أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - ثوار الإسلام السياسي















المزيد.....


ثوار الإسلام السياسي


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 3427 - 2011 / 7 / 15 - 21:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



اعتقد أن الكتابة في تاريخ بعض الحركات السياسية الإسلامية ، يثير الحيطة والحذر لما تثيره من حساسيات مفرطة لدى العديد من الأوساط ، خاصة تلك التي تعتبر نفسها وصية عليه ، وهي القوى التي درجت على تكفير كل من خالفها الرأي ، او أدلى برأي مغاير لمقاصدها في توظيف الإسلام قصد بلوغ مرامي سياسية لا علاقة لها بما يجري حقيقة في قرار نفسها . ان تلك الحقيقة التي تعبر عن رأي الإسلام السياسي في جميع البلاد العربية ، خاصة في جانب الاستحواذ والوصايا على الدين تمثلها كتابات السلف التي غالبا ما تأتي تبريرية لتجميل فترة ساد ت فيها ممارسات سياسية ليس بسبب الاختلاف على النص ، بل بسبب الاختلاف في فهم النص ومن ثم في كيفية توظيف النص بما يخدم الجماعة او الفرقة وحتى لو تسبب ذلك في ضرر للأمة . ومن هنا فان البحث او التعرض لبعض التجارب في الإسلام او التذكير ببعض ممارسات الخلفاء لا يعني المساس بالإسلام كدين ، لان الخلفاء وغيرهم بشر يصيبون ويخطئون ، والنتائج المختلفة التي ترتبت عن سياساتهم عانت منها الأمة قبل ان يعاني منها الدين نفسه . لذا نجد ان كتابات السلف في الغالب الأعم تتواتر على تبرير النظام الأموي الهرقلي والحكومة العباسية الكسروية ، وتتحامل بلا هوادة على كافة أحزاب المعارضة والحركات الثورية في صدر الإسلام حيث تصورها سياسيا على أنها تطاول وتمرد وفتنة ضد أولي الأمر ، وتصورها اجتماعيا على أنها هبات العوام والأسافل والرعاع ، وتصورها دينيا أنها مروق وزندقة وكفر ، وتصورها إيديولوجيا أنها تقليد ومحاكاة للفكر الوثني الدخيل والهدام . والواقع أن معظم المؤرخين الرسميين كانوا موالين للسلطة سياسيا ، سنيي المذهب ، ينتمون إلى طبقة أهل القلم او الكتاب ، أي المشتغلين بالدواوين المتمتعين بالإكراميات والخيرات والحائزين على الإقطاعيات . ولا عجب حين نجد أنهم أسرفوا في مدح أولياء نعمتهم وتبرير إعمالهم بالقدر الذي اشتطوا فيه في أحكامهم على خصومهم من قوى المعارضة التي لا توافقهم الرؤية والتحليل . ومما يؤسف له ان كثيرا من الدارسين المحدثين لا ينتبهون الى هذه المزالق حيث يأخذون أقوال السلف حقيقة مسلمة لا ينتابها الشك او التأويل ، لان مشكلتهم أنهم يخلطون بين الإسلام كعقيدة وبين النظام السياسي للعالم الإسلامي خاصة في عصري بني أمية وبني العباس ، وهنا حدث انزلاق خطير وتصور خاطئ مؤداه ان نقد نظام الخلافة يعني مساسا بالإسلام متناسين او جاهلين ان الخلفاء ، وكما قلت أعلاه ، بشر يخطئون ويصيبون ومنهم كان العادل والظالم ، والتاريخ يضعهم جميعا في دائرة النقد باعتبارهم حكاما سياسيين لا أئمة معصومين " فالنتائج التي ترتبت على سياستهم ــ يقول الدكتور طه حسين ــ كانت اكبر وأوسع وأضخم من هؤلاء الأشخاص نفسهم ..