أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرزاق السويراوي - قصة قصيرة : تداعيات مؤجلة















المزيد.....

قصة قصيرة : تداعيات مؤجلة


عبد الرزاق السويراوي

الحوار المتمدن-العدد: 3342 - 2011 / 4 / 20 - 08:44
المحور: الادب والفن
    


لم تكن بناية المغتسل , متناسقة الأضلاع تماماً , لكنها تشكّل من الخارج , مستطيلا واسعاً, وعند بابها الخارجي , إحتشدتْ مجموعة من الرجال بصحبة إمرأتين .. وهناك على إمتداد الفضاء الواسع المحيط بالمغتسل وبالبنايات الإخرى , كانت تتوزع آلآف القبور وبأحجام متفاوتة . المكان , لاشك , يثير في بواطن النفس , نوعا من الإنقباض أوالوحشة المشوبة بحزن ورهبة مبهمتين , حتى لكأنّ مَنْ يطلق العنان لبصره ويجوب في رحابة المكان بسعته وبكثرة قبوره المتلاصقة ببعضها , يتبادر الى ذهنه تساؤل ما : هل ثمة للإنسان من خيار آخر , أمْ أنّ المصير صائر لا محالة ,إنْ طوعا أو كرها , الى الرقاد الأبدي تحت ركام هذه الأكوام من التراب ومن الطابوق الذي تجتاحه عادة وبقسوة , عفونة ورائحة مقززة , شاء أمْ أبى ؟ .
الإعياء , كان واضحا على سحنة وجوههم , خاصة وأنّ ليلتهم هذه , قضوا منها شطرا غير قليل في الطريق , مذْ إنطلقوا من بغداد باتجاه مدينة النجف , وأيضا عند المغتسل , حيث يقفون الآن منذ ساعة أو أكثر, وقد أخذتْ جحافل الظلام تتسارع بالإنحسار أمام تدفّق حزم خيوط الفجر التي بدأتْ تنسج شباكها تدريجيا في الإفق الشرقي من السماء , ولكن العتمة مع ذلك , لم تلفظ أنفاسها بعد , بالرغم من أنّ , وقبل وقت طفيف , إرتفعت أصوات المؤذنين لصلاة الفجر , من الحسينيات ومن مآذن مساجد المدينة , وأيضا من مآذن ضريح الإمام علي والذي لا يبعد كثيرا عن منطقة المغتسل .
في هذه اللحظة تحديدا , خرج أحدهم من داخل بناية المغتسل , وعلى ما يبدو , كان هو الأكبر سنّاً من بين جميع الحاضرين , و تهالك بتثاقل واضح , , فوق دكّة مرمرية باهتة الألوان , كانت مركوزة الى الجوار من باب المغتسل , حيث يقف الباقون بالإنتظار , ثمّ أخرج من جيب دشداشته البيضاء , مسبحة فإنعكستْ على حبّاتها السوداء , حزم من الضوء الشاحب المنبعث من المصباح الوحيد المثبّت فوق الحافة العلوية لباب المغتسل , وفور إستقراره في جلسته على الدكة , بادرهم بالقول ليكسر ما خيم عليهم من الصمت , وكان في لهجته كمن يوجّه إليهم أمراً : " تمّ الإنتهاء تقريبا من تغسيل الجنازة وتكفينها , لذا يتوجب علينا الإسراع قدر الإمكان في الذهاب الى حرم الأمير , إذْ لابدّ من اللحاق لأداء صلاة الفجر قبل فوات أوانها , ثم لنصلّي بعدها على الجنازة فالوقت بدأ يضيق بنا " . إستحسن الحاضرون فكرة التعجيل بمغادرة المغتسل , وكانوا قبل ذلك إحتاطوا لمسألة الوقت والحرص على عدم التفريط به , فإتصلوا هاتفيا قبيل توجههم بالجنازة الى النجف بالدفّان , لذا فهم من هذه الناحية كانوا مطمئنين الى أنّ الدفان إنتهى حتما من تهيئة حفرة القبر وقبل وصولهم الى المقبرة ..
المرأتان اللتان بمعية هؤلاء الرجال , كانت إحداهما ومن خلال هيئتها , يبدو عليها أنّها تجاوزت عقدها السادس , أمّا الإخرى , فأن عنفوان الشباب يظهر جليا على قوامها الممشوق , وفي وجهها أيضا بالرغم ممّا خالط قسماته من علامات حزن ممتزج بخوف , ربما متأتٍ منْ كونها لم يسبق لها أنْ شاهدتْ من قبل , مراسيم دفنٍ كهذه , فضلاً عن كونها أنها تعرف هذا الميت عن قرب .
