أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - وليد مهدي - إسرائيل في مواجهة الطوفان العربي : رؤية استراتيجية للمستقبل















المزيد.....


إسرائيل في مواجهة الطوفان العربي : رؤية استراتيجية للمستقبل


وليد مهدي

الحوار المتمدن-العدد: 3283 - 2011 / 2 / 20 - 12:51
المحور: السياسة والعلاقات الدولية
    


-1-

ربما لو امعنا النظر من زاوية معينة لوعي العرب الجمعي كأمة معاصرة ، نستطيع أن نقول بأن الاجيال العربية الـسلبية التي ربتها نكبة 1948 ونكسة 1967 ، اجيال محمد حسنين هيكل والسادات ، حل محلها اليوم هذا الجيل الثوري الذي تفوق على " اقداره " ، جيلُ المقاومة في فلسطين و العراق ولبنان ، والثورات في عموم البلاد ... تونس ومصر واليمن والعراق وليبيا و البحرين والاردن والجزائر واماكن كثيرة تؤشر بمجملها ان ليست هناك من ارضٍ عربية مستثناة عن مناخ الهيجان والثورة في اي لحظة ..
هناك من يحاول الفصل بين الثورة العربية الكبرى هذه الايام و " الروح " المعنوية العالية التي خلقتها المقاومة العراقية واللبنانية والفلسطينية خلال العقد الاول من القرن الحادي والعشرين ، هذه الروحية التي ازاحت اسطورة " السطوة " الغربية القاهرة التي باتت اليوم من التاريخ في مخيلة الشعوب العربية ..
هذه المحاولة ، و برأي شخصي ، " تسفيه " يتنافى والرؤية العلمية لطبيعة المجتمع العربي الإسلامي الكلية المعتمدة على " صهير " تجارب التاريخ المجموعي ، بدليل أن الثورة تنتقل كالإنفلونزا من تونس إلى المنامة ومسقط وبغداد ..
هذه العدوى " السريعة " إنما تدل على ما حاول الكثير طمسه ، وحدة الوعي العربي ، الخلفية الموحدة الكلية للفكر المجموعي الذي يتحول وفق عوامل " جوفية " في الثقافة العربية الإسلامية ، ما يعني إن الكلام عن فصل سلسلة الاحداث التي تعرضت لها " الامـة " بدءاً من سقوط بغداد في 2003 ومروراً بفشل إسرائيل باجتياح لبنان في 2006 إنما هو كلام تذروه الرياح في غايةٍ تهدف إلى الإلتفاف اليائس على طبيعة التحولات الفكرية هذه الايام ..
تحولات تاريخية تتمخض عنها ولادة الفكر السياسي الجديد لدى هذا الجيل الذي سيقود النخبة العربية خلال هذا العقد و العقود المقبلة ، تحولات ازالت اسطورة الديكتاتورية التي لا تزول والتي تتلاقى مع واقع اكثر عمومية تمثل بزوال اسطورة اميركا التي لا تهزم وجيش إسرائيل الذي لا يقهر .. ، هذا التلاقي بين خصوصيات التحولات القطرية الوطنية في تونس ومصر واليمن والبحرين والجزائر والعراق وغيرها من البلدان من جهة و رصيد " الصمود " و " الممانعة " الذي اتخذته شعوب افغانستان العراق وفلسطين وإيران ولبنان وسوريا والسودان تجاه الغرب من جهة اخرى هو ما يشكل " صهير " التجربة الكلية لعموم الوعي الجمعي الإسلامي ، ومجرد التفكير بفصل التجربة القطرية والتجربة الكلية الرابضة في وجدان كل عربي ومسلم يعني الخروج عن إطار العقلانية ودليل على الافتقار في فهم الطبيعة الشرقية المتاصلة في وعي العرب والمسلمين .
فقد ازيلت اسطورة " السطوة " من المخيال الجمعي العربي – الإسلامي الممثلة بقوة وغطرسة اميركا وإسرائيل ، و هاهو الشعب العربي يزيل اليوم اساطير " الدكتاتور الاوحد " الذي لا يمكن قهره او زحزحته من كرسي حكمه ..
المخيال الجمعي العربي ومنذ سقوط اسطورته الرمزية " صدام حسين " في نيسان 2003 بات مشرفاً على عهدٍ جديد ، عهد انقشاع غمم اساطير الخوف التي يرزح تحت نيرها امله ومستقبله على صعيد قطري ، العرب بشروعهم في إسقاط الديكتاتوريات باتوا اقرب إلى عهد نضجٍ فكري وسياسي مشرق يمكنهم من دخول التاريخ والعودة إليه مجدداً ..
فالصورة الكاملــة عن " مخيلة " هذا الجيل التي بين ايدينا هي صورة بيضاء خالية من اي اسطورةٍ من اساطير الخوف .. على النقيض من اجيال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي التي تخشى اميركا وإسرائيل ، بل وترتعد خوفاً من " البوليس السري " و " الامن المركزي " للحكومات العميلة للغرب مما يسمى في العالم الغربي فريق الاعتدال ، فقوة هذه الحكومات تبخرت امام وحدة الجماهير وصمودها في ايامنا هذه ..