لخ " ويقول ابن حديد في " نهج البلاغة " " ... كان الصحابة أنفسهم ينتقد بعضهم بعضا .. ولو كانت الصحابة عند نفسها بالمنزلة التي لا يسمح فيها بنقد لعلمت ذلك من حال نفسها .. وكان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك ويقولون في العصاة منهم هذا القول ..لخ " فإذا جاز نقد سياسات أجلة الخلفاء الراشدين ، فكيف لا يجوز نقد بني أمية وبني العباس ومختلف حركات وتنظيمات الإسلام السياسي التي تخطط لمشاريع إيديولوجية عامة وتعمل جاهدة ليل نهار على تحقيقها ، وأيا كانت الوسائل المستعملة في الوصول الى تلك الغايات ، ثورة من تحت ام انقلاب من فوق ام هما معا ثورة وانقلابا ؟ . إن الفكر العربي الإسلامي ليس مرهونا بأدعياء الوصاية عليه ، كما انه ليس حكرا على احد او انه إقطاع يتوارث ، بل انه ملك للجميع شريطة التزام الموضوعية والتشبث بالحقيقة عند التعرض لمختلف التجارب التي حصلت باسم الإسلام . وهنا نؤكد ان سر تخلف الفكر العربي الإسلامي يرجع بالأساس الى من عزلوه عن مجريات تطور الفكر الإنساني وأحاطوه بأسوار من الكهانة والقدسية ، ولا حاجة الى الإشارة الى ارتباط هؤلاء جميعا بقوى التخلف والتسلط والاستعمار ، لان هذه الحقيقة سجلها تاريخنا المعاصر والحديث ، وحسبي ما درجوا عليه من إشهار سيف المصلحة في وجه كل من رام تحرير الفكر العربي من أسار وصايتهم ابتداء بالأفغاني ومحمد عبده وانتهاء بناصر ابوزيد الى فرج فودة الى محمد عابد الجابري واللائحة تطول . وقبل الإفاضة في الموضوع لا بد من الإشارة الى ان أئمة المسلمين لا يختلفون في أصل القران والنص . فليس هناك خلاف بين السني او الشيعي او الحنبلي او الشافعي .. مثلا حول وحدانية الله والعدل السماوي . لكن حين تثار مسالة السلطة السياسية وطبيعة الحكم ، هنا يظهر الاختلاف . فبعضهم يرى ان الشورى ملزمة والبعض يرى أنها ليست كذلك . البعض يرى ان الحاكم مسئول أمام الله والبعض الآخر يرى انه مسئول أمام الرعية . البعض يذهب الى ان الخلافة ركن أساسي في النظام السياسي الإسلامي والبعض يقول أنها ليست كذلك .. وهكذا دواليك . لذا حين يوضع الإسلام موضع الحكم فانه يصبح متغيرا بتغير الزمان والمكان وضمن هذا الفهم يمكم ان نفهم التضرع باختلاف طرق إدارة شؤون المسلمين باختلاف الخلفاء من أبي بكر إلى عمر بن الخطاب والى عثمان بن عفان ، ثم التغيير الذي طرأ على الشأن العام مع الدولة الأموية والعباسية . فكان لزاما أمام هذه الأحداث ان تبرز الى السطح قوى سياسية رافضة لهذا الشكل في الحكم او مساندة له او ملتزمة الحيطة والحذر بسبب الخوف من بطش أولي الأمر .
