أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - كامل كاظم العضاض - ربيع الغضب والثورات المغدورة















المزيد.....


ربيع الغضب والثورات المغدورة


كامل كاظم العضاض

الحوار المتمدن-العدد: 3298 - 2011 / 3 / 7 - 14:37
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


منذ فجر التأريخ عرف الإنسان العيش ضمن الجماعة، وعرف أن ثمة من يتولى قيادتها وثمة من يأتمر بأمرها، وتوالت بعد ذلك أشكال النظم والترتيبات الهكيلية السياسية للجماعات البشرية، وما نشأ عنها من أعراف إجتماعية وسلوكيات وتقاليد، أخذت أنماطا وأسماءا وتعبيرات مختلفة، عبر العصور؛ مثل مشيخة أو حكومة قرية، حكومة مدينة، نظام دولة، نظام إمبراطورية، وهكذا. وخلال كل هذه الأطوار، كان هناك دائما حكام ومحكومون، وثمة صراع أزلي بينهم، كما يبدو لحد الآن. هناك غالب ومغلوب، هناك حاكم ومحكوم، هناك مستبد وطاغية، وهناك مستلب ومحروم ومقهور، وهكذا دواليك. لكن التأريخ لا يسير بمثل هذه المتوالية التبسيطية، فالمحكومون، إستطاعوا عبر التأريخ أن يواجهوا حكامهم، فيخلعوهم حينا، أويضعوا، حينا، قيودا على تصرفاتهم أو يوقفوا إنتهاكاتهم، أو سلبهم لإموالهم، أو إمتهان كراماتهم، أو يجبروهم على تحمّل مسؤولياتهم أمامهم، وفقا لدستور أو عرف أو قانون، أوغيرذلك. وهذه المتوالية هي الأحدث في التأريخ القريب الماضي، ونشهدها تتطور في عصرنا الراهن، بل لعلنا جميعا نشهد اليوم وميضها في بلادنا العربية والشرق أوسطية، بل وفي عراقنا الذي رضخ لديكتاتورية طالت طويلا، بمعايير هذا الزمان، ولم ينفك عنها إلا بغزو أجنبي، أملت مصالحه عليه أن يزيل الطاغية صدام بعد مضي أكثر من ثلاثين عام على سطوة نظامه الإستبدادي المدمر. ولكن حساب البيدر لم يأت كحساب الحقل، فالغزاة لم يمنحوا العراق المحتل ديمقراطية حقيقية، تمكّنه فعلا من حكم نفسه، ومن تداول السلطة بشفافية وعلى أساس مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان. بل تم تسليط قوى طائفية وفئوية عليه، وأُقيم مجلس حكم على أساس تقسيم الشعب العراقي الى طوائف مذهبية وعرقية، وأُعد دستور مهلهل وغامض، وسمح لغير الأكفاء، من ذوي الثقافات المتخلفة من المحسوبين والطائفيين بالهيمنة على المناصب والمواقع، وإكتساح البرلمان. وهذا فضلا عن فتح خلايا الدبابير السامة من الإرهابيين السلفيين والمأجورين وغيرهم لتهبَّ ناهشةًًًََ الشعب والبلاد عرضا وطولا. وهكذا تشوهت صورة الديمقراطية، سواء بالمفهوم الذي أعلن عنه الغزاة، أو كما تخيلها الحالمون بالحرية. وليس هم الغزاة، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وحدهم الذين يتحملون اللوم، بل أن النخب الإسلاموية وغير الإسلاموية والكتل السياسية التي تصدت للمشاركة أو الإستحواذ على العملية السياسية هي التي تلام في الواقع، لان الغزاة الأمريكان تهمهم، في آخر المطاف مصالحهم، فهم، من وجهة نظرهم، لا يتحملون، أو هكذا يبررون، عدم نضج، إن لم يكن جهل الناخبين، أي الشعب العراقي، نظرا لإنتخابه المتكرر لحكومات طائفية وعرقية. وليس هنا المجال لمناقشة هذا الإدعاء أو التبرير، فله يجب أن يُفرد فصل خاص. ولكن، ما نود أن نناقشة ونعرضه، هو ما يسمى بثورات الغضب