أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - روجيه عوطة - لوسيان فرويد: الجسد ذائب والعين دامية















المزيد.....

لوسيان فرويد: الجسد ذائب والعين دامية


روجيه عوطة

الحوار المتمدن-العدد: 3437 - 2011 / 7 / 25 - 23:54
المحور: الادب والفن
    


بعد الحرب العالمية الثانية، عاد فن البورتريه ليكون محور الفن التشكيلي في بريطانيا، وكان لوسيان فرويد من أبرز الرسامين الذين اتقنوا هذا الفن من خلال القساوة التي ميّزت بورتريهاته وشخوصه العارية. ولد لوسيان فرويد عام 1922 في برلين قبل أن ينتقل مع عائلته إلى إنجلترا هربا ً من النازية. في لندن، درس الفن التشكيلي في المدرسة المركزية للفنون الجميلة، وافتتح أول معرض له، وكانت لوحاته الأولى متأثرة جدا ً بالتيار السريالي.
الجدير بالذكر أن فرويد لم يهتم يوما ً بالحديث عن جده سيغموند فرويد، "نبي" القرن العشرين حسب ريكور و"صنم" التحليل النفسي كما يحلو لميشال أونفراي أن يدعوه، لكن الرسام احتفظ بذكرى واحدة عن جده، فصَحَ عنها في إحدى أحاديثه الصحافية، فبينما كان فرويد على فراش المرض، كان يحاول تسلية حفيده باللعب بوجبة أسنانه والطقطقة بها، لذا احتفظ لوسيان بصورة الجد المازح والمثير للضحك. لكنه لم يرد يوما ً زج إسم الجد أو إحدى نظرياته في تحليل عمل من أعماله، رغم أنها تحمل أبعادا ً تأويلية متعددة ورموزا ً يمكن تحديدها على ضوء لاوعي الفنان الذي أسقط رؤيته الخاصة على ما يظهر له من كل شخصية رسمها في لوحة من لوحاته.
تكشف أعمال فرويد الفظاعة المدفونة في أجساد ووجوه الشخصيات المرسومة، التي تظهر، في أغلب الأحيان، مرعوبة وقلقة في عريها، فتمزج بين الشهوة والخوف في جسد يأسره اللون، ويسلخه عن لذته الجنسية وشبقه الإيروسي، المخفي في كادر مكاني يضيق كلما اتسعت حفرة الكبت وامتدت إلى ما وراء العري، ليسقط الجسد فيها كسقوطه في أي هاوية نفسية أخرى، كالقلق والخوف والذعر. السقوط في هاوية العري، يصبغ الجسد الفرويدي بصبغة الخواء من جهة والإنتعاظ من جهة أخرى، لذا يكون السقوط سقوطا ً في الدوار اللحمي، الذي يقشط الحياة عن الجسد أو لنقول عن الجسم بالمعنى البيولوجي التشريحي، لأن فرويد يعرف كيف يفتح أبواب الجسد على التحلل واللاجاذبية، لا سيما مع ضخامة شخصياته التي لا تصمد أمام سكين رسمه، كما بدا في رسمه الشخصي الأخير.
تذوب الأجساد ويبقى شحمها كثيف، متمتع بجاذبية عصبية ووحشية تغلف اللحم الذي يوازي بطياته وتجاعيده ملامح الرعب الظاهر على الجسد الملطخ بالألوان السميكة، والممزق تحت مقصلة الضوء، كأننا أمام ضوء يتعفن مع اقترابه من اللحم، ما يصنع بلاغة الرسام في تدمير وتقسيم وإزالة عتمة الجسد، بإستعماله التداخل بين الألوان والمزج بينها وتسميم جسد الشخصية بها، حتى تصبح الأخيرة بعيدة عن مكانها أو غارقة فيه، إذ تتحكم بنظراتنا وتحملها من الأسفل إلى الأعلى وتعبر بها إلى الوسط المتقوس، ليكون محور ومركز انشداد الألوان وتباعدها عن بعضها البعض. الأجساد كما الألوان في لوحات فرويد، تقترب من بعضها وتتباعد تحت الضوء الذي يراهن على تحللها واندثارها في عين تتعثر في التقاط الإشارات الإيروسية للوحة وتنبهر بالبرد الذي يعتريها ويعيدها دامية، فشرايين الجسد الفرويدي تضخ الدماء والألوان ببرودة.