واذا كانت المفاهيم والمبادئ الأساسية للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية كما تضمنتها الشريعة الإسلامية تعني ان أصل الحكم والسياسة يتجسد في نظام الشورى الديمقراطي ، وان عصب النظام الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية يتجسد في العدالة والمساواة ، وا ن النهج الإسلامي في التفكير يرتكز على النظر العقلي ، فالسؤال الى أي مدى التزمت الحكومات الإسلامية،،، منذ عصر الراشدين الى عصر الدولة الذي بدا مع الدولة الأموية وتطور ابان الدولة العباسية وقوى المعارضة التي رفضت سواء نماذج الحكم او رفضت الإصلاحات التي حاول العديد من الحكام المسلمين ان يرمموا بها الصدع الذي بدا يهدد بنيان وكيان الدولة الحاكمة ... أقول التزمت بهذه المبادئ ؟
فبعد موت الرسول أعلن أول خليفة أبو بكر الصديق انه سيوس المسلمين وفقا لدستور القران وسنة الرسول ، لكنه ما لبث ان خرج عن صريح القران عندما رفض الاقتصاص مثلا من خالد ابن الوليد الذي قتل أثناء حرب الردة نفسا مسلمة بغير حق ، مالك ابن نويرة لكي يتزوج امرأته الفاتنة ، أم تميم . ولما طالب عمر ابن الخطاب أبا بكر بتطبيق القرآن في حق خالد ، رفض مطلبه بحجة ان قائد جيوش المسلمين يخوض حرب الردة التي أولى من الاقتصاص من خالد . واعتقد ان ما وراء قرار هذا الخليفة الداهية لم يكن في الحقيقة خوض حرب الردة ضد الأعراب خلافا لرأي ولي عهده عمر ، بل كان في الحقيقة مواجهة رفض القبائل العربية سيطرة المدينة على البادية بواسطة ضريبة الزكاة ، ومن ثم قطع وسيلة عيشها الأساسية : الغزو وقطع الطرق على القوافل التجارية.
إذا كان أبو بكر قد نقض تعاليم القرآن في قضية خالد بن الوليد ، فان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لم ينقصه شانا في ذلك . فإذا كان الأول قد وظف ضريبة الزكاة لنهب الثروات وخدمة الارستقراطية العربية الراكدة على حساب الفلاحين وعموم الشعوب المقهورة ، فان عمر نقض بدوره تعاليم القرآن وذلك عندما رفض في عام الرمادة المجاعة قطع يد السارق خلافا لصريح الآية خوفا من انتفاضة وثورة الجياع المهددة لنظامه وبعدما رفض الأغنياء توزيع فائض قيمة أموالهم عن طريق الزكاة .
الخليفة الثالث عثمان بن عفان خرج بدوره عن صريح النص القرآن ، ونهج سياسة مخالفة لسياسة سلفه عمر بن الخطاب ، عندما سمح لإعلام قريش ان يتملكوا الضياع ويشيدوا القصور في الولايات الإسلامية المفتوحة كالعراق والشام ومصر ، كما سمح لهم ان يستبدلوا بأملاكهم في الحجاز أملاكا في تلك الأمصار . وقد أدت سياسته الاقتصادية المتساهلة وتهاونه مع أقاربه الذين سيطروا على بيت المال مع مريديه ، ان تكونت طبقة من الارستقراطية الدينية والقرشية في مقابل أهل الأمصار وفقراء المقاتلين الذين وقع عليهم الغبن على يد ولاة عثمان وحكامه باستئثارهم بالفيء والغنائم لأنفسهم وخزائن دولتهم وحرمان المقاتلين منها ، مدعين ا ن الفيء لله وليس للمحارب إلا اجر قليل يدفع له . وتجدر الإشارة إلى أن عثمان وبخلاف عمر أعاد فرض الضرائب التي كانت سائدة قبل الإسلام ومنها الضرائب الوثنية التي كان عمر قد ألغاها ، ولم يرغم عثمان على إلغائها إلا بعد ان ضج الناس ،ولكن معاوية الذي أصبح أقوى من ضجة الناس أعادها بحد السيف والى الأبد . لقد أدت سياسة عثمان الارستقراطية ومجاملته لأقربائه غضب أتقياء الصحابة مثل عمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري حيث عاملهما عثمان بالقسوة والنفي حتى صارا من اشد المعارضين لسياسته ، إضافة الى سخط مسلمي الأمصار الأخرى كالكوفة والبصرة ومصر التي ساهم ثوارها مساهمة فعالة في الانقلاب عليه . ونحن لا تهمنا الجذور الاقتصادية والسياسية لما أضحى يعرف تاريخيا بالفتنة الكبرى التي قسمت المسلمين الى قبائل متناحرة الى اليوم ، بل الذي يهمنا القوى السياسية التي كونت الخريطة الحزبية التي ساهمت في ذاك الصراع الذي سلت فيه السيوف وقطعت الرؤوس ولا يزال مصدر تقسيم المسلمين الى اليوم . إذن ما المقصود بثوار الإسلام الذين كانوا بحق بلاشفته .
