أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم كاصد - فصلان من كتاب: جنة أبي العلاء















المزيد.....



فصلان من كتاب: جنة أبي العلاء


عبدالكريم كاصد

الحوار المتمدن-العدد: 3390 - 2011 / 6 / 8 - 19:38
المحور: الادب والفن
    




عن دار التكوين بدمشق صدر للشاعر عبدالكريم كاصد كتابان الأوّل نصّ سرديّ بعنوان (جنة أبي العلاء) والثاني مجموعة شعرية مترجمة للشاعر الأسباني رافائيل ألبرتي بعنوان (عن الملائكة).
احتوى الكتاب الأول على ستة فصول منها هذان الفصلان:




1- الليلة الأولى




عندما انتصف الليل، ونام الأهل، وكاد الصمتْ، أن يبعثَ حتّى الميْت، فإذا بشيخٍ يقف أمامي كملاكٍ هابطٍ من السماء، بلحيةٍ بيضاء، وعصاً سوداء، مقطوعةٍ من حماطة(1)، فعلتني صفرة، وانتابتني حيرة، قلتُ: مَن الشيخ؟ ومِنْ أين؟ وكيف اجتزتَ إليّ الاقفال، وعبرت الأهوال؟ أفي يقظة أنا أم حلم؟ فتقدّم إليّ فاتحاً ذراعيه. قال: أنا صاحب الكتاب الذي بين يديك. قلتُ: ولكنّه كتاب قديم وصاحبهُ ميْت، فمن أنتْ؟ قال: أنا ابو العلاء وقد بُعثتُ فأنزلني ربّي منزلة الأولياء، بعد أن قضيتُ في الأعراف زمناً، لا أعرف فرحاً أو حزناً، حتى دبّ بي الملل، وطلبتُ من الله عزّ وجلّ، أن يقبضني إليه ثانية، فلا جَنة ولا قطوفَ دانية، ولم أكنْ وحدي في مللي، وتقريب أجلي، فمعي خلقٌ كثير من أهل الجَنة، فكأنّ بهم من ضجرٍ جِنة، حتّى سمح لنا الله الغفور الرحيم، وقد ضجر من الشكوى، بزيارة أهل الأرض، لا ليبلونّنا، بل ليبصّرَنا بالبلوى، فوقع الاختيار عليّ، فحمدتُ الله على النعمة التي آلت إليّ، فكان ما كان من مجيئي إليك، واعتمادي عليك، وفقني ووفّقك الله في هذه الليلة الظلماء، الخفيّة على الرقباء، قلتُ: وقد استنفدتُ ذهولي، واستعدتُ فضولي، حللتَ يا أبتِ أهلا، ونزلت سهلا، ولكن لماذا وقع اختيارك عليّ؟ وكيف اهتديت إليّ، وما أنا أهْلٌ لتلك المنزلة، قال: ذلك يسيرٌ على الله ، وإنما هي قصيدة كتبتها فأعجبتني، قلت: أيّ قصيدة تعني، وقد كتبت عنك الكثير؟ قال: قصيدتك (يا أبا العلاء!) ثمّ انشدنيها:


يا أبا العلاء
أيّها المبصرُ
يا أبي
لقد سرتُ في الهواء
ولم أبلغ الأرض
ولعلّني لن أبلغها أبداً
وقد يدفعني الهواءُ بعيداً
فلا أرى أرضاً
ولا سماءً
ولا ما يشيرُ إليّ
أو ما يشيرُ إليه
يا أبا العلاء
أيها المبصر
يا أبي



قلت وهل حفظتها يا أبتِ!، قال: كما رأيتَ وسمعت، قلتُ: هذا شرفٌ ما بعده شرف، يغنيني عن الطارف والسلفْ، ولكنْ أنّى لقصيدة كهذه أن تخترق السماء إليك، وهي أعجز من دابّةٍ على الطيران، والمثول بين يدي من إليه استقيد البيان. قال: هذا تواضعٌ منك يا بنيّ فالقادمون إلى الجنّة قد كثروا هذه الأيام، وقد أطلعني أحدهم على قصيدتك، فتشوّقتُ إلى رؤيتك، وحين حانت زيارتي إلى الأرض، كنتُ في حِلّ من الرفض، قلت: ليت شعري، أولم يحمل القادمون قصائد أخرى لغيري؟ قال: أجلْ، ولكنني وجدتُ أغلبها إلى التظاهر أقربْ، وإلى التمحّل أنسبْ، وإنما الشعر في ما قرب من الأفهام، وتجلّى في صلة الأرحام، ولا نعمى لمن يتمحّل الشعر، ويخوّض في بحر، وما مديحهم إلا كمديح ابن القارح، وإنما اخترتك لنبوّ فيك عمّا يشين الشعر، من تملّق أو فخر.

- وهل تريدني يا ابتِ أن أطلعك على أحوال الأرض وشعرائها وأنت الأدرى بها وبهم؟ أولست القائل؟:

وما شعراؤكم إلاّ ذئابٌ تلصّصُ في المدائح والسبابِ

ولك أبيات – ما أكثرها – في هذا المعنى:

ما ثعلب وابن يحيى مبتغاي به وإن تفاصح إلاّ ثعلبٌ ضَبَحا (2)


وما أدّب الأقوام في كلّ بلدة إلى المين إلا معشرٌ ادباءُ


فرقاً شعرتُ بأنها لا تغتني خيراً وأن شرارها شعراؤها


وكيف ترى أحوالهم وهم في السماء؟
- ليست بأفضل منها في الارض. الحطيئة انتحى له مكاناً قصيّاً في الجنة فلا يزورُ ولا يُزارإلا نادراً وعلى عجلٍ.
- وهل لايزال يعوي في آثار القوافي كما يعوي الفصيل في آثار الإبل، مثلما رويتَ في رسالتك الشهيرة (رسالة الغفران)؟
- لقد أبدل الله عواءه بكلب يؤنسه ويرعاه. وشاء الله أن تجاورَهُ الخنساء في أقصى الجنة المطلة على جهنم لترى أخويها صخراً ومعاوية وهما في النار حتى رقّ لها الله وأعاد لها أخويها وأسكنهم جميعاً في قصرٍ مجاورٍ لقصر الحطيئة الذي لا يطيق إقامة فيه.
- إنّ قصائدها في رثاء معاوية لا تقلّ أهمية عن قصائدها في صخر.
- لم أعدْ أتذكرها.
- كقصيدتها التي تبدأها بهذا المطلع الجميل:

