاريخ، وهذا هو البعد الذي جعل منها قصيدة أقرب إلى حكاية أسطورية نسافر فيها وعبرها في حقائق العالم وتحولاته ونجتاز طريق المغامرة من أجل امتلاكه وخلقه من جديد وضمان الخلود للنور والحياة الهادئة الآمنة فيه.
6 – الإهداءات:
تحيل بعض القصائد من خلال عتبة الإهداء على فضاءات الشمال الإفريقي، أو على الأقل تستظل بإيحاءاته، ويتعلق الأمر بأربع قصائد: الرماة ( إلى ابن خلدون) (قصائد أقل صمتا) (83) وتندرج ضمن المطولات، وهي من خمس مقاطع تستسلم في شموليتها لارتباكات كثير من الوقائع والأوضاع التي ينتشلها سعدي من عمق تجربته ومعاناته متحسسا طريق الاستعانة بالمواقف التي عبر عنها ابن خلدون خاصة في ما يتصل بالصراع التاريخي بين الحضر والبدو والحضارة والبداوة وخراب العمران، وما يرتبط بهذا المجال. والقصيدة قائمة على تكثيف متميز لهذه الوقائع لدرجة من التجريد والترميز تسمح بإمكانيات تأويل غنية بحجم اتساع احتمالات الصراع الذي ترعاه القصيدة بين أهازيج الليل والنهار، حيث تختلط فيها السيرة الخاصة بالسيرة الجمعية ويتحدان في صلاة أو معركة أخيرة، لتبزغ المدينة في الأفق جاهزة ويكون الرماة هو القادمون كالأرماح إلى العراق، العراق: المياه، المراعي، والقرى..
أما القصيدة الثانية فهي مهداة إلى الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي(قصائد ساذجة) (84) و يفتح سعدي من خلالها نافذة الصباح على القواسم المشتركة بينهما والتي يشكل الاغتراب أحد مرتكزاتها، حيث تظل الضواحي الغريبة هي الوطن وإليها الرجعى. أما القصيدة الثالثة فهي مهداة إلى الشاعر التونسي بشير قهوجي(قصائد ساذجة) (85) حيث يستعيد ذكريات القيروان وبيت بشير السطحية والأشياء الصغيرة التي تمسك بجناحها وتتشظى على حافة الرحيل. أما الرابعة فهي قصيدة "المقبرة البولونية"(قصائد العاصمة القديمة) (86)وهي مهداة إلى الكاتب المغربي الراحل محمد شكري.
ويمكن أن نضم إلى هذه المجموعة من القصائد قصيدة " ابن عائلة ليبي مقيم في روما"( حفيد امريء القيس) (87) وهي القصيدة الوحيدة التي تشير إلى ليبيا ربما في تجربة سعدي كلها، وهي قصيدة تضعنا أمام لحظة اختيار صعب بين الحرية والقهر،بين الوطن الأول والوطن الثاني، بين الوطن الأصلي والوطن المنفى أو الملجأ، ويكون الانحياز للحرية، بطبيعة الحال، وللوطن المنفى ما دام يوفر لحظة أمان ويمنح لحظة إحساس بالوجود مهما كانت ظروف هذا الوجود قاسية ويلفها البؤس والحرمان والفقر. وقصيدة "في منزل محمد بنيس بالمحمدية" ضمن مجموعة قصائد فارموند.(88)
ويمكن القول إن خط وخيط الإهداءات يصل القصائد بوقائع جاذبة تهيمن على أفقها وتجعل إيقاعاتها مشدودة إلى ذكريات ورموز تشق طريقها إلى البروز، ويحاول سعدي أن يحولها إلى ملك جماعي مشاع وينتشلها من بئر التاريخ المنسي إلى سطح الدلالات الكبرى وإخضاعها لمنطقها العام.