نقصد بثوريي الإسلام او جمهورييه بلاشفته من حركات سياسية يسارية أثرت وما تزال في الحقل السياسي العربي والإسلامي منذ الفتنة الكبرى والى اليوم ،ويأتي على رأس هؤلاء حركة الخوارج والشيعة والازارقة والقرامطة الذين يمثلون اليسار ، والمعتزلة والمرجئة الذين يمثلون أحزاب الوسط ، وهؤلاء ما يصطلح على تسميتهم بقوى الظل في الإسلام ، فالمعارضة من خوارج ومعتزلة ومرجئة كانوا أكثر التزاما بتعاليم الإسلام واشد حرصا على تطبيقها ، فالخوارج مثلا منذ النصف الثاني من القرن الهجري اجمعوا على أحقية أي مسلم بالخلافة بغض النظر عن أصله او لونه او عصبيته أي ولو كانت أمه زبيبة سوداء، في حين ان الشيعة يقصرون ذلك على أهل البيت ، والسنة يقصرونها على قريش . فالخوارج كانوا ثوار عهدهم لان فكرهم السياسي مستوحى من ديمقراطية الإسلام ، وكيف لا وهم أول من تبنى حركة العدالة واستهدفوا النضال من اجل إقرارها ، فضلا على غلبة الروح العقلانية على آرائهم الاعتقادية وبالذات عند الشيعة والمعتزلة بشكل يسترعي الانتباه . وإذا كان لقب وتسمية الخوارج تستعمل اليوم من اجل القذف والسب وتشويه السمعة بربطها بالإرهاب للتأثير على الخصم ، فان من يسمون اليوم بالخوارج لا علاقة لهم بخوارج ذاك الزمان . ان ما يسمى بخوارج اليوم يفجرون في الأحياء والأزقة والمقاهي الشعبية كما يحصل في العراق باسم ( المقاومة ) ويحصل في أفغانستان وبباكستان بدعوى محاربة الأمريكان او المتعاونين معهم من نظام وأجهزة أمنية ومخابراتية ، و كما كان يحصل بالجزائر حيث يتم القتل على الشبهة والظنية ، بل كانت تتم الإعدامات الجماعية للقرى الجزائرية بدعوى التخويف ، وهي جرائم اشتركت فيها القوى الإرهابية التي كان يطلق عليها تسمية الخوارج ، واشتركت فيها فيالق الجيش لخلط الأوراق وبث الرعب والخوف لذا الساكنة . ان خوارج ذاك الزمان لم يكونوا يفجرون في الأماكن التي يؤويها الفقراء ، ولم يكونوا يقتلون على الظنية والهوية ولا من اجل التخويف وخلط الأوراق في الساحة .لذا ارتأيت ان ابحث في تاريخ خوارج ذاك الزمان الذين كانوا يثورون على أعدائهم من اجل المبادئ ، وذلك بتبني نوعا من الموضوعية والحياد للتفريق بينهم وبين مجرمي اليوم الذين يوصمون بوصم الخوارج ، مع العلم ان لا احد يعلم او يعرف أنهم خرجوا ممن وعن من .