-2-

يمكننا أن نقول ايضاً ، من جانبٍ مناظر للمشهد العربي ، بأن معادلة الاجيال الإسرائيلية يحدث فيها العكس ..
فجيل " الإستقلال " ، جيل بين جوريون ودايان ، جيل شجعان إسرائيل التاريخيين تقاعد هو الآخر لكن ليحل محله جيل عمير بيرتس ، وزير الدفاع ، الذي لا يعرف كيف يستعمل المنظــار ، وتسيبي ليفني التي تهتم باناقة مظهرها اكثر من إهتمامها بعواقب السياسة الخارجية الإسرائيلية إذ بان حرب تموز 2006 ..
الظروف الصعبة على بعض اليهود في منتصف القرن الماضي وما شهدوه من تنكيل واضطهاد في خضم الحروب الكونية وما سبقها من اضطهاد على مدى قرون عديدة في الشتات هي التي جعلتهم اشداء اقوياء فوق مستوى " اقدارهم " التي كسروها ليخلقوا إسرائيل من لاشيء .. !
وبغض النظــر عن دعم الحكومات الغربية لإسرائيل منذ تاسيسها رسمياً وما قبله ، فإن ما خلقه الشعب اليهودي يعد معجزة في ذلك العهد وإنجازاً تاريخيا استثنائياً بكافة المقاييس ..
إنجازٌ امد في حلم " إسرائيل الكبرى " إلى ما وراء الشفق لاجيال اليوم المحسوبة على اقوى الجيوش النظامية في العالم التي عجزت عن مواجهة " ميليشيا " حزب الله في حرب الثلاثة والثلاثين يوماً ..
و كأن حرب الايام الستة التي لا تفارق هزيمتها ذهن العرب الذين عايشوا الهزيمة قد حلت محلها مواقف الصمود التاريخي للمقاومة الشعبية تجاه الغزو الاجنبي و الثورات العربية الكبرى في هذا العقد الجديد من هذا القرن لتعيد إنتاج مفاهيم الكرامة والحرية في ذهن الشباب العربي الجديد ، وفي المقابل ، تسود ارتكاسة " الثلاثة والثلاثين يوماً " في ذهنية النشيء الإسرائيلي من ابناء هذا الجيل الذي ارعبه ايضاً ما يجري من ثورات تجتاح العالم العربي كثيراً ..
فهل إن الظروف الاقتصادية الصعبة وحالة الاحتقان التي يعانيها هذا الجيل العربي ستكون وقود ثورته فيما تصبح " اعتمادية " و رفاهية نفس الجيل في إسرائيل هي السبب وراء تزايد الإرتكاسات والهزائم في المنظومتين السياسية والعسكرية ..؟
هل بات على إسرائيل أن تنهج بسلوك اكثر عقلانية بما يتعلق بعلاقاتها مع جيرانها العرب في ظل ما تشهد المنطقة من زلزال سياسي والعالم من زلزال اقتصادي ..؟