ألا ما لعينك أم مالها لقد أخْضَلَ الدمعُ سربالها


- هناك أبو محسّدٍ أيضا يقضي سحابة نهاره نادماً على ميتته، صموتاً لا يحدّث أحداً وإن حدّث فغمغمة لا تعرف ما وراءها.. أسعفه الله، وأعانه على مصيبته وجراحاته التي لايزال يشكو منها حتى بعد شفائه، وهو، لوحدته، يكاد يستحيل صخرة أو شجرة؟ لا يحركه شعرٌ ولا حورية تمرّ ومن أين يأتيه الشعر وقد هجرالشعرُ أهلَ الجنة فلا يقرب منهم أبداً.
- أتراه يفكر بإمارة في الجنّة؟
- محالٌ. وأنّى له ذلك والملائكةُ تحوطه، والزبانية على بعد ذراعين من الجنّة.
- وما سبب كثرة الشعراء في الجنة وهم من ذكرهم القرآن بالسوء؟
- لقد عفا الله عن شعراء الارض أجمعين متعلّلاً بالآيات التي ورد ذكرها في القرآن:" والشعراء يتّبعهم الغاوون، ألم ترهم في كلّ وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون" ومعتبراً إياهم أطفالهُ المشاغبين الضالين، إلاّ من حقّ عليه العقاب لجريمةٍ أو معصيةٍ لا غفرانَ لها، مع ذلك فإن هذه الآيات ظلتْ تلاحقهم حتى وهم هناك فلا يخلو أذان بين فترة وأخرى من ذكرها، ولعلّ أثقلَ الأصوات على الشعراء صوتُ بلال حين يترنّم بها وكأنه يغني. وهذا ما يدفعهم إلى السخرية منه والهزء به حين يمرّ، وقد يتبعه بعضهم مردّدين وراءه: "أسهد أنّ لا إله إلاّ الله، وأسهد أنّ محمداً رسول الله" إذ كان بلال الحبشيّ مؤذن الرسول يقلب الشين سيناً، وكان النبيّ لا يضيره ذلك ويقول "سين بلال عند الله شين" أو يتبعونه صائحين "نحن الغاوون وأنت الشاعر" فيلعنهم بلال بأفحش الألفاظ ويضحك أهل الجنة، ولا ينتهي هذا المشهد حتى بالعرائض المرفوعة إلى الله والتي كثيراً ما يمزقها الملائكة في الطريق..
- وما يفعل الشعراء في الجنة؟
- مطرقون ابداً. ألسنتهم شتى ولولا إطراقتهم الدائمة لسمعت لهم ضجيجاً أين منه ضجيجُ برج بابل.
- وهل لنسيانهم علة؟
- كيف لا ينسون وقد رأوا من الأهوال ما يشيب له الولدان، بعد ذلك الحساب العسير والوقفة التي ترتجّ لها حتى الأفلاك، وبعد ذاك العذاب الذي وقع لهم قبل مجيئهم الجنة، ولعلّ أخف الأسباب عبور السراط الذي يكاد يكون مستحيلاً.. تعبره فتخال نفسك تسير فوق هوّةٍ لا قرارَ لها وأنت تهتزّ ذات اليمين وذات الشمال، لا تدري ألك رأسٌ حقّاً أولك قدمان؟
كتب الخليل بن أحمد الفراهيدي أبياتاً في العاجلة تغنيها حوريات الجنة، أحياناً، ويرقصن على إيقاعها، وحين سئل: لمن هذه الأبيات يا ابا عبدالرحمن؟ لم يحر جواباً، معتذراً بعبور السراط الذي لم يترك له ذاكرة لكي يستعيد ما مضى. فإذا كان هذا حال أذكى العرب في عصره فما بالك بالشعراء وهم من عرفوا بالسهوم والنسيان ولاسيّما أولئك الذين أبدلت جلودُهم في جهنم مراراً.
- هل تقصد تلك الأبيات المنسوبة إلى الخليل و التي أولها:


إن الخليط تصدّعْ فطر بدائك أو قعْ
لولا جوارٍ حسانٌ مثل الجآذر اربع
أم الرباب وأسما ء والبُغوم وبوزع
لقلتُ للظاعن:اظعنْ إذا بدا لك، أو رع


- نعم هي ما أقصد.
- ألم تسعف الخمرة على قول الشعر؟
- كيف تسعف لمن اعتاد السكر وهي كعصيرالعنب حلاوة حتى أنهم أصبحوا يتجنبون المرور بأنهار الخمرة لئلا تذكّرهم بخمرتهم الحبيبة، مطبوخة ونيئة.
- وما خبرُ امرئ القيس؟
- إنه الآن أضحوكة المجالس؟
- لم؟
- كلّ يوم وهو يسوق الجمال في موكب إلى بركةٍ نائية في الجنة ليضع لواءه هناك أو لينحر ناقته ويشوي لحمها وسط ضحك الحوريات وحين تستوي الناقة حية بعد الذبح، يعلو ضجيجهنّ حتى يصل أسماعنا، فيأخذن يترامين بشحمها وهي واقفة تنتظر صعود الحورية التي تسمي نفسها عنيزة إلى الهودج، عندها يبدأ أمرؤ القيس توسلاته التي تضحك الحجر، و يعود الموكب بعد أن أدّى كلّ ما عليه من مشاهد مصطنعة مكرورة عبر ممر الشعراء الذين يستقبلونه دوماً بصفيرهم وتعليقاتهم بألسنتهم المختلفة مما يزيد الموكب طرافة والحوريات تغنجاً، ولعل أكثر الشعراء حماساً للمشاركة في هذا الموكب الظافر هو شاعركم محمد مهدي الجواهريّ الذي يُغيظ بحركاته وهتافه شعراء كثيرين، إلا أن أكثر الشعراء أصبحوا يسأمون المشهد ويتوارون عند حدوثه. أمّا امرؤ القيس فهو الوحيد الأشد حزناً بعد انتهاء المشهد وتواريه في خدر عنيزة.
- ومَنْ من الشعراء العراقيين الذين التقيت بهم هناك وتحدثت إليهم؟
- كثيرون،من بينهم الجواهريّ الذي سبق ذكره، والرصافي، والزهاوي، و بدر، والبياتي.
- وكيف وجدتهم؟
- جاءني البياتي يوماً وقال لي أنه كتب عني قصيدة لم يتذكرها فأدنيته منّي وحين سألته عن شعراء الارض لم يذكر حسنة لهم. وله عداواته العديدة في الجنّة مع شعراء كثيرين فلا يحييه أحدٌ ولا يحيي أحداً، ولاسيما بعد وصول الجواهريّ وما لاقاه من حفاوة قلّ نظيرها إذ استقبله الله جلّ جلاله والملائكة استقبالا حافلاً مما أثارحفيظة البياتي الذي دخل الجنة منهكاً يهدّهُُ التعب من رحلته الشاقة إلى السماء فلم يستقبلهُ غير الحارس رضوان الذي عامله بجفاءٍ كما قيل. لماذا؟ لا أدري. ربما لكراهته الشعر فرضوان مشهور بهذه الكراهة، غير أن البياتي لا يعرف ذلك.
أسرّني البياتي أن كلّ ذلك جرى لان الله والملائكة ورضوان لا يحبون الشعر الحرّ، مع أنه قريبُ الشبه بآيات القرآن، فقلتُ له أواسيه : مهلا..! إن الخالق، سبحانه، لا يتوقف عند شكلٍ من أشكال الشعر. مهما ادّنى أو ارتفع. ثمّ أن رضوان مازال لم يتعلم العربية وهو لا يتحدث أبداً. ومن سمعه قال إنه يتحدث الآرامية. خفّفتْ كلماتي هذه من عذاب البياتي إلاّ أن ما أغاظه أن الله لم يجلب الملائكة وحدهم في استقبال الجواهريّ بل الجنّ ايضا لينقروا الدفوف ويعزفوا احتفاءً بالشاعر وكأنّ ثمة عرساً في الجنة. وهذا خرقٌ لقوانين الجنة وياليتها خُرقت كما قال بعض الشعراء في أعراف أخرى تستدعي الخرق، وخرقها أولى من هذا الحفل العابر الذي أثار سخرية الشعراء ولاسيما شاعرين افرنجيين متلازمين كتلازم الشنفرى وتأبط شرّاً فحيثما ذهبت وجدتهما معاً.
- من هما؟
- لا اتذكر اسميهما ولكنهما شاعران يقضيان نهارهما في شجار دائم.
- وهل يتكلمان العربية؟
- أنّى لهما ذلك وهما لا يعجبهما العجب نفسه.
- هل تقصد رامبو وفرلين؟
- نعم هذان هما الاسمان اللذان يعرفان بهما في الجنة، واللذان ينطقهما شعراؤكم العراقيون ممن دخلوا الجنة حديثا، نطقاً صحيحاُ لا شائبة فيه، بل إنني رأيتهم يتوددون إليهم رغم أنهم لا يعرفون لغتهما.
- وكيف كان ردّ فعل الجواهريّ لهذا الاستقبال؟
- كان مشدوهاً لا يعرف ماذا يقول وقد خانه الشعر ونسي كلّ شئ يتذكرهُ في الارض، بعد عبوره السراط، فأخذ يتمتم يفتح فمه ويغلقه دون أن تخرج لفظة واحدة منه حتى استدعى ذلك ضحك الشعراء وفرحتهم بفشل الاحتفال ولاسيما الشاعرين الفرنجيين صاحبيك...
- ليسا بصاحبيّ ولكني قرأتُ لهما وأحببت شعرهما، لكن مادام الأمركما قلت يا أبتِ فلِمَ غيرة البياتي؟
- احتجاجاً على الخالق وملائكته الذين آذوه بالتسمّع لنمائمه وشكاواه ونقلها إلى الله الذي أغضبته لجاجة البياتي فلم يمنحه ابتسامة، دون الشعراء كلهم، أثناء جولاته المسائية في الجنّة.
- وماذا عن بدر؟
- إنه يقضي جلّ وقته قبالة نهر أطلق عليه اسم بويب، هامساً ليله ونهاره:" بويب..بويب" ولاشئ غير ذلك، لعلّ هذا مقطع من قصيدة كتبها في العاجلة ونسيها في الآخرة. لم يشاطره أحدٌ حزنه فالشعراء في الجنة في شغلٍ شاغلٍ عن وساوسه وأحزانه..
- وهل يعجبك أن تلتقي ببعض الشعراء هنا على الأرض؟
- لا.. ولكن إذا صدف أن التقينا بواحدٍ منهم فلم لا؟ هل ثمة شعراء أحياء كثيرون على الأرض من الفرنجة والعرب؟
- نعم كثيرون.
- ألا تذكر لي واحداً منهم؟
- أدونيس
- وهل هذا شاعر فرنجي أم عربيّ؟
- عربيّ.
- ولماذا يسمّي نفسه بأدونيس؟
- هكذا ارتضى أن يسمي نفسه.
- وهل شعره كاسمه..فرنجيّ عربيّ في آن واحد؟
- بالضبط.
- ماذا تعني بالضبط؟ هل يكتب شعره بالحروف اللاتينية؟
- لا ولكنّه يتقعّر ويتثاقف ويستعرب ويستغرب، فلا تدري أهو شاعر عربيّ أم فرنجيّ؟
- هذه هي المرّة الأولى في حياتي أرى فيها شاعراً كهذا مستعرباً مستغرباً.
- وله قصائد فيك، وبالمناسبة فهو من محبيك.
- وبأية لغة سأحدّثه؟
- كما تتحدّث معي.
- ومن هناك من الشعراء غيره؟
- عبدالمعطي حجازي؟
- ما هذا الأسم؟ عبدالمعطي؟ وهل هو كثير العطاء.
- إنه على العكس تماما انقطع عن الشعر منذ سنين، لكنّ له قصيدتين أو ثلاثاً هي من عيون الشعر.
- وكيف يقطع كل هذه المسافة بين الإجادة والضعف؟ ألا يتعبه ذلك؟
- لهذا انقطعَ عن الشعر.
- أثمة شعراء آخرون؟
- سعدي يوسف.
- نعم سمعتُ عنه من بعض القادمين إلى الجنة.
- كيف هو الآن؟
- شيخ طاعن؟
يحارب ذات اليمين وذات اليسار.
- يحارب مَنْ؟
- نفسَهُ ربّما! مدعياً إنّه يحارب الطواحين
- وما شأنه والطواحين؟
- هذا ديدنهُ.
- واين هو الآن؟
- في الريف.. الريف الإنجليزي.
- ما الذي تقول؟ هذا اسمه أدونيس، وهذا في الريف الإنجليزي، والثالث عبدالمعطي ولا عطاء له، ما هذه الفوضى؟ أهي في العالم أم في الشعر؟ وأنت اين تسكن الآن؟ ما اسم مدينتك التي هبطتُ إليها؟
- لندن
- ما هذا الذي أسمعه؟
- هذا هو الواقع.
- هذا ليس واقعاً.. هذا هو الخيال بعينه.
- شعراء في بلاد الفرنج! وهل في بلاد العرب شعراء من الفرنج؟
- كيف يكون هناك شعراء فرنجة والشعراء العرب أنفسهم هاربون من بلدانهم؟
- عجباً؟
- ولماذا؟
- لأنها لم تزل كما قلتَ:


ملّ المقام فكم أعاشـــرُ أمة أمرتْ بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها


- عجباً! كل هذا الزمن الذي مرّ، ولم تصلح هذه الأمة أمورَها. هذا شئ محزنٌ حقّا.
- وهل صلحت الجنة لتصلح الأرض؟
ألم تقل أن عالمها ليس بأقلّ سوءاً من الأرض؟
- أجل.
- وكيف تتفاهمون في بلاد الفرنج؟
- بلغتهم حتى أصبح الشعراء وخاصة العراقيين منهم يرطنون بكلّ اللغات يصيبون ويخطئون. ولعلّ حالهم أفضل من شعراء الفرنجة في الجنّة.
- لم يتعلم واحدهم لغة القرآن قطّ. ومن يتكلم منهم العربية يرطن بها فلا يفهم منه شيئاً. لعلّه يتحدّث لهجات بعض القبائل التي تسكن في الشمال من أفريقيا، أو الشرق منها، ومن بينهم صاحبك الذي ذكرته لي.
- تقصد رامبو
- نعم
- ولكن ألم يحاول أهل الجنة تعليمهم؟
- حاول الكثيرون ومن بينهم الأصمعي والخليل بن أحمد الفراهيدي، والاخفش، وأساطين اللغة فلم ينفع الدرس نحويّاً أو لغويّاً بل أنه أدّى إلى خلافات النحاة ثانية وهذا ما سرّ الشعراء فجعلهم لا يبالون بالدرس ويزدرون النحاة وطرائقهم.
- وفي معمعة الأجواء هذه ما يفعل المتصوفة؟
- تعرف أنني لا أحبهم.
- أعرف ذلك فأنت صاحب القول الشهير:


أرى جيل التصوف شرّ جيلٍ فقل لهم، وأهون بالحــلولِ
أقال الله حين عشــــقتموهُ كلوا أكل البهائم وارقصوا لي


