أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مجدي السماك - حصة














المزيد.....

حصة


مجدي السماك

الحوار المتمدن-العدد: 3235 - 2011 / 1 / 3 - 03:14
المحور: الادب والفن
    


حصة
بقلم: مجدي السماك
في ذلك اليوم البارد.. وصل الأستاذ مصطفى إلى غرفة الفصل وكان متأخرا سبعة دقائق.. وكان في عينيه حمّرة غريبة أخفت بياضهما وأطفأت ما فيهما من بريق كان بالأمس يلمع. وما إن دخل في هدوء الزاهدين ووقار الناسكين، حتى وقف أمام التلاميذ بكل ما في هيئته الضخمة من مهابة.. وعلى الفور انطفأت الضوضاء التي أشعلوها وأججوها بضحكاتهم الساخنة البريئة التي كانت تجلجل وهي تعلو لتنقلب بقدرة قادر إلى ما يشبه الفرقعات. ومع هذا نسي أن يقول لهم صباح الخير وانتصب أمامهم وهو عابس كالقضاء المستعجل فبدا جلد وجهه كأنه مدبوغ. ثم بيده اليمنى امسك قطعة تباشير بحجم منقار دجاجة، واتجه بها إلى الزاوية العليا من السبورة وبخط عريض كتب.. حكمة اليوم: من طلب العلا سهر الليالي.. ثم كتب تحتها بخط عريض أيضا: اطلبوا العلم ولو في الصين. بينما كانت كفه اليسرى منهمكة بالذهاب والإياب على فتحة فمه وهو يتثاءب محدثة قرقرة أحبها التلاميذ كثيرا فارتاحت قلوبهم لها وانتشت.. فابتسموا في خجل مكتوم. وتركوا العنان لأنوفهم لتتمتع برائحة عطره التي فاحت.. رائحة لذيذة عبقت الفصل وكانت أقرب إلى رائحة السيريلاك. ثم في بطء لف الأستاذ جسده الثقيل المتعب، وأدار وجهه المتجهم نحوهم محدقا إلى وجوهم المنكمشة من البرد.. وفكر مليا في طريقة مثلى يستطيع فيها أن ينام طوال الحصة ليرتاح.. دون أن يلومه ناظر المدرسة أو أي واحد من زملائه المدرسين الواقفين له بالمرصاد. وهو بالفعل كان يحس أنه بحاجة إلى مزيد من النوم.. فطوال الليل كان ساهرا يشاهد مباراة كرة قدم فاصلة بين فريقين أوربيين.. واستمر بعدها يشاهد الحوارات والتحليلات التي ليس لها أول.. وليس لها آخر. ثم بعد هذا.. قبل أن يدس جسده تحت اللحاف، تشاحن مع زوجته التي أيقظها دبيب قدميه العريضين وطرقعتهما المدوية على البلاط.. وهي بالفعل تمقت كرة القدم ولا تحتمل سيرتها وتفضل عليها الصور المتحركة التي يعشقها الأطفال.. استمرت المشاحنة لزمن لا يقل عن ثلاثة أرباع الساعة.. بما فيه الوقت الضائع في المهاترات.
بسرعة جاءته الفكرة لتسعفه وتخلصه من ثقل النعاس الذي كان يداهم جفنيه بلا هوادة.. وقال في نفسه: سوف اكتب للتلاميذ مسألة حلها يحتاج إلى يوم بأكمله.. لا بد أن تكون فوق مستواهم.. هم في الصف الخامس الابتدائي.. إذن سأكتب لهم مسألة عويصة من مستوى إعدادي.. لن يحلّوها حتى لو خبطوا رءوسهم بأسمك جدار.. والله حتى لو ساعدهم الجن الأزرق.
بالفعل عاد الأستاذ إلى السبورة مرة أخرى وقد بدأ يتنفس الصعداء. وكتب السؤال التالي: ما هو خير جليس؟ وطلب منهم وهو يهزّ سبابته أن يسرعوا بإخراج دفاترهم.. وان يجتهدوا في حلها. ثم بكامل وزنه جلس على الكرسي المصنوع من البلاستيك.. واتكأ إلى طاولته وقد حفت بقلبه طمأنينة هدأت أعصابة وبرّدت قلبه المرهق.. وأطبق جفنيه إطباقة كاملة، ونام.
مسك التلاميذ أقلامهم للحظة واحدة وكان الفرح قد ملأ صدورهم الصغيرة وطفح.. ثم صوبوها بسرعة نحو صفحات كراساتهم البيضاء ومرروها عليها بخفة فيها استهتار، وكتبوا كلمة واحدة أو كلمتين.. ومن ثم على الفور راحوا كلهم يتحدثون ويصخبون ويتضاحكون فكهين. بينما شخير الأستاذ ظل يرتفع إلى درجة تسمح له بالوصول إلى غرفة الناظر.. والى غرفة السكرتير في الناحية المعاكسة من الممر الطويل.
كان الأستاذ مصطفى بين لحظة وأخرى يستيقظ حانقا على شوشرتهم المدوية.. فيصيح بهم ورأسه تتطوح وتكاد أن ترتطم بالطاولة كأنها مربوطة ومعلقة بالسقف بواسطة حبل طويل مصنوع من المطاط: هيا حلّوا المسألة يا بجم.. يا بغال.. ثم يعود لنومه ليطرقع بشخير ممدود كأنه ثور يتنهد.
بالكاد مرّ عشرون دقيقة أو يزيد.. حتى تجرأ واحد من التلاميذ وقام من مقعده وذهب ليقف بالقرب من خاصرة الأستاذ المليئة بالشحم، التي كانت تعلو وتهبط بلا توقف.. وتجرأ أكثر واقترب منه أكثر كي يوقظه.. حاملا كراسته ليريه الحلّ. وفي لحظات تجرأ الآخرون وفعلوا مثله.. وتكوّموا كلهم حول مدرسهم وحوطوه من كل النواحي كأنهم قصدوا حصاره.. كل هذا وسط صخب كثيف لا ينخفض إلا ليعود ويرتفع دويه من جديد.
رفع الأستاذ رأسه بكسل لا يخلو من نكد.. ليجد نفسه أمام سلسلة جبال من الكراريس المفتوحة والمطوية.. ووسط مظاهرة حاشدة من أطفال لا ينامون ولا يتركون الناس تنام. فنهرهم بحزم أن عودوا إلى أماكنهم.. بعد أن لعن آباءهم وأمهاتهم، وأبا اليوم الذي اشتغل فيه بمهنة التدريس.. وسكت لحظة استرجع فيها أنفاسه وأطرق كمن يتذكر شيئا قد نسيه.. ثم عاد يلعن أبا الطبيب الذي سحب الواحد منهم من بطن أمه.. وبغيظ نفث نفخة ساخنة في الهواء البارد.
نظر المدرس بسرعة إلى أجوبة التلاميذ في الكراسة. فاستغرب أنهم جميعا أجابوا تقريبا نفس الإجابة الخاطئة التي تسدّ النفس وتحرمها من الطعام. فالبعض منهم أجاب بأن خير جليس في الدنيا هو الإنترنت.. والبعض الآخر أجاب بأنه الكمبيوتر.. وبعض ثالث أجاب بأنه الفيس بوك. فانهال عليهم بالتقريع والشتم.. ولحظتها فقد قدرته على الإمساك بأعصابه وهو يزمجر ويكز بأقصى قوة كامنة في فكيه: إنه الكتاب يا حمير يا أولاد الحمير.. الكتاب خير جليس يا بهائم.. أما جيل آخر زمن.. جيل خايب مثل الزفت.
لكن الطلاب لم يقتنعوا بإجابة المدرس.. فرددوا جميعا مرة واحدة في استغراب كبير: الكتاب!!. ثم غرقوا في ضحك صاخب مدو.. سرعان ما انقلب إلى قهقهات.
لمّا يأس الأستاذ مصطفى من كل المحاولات التي بذلها لينام.. أكمل الحصة كيفما اتفق بوجه كساه حنق عظيم. وخرج عندما دق الجرس وهو يردد.. انتر نت.. كمبيوتر.. فيس بوك.. تلاميذ آخر زمن.. والله ما ينفع أي واحد فيكم.. يا كلاب يا أولاد الكلاب.
يناير 2011
[email protected]