التي نشهدها اليوم أمامنا في تونس ومصر، وتتصاعد الآن في ليبيا، ولعلها تتفاعل في اليمن والجزائر وفي غيرها من أقطار الوطن العربي، وها نحن الآن نرقب بوادرها في العراق منذ يوم الجمعة في 25 شباط الماضي؛ ثورات نود دراستها ضمن منظور تأريخي، لنبين كيف أنها حصلت في الماضي، فأعاد التأريخ نفسه وتكررت لاحقا في شعوب ودول مختلفة، ولكن التأريخ يعيد لنا فصوله الخائبة، حينما لا يتلقاها أو لا يدرك مخاطرها الخفية المتلقون، فيعيد لنا من فصول الذاكرة كيف أن الثورات، دموية كانت أم وردية، إنقلابية، أم تآمرية، عنفية كانت أم سلمية، كيف أنها كانت تُغدَر أيضا وتجري مصادرتها من قبل راكبي الموجات، أو أصحاب الأجندات، أو من قبل أعضاء قي الخطوط المائله الذين لا يمانعون من دفع أي ثمن تريده المصالح الأجنبية ذات العلاقة والصلة بالحدث، في سبيل تمكينهم من ركوب ظهر الشعب الثائر أو الغاضب أو المتمرد أو المطالب بحقوقه، أو، في الأقل، الباحث عن ذلك البصيص من أجل حياة أفضل. للأسف، التأريخ مليء بهذه المفارقات؛ مصادرة ثورات الشعوب، وبالتالي آمالها، رغم تضحياتها الجسيمة، وتقديمها لقرابين من شهداءها الميامين.
لا يمكننا، في نطاق هذا المقال المحدود، الغور في أعماق التأريخ، او سرد أحداث ثوراته التي قد لا تحصى على وجه التحديد. ولكن، لابد أن نكون إنتقائيين، فنشير الى بعض هذه الثورات و/او الإنتفاضات الشعبية. ولابد، إبتداءا، من تحديد معنى الثورة، وتمييزها عن الأشكال الأخرى التي تُحدث تغييرات، أما في بنية الحكم، أو في إصلاحه، أو لمجرد تغيير حكامها، أو الإثنين معا. فالثورة، (Revolution)، تعني التغيير الشامل والسريع، وخلال مدة وجيزة، بما يشبه الطفرة، لنظام الحكم القائم، وذلك بإسقاطه كليةً، ببنيته وحكامه ودستوره ومؤسساته، وربما بنظامه الإقتصادي والمالي، وقد يطال التغيير حتى علمه وعملته ورموزه ومفاهيمه. وبهذا المعنى فالثورة هي قفزة في بطن الزمن، وهي بذلك على العكس من التطور التدريجي الذي يتهادى مع الزمن، ((Evolution، وعلى ذلك، فإن أي حراك جماهيري شعبي مناهض للحكومة لايمكن أن يوصف بالثورة، إذا لم تتضمن شعارته مفاهيم الثورة الجذرية، فهو قد يوصف بدعوة لإصلاح النظام، او لتعديل تشريعاته وقوانينه، أو للدعوة الى إنتخابات جديدة، أو لإقصاء رئيس الحكومة، أو لإعادة تشكيلها، أو للمطالبة بإجراءآت لتحسين الخدمات، أو للكف عن كبت الحريات ولإطلاق سراح سجناء الرأي والموقوفين بدون جريمة، أو لمعالجة الفقر والبطالة، والنقص في أحوال المعيشة، أو لمحاربة الفساد ولمحاكمة الفاسدين، الى آخر ما هناك من مطالب مشروعة وإنسانية. هذا النوع من الحراك السياسي يقوده اليوم، على الأغلب شباب وكهول من المثقفين والمثقفات والعاطلين والعاطلات عن العمل، وسكان المدن من الذين إكتسبوا ويكتسبون وعيا جديدا ودافقا من خلال وسائل الإتصال الحديثة، يأتي الإنترنت في مقدمتها. هذه ظاهرة بدأت الآن تتشكل بوضوح في قلب عالمنا العربي، بدءا بمغربه في تونس، ثم في قلب أرض الكنانة، مصر الكبيرة، والان تأخذ أبعادها، بل تتحول الى صراع مسلح ضد طاغية عنيف وعنيد، لا يتورع من إستخدام كل ما يتيسر له من سلاح ضاري ضد أبناء الشعب المنتفضين في ليبيا. هذا النوع من