يرتبط ظهور الخوارج كحزب سياسي ثوري بقضية الإمامة او الخلافة التي أثارت من الخلاف والصراع بين جموع الأمة ما يهدد هذا الجموع الآن بالتصدع و الانشقاق منذ الفتنة الكبرى وما أسفر عنها من مصرع كبير ارستقراطيي قريش عثمان بن عفان ، وما ترتب عنه من تقسيم وافتراق الأمة الإسلامية الى شيع وأحزاب متناثرة ومتناحرة . وحزب الخوارج الجمهوري انبثق من تلك الفتنة الكبرى وارتبط بقضية التحكيم الشهيرة بين علي بن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان الذي كان زعيما للحزب الأموي الذي شكل اليمين السياسي ، وكان معروفا بتدعيمه للنظام الدولتي البيروقراطي ، وتعصبه الشوفيني والعنصري للعنصر العربي ( حزب البعث اليوم ) وتفضيله عن باقي العناصر الإسلامية الأخرى ، الشيء الذي اعتبرته المعارضة الجمهورية والبلشفية بمثابة خروج عن جوهر العدالة والمساواة بين الأمم المنتمية للدولة الإسلامية ، واذا كان الفكر الجبري غلابا في هذا العصر فان انعدام الديمقراطية كان يبرر ويقنن للأمر الواقع الذي سيتجاوز بحلول ثورة الدولة العباسية التي أسست لخلافة عنصرية كسروية قوامها مبدأ التفويض الإلهي . ومثل غلبة العنصر والعصبية العربية في الدولة الأموية ، استأثر الفرس والترك بصدارة السلم الاجتماعي على حساب العناصر الأخرى ، كما ساد الفكر السلفي وطغى طوال هذا العصر باستثناء سنوات قليلة ظهر إبانها الفكر العقلاني المتنور. واذا كان العديد من الباحثين قد اعتبر دورا للخوارج في الدفع بعلي بقبول التحكيم ومن ثم الانقلاب عليه، فان هناك من الأدلة ما ينفي هذه الرواية المتواترة التي تحمل الخوارج مسؤولية إرغام علي بن أبي طالب على قبول التحكيم ثم محاولة الضغط عليه لرفضه والتنصل من العهود التي قطعها على نفسه بوقف القتال وتحكيم الحكمين ، والذي يستفاد من التحليل رغم ضحالة النصوص لأنها أحرقت ، فان الخوارج كانوا من أنصار علي ومن خيرة جنده وأكثرهم إيمانا بعدالة قضيته ، وأنهم رفضوا مبدأ التحكيم من أساسه لأنه يعني التشكيك في شرعية إمامته ، ومن ثم خرجوا عليه لرفض استمرار القتال في صفين واستجابة لضغوط الأكثرية من جنده الذين رغبوا في وقف القتال لما رفع جيش الشام المصاحف على أسنة الرماح . فالخوارج من ثم يمثلون من الناحية الدينية الفئة القليلة المؤمنة التي لا تقبل في الحق مساومة او تنازلا بدليل ان زعماهم من جماعة القراء والفقهاء الحريصين على الالتزام بالكتاب والسنة دون نفاق او مواربة . ومن الناحية الاجتماعية انتمى معظمهم لعرب الشمال خاصة قبيلة تميم التي هجرت البادية ولتستقر في مصري الكوفة والبصرة ، وقد أسهمت هذه القبيلة بدور بارز في الثورة على زعيم الارستقراطية العربية عثمان بن عفان حين خالف سياسة أبي بكر وعمر وضرب صفحا عن تطبيق عدالة الإسلام ، وأطلق العنان لأسرته ومن يحيطون به من ناهبي بيت الخراج للاستبداد بالمسلمين في الأمصار الأخرى .
واذا كان أبو بكر قد حرص ان تأخذ العدالة الاجتماعية مجراها دون نظر الى عصبية او جنس فالتزم بالكتاب والسنة التزاما تاما في تقدير الأعطيات والهبات وتقسيم الغنائم ، حيث انصاعت الجماعة الى حكمه ولم يكن في عهده افتراق . واذا كانت سياسة عمر قد اتسمت بالعدالة المطلقة ( خالفها في واقعة المجاعة ) المستوحاة من تعاليم الإسلام فلم يخالف الكتاب والسنة ، وإنما زاد عليهما امرأ آخرا هو الاجتهاد ، وكان عليه ان يجعل الاجتهاد مصدرا ثالثا للتشريع ليواكب التطور الجديد الذي حدث في عهده بعد الفتوح الإسلامية الكبرى في العراق والشام ومصر ، ولم يجعل من العصبية القبلية أو النزعة العنصرية محورا في ما استحدثه من نظم