- بعضهم غائبون عن أنفسهم دائماً، في حضور الله أو في غيابه، والبعض الآخر لا همّ لهم سوى الأكل ومعاشرة الحوريات وإرهاق الولدان المخلدين بطلباتهم التي لا تنتهي، فلا يكتفون ولا يطعمون الغمض إلا وهم يحركون ألسنتهم ويلوكون بأسنانهم. بعض الفرائس التي ألهمها الله أن تتكلم كالأسد أخذت تحتجّ بنهم أهل الجنة وتقول: "أليس أحدكم في الجنة تقدّم له الصحفة فيأكل منها مثل عُمْر السماوات والأرض، يلتذّ بما أصاب فلا هو مكتفٍ، ولا هي الفانية؟ وكذلك أنا أفترس ما شاء الله. وكانت من قبل يكتفي الواحد منها بشاةٍ عمياء فيقيم عليها الأيام لا يطعم سواها شيئاً".
- ما ترويه يذكّرني بقصة قرأتها عن شبحٍ مرحٍ يتلف أغراض الناس ثمّ يندم فيرسل إليهم الهدايا في أعياد رأس السنة الفرنجية ومن بينها حلويات شتى غير أن الناس يكتشفون في ما بعد إنها مجرّد أشباح. كلما التهموها عادت ثانية، فلا يكتفون أبداً. لقد افزعني التعبير الذي ورد على لسان أحد الفرائس:" نأكل منها عُمْر السماوات والأرض" مثلما أفزعني التعبير الآخر:" يلتذّ بما أصاب فلا هو مكتفٍ ولا هي الفانية" أليس هذا شبيهاً بالجوع؟
- أجل وهذا ما دفع بأحدهم أن يعتزل أهل الجنة ويصرخ: "الجنة فوق بطون العباد".
- ومن هو يا أبتِ؟
- تذكرتهُ أجل، الغزالي.، أبو حامد الغزالي.
- وكيف يحتمل الحلاج ذلك، رغم أنك لا تحبه؟
- إنه في غيبوبة دائمة لا يدري ما يجري حوله.
- وأبو يزيد البسطامي؟
- تراه في الجنة ويداه ممدودتان، دوماً، إلى النار كالمجنون، وهو يصرخ: أجعلوني فداءً للنار وأهلها.. اجعلوني وقوداً للنار وأهلها! ولم يكفّ عن صراخه حتّى جاء عشرة ملائكة بسلاسل من حرير ليبعدوه عن النار. ومرّة رأى يهوديّاً في النار فقال: ما هذا؟ ثمّ توجّه إلى الله غاضباً هبْهُ لي! أيّ شئ هذا حتّى تعذّبه؟ فزجره الله لكنّ أبو يزيد أو طيفور كما يسميه أصحابه من متصوّفة الجنّة ظلّ يجمجمُ ويهمهمُ كأنه فرس حرون مربوطة ثمّ علا ضحكه حتّى أرعب حوريّات الجنّة، وهو ما زال ممتنعاً عن شراب ماء الجنّة حتّى يبست شفتاه وصارتا كأنّهما حشف يابس فلا يكاد ينطق، وإذا نطق فلا تسمع منه غير "حاسبني، حاسبني" فيقول الله: "لمَ يا عبدي؟ فيطرب أبو يزيد ويعود إلى الرقص كالطفل فرحاً بكلمة "يا عبدي" التي كان يبتغيها من وراء غضبه. بعض الخبثاء من أهل الجنّة علّق على هذه الحالة: "الله من وراء القصد"، غير أنهم كانوا يتحاشون أن يسمعها لئلاّ يشتطّ في غضبه فيكسر كأس محبّته على رؤوسهم.
رأيته مرّة جالساً فحيّيته فلم يردّ التحيّة فسألته: "لِمَ لمْ تردّ التحية يا أبا يزيد؟"
قال:"أهل الجنّة محجوبون بمحبّتهم حتّى في الجنّة"
قلتُ له: "ولمَ؟"
أجابني: "وأين أنت منّا يا أبا العلاء! لقد ابتلاني ربّي بالإيمان في الدنيا والكفر في الآخرة". فلم أتوقّف عنده ومضيت لشأني مردّداً قوله في العاجلة:" سبحان الذي لايستأنس بغيره".
قلت لابي العلاء: أو تدري أن ابن كثير روى عن الحافظ أبي نعيم عن أبي بكر أحمد قال: أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بخيبر حمارٌ أسود فوقف بين يديه فقال: من أنت؟ قال: أنا عمرو بن فلان، كنّا سبعة أخوة كلّنا ركبنا الأنبياءُ وأنا أصغرهم، كنتُ لك فملكني رجلٌ من اليهود، فكنت إذا ذكرتك كبوتُ به فيوجعني ضرباً فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنت طيفور( وفي رواية أخرى يعفور). فما معنى طيفور يا ابتِ؟ قال: علمي علمك، ولكن ما هذا الحديث الغريب! وما هذا اليعفور أو الطيفور؟ لو كان صحيحاً لالتقيت بطيفور في الجنّة. ولكن لا أكتمك أنّني التقيتُ بحمير كُثر آنس لي في الجنة من الناس وألطف معشراً يروون حكايات عن البشر لا يصدّقها عقل، ولولا ثقتهم بي لما ردّدوها لأنّ بهم خشية من النقل بعد أن رأوا أنّ بعض الملائكة لا يجدون حرجاً في نقل ما يأنفه السمع إلى الخالق البارئ الذي لا يحول بينه وبين عبده حائل، فكان يقول اتركوني وعبدي.
قلت لابي العلاء: لعلّ هذا خير ما يروّح به الناس والحمير عن أنفسهم. قال ما تقصد؟ قلت: ما يفضون به، ففي الإفضاء راحة للنفس، كما تعلم، ولكن قلْ يا أبتِ وما يفعل الحمير في الجنّة؟ قال: إنهم يسيرون مطأطئي الرؤوس، مطرقين كالشعراء وقد ارتسم الحزن على وجوههم، لا يكترثون للرائح والغادي، ونادراً ما يحدّثون راكبهم. قال لي أحدهم: إنه ضجر من الجنّة، فلا يطيق أحداً أن يركبه، ولا يطيق انفراده أيضاً، وهو يعيش على ذكرياته في الارض. مرّة صادفت طيفور، أقصد أبا يزيد لا الحمار، وهو غائب عن وعيه يركض كالمجنون حتّى أفزعهم، فلا يعرفون ماذا يفعلون حتّى أتى بضعة ملائكة ليحملوه إلى قصره الذي لم يأوِ إليه قطّ.
- حدّثني يا أبت عن الحمير!
- وما شأننا بالحمير وهي أكثر من عباد الله؟
- ولكن ما سرّ كثرتها في الجنّة؟
- لأنها لم تسئ لأحدٍ ولم ترتكب معصية أو حماقة وهي إلى الوداعة أقرب ولعلّها أقرب المخلوقات إلى الأطفال.
- وأيّ جدوى في كثرتها وهي تتشابه حتى لا تكاد تميّز بعضها عن بعض؟
- وكذلك حال الكثير من البشر وقد تقول الحمير الشئ ذاته عنّا.
- هذا صحيح
قرأت مّرة لشاعر فرنسيّ طريف غير معروف لأبناء جلدتنا، واسمه فرانسيس جام ، قصيدة بعنوان (صلاة من أجل الذهاب إلى الجنة مع الحمير). ما أحراني أن أقرأها لك! ما أظنّك التقيته في الجنّة أو الأعراف ولعلّ مسكنه النار، إن لم يتمّ التعرف عليه، فهو متواضع، مجهول. لا أدري لماذا؟ مع أن شعره يفيض عذوبة ورقة وإنسانية وقد هالني الأمر أنّ مترجماً عربيّا ترجم مرة مختاراتٍ لفترة امتدت مئة عام من الشعر الفرنسي، ضمّتْ من هبّ ودبّ من شعراء فرنسا حتى من لا علاقة لهم بالشعر. ولم يورد ذكراً لهذا الشاعر الرائع ولعل ما حدث من إهمال أو نسيان أو جهل من حسن حظه فالترجمة واختيار القصائد كبياض هذا الشاعر الذي يدعي أنه يكتب البياض.
- وما هذا البياض؟
- بياض الورقة، وهو، مع ذلك، يتصور نفسه ندّا لشاعر مشهور سبق أن ذكرناه في حديثنا هذا، مفتعلاً الشجار معه على بياضٍ من سواد الأمور.
لندعْهُ جانباً، فأمثاله كثر، ولأقرأ لك القصيدة:



صلاة من أجل الذهاب إلى الجنة مع الحمير



أيها الربّ
إن كان عليّ المجئ إليك
فليكن ذلك في يوم عيد تعجّ فيه الدروب بالغبار
أرغب مثلما كنتُ على الأرض أبداً
أن أذهب ، عبر أيّ طريق أشاء،
إلى الجنة
حيث النجوم طالعة في وضح النهار
سأتخذ عصاي وعلى الطريق الواسع
سأمضي قائلاً للحمير أصدقائي
أنا فرانسيس جام في طريقي إلى الجنة
فما من جحيم في بلاد الإله الطيب
أقول لهم: تعالوا معي يا أصدقاء السماء الزرقاء الوديعين
أيتها المخلوقات الفقيرة المحبوبة، يامن بهزة مفاجئة من الأذنين
تبعدين الذباب، الضربات الموجعة، والنحل المطنّ.