-3-

لايبدو ان المنظومة السياسية الإسرائيلية بصدد إدراك ما يجري حقيقة في الشرق الاوسط ..
السبب عوامل عدة , منها التنشئة " المتعالية " التي نشأت عليها اجيال السلطة السياسية والاقتصادية في إسرائيل التي اعتبرت من نفسها " اذكى " و " ادهى " من سكن المعمورة ..
كذلك التقليل من شان " العرب " ، احتقارهم و إبعاد اي تصور عن إمكانية حصول تحول تاريخي يقلب المعادلات الجيوسياسية في المنطقة ، فعلى الرغم من بعض " الوجل " الذي عاشته إسرائيل حكومة وشعباً بعد سقوط مبارك ، لكن ، محاولة تطمين الداخل الإسرائيلي إعتماداً على منعة ما يعرف بجيش الدفاع الإسرائيلي وجاهزيته لاي طارئ لا تكفي وحدها ، ربما الحرب سبباً من اسباب السلم الذي دأبت إسرائيل على تحقيقه لنفسها منذ تاسيسها ..
لكن ، السلم القسري رغماً عن إرادة الجماهير العربية خلال العقود الاخيرة من القرن الماضي وهذا القرن قد يكون سبباً مباشراً لحربٍ مباشرة او غير مباشرة مع دول المحيط التي تعيش معها إسرائيل تناقضات كبيرة على كافة الصعد الدينية والسياسية والاقتصادية ..
كأن دولة إسرائيل اليوم جزيرة نائية تموج على بحرٍ من المشاكل التي تطوقها من كل جانب ..
الاسئلة الهامة التي على جيل إسرائيل الجديد إجابتها هي :
مسار التحولات السياسية في الشرق الاوسط إلى ماذا ستؤدي وماهي المواقف الجديدة التي يمكن ان تتخذها دول مثل لبنان و مصر أو الجزائر او حتى سوريا و الاردن خلال العقد الجاري في ظل ما تشهده المنطقة من تنامي القوة الجماهيرية وتاثيرها في السياسة بعد ان كانت الجماهير العربية مغيبة لعقود عن صنع القرار السياسي ؟
ماهو تاثير ضغوط كبيرة ستمارسها سياسات هذه الدول – الجماهيرية في ظل تواجد سياسة إسرائيلية متصلبة تجاه قضايا مركزية تمس الوجدان العربي بالصميم كقضية القدس واللاجئين الفلسطينيين والإستيطان ؟

مشكلة السياسة الإسرائيلية إنها مؤسسة على رؤية متجذرة في القرن الماضي لم يكن في حساباتها هذه التغيرات الكبيرة التي بدلاً من ان تخلق اجواء " وئام " مع اجيال عربية منفتحة غير متشددة ، فهي اليوم تقوم بإعادة بلورة الخلاف مع جيل ٍ عربي اكثر حداثة وتواصلاً ، وحقيقة ، هو اكثر شجاعة من كل جيلٍ سبقه لاسباب سيكولوجية تتعلق بطبيعة العصر ، ما يؤدي إلى التاسيس لمشاكل وتحديات اكبر في حين لا تزال النخبة المخابراتية الإسرائيلية القديمة غير آبهه بالمخاطر التي يخبئها المستقبل لشعب إسرائيل ..

فهي و بشكل مؤكد إذا ما استمرت على عنادها بالتوسع الاستيطاني وتهويد القدس ومحاولة التعمية على نداءات حق العودة عبر شراء ذمة " السلطة " الفلسطينية ، ستؤدي حتماً إلى خلق تشنج يتزايد باطراد مع مرور الوقت قد يطيح بمعاهدة كامب ديفيد ويقود إلى عزلة اسرائيل عن المنطقة بشكل كلي ، خصوصاً في عالمٍ تكاد الولايات المتحدة ان تتزحزح عن قمة هرمه ..!
هل يمكن تصور العالم الذي تعيشه إسرائيل وقد تناقص فيه النفوذ الامريكي إلى درجة كبيرة ؟
لو القينا نظرة عابرة ، نجد العراق المحتلة من الجيش الامريكي وقد تناقص فيها النفوذ الامريكي قياسا بالنفوذ الإيراني ، كذلك لبنان ومصر التي من الصعب ان تعود لحظيرة " الإعتدال " كما كانت بعد سقوط مبارك وإبعاد فريق 14 آذار ، وهي مؤشرات تراجع النفوذ السياسي والامني الامريكي في المنطقة ..
تراجع النفوذ يعني " فراغ " واختلال في موازين القوة في الشرق الاوسط ، وهو ما يعني احتمال قيام تحالفات تستغل هذا الفراغ كما نلمس في التقارب التركي – السوري – الإيراني الذي قد يضم العراق ايضاً بعد الإنسحاب الامريكي ، بمقابل تراجع التقارب التركي – الإسرائيلي إلى درجة أن تبحث إسرائيل عن تحالفات جديدة مع اليونان او الاكراد في شمال العراق و حزب العمال الكردي التركي المعارض ، وهي في حقيقتها " استغراق " في صراعات إقليمية متعددة وليست بتحالفات حقيقية استراتيجية طبيعية كتلك التي تبرم بين الدول ، تحالفات تزيد من المخاطر المحدقة بشعب إسرائيل وتكشف عن " استهتار " وغرور النخبة السياسية – المخابراتية في إسرائيل التي لا تقرأ متغيرات الجيو – سياسة الآنية بإمعان .