وقوانين ،،، فان تلك النعرات والعصبيات قد عادت مع عثمان وبدأت تعمل عملها في أحداث الفتنة الكبرى ، حيث أطلق عثمان العنان لكبار صحابة قريش لاستغلال مكانتهم الخاصة في اقتناء الضياع وتكوين الثروات في البلاد المفتوحة فشكلوا ارستقراطية ثيوقراطية قرشية ناهبة وسارقة، أثارت الهلع بين الفقهاء وجمهور القراء لانتهاك عدالة الإسلام من ناحية ، كما أثارت أحقاد القبائل الأخرى وحسدها فأحي عثمان بذلك الضغائن والصراعات القبلية الجاهلية ، وفضلا عن ذلك ظهرت ارستقراطية بيروقراطية سفيانية في الأمصار التي آلت إمرتها الى رجال بني أمية أقارب عثمان ، فأثار بذلك بقية بطون قريش وأعاد الصراع القديم بين بني أمية وبني هاشم ، وفضلا عن ذلك فقد خالف الشيخين( أبو بكر وعمر ) في نظرتهما إلى الخلافة باعتبارها عبئا ومسؤولية ، واعتبرها قميصه البسه الله إياه وهو أمر زاد في توسيع الهوة بينه وبين جماعة الفقهاء والقراء ، فطالبوا بعزله لإخلاله بقواعد الملة وخروجه عن نصوص الشريعة ،لذلك لم يتوانوا في حض عرب المحيطات على الثورة وأفتوا بشرعيتها . لذلك كان عرب الأمصار ، من غير قريش ، يشكلون جند الثورة ، بينما تصدر الفقهاء قيادتها ، وانتهى الأمر بمصرع عثمان ، وإقبال الثوار على مبايعة علي بالخلافة او تصديهم لمؤازرته ضد أولئك الذين رفضوا مبايعته سواء من الارستقراطية القرشية كطلحة والزبير ، او من الارستقراطية السفيانية التي تزعمها معاوية بن ابي سفيان . هكذا يتبين ان ظهور الخوارج كان تعبيرا عن تناقضات اقتصادية واجتماعية اكتسبت طابعا دينيا نتيجة تفجير تلك التناقضات من خلال مشكلة الإمامة او الخلافة ، ولم تكن فقط حزبا سياسيا دينيا وحسب مثل حزب العدالة والتنمية التركي والمغربي.
لقد شكل الخوارج احد الأحزاب الثورية في الإسلام حيث كان فكرهم السياسي معبرا عن قطاع واسع من الجماهير الساخطة على الخلافة ، ورأيهم في الخلافة يجعلهم بحق بلشفيو وجمهوريو الإسلام . فبينما قصر أهل السنة حق الإمامة على قريش ، وجعلها الشيعة حكرا على آل البيت ، نادى الخوارج بأنها حق متاح لكل مسلم دون النظر إلى أصله او عصبيته . لذلك فقد عبر الخوارج من الناحية السياسية عن اتجاه الجناح الديمقراطي بين الأحزاب الإسلامية الأخرى .. أما في قولهم " بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ودعوتهم الى الثورة على أئمة الجور يجعلهم جديرين بلقب ثوريو الإسلام ، كما يمثلون في نظر بعض الدارسين بلشفيك الإسلام لموقفهم الشديد في مجابهة مخالفيهم في المذهب ، وقولهم بالاستعراض وحكمهم على مرتكب الكبيرة بالكفر . أما آرائهم في العدالة والمساواة فهي تنم عن اتجاه سياسي اشتراكي ثوري إسلامي أصيل . لذلك يمكن الجزم ان مذهب الخوارج هو مذهب ثوري ديمقراطي اشتراكي.
ان تاريخ الخوارج حتى أواخر العصر الأموي يساير مبادئهم الاعتقادية في الثورة الصاعدة ، فقد ثاروا على علي بن ابي طالب مرارا اقضوا مضجعه بإغارتهم المستمرة على البصرة والكوفة فضلا عن ثورتهم المستمرة والدائبة في الولايات الشرقية . وقد بطش علي بكافة حركات الخوارج في عنف وقسوة ، فخاض معهم معارك طاحنة كانت تنتهي بالقضاء على جيوش الخوارج برمتها ، وهذا ما يبرر ويفسر تآمرهم على حياته التي انتهت بطعنتين من سيف عبد الرحمن بن ملجم في شهر رمضان السنة 40 هجرية . وبعد مقتل علي استمرت ثورات الخوارج حيث انضموا الى عبد الله بن الزبير الذي صارع الأمويين في الحجاز والعراق عندما اظهر الميل الى مذهبهم فحاربوا في صفه زمنا ، ثم انقلبوا عليه حين لاح لهم انه يظهر خلاف ما يبطن ، حيث دارت معارك كثيرة بين الطرفين أزهقت فيها أرواح كثيرة .