7 – نصوص الأخضر بن يوسف:
تشكل نصوص الأخضر بن يوسف النصوص الأكثر اقترابا من قراءة الواقع والأوضاع في الشمال الإفريقي، وحاولت التغلغل في كثير من وقائعه والتطورات السياسية والاجتماعية المواكبة، بحيث يبدو الأخضر بن يوسف منخرطا تماما في عمق التحولات التي كانت تشهدها المنطقة، على الأخص في المغرب، والقصيدة الأولى "الأخضر بن يوسف ومشاغله"(89) حافلة بمقتضيات الإحالة إلى القضايا الكبرى أو المشاغل التي عانقها الأخضر، وحقق من خلالها وجوده، وفي مقدمتها ظاهرة القمع والاضطهاد المتفشية في المغرب أساسا والتي ميزت حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وهي مشاغل طالما وقف عندها سعدي كذلك في مجموعته " نافذة في المنزل المغربي" واستطاع أن يرسم من خلالها تفاصيل المضايقات والمطاردات التي يتعرض لها الثوريون المغاربة. إضافة إلى هذا فإن الأخضر يتقاسم هذه المشاغل مع سعدي إذ يبدو أن مصيرهما واحد، وأن الظروف ذاتها هي التي تتحكم في سيرة وحياة كل منهما، وتجعله يستريح على غير اليقين، ويركض نحو وهج الثورة المستحيلة. والقصيدة هي فضاء لا قتراب حميمي من المشاغل الحقيقية التي تؤرق كلا منهما ، لكنها في الوقت نفسه إطار لتحديد معالم الالتقاء أو الاختلاف ومناطق التنازع بينهما ، فرغم توحدهما فإن لكل منهما مشاغله الخاصة التي تتباين بحسب مضامينها و جذورها.
في قصيدة"حوار مع الأخضر بن يوسف"( الليالي كلها) (90) ينزل سعدي عبر هذا الحوار، المونولوج،إلى قعر المشاغل ذاتها، مستكشفا وقائع وأجواء الاعتقالات والقمع التي شهدها المغرب في حقبة السبعينيات بما ينطوي عليه هذا الاستكشاف من رفض وتحريض وإصرار على المضي في طريق الكفاح والنضال حتى تنفتح أبواب الصحراء الخشبية، والكتب الممنوعة، وأبواب القصر الملكي وأبواب الموت، كيما يتيسر بناء عالم أجمل تصل فيه البندقية منتهاها، وينام البحر على سعته. وهذا بعض ما تستعيده كذلك قصيدة "عن الأخضر أيضا"(الليالي كلها)(91) التي تبني أفقها الدلالي على استكناه الوضع في المغرب وحملات القمع والاضطهاد السائدة في ذلك الإبان.
وتنحو قصيدة " كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة" (الساعة الأخيرة)(92 ) منحى آخر، حيث المشاغل تتصل بالكتابة والقصيدة الجديدة، وترسم طريقهما على خارطة ما يمكن أن ندعوه الالتزام الذي تصوغ بنوده الوصايا أو الملحوظات العشر التي دونها الأخضر خشية نسيانها، وهي وصايا بمثابة المباديء العامة التي ينبغي أن توجه سلوك الأخضر باعتباره منتميا للفئة الضالة. وتستعيد قصيدة "انغمار"(قصائد أقل صمتا) (93) مرة أخرى أجواء الرعب والرهبة التي تلاحق الأخضر ووحدته وصحوته التي تتشبث أبدا بالسدرة المشتعلة، أما قصيدة " أوهام الأخضر بن يوسف" ( من يعرف الوردة) (94) فتوقظ ذكريات الاغتراب الذي يغرز سكينه في عمق الخطو، ويؤجج الإحساس بالضياع واللاجدوى، حيث تنأى البلاد وتتنكر لضوعه ولا يعود الوطن غير شظايا مرآة متكسرة الأغصان.
أما قصيدة "رسالة أخيرة من الأخضر بن يوسف"(حفيد امريء القيس) (95) فهي استعادة لصورة الأخضر ومكابداته بعد عقود من الغياب، وفيها استعراض لمجمل الأخطار والويلات والحروب والتقلبات التي شهدها وظلت محدقة بحياته، طيلة رحلة كان الموت فيها يقترب من الظل في كل لحظة، في اليمن الجنوبي وفي بيروت وفي تونس وفي كل مكان، وتجدد ذاكرة الانتماء وأواصر الالتقاء واستمرار الحياة الدافقة السائرة على أجنحة الضياع والاغتراب:
نضرب الصنج ثانية في العراء.
إن شخصية الأخضر وتماسها أو تقاطعها مع شخصية سعدي شكلت في الواقع أفقا جديدا لإمكانات استثمار صوت ثان يخنزن بداخله طاقات رمزية وإيحائية عديدة ومتنوعة فتحت الباب على مصراعيه أمام التقاط وقائع اجتماعية وسياسية ترتبط بالأوضاع في الشمال الإفريقي وتوظيفها في تأسيس وعي جمالي خاص بها عبر من خلاله سعدي عن استراتيجيته الشعرية وقوتها التعبيرية الفريدة.