-4-

يعتقد الكثير من المراقبين بان إسرائيل تقف وراء تسريبات وثائق المفاوضات مع السلطة الفلسطينية و توقيت هذا التسريب هو .. اعتراف دول اميركا اللاتينية ، وآخرها البيرو ، بدولة فلسطينية بحدود 1967 ..
فالمكاسب المتحققة رفعت من معنويات الشعب الفلسطيني ، بل حتى السلطة نفسها وعباس ، الذي بدا بموقف قوي في المفاوضات مؤخراً امام إسرائيل قبل " الفضيحة " ..
بعدها ، جاءت ردود افعاله على هذه الوثائق لتؤكد بانها صحيحة لكنها ( حسب راي السلطة ) غير ملزمة للسلطة ولم تنفذ وكل الحكومات العربية والجامعة العربية كانت على اطلاع اول باول في كل ما يجري ، اي إن السلطة بحثت هذه المواضيع مع الجميع ، خصوصاً ما عرف بمعسكر الاعتدال الذي بدأ يتداعى منفرطاً عقده ..
لماذا بهذا التوقيت الذي وضع الشعب الفلسطيني فيه باول طريق لاعتراف دولي واسع بوطنه ، الوطن الفلسطيني بحدود 1967 ؟
لا نريدُ الدفاع عن سلطة " عباس " التي خانت شعبها ، لكن ما نحب أن نسلط الضوء عليه هو " مكاسب " الشعب الفلسطيني بعد تاريخ ٍ النضال الطويل التي انجزت في ظل متغيرات " جيوسياسية " بالغة التعقيد ، ومن هذه المتغيرات تحول الاقتصاد العالمي ، وهزيمة الولايات المتحدة في حربها في افغانستان والعراق في تحقيق أهدافها بشرق اوسط " امريكي " ..
كذلك انكسار الجيش الإسرائيلي امام المحور السوري الإيراني اللبناني والذي ادى إلى اعتماد الغرب على الدور التركي كلاعب اساس جديد في المنطقة بدلاً من إسرائيل ، وبالتالي .. تعاظم دور المقاومة الإسلامية في فلسطين والموقف الدولي " المتصاعد " في الاعتراف بوجود وحقوق الشعب الفلسطيني ..

كل هذه المتغيرات صبت في صالح شعب فلسطين بمقابل تراجع دور اسرائيل في الشرق الاوسط ..
فهل كانت تسريبات الوثائق هذه مناورة لتجريد شعب فلسطين من " شرعية " السلطة لكبح مسلسل الاعترافات الدولية بحدود 1967 وإظهار ان ما سمي بالسلطة الوطنية الفلسطينية هي اصلاً لا تعترف بهذه الحدود ، فضلاً عن إعادة تاجيج الصراع بين حماس ومن في صفها في مقابل السلطة ..؟
فقد يبدو لاول وهلة أن اسرائيل هي الرابح الاكبر من هذه التسريبات ، لكن ، من يدقق في المشهد بعناية يكتشف شيئاً آخر ، هي تزيد من احتقان مشاعر العداء في محيطها العربي ، إسرائيل تفوت فرصة تاريخية للعيش بسلامٍ مع جيرانٍ ضعفاء سيقبلون بالسلام معها اليوم ، لكنهم غداً ، سيرفعون سقف المطالب لو امتلكوا القوة بعد عقدٍ من الزمن ولن تكون لحدود 1967 ساعتئذٍ اي قيمة.