الحراك الجماهيري المشروع ضد أنظمة ديكتاتورية، هو، من الناحية التعريفية، أقل من ثورة كاملة، بل هو إنتفاضة، ولكن تجوز تسميته بالثورة مجازا، وذلك بسبب لبوث الطغيان والحكم الفردي لعقود طويلة في هذه البلدان، ولأن نسائم الحرية التي بثها هذا الحراك السياسي الواعي، بعد همود طويل، هو أقرب للثورة منه الى مجرد إنتفاضة مطلبية. فتغيير نظام القذافي الفردي الدكتاتوري الطائش والنرجسي المريض، هو بداية لشفاء المجتمع الليبي من أمراض البطش والقمع وتكميم الأفواه، وتسييد النفاق والمصانعة والإستبطان، فضلا عن التطلع للعمل على حسن إستغلال ثرواته النفطية وغير النفطية من أجل التنمية ولتحقيق العدالة والإزدهار والديمقراطية، أي لتحويله الى نظام حضاري، يسمو بالقيم الإنسانية، وذلك بعد أكثر من اربعين عام من الإستلاب، والتصيير الى قطعان سادرة وفاقدة للأهلية الإنسانية. بهذا المعنى، فإن هذه الإنتفاضة قد أضحت ثورة، بل وتورة دامية حمراء، طالما إضطر الشعب المنتفض الى رفع السلاح بالتعاون مع بعض كتائب من الجيش المنحاز إليه. وفي هذه المرحلة المتقدمة من تطور الإنتفاضة الليبية، فقد تجاوز الليبيون حاجز الخوف، وكسبت قضيتهم الرأي والتعاطف الدوليين، ناهيك عن الدعم الشعبي العربي العام، فالإنتفاضة قد صارت ثورة، بل وثورة ماضية لتحقيق النصر الأكيد، لإزاحة الديكتاتورية البغيضة.
لماذا تكون التورات والإنتفاضات الجماهيرية، سواء كانت مسلحة أو غير مسلحة، مشروعة؟ يستمد تمرد الشعب على حكامه شرعيته من حقه الطبيعي في الحرية وفي تقرير مصيره، وفقا لإرادته الحرة. لقد نظّر المفكرون الأوائل الى أن الأصل في الإنسان أنه كان في حياته الطبيعية حرا وغير مقيد، ويسعى للتمتع بها وفقا لخياراته الحرة بدون رقيب أو حسيب أو وصي. ولكن هذا الإنسان، حينما تشارك مع الجماعة او الجماعات، تنازل عن حريته الطبيعية لصالح الحاكم أو الحكومة التي ستنظم علاقات الجماعة أو الجماعات ضمن إطار دولة أو وطن أو بلد محدد. يشترك عدد من الفلاسفة الرواد، الإنكليز والفرنسيين في التنظير للحرية الفردية، كأساس لكل الحريات الفرعية الأخرى، إستنادا الى هذا المنظور الإفتراضي أو التجريدي، فجون لوك، وهيوم، في إنكلترا، وروسو في سويسرا، ومنتسكيو في فرنسا، كلهم إنطلقوا من مفهوم الحرية الطبيعية، لإثبات حق الشعب في التصرف وفقا لمتطلبات حقه الطبيعي في الحرية، وأنه صار بذلك مصدرا للشرعية، أي المخول للحكومة لتدير شؤون المجتمع نيابة عنه وعن غيره من اطراف العقد الإجتماعي. فمتى ما أساءت الحكومة التدبير، فمن حق الشعب أن يزيحها ويخول غيرها لهذا الغرض. وبغض النظر عن صحة أو حقيقة كون الإنسان بأنه كان في الأصل حرا في حياته في الطبيعة، أي قبل الدخول في عقد إجتماعي مع الجماعة، فهذه حالة إفتراضية، وربما خيالية، فالإنسان ربما كان أيضا مستلبا في حريتة في حياته الطبيعية، خوفا من إفتراس الحيوانات المتوحشة له، و/او بسب إنعدام المأوى الآمن، ولفقدان مصدر العيش الثابت، ولكنها اسطورة نافعة لإغراض تأسيس نظرية الحق الطبيعي في الحرية، بل وحتى في الأديان هناك إقرار بهذا الحق، فقد قال الخليفة عمر في إحدى خطبه، "متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟"، فالإنسان يولد في الأصل حرا، وهذه مقولة ربما تغني عن قصة الحرية في حياة الطبيعة، لأنها تقوم على إفتراض تساوي الناس في القيمة الإنسانية، بإعتبارهم سواسية من خلق الله تعالى. وكما قال جان جاك روسو؛ " يولد الإنسان حرا ولكنه سرعان ما يكبل بالأصفاد".1*
