مشعل التمو
الحوار المتمدن-العدد: 968 - 2004 / 9 / 26 - 08:53
المحور:
القضية الكردية
اكتسبت شعوب هذه المنطقة نقاط ارتكاز مهمة من ماضيها وتعدد حضاراتها وشعوبها , وهذه الارتكازات تعرضت على الدوام إلى شتى محاولات الشطب والتخريب , ففي كل مرحلة زمنية أو منعطف كانت الركائز تقف حجر عثرة أمام مختلف الرؤى أو المذاهب الداعية إلى التمفرد في المنطقة , سواء عبر استئصال المختلف قوميا , أو عبر صهره وإنكار وجوده وعدم اعتباره جزء من تاريخ وحضارة المنطقة . وبديهي هنا أن التاريخ كان إلى حد ما , تاريخ وئام واتفاق , والفرقة بدأت منذ اخذ المد القومجي أبعاده وبدأت تأثيراته , وأقول القومجي وليس القومي , والقومجية هم أولئك الذين يمتلكون فقه الإلغاء والساعين إلى تأصيل الإقصاء , بالاستناد إلى أوهام قوموية أو ذاتوية , ولعل الأستاذ عبد اللطيف شرارة عرفهم خير تعريف حين قال :
(( تتميز هذه الفئة من الناس , بميزات أخلاقية واضحة , يمكن ترتيبها على النحو التالي :
1. الكذب , واظهر ما في كذبهم أنهم يكذبون على أنفسهم , فيعطونها صفات يتخيلونها تخيلا , من الإنسانية والرأفة والحدب على الضعيف , والتحلي بصفات الشجاعة والعظمة والمجد , وهم ينطوون على أخس المزايا الحيوانية .
2. العبودية , وعبوديتهم تصرخ في انصياعهم للقوة العمياء , ودعوتهم للأخذ بها , واعتمادهم عليها في المظاهر والأقوال .
3. التبجح بالمآثر والمفاخر القديمة , التي تشير إلى خور في الحاضر وتنكب عن طريق العدالة .
4. قصر النظر عن الاحاطة بالمستقبل , وعن تدبر النتائج الصحيحة لأعمال ثابتة وواضحة )) >>مجلة الأحد العدد 206 تاريخ 2/12/ 1956<< .
وبديهي أيضا أن رؤى الاستئصال أوجدت ثقافة سياسية عقائدية لها منظومتها الفكرية التي يتم التعامل بها بوصفها حقائق لا تقبل الجدل , وهي بهذه الحالة تخدم استراتيجيات سلطوية تعتمد إيديولوجيات أصولية متنوعة , وبالتالي تتجسد في الواقع المشاهد والملموس مشاريع كلانية وهويات صامتة تنفي وتدين الآخر .
أن حقيقة أية حالة لا تظهر إلا عندما تنفتح وتتعامل مع الحالة الأخرى الموجودة بجوارها أو المتعايشة معها , فالموقف العربي أو الكوردي من بعضهما البعض , يتجلى في معطيات الواقع الموجودة , إذ مهما يكن التاريخ ناصعا , فالموجود هو المحسوس , وهو الذي ينظم العلاقة بين الطرفين , وبالتالي هو نتاج ثقافة سياسية استقرت في الذهنية الجمعية والتي تنعكس كممارسة يومية , لها شروطها وركائز بنائها , ولا يخفى على احد الرؤية النافية للإنسانية والمؤسسة لثقافة الإدانة وإقصاء الكوردي , على أرضية جعله عدو افتراضي يستعاض به عن العدو الأزلي الذي كانت السلطات الاستبدادية المختلفة تستخدمه كضابط إيقاع لديمومة الاستبداد , وهذا العدو بات راهنا غير ذي جدوى فكان لا بد من البحث عن عدو افتراضي آخر وهذه المرة كان الأكراد أفضل الموجود بحكم بحثهم عن إنسانيتهم الضائعة وحقوقهم التي يحاول الفكر القومجي قضمها أو الالتفاف عليها , وبالتالي كان من السهل في الآونة الأخيرة إعادة إنتاج ثقافة النفي والإدانة والتجريم التي يمكن تلمسها في الخطاب السياسي أو الثقافي للكثير من الأطر العربية وحتى لدى قطاع واسع من جماعات المثقفين أيضا .