إن إلتحام الألوان يتبعه تداخل لحمي يمنعنا من الإستلاء على مفتاح اللوحة دون أن نعتبر أن الموت مركزها العصبي، فكل صور الموت ظاهرة، كالنوم العميق، والإحتضار، والوجه الدميم، والأعضاء المرمية على كنبة أو كرسي أو فراش، والرؤوس المتروكة على الوسادة، وحتى لو لم تكن الوسادة واضحة فبإمكان العين تخيلها تحت رأس كل شخصية متخمة أو ضئيلة، تنتصب في الكادر وتملأه بدسمها وجلدها المترهل. إذا ً غريزة الموت تملأ كل فراغات اللوحة، كما في لوحة المرأة الممددة على الكنبة، جسمها ضخم، ثدييها كبيرين، بطنها مترهل، ورأسها بشعره القصير يغرق في قماش الكنبة، واللافت للنظر في هذه اللوحة، هو اليد الموضوعة على المسند الخلفي للكنبة والثانية المندسة تحت الثدي والملتصقة به كأن المرأة تتحسس حيوية جسدها وحيوية المكان الذي تنام فيه، بالإضافة إلى التناغم بين تصميم المكان الهندسي-الأرضية الخشبية المائلة، الستار الخلفي وطياته المنسدلة كأنه مشدود إلى الأعلى، والكنبة ذات المساند السميكة – ولحم المرأة السمينة، إذ يستعير الرسام تقنية التناغم من الروايات البلزاكية، نسبة للروائي الفرنسي ئونوريه دو بلزاك، الذي يرسم بورتريه شخصياته ويختلق صداها في الديكور الموجودة فيه، الأمر الذي عبر عنه فرويد قائلاً:"أريد لرسمي أن يبدو كاللحم الحيّ ".
كل هذا الإنسجام والتآلف بين جسد المرأة والديكور يخلق أبعاد ثابتة للوحة، تتطابق مع بعضها وتختلف في الوقت عينه، لأن غريزة الموت تمحو التشابه بين السمنة الجسدية والشراهة المكانية، وبين العدم والنوم، والسقوط والتمدد، فتتشابك الأعضاء مع الأشياء، كاليد مع المسند، والرأس مع الوسادة غير المرئية، لتضحى حركة المرأة وحياتها "سقوط أفقي" إذا استعملنا تعريف الحياة بكلمات جان كوكتو. يشدد الرسام على تجليات الموت في لوحته عبر تقسيم الجسد المترهل إلى أربعة أقسام، تكاد تكون واحدة بسبب أشكالها شبه الدائرية التي تجذب العين مباشرة ً إليها. القسم الأول، رأس المرأة الغافية، الثاني، اليدين والثديين، الثالث، البطن المترهل أو الكرش البيضاوي، والقسم الرابع، الأفخاذ والأرداف والقدمين المنصهرين في قالب لحمي واحد، ونلاحظ أن الرحم لا يظهر بسبب كتل اللحم التي تغطيه، ولذلك دلالة على غياب الحياة في الجسد وفي اللوحة كلها، فتغيب الحركة عن الأقسام الأربعة ويكون مركزها إستدارة البطن المشدود إلى الأسفل.
أما إذا بحثنا عن الضوء في اللوحة، نجد أنه يختلف من مساحة لحمية إلى أخرى، أو بين قسم جسدي وآخر، فالحد الفاصل بين كل قسم وآخر يمتزج به الضوء مع العتمة، ليصنعا معا ً جوا ً من القذارة في المكان، فنشعر مثلا ً أن الكنبة ممزقة ومتروكة وحدها في غرفة خالية، وجوا ً من البشاعة، التي ترينا المرأة السمينة مرمية ومهملة على الكنبة الممزقة، ووراءها ينسدل شرشف أو ستار لا يصل إلى الأرض، فهناك فراغ بين الإثنين، بين الستار الرمادي والأرض الخشبية البائخة، لنقل أنه المخرج الوحيد في اللوحة، أي أنه المكمن الوحيد الذي تركه لوسيان فرويد لكل رغبة إبروسية كُبتت، ولكل لذة تشوهت بترهلات الجسم، وإذا استعرنا مصطلح جده، نرى في ذلك المخرج، مساحة لليبيدو حيّ لم يزول بعد رغم أن موضوعه ضائع لأن النوم سرق صاحبه وسلخه عن جاذبية جسده.
يكفي أن لوسيان فرويد يرسم كطبيب جراح في مشرحة الوعي ويستعمل السكين والمشارط، كي نعلم أن الصلة قائمة بينه وبين جده الذي أمد الفن بنظريات تُمكن العين التأويلية من إنقاذ رغباتها وإحياءها من جديد عبر تشريح المشهد والبحث عن معناه، الذي لا يطفو على سطح مرئيته بل يغوص في عمق لا مرئيته.
مات لوسيان فرويد نهار الأربعاء الماضي عن عمر يناهز 88 سنة، وأنهى مسيرة فنية تشكيلية مثيرة للجدل وللفضائح، تاركا ً أجساده العارية وبورتريهاته، التي لم يوّقع بإسمه عليها، تبحث عن ملامحها في عيون كل من ينظر إليها، ليعطيها معنى فتضمد جروح لاوعيه.