وبعد مصرع ابن الزبير ، وجد الخوارج أنفسهم وجها لوجه مع بني أمية بما لهم من بأس شديد ، ومعظم كتب التاريخ تشهد على ما حل بالخوارج من بطش واضطهاد في العصر الأموي فولاة العراق من أمثال عبد الله بن زياد والحجاج الثقفي كانوا يقتلونهم بالتهمة والظنية ويبعثون الجيوش تقتفي آثارهم من بلد الى بلد ومن( زكة الى زنكة ) وتوقعهم وقعة وقعة حتى استؤصلت فرق الخوارج بأكملها واختفت من المسرح السياسي إلى الأبد . وقد زاد في ضعف الخوارج في العصر الأموي انشقاقهم الى جماعات متناحرة جاوزت العشرين فرقة ، كل منها تكفر ما عداها ، وهو أمر أدى الى تشتيت جهودهم وأتاح لخصومهم ملاحقتهم والقضاء على ثورتهم . ولا غروة فقد وصلت أحوالهم في أواخر القرن الأول الهجري الى حالة من الضعف استحال معها ان يواصلوا نشاطهم السياسي بصورته العلنية ،فكان عليهم ان يغيروا من أساليب كفاحهم بنبذ طريق الثورة الدائمة في قلب العالم العربي والإسلامي ، وإتباع أسلوب الدعوة المستورة وتنظيم العمل السري ، ونقل ميدان نشاطهم الى الأطراف بعيدا عن متناول أعين بوليس ومخابرات الخلافة .
ان إنشاء حزب الخوارج لم يكن بهدف إنشاء حزب ديني لمواجهة المعارضين والتمهيد للحكم ، بل كان أصله اقتصاديا واجتماعيا وعصبيا وهذا ما جعل حركتهم تلقى إقبالا في بلاد المغرب ذي الأصول البربرية ، فرغم اعتناق البربر الإسلام دينا فهم لم يحظوا بالمساواة مع العرب الوافدة ،فحرموا من حقوقهم في المغانم والفيء رغم اشتراكهم في الحروب التي قام بها ولاة المغرب في جزر البحر الأبيض المتوسط وبلاد الأندلس، بل أكثر من ذلك اعتبر الولاة بلاد المغرب دار حرب فجندوا الحملات التي أثخنت في أنحائها نهبا وسبيا ، ولم يطبقوا إسقاط الجزية على من اسلم من السكان ،بل أثقلوهم بالضرائب غير المشروعة . وإذا كان الخليفة عمر بن عبد العزيز قد حاول وضع حد لمفاسد الإدارة الأموية في بلاد المغرب ليبيا ، تونس والجزائر حيث أمر بإسقاط الجزية على المسلمين من البربر وتحرير من استرق من نسائهم ، وإعادة الأرض إلى ذويها يجنون غلتها ويدفعون عنها خراجا معلوما ليستعيد ثقة البربر في الحكومة . فان هذه السياسة الرشيدة تنكر لها خلفائه الذين أساءوا للبربر حيث حرموهم من الصداقات والقسم ،فخمسوهم وزعموا أنهم فيء للمسلمين اسلموا ام لم يسلموا ، هكذا اشتطوا في إثقالهم بالضرائب والجبايات لإرضاء الخلفاء في دمشق الذين اشتد وتضاعف نهبهم لخيرات المغرب وبالأخص للبربر الذين كانوا يعتبرون من الدرجة الثالثة . لذلك حضت بلاد المغرب بالتنظيم الاباضي في ليبيا باهتمام فائق والمذهب الصفري في الجزائر وتونس .