يحمل التأريخ في أحشائه فصولا طويلة عن الثورات والإنتفاضات الشعبية خلال منعطفاته الكثيرة في القرون الماضية، وليس هنا المجال لجردها بالطبع، ولكن بعض الثورات الشعبية أو الإنتفاضات القريبة من مفهومها، يمكن تجسيده بأمثلة منتقاة من هذا التأريخ الطويل، ولعل ثورة العبيد ضد طغيان روما بقيادة إسبارتكس في القرن الأول قبل الميلاد هي من الأمثلة الحية في ضمير البشرية، حيث إستطاع تجييش العبيد وتنظيمهم في جيش ثوري هزم به الجيش الروماني في معارك عديدة، قبل أن يُهزم ويُعدم مع رفاقه العبيد في عام 72 ق.م. فقد وُإدت تلك الثورة التي كانت بمثابة الصرخة الأولي لإلغاء الرق والعبودية، لأنها حدثت في زمن مبكر من وعي الإنسان، زمن لا معنى فيه لآدمية الضعفاء والمستلبين من البشر ألاخرين، وفي زمن سادت فيه مفاهيم الرق والإسترقاق، والفتح والسلب بالقوة؛ فالبشرية، او في الأقل، الأقوياء فيها، كلها كانت لا تزال بدائية في مضمار القيم الإنسانية.
وهناك ثورة الزنج، في البصرة ضد الدولة العباسية، وهي مشابهه، من حيث مبدأ النزوع للحرية، لثورة العبيد ضد روما. تداعى لهذه الثورة زنوج أفارقة مسترقون، وبدو فقراء، تحت سحر رجل غامض، دُعيّ بأسم "صاحب الزنج"، أو البرقعي، علي إبن محمد، وإستمرت خمسة عشر عاما، خلال المدة، 255-270 هجرية، فشغلت الدولة العباسية وإثنين من خلفائها العباسيين؛ المتوكل ثم المعتمد على الله، واحدثت دمارا وعدم إستقرار وضعف متزايد لهذه الدولة .ولكنها، مرة أخرى أُجهضت وهُزمت لأن هناك من ركبها وحرفها عن غاياتها التحررية، وفقا لمفاهيم الدين القويم، حتى سُميت فتنة وزندقة وغير ذلك من تهم جاهزة. فالثورات في الزمن غير المناسب وتحت قيادات إنتهازية ومخادعة، كثيرا ما يُغدر بها وتُهزم.2*
ولعل، الثورة الفرنسية الكبرى في عامي 1799-1789م، كانت فاتحة الثورات الإنسانية الباهرة، فقد قامت على مباديء؛ الحرية والمساواة والإخاء، إذ ازالت النظام الملكي المطلق والعريق، لكنها لم تسلم هي الأخرى من الغدر، من قبل اليعاقبة والدكتاتورين، كروبيسبر، مما مهد، بعد ذلك، الطريق لصعود ضابط مغمور، هو نابليون بونابرت، الذي أقام ديكتاتورية طاغية، سخرها لبناء إمبراطورية إستعمارية شاسعة، وحوّل جمهورية فرنسا الأولى الى قنصلية إمبراطورية، سعت لتحقيق الفتوحات والتوسعات الإستعمارية، اما مبادئ الثورة الثلاثية، فدخلت الى متحف التأريخ.3*
وفي عام 1917، في اواخر الحرب العالمية الأولى، قامت الثورة البلشفية، بقيادة لينين الكارزمية، بهدف تحقيق الإشتراكية وحكم الطبقة البروليتارية، بل وبأمل تحرير عمال العالم كله من هيمنة رأس المال العالمي. وما مضت سنوات قليلة حتى توفي لينين متأثرا بجراح سابقة، وصعد الى سدة الحكم جوريف ستالين، في عام 1924، فازال الى حد كبير الأرث اللينيني، الداعي الى الثورة العالمية، وطرح شعار الإشتراكية في بلد واحد، فنحّى جانبا الأممية الثالثة التي أقامها لينين تحت مسمى الكومنتيرن، ثم حلها في عام 1943. وللإستفراد في الحكم، بدأ بتصفية معارضيه، وخصوصا منهم ليون تروتسكي، الذي أغتيل وهو منفيا في المكسيك، حيث أصدر كتابه الشهير " الثورة المغدورة" الذي تحدث فيه عن دكتاتورية ستالين وتنكره لمبادئ لينين والثورة البلشفية.4*