وصلوا المقبرة فوجدوا , كما توقعوا , الدفان بالإنتظار , بعدما فرغ من تجهيز القبر وتهيئته . وقد جلس على حافة واطئةٍ لأحد القبور وراح يدخّن سيجارته بهدوء . كانت دشداشته الرثّة , كالحة بلون ذرّات التراب الذي علق بها , وكانت الشمس آخذة بالإرتفاع في الإفق الشرقي , فإنعكست أشعتها الذهبية على هياكل القبور الكثيرة , فبدتْ المقابر كبنايات مدينة كبيرة صوّرتها طائرة من السماء . الفتاة في هذه اللحظات كانت شبه منذهلة , لا بل هي منذهلة فعلا , خاصة وأنها كانت تتابع بإهتمام بالغ , حركة الأيدي وهي تتلقف التابوت لتنزله من على ظهر السيارة , وتضعه الى جانب اللحد المعدّ لها . إذن .. كل شيء أصبح ينذر بالأكتمال لمواراة هذا الجثمان الذي عرفته وعرفها.. رفعوا الغطاء عن التابوت فحاولت أنْ تتحاشى النظر الى الجنازة , ولكنها وجدتْ عينيها تدمعان رغما عنها وتجبرانها على أنْ ترسل نظرات خاطفة ومتوجسة نحو الجنازة الملفوفة بالكفن , فلاحظت أنها تشبه الى حدّ ما طفلا مقمّطاً ولكن بحجم أكبر , فجعلتها هذه الفكرة تسترسل في إنثيالات تصوراتها , موقنة بدرجة ما , أنّ نهاية الإنسان ربما تكون مثل بدايته يوم مجيئه الى هذه الدنيا , فهيئة الجنازة وهي محاطة بالكفن , تذكّرها بهيئة الجنين الذي ُيلفّ عادة بالقماط بعد مغادرته جوف أمه ودون إرادته , وها هو الآن يُقمّط مرة أخرى , حيث يُراد منه ودون إرادته ايضا , العودة الى جوف الأرض وكأنّها أمه الأخرى . إشاحت بوجهها نحو فوهة اللحد , فتصورته فم حيوان إسطوري وهو يتوثب لإزدراد أيّ شيء يصادفه أو يلقى إليه , ثم داهمها من جديد , هاجس الخوف الذي بدأ يدق ناقوسه بعنف في كل ذرّة من كيانها , غير أنّ نظراتها في هذه المرة , توزعت ما بين نقطتي الجنازة المسجاة داخل التابوت وبين فوهة القبر الذي ما أنفكت تًخاله فم حيوان إسطوري ما زال فاغرا شدغيه وعلى سعتهما , فأحسّتْ بوخزات حادة ومترادفة تنغزها في لبّها , ورأتْ أيضا , في شخص الدفان ذي السحنة المغبرة , جزّاراً ماهرا يتقن صنعته وليس منْ قوة في الكون , مهما عظمت , تستطيع منعه من إنزال هذه الجثة داخل القبر الذي حفره بيديه , وأنّ الشفقة بالتأكيد , غادرت وربما الى الأبد , قلب هذا الرجل ولكن ... ولكنها ... بالرغم من هذه المشاعر التي تتقاذفها والتي لا تخلو من بعض العداء تجاه الدفان , فأنها لاتلبث أن تعود لتجد نفسها وقد أدركت , أنّ هذا الرجل , مع كل ذلك , ليس له يد في كل الذي يحدث لهذا المتوفى , وأنها لتدرك ايضا , أنّ ثمة قناعة ما , تحس إزاءها , أنّ موقفها تجاه شخص الدفان , هو في غير محله , وأنها لتظلمه لا شك , إذْ تجيز لنفسها تحميله ما ليس به . أنتشلها من مخالب القلق الذي بات يفترسها بقسوة , وصول فتى نحيف بوجه اسمر , وقد ركن دراجته الهوائية على جانب الشارع الترابي الملتوي الذي يشق المقبرة من طرفها الشرقي وما لبث أنْ توجه نحوهم , مارقا بجسده النحيف بخفّة من بين الفراغات الضيقة التي تتخلل هياكل القبور المتناثرة , وقد تسمّرتْ نظرات الدفان باتجاهه , وكأنه كما لو كان على موعد معه , أو في الأقل كان كالمتوقع لمجيئ هذا الفتى قبل الشروع بعملية الدفن . وبعد أن ألقى بالتحية بشكل روتيني , إقترب من الدفان وأخبره بأنّ المتعهد هو الذي أرسله الآن وعلى وجه السرعة , ليخبره بالتوقف عن دفن الجنازة في هذه المقبرة بالذات, طالما أنّ مقبرة أهل المتوفي تعود الى متعهد آخر , وهي لا تبعد كثيرا عن هذه المقبرة . سكت الفتى لبرهة قصيرة ثم واصل الكلام ثانية " المتعهد , كما أخبرني , يقول أنه يحاول تجنب إثارة الإلتباس مع متعهد هذه المقبرة , ويقول ايضا لا نريد الإخلال بسياقات عملنا .