أن محاولة العودة إلى الوراء والعيش في الماضي , ظاهرة تسود مجتمعاتنا راهنا , وهي كمسار يمتلك جانبه التخييلي الطاغي , الذي يعيق مسيرة الحاضر , بل ويدمره سواء كان أنسانا أو شعبا أو دولة أو حضارة , والتدمير يشمل هنا ميزة التفكير العقلاني وخاصياته المفترض ضرورتها في بناء أسس وركائز أي تعايش أو تشابك في المجتمع الواحد , وبالتالي تنهار المسئولية تجاه الآخر المختلف , مما يُخرج المجتمع ككل من حيز الوجود الإنساني , بحكم أن الوجود الإنساني يكتسب معناه الجوهري وماهية حراكه ونشاطه من خلال المسئولية عن الآخر .
أن مجتمعاتنا تتميز بخاصية التعدد القومي والديني , وواضح حجم فشل الاستبداد في إنهاء هذا التعدد, رغم استخدامه مختلف أساليب الصهر القومي , بمعنى هناك واقع راهن , له تاريخه فهل نمتلك القدرة على بناء مستقبله , والمستقبل يتحدد بدرجة فهم الآخر ومتطلباته واحترام رؤيته وحقه في الحياة والحرية .
اعتقد بان ثمة تساؤل جوهري يطرح نفسه , هل هناك نية لدى الكثير من الأطر والفعاليات القومجية لفهم الراهن , ومن ثم محاولة تأسيس عقد اجتماعي توافقي بين العرب والكورد , يمتلك ثقافته السياسية المبنية على التسامح وحسن الجوار والتشارك في الوطن وفي الحق والواجب , ووجود نية التعايش يفترض إيجاد البعض من نقاط الارتكاز لبناء علاقة جديدة , وتتجلى الركائز من وجهة نظري في التالي :
1- الإقرار بالحقائق , حقائق التاريخ المشترك , حقائق الحاضر والجغرافيا السياسية التي أوجدته , حقائق أحقية الشعوب قي العيش بكرامة , حقائق المستقبل , فإذا كان التاريخ مشتركا , فهل هناك من مستقبل غير مشترك ؟ وإذا كان الجواب بلا , فلم لا نتشارك سواسية في بناءه .
2- الاعتراف بالآخر المختلف قوميا ودينيا , والإقرار بحقه في ممارسة اختلافه بالطريقة التي يختارها دون وصاية من احد .
3- الارتباط الحقيقي بقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان , من حيث المطلب والممارسة , فلا يعقل أن تطلب الديمقراطية للذات وتمنع عن الآخر , وبالتالي لا مصداقية لديمقراطي يمنعها أو يبرر منعها للمتمايز قوميا .
4- الشفافية في الطرح والممارسة , بمعنى اعتماد المصارحة الفعلية والبوح بمكنونات النفوس والتعاقد الحضاري على مشروعية الوجود تاريخا ومستقبلا , وتصحيحا لما أوجده الاستبداد حاضرا .
5- إنهاء ازدواجية الخطاب السياسي والثقافي , وهي ازدواجية ملاحظة في الجانبين العربي والكوردي , واعتماد الوضوح في الطرح السياسي , وبالتالي إيجاد ثقافة سياسية تتميز بمصداقيتها وواقعيتها , وموضوعية نشرها , كقاعدة مؤسسة للتشارك في الوطن الواحد .
6- اعتماد الحوار الديمقراطي بديلا لهتافات الأهداف الخالدة , النافية لحرية الذات والآخر , ناهيك عن أن هذه الهتافات الشعاراتية هي التي شكلت أرضية العنف المتوالد في مجتمعاتنا ,إذ لا بديل عن الحوار , لان التعصب يولد تعصبا اشد , والعنف يولد عنفا واحتقانا اكبر , وبالتالي يبقى الحوار هو المؤدي للحرية وبناء دول حق وقانون نقيضا لدولة الاستبداد والعنف التي أوجدنها مراحل تاريخية كان فيها الشعار معيارا للتقدمية , وانتهاك حرية الإنسان وطمس وجوده معيارا لنجاح مجلس قيادة الثورة .
7- التخلص من فوبيا الخوف من الآخر , وإيجاد أرضية للثقة المتبادلة , والثقة التي اعني تحتاج إلى أدوات معرفية لها فقهها الحضاري , المدني , المبني على المساواة والاعتراف بحق الآخر , وتمكينه من التمتع بحقوقه القومية والديمقراطية .