-5-

الشعب اليهودي وإن بدا غربياً ، لكنه شرقي ضارب الجذور في تاريخ المنطقة ، ومن حقه العيش على ارض فلسطين مثل الفلسطينيين ..
إلا أن المشكلة اليهودية اتخذت لنفسها حلاً ضمن إطار " الحضارة الراسمالية الغربية " فقط ، ليس هناك اي محل في اجندة النخبة الإسرائيلية الحاكمة لشعب يهودي يمكنه أن يعيش في مستوى افقي مع اي شعبٍ آخر ، فالاجيال القديمة في إسرائيل ربتها العقيدة الدينية أو الاجندة الصهيونية السياسية لشعب إسرائيل الخارق ، غير الطبيعي .. !
المستوى الافقي الذي نقصده هي العلاقات الدولية التي لا تبنى على اساس الهيمنة ، العلاقات الطبيعية المبنية على اسس ثقافية واقتصادية متبادلة بعيدة عن اي تدخلات او تكتلات سياسية ذات طابع اقليمي .
وهكذا ، وكما ناقش ماركس هذه المسالة قبل قرن ونصف ، النخبة الإسرائيلية المعاصرة من الإشكناز والسفارديم على حدٍ سواء تحتاج إلى تغيير جذري في طبيعة افكارها ومعتقداتها التاريخية النمطية التي تعودت على أن تعتبر من وجودها في الشرق وجوداً قلقاً متوتراً يمضي نحو " غاية " إلهية مقدرة تجعل من اليهود اسياداً ابديين على بني البشر ، فلسفة " الاسياد " هذه تترجم في صيغة عملية اسماها ماركس " الوساطة " الإنتاجية او التجارية ..
دور " الوسيط " في عملية الإنتاج التي لعبها اليهود كما اشار ماركس في المسالة اليهودية يمكن اعتباره مشكلة " بنيوية " لا تناسب " الاقلية " اليهودية في البيئة الشرق اوسطية ، خصوصاً في ظل متغيرات تاريخية وجيوسياسية عميقة كالتي تحصل اليوم بعد تضعضع النظام الراسمالي الذي كان يراهن عليه الوعي الجمعي الإسرائيلي على إنه جنة " الوسطاء " التجارية الابدية في هذا الكوكب ، جنة بني إسرائيل .
الوسطاء الذين يربحون وهم جالسون خلف مكاتبهم دون عناء ، و هي الأطر النمطية التي تشكل صميم الثقافة اليهودية ، لا نريد إنكار ظرورة وجود " الوسيط " في ظل هذه المرحلة الراسمالية من حركة التاريخ ، لكن ، لا يمكن أن تكون هناك " دولة " موحدة كبرى للوسطاء ..!
النخبة الإسرائيلية الاقتصادية والسياسية الحاكمة هذه الايام تدرك بان الوسطاء والاسياد من راسماليين وحين يتم ضغطهم في حدود جغرافية كفلسطين في الشرق الاوسط بحاجة إلى التمدد والإنتشار في اوسع مساحة ممكنة لإدارة الاعمال وترؤس المشاريع المختلفة وهذا ما يفعله اللوبي الإسرائيلي المنتشر في عموم بقاع الكوكب الارضي .. ومنها " الإمارات " و " قطر " و" البحرين " و " العربية السعودية " في استراتيجية خاصة تديرها تل ابيب في المنطقة .
فبراي ماركس ، ذهنية كل من يحب لعب دور " الوسيط " هي ذهنية يهودية حتى لو لم يكن دينه يهودياً ، وقد نجحت اسرائيل وفق هذا القياس بـ " تهويد " الاقتصاد الخليجي من حيث لا يشعر العرب ..
لكن وفي المقابل ايضاً ، الذهنية التي تؤمن بالعمل وعرق الجبين وفق المسار الإنتاجي قليل الوساطة ، كطلائع النخبة اليهودية التي اسست إسرائيل في 1948 ، هي ذهنية اقرب ما نسميها ثورية اشتراكية ، وهي اقرب بسبب ذلك إلى طابع العقل الشرقي منها أن تكون عقلية غربية تحب التدرج في ادوار الوساطة صعوداً في الهرم الراسمالي العالمي الكبير كحال الاجيال الجديدة التي ولدت في فلسطين واخفقت في اجتياح لبنان عام 2006 إخفاقاً ذريعاً وغير متوقع ..
مثل هذه " الاجيال الثورية " هي ما تحتاج إليه إسرائيل في الوقت الراهن لا لكي تعاود حروبها الطاحنة مع العرب ، وإنما لتفهمهم وتعيش معهم بسلام ..
فاجيال " الوساطة " الجديدة من نخبة القيادة في إسرائيل ابعد ما تكون عن إدراك حقيقة المواجهة الميدانية المستميتة التي يتمتع بها الجيل العربي الجديد الذي تجلى في مقاومة العراقيين وحزب الله وحماس ... وثوار " الزلازل " الجدد ..