ــ إذن ما العمل وما هو الحل ؟ .
تسائل أحد الحاضرين وهو منزعج من سماعه لهذا النبأ , ووجّه سؤاله الى الدفان الذي سارع بالأجابة :
ـــ ليست هناك من مشكلة , سأقوم بحفر قبر آخر في المقبرة العائدة الى عشيرة المرحوم , لأنكم كما علمت من المتعهد نفسه , أخوال الميت وليس اعمامه , لذا فإنني كنت أتوقع حدوث مثل هذا الأمر للسبب الذي ذكرته .
كانت الفتاة في هذه الأثناء , منصرفة كليا بتفكيرها عن كل ما دارّ من حولها وحينما همّوا برفع التابوت لإعادته فوق السيارة , كان الدفان هو الآخر يلملم أغراضه ويضعها في زنبيل من الخوص , أمّا هي فقد عادت مرة أخرى بنظراتها لتستقر على حافة فوهة اللحد وقد تملّكتها رغبة لم تستطع مقاومتها في أنْ تقترب أكثر من الحفرة لتبصر عن كثب مدى عمقها , فأحسّتْ حالما ألقت بنظرها داخل الحفرة , برهبة وبقشعريرة شديدة تجتاحها, مثيرة في نفسها تساؤلا ما أنفك يرن في زوايا ذهنها المتعب : أفي مثل هذه البساطة حقّاً , يُحشر المرء داخل حفرة بائسة وبهذا الحجم كهذه ؟؟ .
الجميع شرع بصعود السيارة بينما لم تفق هي من شرودها إلاّ على صوت المرأة العجوز وقد لكزتها بيدها , حاثة إيّاها على ركوب السيارة .
تواصل رنين جرس الهاتف , في إحدى غرف مكاتب إستعلامات المقابر المنتشرة على إمتداد الشارع العام . رفع المتعهد السماعة , وردّ التحية , وظل لبرهة قصيرة , بهيئة من يصغي لكلام الطرف الآخر , لكن السماعة إهتزت قليلا بيده فيما إرتسمتْ الدهشة على وجهه الذي ظهر الإنقباض واضحا على قسماته:
ــ نعم نعم , تقصد القبر الذي حفرناه قبل أيام ؟ نعم , ما زال على حاله . وبنبرة يشوبها الإنزعاج المفتعل أردف قائلا : الحمد لله على كل حال , ثم حوقل ليواصل بعدها: أتعني أنّ الفتاة التي حضرت معكم قبل أيام , هي التي ماتت ؟ كان الطرف الآخر على ما يبدو , أكّد صحة تساؤل المتعهد الذي إستمر بالإستماع إليه , وها هو يضع السماعة فيما وجّه كلامه الى الدفان الذي حشر جسده قرب طاولة قديمة مرتكزا بكوعه على حافتها :
ــ حتى القبور , أصبحت في هذا الزمان خاضعة لمعيار القسمة والنصيب , تماما كتوزيع الأرزاق على الناس.
ـــ ما الأمر ؟ .
ـــ هل تتذكر الفتاة التي حضرت قبل أيام بصحبة تلك الجنازة التي قمت أنت بإعداد قبر لها ؟ وقبل أن ينتظر إجابة الدفان واصل حديثه : لقد تُوفّيتْ بصعقة كهربائية في بيت زوجها , وكان الذي إتصل بي قبل قليل من أقاربها وأيضا , من الذين حضروا مع تلك الجنازة وسألني إنْ كان ذلك القبر ما يزال شاغرا أمْ لا !! .



#عبد_الرزاق_السويراوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة قصيرة : تََساوِقٌ
- قصة قصيرة : تَساوقٌ
- قصة قصيرة :تناغم
- قصة قصيرة :إنثيالات
- الهروبُ منْكِ إليكِ
- الحكّام العرب : والعقد النفسية
- ياقوتة في تاجِكِ
- العراق وديمقراطية البوسترات
- على صهْوةِ فيْنوس
- توسّل
- هواجس للتوحّدِ
- درع الجزيرة في البحرين : هل هو تحركٌ مذهبي أمْ ماذا ؟؟
- عشقكِ رئة الكون
- هموم عراقية
- سلاطينُ القمامة
- ضبابية الموقف الأمريكي تجاه الأوضاع المصرية
- شيطان الكرسي
- مجزرة عنيفة أمام أنظار حسني مبارك
- إقتتال عنيف بين أبناء مصر : فما أنت صانع أيها الرئيس مبارك ؟ ...
- مبارك يصبّ الزيتَ ثانية على النار


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرزاق السويراوي - قصة قصيرة : تداعيات مؤجلة