وإذ يزخر التأريخ بثورات مماثلة، إجتاحت أوربا، وأمريكا الشمالية والجنوبية، ولكن الزخم الثوري في عالمنا الآسيوي الأفريقي النائم تحت سطوة القوى الإستعمارية الكبرى، آنذاك، بريطانية، وفرنسا وهولندة وبلجيكا وروسيا وغيرها، بدا بالفعل على شكل حروب تحرير وإنتفاضات ثورية من أجل الإستقلال، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، وهنا، مرة أخرى، كثيرا ما إمتطى الناسَ قادةٌ وطنيون، ليحلوا محل المستعمر القديم، ولكن مع بعض الإستثناءات، فالحراك الشعبي الجماهيرى السلمي الذي قاده غاندي، مثلا، حقق فعلا إستقلال البلاد الشاسعة تحت قيادته النزيهة والتي قاربت مستوى القدسية عند الكثير من الهنود، ولكن القارة الهندية لم تسلم من التقسيم، وخصوصا بعد إغتيال أبو الهند الزاهد والعفيف، غاندي ذاته.
وإذ أخذت الثورات والإنتفاضات، وخصوصا في العالم الآسيو- أفريقي والأمريكي اللاتيني طابع الإنقلابات العسكرية، الوطنية منها والمدبرة خارجيا، ولكن الطابع السلمي للتغييرعن طريق تحرك الجماهير الواعية المنظم، يعتبر الآن من مستجدات القرن الواحد والعشرين، حيث ان ثورة الإتصالات الإلكترونية واللاسلكية وبقية وسائل الإتصالات، ساعدت كلها على تعميق الوعي وترسيخ المفاهيم الديمقراطية، على الرغم من تزامن ذلك مع تصاعد تطرف ديني مسلح، وخصوصا منه ذلك الذي يحمل مفاهيم سلفية متخلفة، كالوهابية التي تدين بها عصائب بن لادن وطالبان. وعلى ذلك تشكلت على مسارح النضال في العالم الثالث، والعربي على وجه الخصوص، قوى متصارعة، الأولى، متطرفة إسلاموية، إبتدأتها طالبان، والثورة الخمينية في إيران، مع أخذ الفارق المذهبي بالإعتبار، والثانية هي ما يمكن أن نطلق عليها الآن بثورات الوعي الديمقراطية، وهذه إبتدأتها شعوب أسيوية/اوربية/سلافية، كانت رازحة تحت نظام الإتحاد السوفيتي الذي إنهار في عام 1991، وتشكلت منه خمسة عشر دولة؛ سبقتها بذلك، دول المعسكر الإشتراكي في أوربة بالإنفكاك، تماما، من ذلك المعسكر الطاغي، من خلال ثوراتها التي إبتدأتها في رومانية في عام 1989. وما أن مضى نصف عقد من الزمن حتى بدأ بعض هذه الدول الخمسة عشر التي كانت تابعة لدولة الإتحاد السوفيتي، سابقا، بإسقاط حكوماته المنتخبة سلميا عن طريق مسيرات الوعي الديمقراطي، كما حدث في جورجيا في عام 2003، حيث سُميت إنتفاضتها بثورة الورد، وفي عام 2004 حصلت في أوكرانيا إنتفاضتها التي سُميت بالثورة البرتقالية. وفي عام 2005 إنتفض الشعب في كيرخزستان، حيث سميت إنتفاضتة بثورة التولب. وهكذا نرى، بأن هذه الحِراكات الإجتماعية/السياسية هي التي مهدت لنشؤ الوعي الجماهيري واوصلته للجماهير مباشرة، وليس عبر النخب التي، بشهادة التأريخ، كانت قد خانت، في بعض الأحيان، الثورات التي تقودها. وألان تميل كفة التأريخ الى الصعود المشع لثورات الوعي الديمقراطية في آسيا بالذات وفي عالمنا العربي والإسلامي، خصوصا، كما نشهد اليوم في