#روجيه_عوطة (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ورشة في الشيّاح
- عن فروة الرأس وعلبة البريد وأورام اخرى
- وقال أندريه بريتون:-أنا لست قطعة حلوى- أو في الكالسيوم الضائ ...
- أكواريوم في حقيبة يد (الى ج.د.سالنجر و بسام حجار)
- شاعر بالبيجاما
- الجنون تفاحة، والعقل جاذبية حمقاء
- زاوية الأب
- سيرة شوبان بعد أن نفد الورق مني
- أوديب في ميدان التحرير
- مرافعة ضد البنى الإبستمولوجية
- عزيزنا الديكتاتور، ليس لك منا تحية ولا راتب تقاعدي
- خواء في بوخاريست
- ريجيم عاطفي بحبوب الليكزوتانيل
- إنطباع بزوغ الغثيان
- تحية من غرفة العناية المشددة
- دائرة الممكن، عمودية الإستعارة وبرج بابل لا يسقط في الآنية
- تسوّل شعري
- المعنى: هدية البحار العجوز
- بورتريه مائي فارغ
- مرآة الدين الضائعة (لا بد للجسد أن يعود الى القبر ليرى مرآته ...


المزيد.....




- “العلمية والأدبية”.. خطوات الاستعلام عن نتيجة الثانوية العام ...
- تنسيق كلية الهندسة 2025 لخريجي الدبلومات الفنية “توقعات”
- المجتمع المدني بغزة يفنّد تصريح الممثل الأوروبي عن المعابر و ...
- دنيا سمير غانم تعود من جديد في فيلم روكي الغلابة بجميع ادوار ...
- تنسيق الجامعات لطلاب الدبلومات الفنية في جميع التخصصات 2025 ...
- -خماسية النهر-.. صراع أفريقيا بين النهب والاستبداد
- لهذا السبب ..استخبارات الاحتلال تجبر قواتها على تعلم اللغة ا ...
- حي باب سريجة الدمشقي.. مصابيح الذاكرة وسروج الجراح المفتوحة ...
- التشكيلية ريم طه محمد تعرض -ذكرياتها- مرة أخرى
- “رابط رسمي” نتيجة الدبلومات الفنية جميع التخصصات برقم الجلوس ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - روجيه عوطة - لوسيان فرويد: الجسد ذائب والعين دامية