ومهما يكن من أمر فان نجاح الخوارج في إقامة دولة في عمان وحضر موت وبليبيا هو دليل ساطع على فعالية حزب الخوارج ونجاح إستراتيجيته المبنية على التنظيم السري لتفادي سيوف الخصوم وقمع الدولة ، وهو أسلوب كانت له فعالية في ذاك الزمان حيث قلة عدد الناس بالقياس الى أسلوب الثورات الهوجاء التي لم تسفر إلا عن إضعاف الحركة وتعطيل مشروعها الذي كانت تكتشفه السلطة بسبب التسرع والمغامرة.
وإذا كانت العديد من الكتابات تستعمل تسمية الخوارج كمرادف للقذف والسب والتقليل من قيمة وقوة الخصم ، او للتحذير من خطورته أو لإلصاق تهمة الإرهاب به ، فان خوارج ذاك الزمان لم يكونوا يقتلون على الظنية والشك او الهوية ، كما أنهم لم يكونوا يفجرون السيارات المفخخة في الأحياء والأسواق الشعبية التي يفذ إليها جماعة الفقراء ، كما أنهم لم يكونوا يصفون قبائل ودواوير بهدف بث الفتنة والاضطراب وزرع الخوف للتخويف ، ولم يكونوا يفرضون على الناس والتجار إتاوات شهرية بدعوى دعم التنظيم ، بل ان خوارج ذاك الزمان كانوا من الفقهاء والقراء ومن الثوار الذين ثاروا بسبب الإختلالات الاقتصادية والاجتماعية وبسبب تحريف نصوص القرآن بما كان يدعم الحاكم او التنظيم المقابل . لذا فان الاستمرار في إطلاق تسمية الخوارج على هؤلاء المجرمين القتلة بالظنية والشك والهوية في هذا الزمان ، هو إساءة الى خوارج ذاك الزمان .



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجماعات الاسلاموية ودولة الحقوق والواجبات
- القرار السياسي في المملكة المغربية
- منظمة إلى الأمام الماركسية اللينينية
- النظام السوري يتململ تحت الضغط
- بين الملكية البرلمانية والملكية الدستورية المطلوب راس النظام
- جماعة العدل والاحسان بين الانقلاب والثورة
- الفرق بين الهبات (بتشديد الباء) او الانتفاضات وبين الثورة
- كيف سيكون اللقاء التشاوري لحراك 20 فبراير؟
- قرار انضمام المغرب الى مجلس التعاون الخليجي
- شعبوي شعبي وشعوبي
- سوق عكاظ
- الديمقراطية العربية
- اسامة بن لادن مشروع شهيد
- خريف ثلاث اوراق مغربية
- بدعة المجلس التأسيس لإعداد الدستور
- تنفيذ الاحكام القضائية ( المادة الادارية )
- مغالطة التاريخ ( الحركة الوطنية )
- ملك يسود ولا ( يحكم )
- ازمة الفكر العربي ( المعاصر )
- هل يمكن الحديث عن مشروع ايديولوجي عربي ؟


المزيد.....




- بيان من -حماس-عن -سبب- عدم التوصل لاتفاق بشأن وقف إطلاق النا ...
- واشنطن تصدر تقريرا حول انتهاك إسرائيل استخدام أسلحة أمريكية ...
- مصر تحذر: الجرائم في غزة ستخلق جيلا عربيا غاضبا وإسرائيل تري ...
- الخارجية الروسية: القوات الأوكرانية تستخدم الأسلحة البريطاني ...
- حديث إسرائيلي عن استمرار عملية رفح لشهرين وفرنسا تطالب بوقفه ...
- ردود الفعل على قرار بايدن وقف تسليح
- بعد اكتشاف مقابر جماعية.. مجلس الأمن يطالب بتحقيق -مستقل- و- ...
- الإمارات ترد على تصريح نتنياهو عن المشاركة في إدارة مدنية لغ ...
- حركة -لبيك باكستان- تقود مظاهرات حاشدة في كراتشي دعماً لغزة ...
- أنقرة: قيودنا على إسرائيل سارية


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - ثوار الإسلام السياسي