السؤال المهم الذي يقف امامنا في هذا التحليل هو :

هل بإمكان اسرائيل الصمود وفق هذه الذهنية ( الوساطة ) في غياب قوة النظام الراسمالي الذي تشرف عليه دولة المركز الامريكية كما كانت في القرن الماضي ..؟
هل يمكن لإسرائيل " البقاء " كدولة تدير المركز الراسمالي الشرق اوسطي في الخليج حتى بعد تراجع المنظومة الراسمالية الغربية التي تعول عليها اليوم في ظل عالمٍ عربي متحول نحو إرادة شعبية تغذيها ثقافة صراع تزيد بامتدادها الزمني على النصف قرنٍ مع إسرائيل ؟
الاستراتيجية التي دخلت بها إسرائيل مطلع القرن العشرين في الشرق الاوسط تتضمن بناء " امبراطورية كابيتالية – مخابراتية " في الجزيرة العربية وعموم الشرق الاوسط تمسك تل ابيب بكل خيوطها الاقتصادية وفق موديل انظمة حكم عربية " قديمة " مفصولة عن إرادة شعوبها ، مما يعرف بفريق الاعتدال العربي ، ولذلك ، النخبة المتحكمة في اسرائيل اليوم نخبة بوليسية مخابراتية كثيرة التعقيد والتشابك في علاقاتها الامنية مع نظم الفريق العربي الموالي والتي لم تفلح في إنقاذ مبارك وبن علي من السقوط ..!!
حقيقة ما نعيشه اليوم ، وبعد دخولنا العقد الثاني من القرن العشرين ، افتقار اسرائيل للنخبة الدبلوماسية التي لها مقدرة استراتيجية حقيقية على ان تكون ناجحة ومسيطرة في ظل " موديل " جديد من انظمة الحكم التي تتجه ان تكون شعبية ممثلة لإرادة جماهيرها ، وليس النخبة المخابراتية الإسرائيلية التي " لم تفهم " كحال بن علي ومبارك إن التاريخ تحول إلى واقع يفرض نفسه بالقوة رغم احلام الشفق القديمة التي اسست بموجبها إسرائيل في القرن الماضي ..
لا يمكن لهذه النخبة النجاح باي حوار ، فهي تعودت إملاء الشروط وليس " التفاهم " مع الفلسطينيين منذ ان تاسست إسرائيل ، ويبقى أن اعترف بان هذه النخبة تستمد قوتها من القاعدة الشعبية الإسرائيلية المؤيدة ..
الشعب الإسرائيلي يكاد ان يمثل " ذهنية " هذه النخبة تماماً ، لانه مؤلف بسواده الاعظم من اجيال تعتبر نفسها في " مهمة " عسكرية مقدسة على ارض إسرائيل ..!
فهل يمكن لإسرائيل ان تتعامل مع ثورة هذا الجيل العربي الجديد بواقعية بعيدة عن التشنج والتصلب البوليسي المخابراتي الذي ظهرت اولى بوادر إخفاقه في فهم الواقع العربي المتحول بعد اغتيال المبحوح في 2010 وظهور صور اكثر من ثلاثين عنصر من " الموساد " على الفضائيات العالمية في اكبر إنكشاف مخابراتي امني عرفه التأريخ ..؟