تونس، ( ثورة الياسمين)، ومصر، ( ثورة النيل أواللوتس)، وقريبا في ليبيا، (قد تسمى ثورة الغضب العارم)، وفي اليمن والجزائر، مما يقربنا الى العراق، حيث نشهد بوادرا للحراك الجماهيري الحر وغير المؤدلج، ولكننا، نرصد، بعين الوقت، مخاوفا كبيرة. وحيث أن جل هذه الإنتفاضات الثورية حصلت وتحصل على أبواب فصل الربيع الجاري، فقد أطلقنا عليها صفة ثورات ربيع الغضب. ولكنه ربيع قد لا يشبه ربيع براغ الذي إنطلق في عام 1968، بقيادة دوبشيك لإدخال بعض الحريات ولفك بعض القيود الجامحة الناشئة عن هيمنة الإتحاد السوفيتي ، إلا إنه ربيع إنقشع عنها بالقبضة السوفيتية التي كانت تبدو حديدية آنذاك، فطُرد بعد ذلك دوبشيك من قيادة الحزب الشيوعي الجيكوسلفاكي، وعاد ليعمل موظفا صغيرا في سلوفاكية. وما كان لجيكوسلوفاكية إلا أن تنتظر سقوط الإتحاد السوفيتي ذاته في عام 1991، لينطلق ربيعها من جديد، ولتعيد رسم مسارها، وإن أدى الأمر لتقسيمها بعد ذلك، ولكن بتوافق سلمي بين الجيك والسلاف. وهكذا نرى بان ثورات الغضب الداعية للحرية كثيرا ما يجري إغتيالها والغدر بها أو تعطيلها.5*
أن ثورات الغضب العربية التي تبدو واعدة الآن في تونس ومصر الكبيرة، وهي في دور المخاض الدموي في ليبيا، ولعلها في دور الإختمار في العراق، ورغم إختلاف الظروف والموجبات ودرجات الحدة، فالغدر يتربص بها جميعا، وخصوصا في العراق، حيث تتشابك عوامل داخلية وخارجية معقدة وصعبة، مع وجود حكومة منتخبة، شئنا أم ابينا، ولكنها ضيعت ربع تخويلها الإنتخابي، بالمناورات والتسويات لتشكيل نفسها، حيث اضاعت عاما كاملا من أربع سنوات، كان يفترض أن تكرسه لحل معضلات العراق والشعب العراقي الجسيمة، وخصوصا منها البطالة الضاربة وغياب المنافع العامة وتردي الحياة وتفاقم الفقر المدقع. فالأسباب الداعية للثورة، أو في الأقل للغضب المفضي للتغيير الفعّال، قائمة وصارخة، ولكن الحكومة برئاسة المالكي تكيل بمكيالين، من جهة تقر بحق الشعب بالتظاهر والمطالبة بحقوقه المشروعة، ومن جهة أخرى، تفرض منع التجوال وتزج الآلاف من القوات المسلحة لقطع الطرق ولتطويق المظاهرات، وتطلق النار في بعض المدن، وتستخدم الغاز والقنابل الصوتية والهراوات الكهربائية والهيليكوبترات، وتقتل أكثر من عشرة شهداء، وتعذب وتعتقل صحفيين، وتجرح العشرات، ومن ثم تدعي أن حق التظاهر مكفول للجميع، وذلك بعدما حاولت تخويف الناس من مندسين وإرهابيين وبعثيين، وثبت بطلان إدعاءآتها، سواء في مظاهرة 25 شباط، أو في مظاهرة 4 آذار الحالي، التي تمكنت الحكومة بقواتها الشرسة من إحتوائها تماما. والسؤال هو هل ستستطيع إحتواء الغضب الشعبي أيضا؟ كلا، على رغم إدعائها بأنها ستنفذ مطالب الشعب خلال مائة يوم، فإنها لن تستطيع ذلك، لأن هناك ما يزيد على ثلاثة ملايين عاطل، وهناك إنهيار شبه كامل في هيكل الإقتصاد، فضلا عن الفساد، ولعدم كفاءة الأجهزة الحكومية. فهي إذن ستحاول كسب الوقت واللعب عليه، ولكن الغضب سيبقى يفور في مرجله، وما على الجماهير المنتفضة إلا أن تعيد حساباتها وإستراتيجية تحركاتها، وتوّحد صفوفها، وتنتقي قيادتها وتنسق مع عناصر التيارات الديمقراطية الوطنية، داخل وخارج العراق، وإلا فإن آليات الغدر جاهزة ومبيّتة. وغدا لناظره قريب.