ويبيح لنا هذا الجرد العابر والسريع، فرصة التأكيد أن الشاعر سعدي يوسف وظف شعره باعتباره أداة كشف واكتشاف لفضاءات الشمال الإفريقي، وحقق من خلاله انتماء فعليا إلى هذه الفضاءات من خلال أواصر القربى أو العلاقات الحميمية التي أنشأها مع الأشياء ومع الأمكنة ومع الأزمنة التي استدعاها أو التقطها من صلب الواقع، وانحاز إلى استثمارها وتحويلها إلى مواد ورموز وموضوعات خالقة للغاته وصوره وأفقه الشعري.
سعيدي المولودي
1 – سعدي يوسف: خطوات الكنغر:آراء ومذكرات. دار المدى .دمشق الطبعة الأولى 1997.ص:57
2 – سعدي يوسف: خطوات الكنغر...ص:88
3 – سعدي يوسف: لا وطن ولا منفى(حوار) مجلة "البيت"( مجلة بيت الشعر بالمغرب). العدد 13/14.صيف 2009.ص:16.
4 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية. 1 الليالي كلها.دار المدى.دمشق. الطبعة الخامسة.2003. ص:516.
5 - المصدر نفسه.ص:565 .
6 - المصدر نفسه.ص: .322 .
7 – المصدر نفسه.ص: 403
8 - المصدر نفسه.ص:340 .
9 - المصدر نفسه.ص: 352.
10 – سعدي يوسف: نافذة في المنزل المغربي.قصص من هناك.دار ابن رشد. بيروت.1979.
11 – سعدي يوسف: الأعمال الشعرية. 1 الليالي كلها...ص:193.
12- المصدر نفسه: ص:345.
13 - المصدر نفسه.ص: 368 .
14 - المصدر نفسه.ص:364 .
15 - المصدر نفسه.ص:376 .
16 - المصدر نفسه.ص:365 .
17 - المصدر نفسه.ص:367 .
18 - المصدر نفسه.ص:328.
19 - المصدر نفسه.ص:348.
20 - المصدر نفسه.ص:353.
21 - المصدر نفسه.ص:356.
22 - المصدر نفسه.ص:361.
23 - المصدر نفسه.ص:385.
24 - المصدر نفسه.ص:337 .
25 - المصدر نفسه.ص:380.
26 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.2 من يعرف الوردة.. ص:108.
27 – المصدر نفسه ص: 109.
28 - المصدر نفسه.ص:106.
29 - المصدر نفسه.ص:113.
30 - المصدر نفسه.. قصيدة "مراجعة"ص:115.
31 – سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.1 الليالي كلها..ص:336.
32 – - المصدر نفسه.ص:416.
33 – - المصدر نفسه.ص:412.
34 – - المصدر نفسه.ص:414.
35 – - المصدر نفسه.ص:343.
36 –- المصدر نفسه.ص:436.
37 – - المصدر نفسه.ص:328.
38 – - المصدر نفسه.ص:333.
39 –- المصدر نفسه.ص:199.
40 – - المصدر نفسه.ص:168.
41 – - المصدر نفسه.ص:160.
42 -- المصدر نفسه.ص:190.
43 – سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.2من يعرف الوردة.قصيدة:" هلاليون".ص:102.
44 – المصدر نفسه.ص:362.
45 – المصدر نفسه.ص:363.
46 – المصدر نفسه.ص:361.
47 – المصدر نفسه.. قصيدة:نبيذ.ص:369.
48 – المصدر نفسه.ص:364.
49 – المصدر نفسه.ص:365.
50 - المصدر نفسه.ص:367.
51 – سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.3 جنة المنسيات.ص:349.
52 – المصدر نفسه.ص:351.
53 – سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.1 الليالي كلها.ص:617.
54 – المصدر نفسه.ص:371.
55 – المصدر نفسه.ص:433.
56 – المصدر نفسه.ص:346.
57 - المصدر نفسه.ص:162.
58– انظر:محمد الغزي: وجوه النرجس..مرايا الماء: دراسة في الخطاب الواصف في الشعر العربي الحديث.كلية الآداب والعلوم الإنسانية.القيروان،مسكيلياني للنشر والتوزيع.تونس.الطبعة الأولى 2008.ص:169.