-6-

حقيقة ً ، من يحكمون إسرائيل اليوم يرددون بان المنطقة تتعرض للزلزال ، لكنهم لم يبدو اي خطواتٍ واقعية تؤهلهم أن يكونوا بقدرٍ كافٍ من المسؤولية التاريخية تجاه شعب إسرائيل في إعادة دمجه بالمجتمع الشرقي في ظل هذه التحولات وتحويل ذهنيته من خيالية " المهمة المقدسة " إلى واقعية الحوار والتفاهم مع العرب ، صناع الحداثة الثوريين الجدد ..
شأنهم في ذلك شان الحكام العرب ، لا يفهمون شعوبهم حتى يطبق الشعب بفكيه على عروشهم ليخرجوا وهم يقولون : فهمتكم , او " اعي " ما تطلبون ، وذلك بعد فوات الاوان حين يكون الشعب قد قرر إزالة هؤلاء الحكام .. ولات ساعة مندمِ ..
النخب الإسرائيلية من اجيال الماضي بحاجة إلى " التنحي " اليوم لترك الامر لشباب إسرائيل ان يقرروا موقفهم من الشعوب العربية المسلمة ، لا ينفع الإنتظار حتى تحين الساعة التي تجتمع فيها الجيوش العربية محاصرةً إسرائيل بعد عشرٍ او اكثر من السنين ليعلن الحاكمون في إسرائيل إننا " امة شرقية " تتبرا من الغرب ونود ان نعيش بينكم بسلام .. ومستعدون للإعتراف بدولة فلسطينية بحدود 1967 وكذلك نحن مستعدون لاستقبال لاجئي الشتات الفلسطينيين بالاحضان ..!
حينها يكونُ الوقت قد تاخر جداً لمثل هذا الحديث , جيل إسرائيل الحديث وعلى غرار الجيل العربي الثائر هذه الايام على انظمته المستبدة بحاجة إلى " ثورة " على ذهنية التسلط التي خلقتها الحضارة الغربية وجندت فيها شعب إسرائيل في القرن الماضي لمهمة عسكرية في الشرق الاوسط تحت غطاء ديني ماضوي قومي ، اليوم لم تعد إسرائيل تحتمل اداء مثل هذه المهمة ، آن الأوان ان تعود إلى حاضنتها الثقافية الشرقية ، خصوصاً وان توازن القوة المعتمد على الاسلحة النووية بدا يختل كثيراً بعد دخول إيران للنادي النووي ..
بالتالي ، التنازلات التي ستقدمها اسرائيل ستكون لمستقبل شعبها وستؤدي إلى قبوله ضمن النسيج الإجتماعي العربي الذي قد يؤول إلى نسيج ملون منفتح بعيد عن التشدد وهذا يعتمد على الظروف التي من شانها إزالة هذا التشدد ..
فالاجيال العربية الجديدة التي بصدد إمساك دفة الحكم تمثل فرصة " استثمار " تاريخي للشعب الإسرائيلي في ان يتعامل معها تعاملاً دبلوماسياً حوارياً بعيداً عن روح التصلب والمخادعة القديمة التي درجت عليها السياسة الإسرائيلية " الفوقية " منذ " الاستقلال " ..
فتلك كانت ظروف تاريخية تتمثل بالقمع والغطرسة الغربية والإسرائيلية ، زوال هذه الغطرسة من شأنه فسح المجال لإزالة كل التشنجات ، لكن ، إصرار الحرس القديم البوليسي المخابراتي في إسرائيل على نفس خطى السياسة المتعصبة المتشنجة لن يؤدي إلا لعودة صعود " التشدد " الذي تتبناه الحركات الإسلامية التي ستكون مدعومة من الجماهير وبغياب رقابة نظم الإعتدال البوليسية العربية المتساقطة واحدة تلو الاخرى ، ما يعني تفويت فرصة تكييف جيل الإنفتاح العربي الجديد على التعايش السلمي مع إسرائيل ، وبالتالي ، لا احد يستطيع التكهن بهذا الجيل " الناري " الذي اقتحم التاريخ كزلزالٍ مرعب ماذا سيفعل واي موقف تصادمي سيتخذه تجاه إسرائيل حكومةً وشعباً ..!
شخصياً ، اجد أن لن تنفع حتى حرب عالمية كبرى لاخماد هذه الإرادة التي ستتجه بعد إنجازها لمطالبها القطرية الوطنية الجزئية في التغيير وحياة سياسية واقتصادية جديدة في بلدانها إلى ربط المنظومة العربية مع بعضها تجاه عدو تاريخي واحد في المنطقة ..إسرائيل .. حسب ما تمليه قوانين " الوعي الجمعي العربي " التي تميل إلى التوحد ..
بمعتقدي ، الشعب اليهودي جزء من تاريخنا جميعاً ، هو جزءٌ من هذه " الامة " وقرآنها يثبت هذا وإن حاول نقد " اليهود " كما فعل ماركس ، لكن هذا الشعب بحاجة ماسة إلى ان يتغير .. الآن وفوراً !
الشعب اليهودي اليوم يبدي موقف العقوق لتاريخه الشرق اوسطي ، و اتمنى من شباب إسرائيل الإسراع في التغيير لدخول مرحلة جديدة من التعايش السلمي الحقيقي غير المبنى على الخديعة والصلف والغرور ، بعيداً عن عنجهية شعارات ليبرمان وباراك ونتنياهو التي لا تنتمي لهذا " العصر الجديد " ..
مرحلة جديدة تعيد الإعتبار للشعب الفلسطيني بحدوده المعترف بها دولياً حتى لا يأتي اليوم الذي تتكرر به المآساة مجدداً ولكن بتبادل الادوار بين الفلسطينين والإسرائيليين ، يومها لا عاصم من امر الجماهير إلا من رحم ، لا نريد من الشباب العربي اليوم و شيوخها غداً ان يعودوا لرفع شعارات " نرميهم في البحر " القديمة بفعل التصلب الحالي لإسرائيل كي نصل إلى حل وسط حقيقي يميزنا كحضارة شرقية متعددة الاديان والثقافات .