دعني أيها الرب أقف أمامك بصحبة هذه المخلوقات
التي أحبها كثيراً لانها بعذوبة تحني رؤوسها
وتقف ضامة أقدامها الصغيرة
بطريقة عذبة تثير الإشفاق
سآتيك متبوعاً بآلاف الآذان
متبوعاً بتلك المخلوقات التي تحمل السلال عند خواصرها
وتلك التي تجرّ عربات المهرجين
والعربات المحملة بمنفضات الريش والصفيح
وتلك التي تتكدس العلب على ظهورها حدّبة
الحمير الأناث المنفوخة كالقرب، ذات الأقدام المكسورة العرجاء
وتلك التي يلبسونها سراويل صغيرة تحت الركبتين
لأنّ جروحاً زرقاء نازفة
سبّبها ذباب يتجمع حول الجروح

إلهي
حين آتيك مع هذه الحمير
فلتوص ملائكتك أن يقودونا بسلام
إلى الأنهار المعشوشبة حيث يرتعش الكرز
لامعاً مثل أجسادٍ تضحك لصبيات جميلات
ودعني منحنياً،
في مقام الأرواح هذا،
على مياهك المقدسة،
أكن شبيهاً بحميرك وهي تعكس فقرها المتواضع الوديع
في صفاء الحبّ الأبديّ


- إنه شاعرٌ جميل حقّاً.
- إنه يشبهك في نواحٍ ما فأنت محبٌ رفيقٌ بالحيوان يا أبتِ. ما أرقّ بيتيك هذين إن كنت تذكرهما:


أرى حيوان الارض يرهب حتفهُ ويفزعهُ رعدٌ ويطــعه برقُ
فيا طائرُ ائمني ويا ظبيُ لا تخفْ شذاي فما بيني وبينكما فرقُ


- شكراً لك على هذا الإطراء.
- ولكن ما يستوقفني في شعرك ولاسيما في لزومياتك أنك لم تذكر الحمير في شعرك. لقد ذكرت الحمامة، والديك، والثعلب، والأسد، والنحل، والغراب، والذئب، وأتيت بالبغل شاهداً في حواريتك الجميلة (رسالة الصاهل والشاحج)، وحرّمت الحيوان وامتد حبك للفرائس، وهذا شئ نادر لم نجد نظيره في الآداب الأخرى، ألست القائل:


أذود عن الفرائس ضارياتٍ وأعلم أنّ غايتها افتراسي


- كفانا الله في الآخرة ما أعوزنا في العاجلة.
- حين قرأت قصيدتيك عن ثعالة (الثعلب)، والديك لم أتمالك نفسي إلاّ أن أكتب عنهما، مثلما ملكك الجاحظ كما يقول باحث من عصرنا: إنّ الجاحظ ملك المعري إلى أبعد حّد ولاسيما في الحيوان الذي يشرح كثيراً من مبهمات المعري، وفي رسائله التي أدارها على السخرية الحادة اللاذعة".
- وما اسم هذا الباحث؟
- الشيخ عبدالله العلايلي وهو لبنانيّ الأصل، وله رأي طريف هو أنك صاحب فلسفة تنحو فيها لا إلى وحدة الوجود بل وحدة الموجود.
- وما هي وحدة الموجود؟
- يفسرها كالتالي:" معناها أن الموجد الذي معنى فساده في تكثره يتحرك إلى توحد موجوديته بالله، وليس يتحرك إلى وحدة وجوده بالله".
- لم أفهم ما يقصد هذا الشيخ.
- ولا انا . ما موضع قوله هذا من قولك:


قلتم لنا خالق حكيمٌ قلتُ صدقتم كذا نقولُ
زعمتموه بلا مكانٍ ولا زمان الا فقولوا
هذا كلامٌ خبـــئ معناه ليس لنا عقولُ


- هلاّ ذكرتني بما قلتُ عن ثعالة؟


- ثعالة حاذر من أميرٍ وســــــــوقةٍ
فمن لفظ صيدٍ جاء لفظ الصيادنِ (3)
ولا تتخذ من آل حواء صــــاحباً
وغيرهم إن شئت فاصحب وخادنِِ


- وماذا كتبتَ أنتَ؟


- لا أميرَ ولا سوقةٌ
يا ثعالة!
فاحذرْ
إنّ لي أخوةً بين تلك الثعالبْ

لا سميعَ ولا سامعٌ
يا ثعالةُ!
فانظرْ
أقبل الصائدون من كلّ جانبْ



- جميل. حبّذا لو ذكرتني ببضعة أبيات من قصيدة الديك أيضا فقد بعُدَ عهدي بها.
- إنها قصيدة طويلة تبلغ سبعة واربعين بيتاً سأورد منها الأبيات التي انعكست في قصيدتي كلمات وأخيلة:


أياديك عدّت من اياديك صيحة
بعثت بها ميت الكرى وهو نائمُ
هتفت فقال الناس أوس بن مُعيرٍ
أو ابن رباحٍ بالمحلة قائمُ
عليك ثياب خاطها الله قادراً
بها رئمتك العاطفات الروائمُ
وتاجك معقودٌ كأنّك هرمزٌ
يباهي بها أملاكه ويوائمُ
وعينك سقط ما خبا عند قرّةٍ
كلمعة برقٍ مالها الدهر شائمُ
وما افتقرت يوماً إلى موقدٍ لها
إذا قرّبت للموقدين الهشائمُ


أما قصيدتي عن الديك فهي:


صعدتْ نجمةٌ كالنعامةِ
عيناكَ برقٌ
وهذي الثيابُ الجميلةُ
سودٌ وحمرٌ
كأنّكَ هُرْمُزُ
أيّ المواقدِ شُبّتْ !
وأيّ المُدى قُرّبتْ !
أيّها الديكُ
يا ملكََ المحصنات
ويا أوسُ
يا ابن رُباحٍ
ويا صيحتي
حين ينبعثُ الميْتُ في صيحتي



وما بين ثعالة والديك يمر الزقّ أمام المسجد كما لو أنه حيوانٌ ثالث فيدعي ابن القارح أنه عندما أبصر الزقّ من باب المسجد أسرع ووجأه لكن الخمرة لم تنسكب من الزقّ وهذا ما كذّبه الزقّ الذي قال إن أبن القارح لم يره ولو رآه لتبعه مما خلف ندماً شديداً لدى ابن القارح:



ما رواه المعرّي عن ابن القارح



من باب المسجد
أبصرتُ الزقّ يمرّ
قال ابن القارح
فوجأْتهُ..(4)
لكنْ لم ينسكب الخمر
قال الزقّ:
"من باب المسجد
أبصرتُ ابن القارح
فأشرتُ له أن يتبعني"
قال ابن القارح:
"ما أجهلني
لو صحّ الأمر!"