59 – يضمن سعدي قصيدة عبور الوادي الكبير بيتا للمرقش الأكبر من قصيدته التي مطلعها: "أمن آل أسماء الطلول الدوارس.."هو: إذا علم خلفته يهتدى به: بدا علم في الآل أغبر طامس. مع تغيير في الشطر الثاني: بدا علم في الآل أشقر مفتر.انظر: ديوان المرقشين...تحقيق: كارين صادر.دار صادر.بيروت.الطبعة الأولى 1988.ص:58.
60 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.1 الليالي كلها.ص:118.
61 - المصدر نفسه.ص:138.
62 – سعدي يوسف: نافذة في المنزل المغربي. ص:59.
63 – سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.1 الليالي كلها.ص:68.
64 – سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.2من يعرف الوردة. ص:381.
65 – سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.1 الليالي كلها.ص:340.
66 – سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.2من يعرف الوردة. ص:62.
67 - المصدر نفسه.ص:82.
68 – المصدر نفسه.ص:93.
69 – المصدر نفسه.ص:360.
70 – سعدي يوسف: الأعمال الشعرية. الجزء السادس. منشورات الجمل. كولونيا .ألمانيا. الطبعة الأولى 2009. ص:426.
71 – ديوان: في البراري حيث البرق. موقع سعدي يوسف.
72 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.1 الليالي كلها.ص:183.
73 - المصدر نفسه.ص:73.
74 - المصدر نفسه.ص:27.
75 - سمير خوراني:المرآة والنافذة:دراسة في شعر سعدي يوسف.دار الفارابي.بيروت.الطبعة الأولى2007.ص:352.
76 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.1 الليالي كلها.ص:179.
77 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.2من يعرف الوردة. ص:370.
78 – سعدي يوسف:الأعمال الشعرية.المجلد الرابع.حياة صريحة.دار المدى.الطبعة الأولى 2002.ص:193.
79 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية. الخطوة الخامسة.دار المدى. دمشق.الطبعة الأولى 2003.ص:25.
80- سعدي يوسف: الأعمال الشعرية. الجزء السادس. ص:216.
81 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.3 جنة المنسيات.ص:183.
82 - لسان الدين بن الخطيب:الإحاطة في أخبار غرناطة.تحقيق:محمد عبد الله عنان.مكتبة الخانجي.القاهرة.الطبعة الأولى 1977. المجلد الرابع، ص:40.
83 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.2من يعرف الوردة. ص:33.
84 - سعدي يوسف:الأعمال الشعرية.المجلد الرابع.حياة صريحة..ص:77.
85 – المصدر نفسه:ص:81.
86 - المصدر نفسه:ص:369.
87 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية. الجزء السادس. ص:100.
88 – جريدة القدس العربي.العدد 6832.بتاريخ 31 مايو 2011. ( وكذلك موقع سعدي يوسف.)
89 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.1 الليالي كلها.ص:156.
90 - المصدر نفسه:ص:77.
91 - المصدر نفسه:ص:83.
92 - المصدر نفسه:ص:35.
93 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية.2من يعرف الوردة. ص:45.
94 – المصدر نفسه ص:67. 95 - سعدي يوسف: الأعمال الشعرية. الجزء السادس.ص:145.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -الضحالة المغربية-
- أحقاد -هيلاري-
- السقوط المغربي
- يوم فاتح يوليوز 2011: أنا غائب..
- قراءة في دستور مغرب 2011.( 2) .باب الأحكام العامة
- قراءة في دستور مغرب 2011 : المغرب والهويات السبع
- -البقاء على قيد المخزن-
- تنظيم -القاعدة-وتنظيم -الاستثناء- في بلاد المغرب
- ابتهالات للدستور الجديد
- زلات رئيس جامعة مولاي إسماعيل بمكناس
- -قل ولا تقل... دون احتساب الرسوم-
- الغربة في الشعر الأمازيغي بالأطلس المتوسط
- في نقد استراتيجية التهييج
- وزارة التعليم العالي: كفايات تصنيع الامتيازات
- تعازيم الدخول السياسي
- مدونة السيف على الطرقات
- - أهل الكتاب-
- - غابة عبد الناصر-
- -أولاد عبد الواحد-
- خشب الدرويش


المزيد.....




- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - الانتماء المغاربي لسعدي يوسف ( قراءة في نصوص الشمال الإفريقي)