#مجدي_السماك (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التابوت..قصة
- ليالي اغتصاب زينب
- سؤال في الليل..قصة قصيرة
- بدأت ليلة الزفاف
- البنطلون المبلول
- وجه شارد..قصة
- الجندية المجهولة
- وجبة كبيرة
- عيون تنظر الى تحت
- أيام الخميس .. قصة قصيرة
- قبر من لحم
- ربع ساعة اخرى
- لعبة عروسة وعريس
- رؤية خريفية
- مملكة فنان ميت .. قصة
- بائع العلكة الصغير
- آهات وعرانيس ..قصة قصيرة
- آهات وعرانيس .. قصة قصيرة
- جهنم نحن وقودها
- الهوية الفلسطينية في الطريق الى الضياع


المزيد.....




- “العلمية والأدبية”.. خطوات الاستعلام عن نتيجة الثانوية العام ...
- تنسيق كلية الهندسة 2025 لخريجي الدبلومات الفنية “توقعات”
- المجتمع المدني بغزة يفنّد تصريح الممثل الأوروبي عن المعابر و ...
- دنيا سمير غانم تعود من جديد في فيلم روكي الغلابة بجميع ادوار ...
- تنسيق الجامعات لطلاب الدبلومات الفنية في جميع التخصصات 2025 ...
- -خماسية النهر-.. صراع أفريقيا بين النهب والاستبداد
- لهذا السبب ..استخبارات الاحتلال تجبر قواتها على تعلم اللغة ا ...
- حي باب سريجة الدمشقي.. مصابيح الذاكرة وسروج الجراح المفتوحة ...
- التشكيلية ريم طه محمد تعرض -ذكرياتها- مرة أخرى
- “رابط رسمي” نتيجة الدبلومات الفنية جميع التخصصات برقم الجلوس ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مجدي السماك - حصة