كلّ هذا يذكرني بمناظرتك التي رواها ياقوت، والتي جرتْ بينك وداعي الدعاة أبي نصر هبة الله بن عمران، في تحريم الحيوان. أحسستُ وكأنك دفعت إليها دفعاً يا ابتِ، لاسيما وأنت القائل:


غدوت مريض العقل والدين فالقني لتســمع أنباء الأمور الصحائح
فلا تأكلن ما أخرج البحر ظالماً ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح


- هذا لا شكّ فيه، أراحنا الله من دعاواه وإلحافه وسرفه في المحاججة.
- أظنّ يا أبت أنّ الوقت حان لتستريح، بعد هذه الرحلة الشاقة عبر أقطار السماوات.
- الحديث معك ممتع، يابنيّ وفي أرضكم ثمة ما هو جديد دوماً.






_________________________

(1) ضرب من الشجر، ولها معانٍ أخرى منها حرقة القلب وحبة القلب، كما يورد ذلك أبو العلاء في "رسالة الغفران".
(2) ضبح: عوى
(3) الصيادن: الثعالب، والحذّاق في كلّ شئ.
(4) وجأه: طعنه بسكين أو آلة حادّة أخرى.






2- النهارالأول





المكان نفسه.
الوقت نهاراً.

- عمت صباحاً يا أبتِ
- عمتَ صباحاً يا بنيّ
- كيف كانت ليلتك؟
- نمت نوماً عميقاً بلا أحلام.
- هذا حسنٌ، أما أنا فحلمت أنني في الدار الآخرة وسط الشعراء وصمت الحوريات ثمّ أفقت مذعوراً لا أدري أأنا حيّ أم ميْت.
- ومن التقيتَ بهِ من الشعراء هناك في نومك؟
- لم التق بأحدٍ أعرفه. جهدتُ أنْ أتعرف على واحدٍ منهم فلم أستطعْ. كانت وجوههم صامتة حتى خلتُ أنني في صحراء وليس في جنة بشرٍ والحوريات يمررن ولا يلتفتن. لم يكنْ لي وجهة فلم اعرف أين اذهب أو أجئ، ولم يمنّ عليّ الله بأحدٍ لأسأله عمن أعرفهم. كانت جنةَ غرباء موحشة بأشجارها وأنهارها وبركها وقصورها النائية، وحين تراءى لي الملائكة بأجنحتهم التي تصطفق ووجوههم الشمعية المخيفة بجمالها وذهولها وتسبيحها الصامت أصابني الذعر، فهربت ناحية أرضٍ خلاء لم تكن خلاءً وإنما هي محتشدة. بماذا؟ لا أدري ثمّ أفقت مذعوراً وحسبتني ميتاً. كان حلما مخيفاً لن أنساه ولا أتمنى بعده جنة، وعذرتُ الشعراء وما يلقونه من ضجرٍ وسوء فهمٍ من ملائكة، أوأشياعٍ من أهل الجنة.
- لا تثريب عليك، إن هي إلاّ أضغاث أحلام. فالجنة أفضل مما تصف في حلمك على الرغم من كلّ منغصاتها وأثقالها. قل لي وأين هو المكان الآمن للإنسان في هذا الكون الشاسع؟
- أردت أن أسالك البارحة ولكنني أرجأت سؤالي، لئلا أجهدك وأنت القادم من عالم آخر, عن الشاعرين الفرنجيين، هل التقيت بهما أو اطلعت على بعض ما كتباه؟
- لماذا أنتم العراقيين مهتمون بهذين كلّ هذا الاهتمام وكأنهما أبو تمام والمتنبي؟
- إنهما شاعران شغلا العالم أجمع مثلما شغلنا أبو الطيب المتنبي وأبو تمام ولا يزالان؟
- أجل، التقيت بهما ولم يكونا مهتمَين باللقاء أو الحديث عن الشعر، ولاسيما أصغرهما المدعو رامبو، وكان مترجمنا شاعراً سوريّاً عاش في العراق طويلاً عرّفني عليه البياتي يدعونه خليل الخوري هل تعرفه أو سمعتَ به؟
- كيف لا ولي معه قصصٌ حينما كنت طالباً في جامعة دمشق، سأرويها لك فيما بعد؟
- حين وصل خليل الجنة لم أتعرّفْ عليه أول الأمر، ولكنه يلفتُ انتباهك بوجهه الشاحب وعينيه الحمراوين من أثر سكرٍ قديم ونحافةٍ غريبة على أهل الجنة من الشعراء التي أصبحتْ بدانتهم موضعَ قلقٍ للحوريات وللولدان، فقد كثُرتْ طلباتهم وثقلتْ حركتهم وبات التصرّف معهم على شئ من التكلف والعنت.
ويبدو أن الأنهار وأطعمة الجنة ومثول الحوريات لم تنفع معه، فهو منحنٍ دائما على أنهار الخمر كالطفل ليشرب براحتيه دون أن يرتوي حتى أصبحت له نظرة وحشٍ - طفل. قلت له يوما بعد أن عرّفني عليه البياتي مارأيك أن تترجم لنا قصيدة واحدة لكل من هذين الشاعرين الفرنجيين اللذين شغلا أهل الأرض لنعرف منزلتهما؟، فاعتذر بذاكرته الضعيفة إلا أنه جاءني بعد يومين معتذرا لما يحمله لي من محبةٍ. كيف لا وأنا ابن بلده ومعلمه كما قال لي، فترجم لي قصيدة بعنوان (ديمقراطية) لرامبو شارحاً هذه اللفظة بلفظة أخرى هي الشورى وكأنني من أعوان ابن حنبل فقلت له يا خليل لا تترجم لي الكلمات الغريبة بكلمات أشدّ غرابة عليّ وإن ألفتها ولكن اشرحها كما تفهمونها أنتم أهل الأرض في يومكم، فاعتذر ثانية، وهو لكثرة اعتذاره وتلكئه في الترجمة أحرجني حقاً، حتى كرهتُ الساعة التي دعوته فيها ليعرّفني بهذين الشاعرين ويترجم لي أشعارهما. قرأ لي في الحقيقة قصيدة لا رأس لها ولاذنب وحين رآني اهز برأسي دون ان يفهم القصد اعتذر ايضاً، فقلت له ياخليل لا تكلف نفسك ما لا تطيق.
- نعم لديّ ترجمته لهذه القصيدة في كتاب ولو سمحت لي فأنني سأقرأها لك لعلها -وآمل ذلك- أن تذكرك بالاصل:


تذهب الراية إلى المنظر الدنس، ولهجتنا الباتوا تخنق الطبل
في المراكز سنغذّي المومسة الأكثر كلبية ،
سننحر الثورات المنطقية.
في البلدان المبهرة والمسقية
في خدمة أبشع الاستغلالات الصناعية أو العسكرية
وداعاً يا هنا ما همّ أين ، حديثي الإرادة الخيّرة، سننال الفلسفة الكاسرة ، جهلاء بالنسبة للعلم، دون مبادئ بالنسبة للرفاهية، الانفجار للعالم المولي، إنها المسيرة الحق، إلى أمام طريق


- أجل، إنها القصيدة ذاتها.
- هذه القصيدة بسيطة في الأصل بل هي شديدة الوضوح ولكنها في الترجمة تبدو مفككة وغامضة ومبعثرة وهذا ما لمسته ليس لدى خليل وحده، وهو مترجم جادّ، بل حتى لدى بعض المترجمين من الفرنجة، ويبدو أنّ السبب يرجع إلى الفكرة المسبقة المأخوذة عن رامبو بصفته شاعراً غامضاً، شديد الغموض. القصيدة تتحدّث عن جنود متطوعين،ولفظة ديمقراطية ترد هنا سخرية بالأنظمة الغازية للبلدان الفقيرة وما يرمز لها وللهجة جنودها الريفيين أو رطانتهم، والبيت الثاني يمكن ترجمته بشكل أوضح:


في المدن سنغذي أكثر الدعارات عهراً


مثلما يمكننا أن نتجنب كلمة منطقية الثقيلة في العربية ونستبدلها بكلمة أخرى متجاوزين حرفية الترجمة:


ونبيد كلّ انتفاضة على حق


يريد ان يقول رامبو هنا إنّ الجنود المرتزقة هم الذين أعطوا الانتفاضة الحق أو منطقيتها بغزوهم.
أما البيت الرابع فلم أجد له ترجمة دقيقة حتى في بعض لغات الفرنج الأخرى ، غير أنّ والاس فاولي، وهو من أشهر مترجمي رامبو وشراحه، وإن أبقى على كلمة المبهّرة أو المفلقلة الثقيلة في لغتنا، استبدل محقّاً الصفة الثانية "الجافة" أو " الشديدة الجفاف" بلفظة "المسقيّة"، وهي الأقرب إلى روح النص لأن ما يعنيه رامبو هنا هو "البلدان الحارة المنتجة للتوابل" كما يرد ذلك في بعض الشروحات فتكون الترجمة كالتالي:


لنمض إلى بلدان التوابل الشديدة الجفاف


أما العبارة المترجمة: "حديثي الارادة الخيرة" فلا إرادة خيرة هناك لجنود مرتزقة غزاة ولا هم يحزنون، بل التعبير يعني الجنود المتطوعين حسب. ولكي لا أتعبك بالتفاصيل أكثر سأقرا عليك القصيدة كاملة بصيغتها أو ترجمتها الأبسط:




ديمقراطية



العَلََمُ يمضي إلى المنظر القذر، ورطانتنا تعلو على ضجة الطبل
في المدن سنغذّي أكثر الدعارات عهراً،
ونبيد كلّ انتفاضة على حقّ
لنمض إلى بلدان التوابل الشديدة الجفاف
في خدمة أعتى المنشآت الصناعية و العسكرية
إلى اللقاء هنا أو في أيّ مكان آخر
نحن المجنّدين طوعاً ستكون لنا فلسفتنا الضارية
جاهلين بالعلم ،
مرهقين من أجل الراحة، والتدمير للعالم الذي يسير
إنها المسيرة الحقّ. إلى الأمام طريق


ولا يخفى ما في البيت الأخير من سخريةٍ وقلبٍ للتركيب المألوف:

إنها الطريق الحقّ. إلى الأمام سرْ


- أجل أصبحت الصيغة الآن جلية ولكني مع ذلك، واعذرني على صراحتي لا أستطيع استساغة مثل هذا الشعر.لابدّ لدى شاعركم المفضل هذا قصائد أجمل بالتاكيد.
- ساقرأ لك شيئا جميلا له لعله يوازن ما سبق.. قصيدة يترجم عنوانها الكثيرون باسم (عبقريّ) لكنني أفضّل ترجمته بكلمة (روح). هذا الروح يشير إليه الشاعر في القصيدة بالضمير"هو" متّخذاً أشكالاً عديدة فهو تارة "الحنان والحاضر" وتارة "الحنان والمستقبل"، وتارة الحب... حتى يكاد يشمل العالم بأسره:



روح




هو الحياة والحاضر، بعد أن أقام البيت مفتوحاً على ثلج الشتاء المزبد وضوضاء الصيف. هو الذي طهّر المشارب والمآكل. هو سحر الأمكنة الهاربة، والبهجة الخارقة للمحطات، هو الحنان والمستقبل، القوة والحب، تلك التي نراها، واقفين في سورات الغضب وتقلبات الضجر، وهي تمرّ في سماء العاصفة وسط رايات الذهول.
إنه الحبّ، الميزان الحق، وقد أعيد خلقه، العقل المدهش المفاجئ، إنه الأبدية: الآلة المحبوبة بقواها المميتة. كلّنا ينتابنا الفزع لتنازله وتنازلنا. يا فرح عافيتنا، واندفاعة قدراتنا، أيها الحنان الأنانيّ، والهوى الجامح باتجاهه، هو الذي أحبنا من أجل حياته اللامتناهية.
نناديه فيرحل، وحين يزول التولّه، يرنّ، موعده يرنّ: خلف هذه التطيرات، هذه الأجساد العتيقة، هذه الأُسَر، وهذه الأعمار " هوذا العهد الذي غرق.
لن يرحل ولن يهبط من السماء ثانية. هو لن يفتدي غضب النساء ولا كل صنوف بهجة الرجال ولا كلّ تلك الخطيئة، لأن ذلك تمّ، مادام هو كائنٌ ومعشوق.
يا لأنفاسه، يا لالتفاتات رأسه، يا لسباقاته، يا لرشاقته الرهيبة في إتقان الأشكال والفعل!
يا لخصوبة الفكر وشساعة الكون!
جسده! الانعتاق المرجوّ، انكسار النعمة المقطوعة بعنف جديد.
مرآه، يا لمرآه! كلّ ضروب الركوع القديمة والعقوبات رُفعتْ إثر خطاه.
نهاره! إبطال كلّ عذاب مثيرٍ مرنّ في الموسيقى الأشدّ حدّة.
خطوته! الهجرات الأوسع من الاجتياحات الغابرة.
آه هو ونحن! التكبر الأرفأ من إحسان ضائع.
أيّ عالم هو! والنشيد النقيّ للشرور الجديدة.
هو الذي عرفنا جميعاً، أحبنا جميعاً. فلنعرف، في هذه الليلة الشتوية، من رأسٍ بحريّ إلى آخر، من قطب ضاجّ إلى قصر، من حشدٍ إلى شاطئ، من نظرات إلى نظرات، بقوىً ومشاعر متعبة، كيف نناديه، نراه، نرسله بعيداً، تحت المدّ والجزر، في أعالي الصحارى الثلجية مقتفين أثر رؤاه، أنفاسه، جسده، ونهاره.





- نعم هذه القصيدة أجمل من سابقتها، تذكرني بلغة المتصوفة.
- قلتَ لي أنك التقيت خليلاً من قبل أين كان ذلك في بغداد أم دمشق؟
- في دمشق عندما كنت طالباً في جامعتها في الستينيّات، كان لقاءً محتدماً ابتدأ بنقاشٍ عاصف عن الشعر وانتهى بالمعانقة والذهاب إلى بيت أحد الأصدقاء، وكان نحّاتاً. شربنا وسط تماثيله وكأننا في حضرة هيكل قديم تملؤه التماثيل، يصحبنا ثلة من الأصدقاء، غير أن خليل عاوده سعارُه السابق صارخاً بي: " وماذا تفعل هنا؟.. ارجع إلى بلدك!"، ثمّ أدى به سعارُه إلى قذف أحد التماثيل، فأصابتْ رأسَ واحدٍ منّا، ثمّ اختفى هارباً غير أنا لحقنا به وكدنا نمسكه لولا تحوله إلى غزال مذعورٍ راكض بسرعة البرق في شوارع خالية من الناس. لا أزال لا أصدق حتى الآن كيف ظل معطفه معلّقاً على كتفيه دون أن يسقط وهو يرفرفُ طائراً في الهواء.
- وهل التقيته ثانية؟
نعم التقيته في صالة مطار البصرة أيام المربد، وكان في صحبتي صديقي الحميم الشاعر السوري عليّ الجنديّ الشاهد على حادثة دمشق. لم اقلْ له: "ماذا تفعل هنا؟ ارجع إلى بلدك!" لأنني أعلم أنه فقد بلده، مثلما فقدتُ بلدي الذي أقيم فيه، بل أشفقتُ عليه لأنه لم يُحسن اختيار إقامته أو منفاه. انصرف خليل مرتبكاً عندما أوقفه عليّ الجنديّ قائلاً:" "هذا فلان" وكم كان حزني شديداً حين روى لي صديقٌ سجين، فيما بعد، إنه التقى خليل الخوري في واحدٍ من سجون السلطة السريّة، وكان موضع سخرية السجناء والمسجونين معاً. لم أحزن له فقط، بل حزنتُ لمصائرنا جميعاً ... شاعرٌ لم يشفعْ له حتى ولاؤه للسلطة وقصائد مديحه لها... أية سلطة هذه؟
ثمّة شرخ لا في شخصه وحده وإنما في شعره أيضاً. كيف تفسّر شرخ الشاعر بين تغنيه الساذج بالحاضر الهشّ وأمجاده الكاذبة:


من قاسيون أطلّ يا بلدي لأرى دمشقَ تعانقُ الشهبا


و قوله:


لا درّ في الصدفْ
لأنّ بعد كلّ رحلة قرفْ


وليس هذا بملمحٍ خاص بخليل وحده فأنت تجده لدى شعراء عديدين ولا سيما شعراء السلطة من حزبيين وغير حزبيين.
أخشى أن يستغرقنا الكلام أكثر كليلة البارحة فلانرى مدينة لندن وسكانها الإنجليز الذين لم يعودوا سكانها وحدهم وقد ملأتها الجاليات المهاجرة وأحياؤهم الآخذة بالاتساع. سأريك أوّلاً شارعاً لن تسمع فيه غيرلغط لغتنا فلا تكاد تفهمها لكثرة اللهجات التي تتحدث بها.
- وما اسم هذا الشارع؟
- إجوار رود.
- وماذا فيه؟
- مقاهٍ ولحم وفول على امتداده...
- ماذا تقصد باللحم والفول؟
- المطاعم العربية
- وكيف نذهب إليه؟
- بالباص أو قطار الأنفاق، ستسألني عنهما ولكني أفضل أن تجربهما بنفسك ، ولنبدأ بالباص فهو أسهل وسيلة تلائمك ربما. وأنتم ما الوسائل التي تستخدومنها في الجنة غير الحمير.
- الخيول والجمال ولكن لم أرأحداً يركب الجمال إلا صاحبيك لإضحاك أهل الجنة، وامرَأ القيس وهو يتقدم حورياته كلّ يوم إلى البركة. ثمة حمقى آخرون كعديّ بن زيد الذي يمتطي فرسه كلّ يوم أيضا ذاهباً إلى الصيد، وحين يهمّ بصيد دابة سرعان ما تصرخ به:أمسكْ! أنا لستُ من الوحش. لقد أنعم الله عليّ بالجنة لأني فعلتُ كذا وكذا وحين تنتهي من سرد مآثرها يعتذر إليها عديّ بن زيد، كخليل، مرغماً ويبدأ بنصيحتها أن تبتعد عن الوحش وسط سخرية الشعراء، ومعهم ويا للغرابة طائفة من علماء اللغة وفرسان الصيد، وعلى رأسهم الأصمعي خارجاً عن طوره، صائحاً بـ (عديّ): ألم أقلْ لك إنك لا معرفة لك بالخيل والصيد منذ إنْ كنّا في العاجلة. فلا يردّ ابن زيد بل يبتسم ويواصل طريقه ماسكاً رمحه الطويل باتجاه الغابات البعيدة في الجنة. فأنت تعرف أنّ عديّاً بن زيد كان يسكن الحيرة ويراكن الريف وقد هذبه اختلاطه بناس المدن فلم يعد ذلك البدويّ الجلف.
من النادر أن تنتهي مثل هذه المواقف بالمشاجرات، بل إنّ أبا ذؤيب الهذليّ المولع بحليب النياق مع أنّ أنهارلبن الجنة على بعد ذراعين منه، أخذ يستأنس بصاحبيك حين يقتربان منه وهو يحلب الناقة ويمازحانه بلا لغةٍ، وهو لحبهِ مزاحهما وسخريتهما يفتعل أحياناً حلب الناقة بانتظار سفاهاتٍ أخرى يشارك فيها جمعٌ من الشعراء ولا سيما شاعركم الجواهريّ الذي عاد فتىً وسيماً طائشاً يرتدي طاقية لا يتركها حتى في النوم. نسيت أن أسألك: ماذا عليّ أن ارتدي غداً؟
- ملابسك ذاتها. يمكنك أن ترتدي أيّ زِيّ هنا فلا أحد يتوقف عند لباسك، بل يمكنك أنْ تسير عارياً - وعذراً يا أبتِ- إذا رغبت في بعض الأماكن من مدينة لندن.
- نعم نقلوا لنا هذا في الجنة. عجباً! أصبح العالم صغيراً بسمائه وأرضه، وما أكثرأهلَ الجنة المشغوفين بالحديث عن تفاصيل حياتهم السابقة حتى وإن لم يعودوا يتذكرونها جيّداً، بل إنها لغيابها وغموضها أصبحت موضع إضافات وتغييرات كثيرة، حتى يمكنك القول إن بعض أهل الجنة يصح أن نطلق عليهم لقب روائيّ من الدرجة الأولى ولكن من دون كتبٍ. هنالك قد تسمع الأعاجيب التي لا موضعَ لها في سماء ولا أرض، ولكنها توجد، أجلْ توجد، في أذهانهم.. أليستْ أذهانهم عالماً أيضاً؟
- ما تذكره عن السلام الذي يسود الجنة غريب حقّا. هذا يعني أن ما تخيلته في رسالتك في العاجلة لم يكن غير وهم.
- وما هذا الذي تخيلته؟
- الشجار الذي حدث بين الأعشى والنابغة الجعديّ ومارافقه من ألفاظ لا ينطقها إلاّ السوقة والتي طالت في جراءتها حتى الخالق عزّ وجلّ حين قال أحدهما وهو النابغة أن الله غلط في الأعشى فأدخله الجنة وحقّه الدرك الأسفل من النار. ولم يقفا عند هذا الحدّ إذ وثب الجعديّ وضرب الأعشى بكوزٍ من الذهب.
- أجل هذا لا يحدث إلاّ نادراً.
- هذا يعني أن ما قاله طرفة بن العبد إنّ في الجنة همجاً وطغاماً لا صحة له.
- قال ذلك حين كان في النار.
- أظن لأوس بن حجر رأي شبيه بهذا.
- لأنه كان في جهنم أيضاً يقارن حاله بـ (درم من بني دُبّ ابن مرّةَ بن ذهل بن شيبان) الذي دخل الجنة وهو شرّ منه، - كما يقول - معلقا أن المغفرة أرزاق كأنها المال في الدار العاجلة، لكن أوس الآن في الجنة هو وطرفة بين الحوريات ومن على شاكلتهما من الشعراء.



#عبدالكريم_كاصد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليباب والثراء الإنسانيّ
- عن معرض الكتاب في الدار البيضاء
- تعليقات على وضعٍ راهن
- قصيدتان إلى مصر
- مراثٍ أربع
- ديوان: الفصول ليست أربعة
- مكان يهرب..بداية تبتعد
- شمس عبر الأوراق: شينكيجي تاكاهاشي
- ما الذي نفتقد؟
- الديوان المغربيّ
- القصيدة-النص
- لا وجود لداخلٍ أو خارج بشكلٍ مطلق
- باتجاه الجنوب.. باتجاه لوركا
- مختارات شعرية: نوافذ
- عن المسرح الشعريّ
- ديوان: وردة البيكاجي
- عن الملائكة- رافائيل ألبرتي
- ديوان الأخطاء
- ديوان : ولائم الحداد
- قصيدة طائفية


المزيد.....




- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم كاصد - فصلان من كتاب: جنة أبي العلاء