كامل العضاض
6/03/2011
[email protected]
بعض المراجع:
1. The Political writings of Jean-Jacques Rousseau, edited from the original
2. التأريخ الإسلامي ( الدولة العباسية)، محمود شاكر
3. The French Revolution, 1789-1799- Park Notes
4. Alan Woods, The Revolution Betrayed, A Marxist masterpiece
The History of 1989: The Fall of Communism in Eastern Europe .5



#كامل_كاظم_العضاض (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل سيهل ربيع بغداد في 25 شباط؟
- -ثورة الياسمين- درس تونسي مضاف!
- نتشبث بحطام الزوارق وشراعنا الأمل!
- رأي في وثائق ويكيليكس المسربة
- تكريم الحوار المتمدن هو تكريم لثقافة الحرية ولحرية الثقافة
- بين سيّار الجميل وعبد الخالق حسين، ثمة خيوط وصل، لايجب أن تن ...
- الحالة -الذئبية- لدى أغلبية قادة العملية السياسية في العراق
- الكهرباء والشرارة الممكنة!
- العهر الإسرائيلي عاريا!!
- يا زمال إلنركبه يطلع قبة
- الديمقراطية بين اللفظ والسلوك، ( كما ترويها مجريات الإنتخابا ...
- من لا يؤمن بالديمقراطية لا يفهمها، ومن لا يفهمها لا يؤمن بها
- لا ترشدوا قبل أن ترشدوا
- طوينا أوراقنا ولم نطو عزائمنا ولا آمالنا---قصة محاولة تشكيل ...
- طوينا أوراقنا ولم نطو عزائمنا ولا آمالنا_ - قصة محاولة تشكيل ...
- متى يتوقف الجزارون عن الجزر في بلادي؟
- أحبتنا يرحلون بصمت
- هل وزير النفط العراقي الآن في الميزان؟
- العقل والذات والضرورة
- ما هي طبيعة البرامج التي يتحدث عنها المرشحون في الإنتخابات ا ...


المزيد.....




- بالأسماء.. 48 دول توقع على بيان إدانة هجوم إيران على إسرائيل ...
- عم بايدن وأكلة لحوم البشر.. تصريح للرئيس الأمريكي يثير تفاعل ...
- افتتاح مخبأ موسوليني من زمن الحرب الثانية أمام الجمهور في رو ...
- حاولت الاحتيال على بنك.. برازيلية تصطحب عمها المتوفى إلى مصر ...
- قمة الاتحاد الأوروبي: قادة التكتل يتوعدون طهران بمزيد من الع ...
- الحرب في غزة| قصف مستمر على القطاع وانسحاب من النصيرات وتصعي ...
- قبل أيام فقط كانت الأجواء صيفية... والآن عادت الثلوج لتغطي أ ...
- النزاع بين إيران وإسرائيل - من الذي يمكنه أن يؤثر على موقف ط ...
- وزير الخارجية الإسرائيلي يشيد بقرار الاتحاد الأوروبي فرض عقو ...
- فيضانات روسيا تغمر المزيد من الأراضي والمنازل (فيديو)


المزيد.....

- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة
- فريدريك إنجلس . باحثا وثوريا / دلير زنكنة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - كامل كاظم العضاض - ربيع الغضب والثورات المغدورة