8- الاعتراف بالجماعات الوطنية على أنواعها , كحقيقة تاريخية , لها الحق في الحرية والحياة , وهذا الاعتراف يشكل من وجهة نظري اعتراف بالوطنية , إذ لا وطنية بدون جماعاتها المكونة لها .
9- اعتقد بأننا جميعا مطالبون في البحث عن صيغة توافقية , أو تعريف مشترك لمفهوم الجماعة الوطنية , وبالتالي إيجاد آليات حضارية تؤسس للتعايش الاختياري , يستند على قواعد جديدة في التفكير السياسي , ولعل الدكتور خلدون النقيب أفصح ايجابيا عن هذا الطرح بقوله : (( أن الوقت قد حان لإيجاد بدائل لينة لقاعدة الإقليم والاستقلال الناجز وذلك بـ :
أ?- إقامة مساحات ومناطق وظيفية تسمح بحرية الانتقال .
ب?- إقامة الأوطان التاريخية كالاعتراف الدولي بانتماء الأقليات إلى الوطن التاريخي عبر الحدود .
ت?- أعطاء صفة الأمة لجماعات وطنية من دون أن يكون لها دولة .
ث?- التمييز بين الهوية الوطنية والحقوق الوطنية , فحق الانتماء إلى هوية وطنية هو حق مشروع .
ج?- اتحاد الشعوب مع بقاء حدود الدول .))
أن المشهد القائم في سوريا والعراق , يعكس خللا في العلاقة وسوء فهم وتفسير , بل يصل في كثير من الأحيان إلى فعل سياسي بعيد عن المواطنية وإنسانية الإنسان , إذ أن إنكار الوجود الإنساني ينسف الوطن بجماعاته وأطيافه المكونة لتاريخه وحاضره ومستقبله , فالقمع ومحاولات الصهر والتذويب وتغيير الديموغرافيا , كلها سياسات ناسفة للتعايش , وهذه السياسات ليست فقط سلطوية , وإنما يؤمن بها الكثير من مدعي النضال من اجل الديمقراطية , وبالتالي هناك وعي قوموي يسود , مبني على أوهام وتخيلات متنوعة ولكنها وصلت إلى مرحلة يقينية مطلقة , والوصول إلى مرحلة اليقينية المطلقة تفقد صاحبها القدرة على الخروج من دائرة الاستبداد ومحدداته , وأي عقيدة مغلقة ليس فقط ترفض وتدين ما يغايرها وإنما تفتقر هي ذاتها إلى أدراك نفسها وحدودها ومصلحتها , بمعنى السائد في التعامل – ما عدا بعض الومضات هنا وهناك – هو كل ما لا يمكن تأسيسه على العقل ؟ ناهيك عن عقدة الهوية التي باتت تعبر عن نفسها بأشكال عنفية مطلقة , نافية عن الهوية النقدية تاريخيتها وثقافتها وعناصرها الإنسانية والعقلانية .
أن الهوية عرفت على الدوام بمنطقها الرمزي والتاريخي , وراهنا الهوية الإنسانية لم تعد وليدة التصورات والضرورات الاجتماعية التي أوجدتها , بل أصبحت الآن عنوانا متغير تبعا لذات الفرد وافتراضية تواجده في المجتمع , فما نحتاجه راهنا هو هوية مركبة , وطنية , لها أبعادها ومضامينها المتعددة والمعبرة عن تاريخية وجود الجماعات الوطنية ومستقبل تعايشها وتآخيها الاختياري .
اعتقد بأنه إذا كان ثمة تعايش وأخوة حقيقية بين الكورد والعرب , فهي أمامنا وليست وراءنا , تعتمد أساسا على الحوار والوعي بالحرية , والتعامل مع بعضنا بعضا على أساس المشاركة الحقيقية في الوجود والمصير والحقوق والواجبات , وبالتالي فأن قضية العلاقة العربية الكوردية باتت بالنسبة لبلداننا المتعددة القوميات , قضية لا تقبل التأجيل أو التسويف , وإنما راهنية , وإخراجها للواقع المعاش كحالة مدنية , حضارية , يؤسس لفعل سياسي وطني يصون مستقبل شعوبنا وبلداننا .
القامشلي
16/9/2004
كاتب كوردي , ناشط في لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا
(ملاحظة : كتبت لإلقائها في الملتقى العربي الكوردي ولكني استعضت عنها بمداخلة شفهية اخرى )
#مشعل_التمو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