#وليد_مهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مذبحة الساحة الحمراء في البحرين والإعلام العربي
- اخرجوا المحتلين من بابل خائبين
- الجنس والأنثى والحضارة
- هذا الجيل : من الصحوة الإسلامية إلى ما بعد الحداثة
- التخاطر وسيكولوجيا الجماهير
- إغلاق قناة السويس : المرحلة الثانية من الثورة
- هذا الجيل : زلزالُ مصر وحاكمية الشعب
- وصايا للثورة في مصر***
- ميدان التحرير : رمزُ ثورةِ هذا الجيل وميزان رؤيته الجديدة
- مبارك يحزم حقائبه
- روبرت فيسك : الغربُ لا يريد ُ ديمقراطيةً في تونس ولا ايَ بلد ...
- كامل النجار : ملحدٌ تحت مجهر التفكيك -4-
- محمد حسنين هيكل يحكم بالإعدام شنقاً على انتفاضة الخبز والكرا ...
- الانتفاضة ُ التونسية و طريقُ الثورةِ الجديد : حاكمية الامة
- صفعة ُ جماهيرَ تونس : ردها إن استطعت يا بيت اميركا الابيض
- كامل النجار : ملحدٌ تحت مجهر التفكيك -3-
- كامل النجار : ملحدٌ تحت مجهر التفكيك -2-
- كامل النجار : ملحدٌ تحت مجهر التفكيك -1-
- الجنسُ والتنوير : رؤية ٌماركسية -4-
- الجنسُ والتنوير : رؤية ٌماركسية -3-


المزيد.....




- فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص ...
- حرب غزة: أكثر من 34 ألف قتيل فلسطيني و77 ألف جريح ومسؤول في ...
- سموتريتش يرد على المقترح المصري: استسلام كامل لإسرائيل
- مُحاكمة -مليئة بالتساؤلات-، وخيارات متاحة بشأن حصانة ترامب ف ...
- والدا رهينة إسرائيلي-أمريكي يناشدان للتوصل لصفقة إطلاق سراح ...
- بكين تستدعي السفيرة الألمانية لديها بسبب اتهامات للصين بالتج ...
- صور: -غريندايزر- يلتقي بعشاقه في باريس
- خوفا من -السلوك الإدماني-.. تيك توك تعلق ميزة المكافآت في تط ...
- لبيد: إسرائيل ليس لديها ما يكفي من الجنود وعلى نتنياهو الاست ...
- اختبار صعب للإعلام.. محاكمات ستنطلق ضد إسرائيل في كل مكان با ...


المزيد.....

- الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن / مرزوق الحلالي
- أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا ... / مجدى عبد الهادى
- الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال ... / ياسر سعد السلوم
- التّعاون وضبط النفس  من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة ... / حامد فضل الله
- إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية / حامد فضل الله
- دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل ... / بشار سلوت
- أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث / الاء ناصر باكير
- اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم / علاء هادي الحطاب
- اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد ... / علاء هادي الحطاب
- الاستراتيجيه الاسرائيله تجاه الامن الإقليمي (دراسة نظرية تحل ... / بشير النجاب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - وليد مهدي - إسرائيل في مواجهة الطوفان العربي : رؤية استراتيجية للمستقبل