|
في الشعر والسياسة
نور الدين بدران
الحوار المتمدن-العدد: 968 - 2004 / 9 / 26 - 08:48
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
-1- بنوع من الثبات الذهاني الذي لا تغيره الأحداث ، وكأننا جميعا خارج الزمن يتكرر أمر له جوهر واحد مهما كان الموضوع السياسي المطروح ، فمثلا كلما تحدثنا في أوضاع العراق التي يختلف حولها الإيديولوجيون والسياسيون والإقتصاديون كان بيننا من يراها تنبئ بمستقبل كارثي لبلاد الرافدين وللمنطقة كلها ، و من يراها الرافعة العملاقة لنقلنا جميعا من الحضيض الى عالم الحضارة البشرية المعاصر ، باعتبار العراق سيكون القاطرة الأولى التي تقود قطار التغيير في المنطقة . باعتباري من الفريق الثاني ، وأعلم أن تصورنا أقرب إلى الأمنية مع أنه لا يفتقر إلى أساس واقعي ، لا أنكر أن هذه الأمنية قابلة للإنمحاق أمام الرؤية الأولى التي تملك من الدعائم أكثر مما تملك أمنيتنا " الطوباوية " ، على الأقل في المدى المنظور . لكن من الفريقين آخرون يشتركون في الموقف الإنساني ويرون بأن ما يجري ومهما كانت نتائجه ، مؤلم وكارثي على المستوى الإنساني، بقدر ماهو ضروري . لهؤلاء وأنا واحد منهم بلا تحفظ ، يتوجّه السياسيون العقلانيون إلينا بتهمة أقرب إلى الشتيمة بأننا إنسانويون وحالمون و نخلط السياسة والتاريخ بالشعر والأحلام ، وليس في الأمر جديد ، ومن ناحيتي ليس لدي أية عقدة تجاه ذلك بل أدعي بتواضع أني من ذوي النزعة الإنسانية ، وأشعر بعمق وصدق أن كل ألم إنساني هو ألمي الخاص وكل انتصار وتقدم يحرزهما الإنسان هما من ضمن نجاحي الخاص ، ولاعلاقة للجغرافيا والتاريخ بذلك فالإنسان هو شعبي والكوكب هو وطني الصغير جدا والضيق حتى ، وليس في ذلك أية أوهام أو ادعاءات إيديولوجية أو ما شابه ... و لا يقتصر الأمر على الكوارث البشرية بأنواعها إنما يشمل الطبيعية وبأنواعها أيضا . وكجملة اعتراضية : ليس الانتماء كميّا بل هو نوعي وحقيقي وليس استهلاكيا ، وأن تنتمي أرضنا إلى المجموعة الشمسية لا يعني أنها لاتنتمي إلى مجرة درب التبانة والكون ، ومن لايفهم عبارة البيان الشيوعي : " ليس للبروليتاريا وطن " أو عبارة الحركة السيريالية : " نحن السيرياليين نكره وطننا " أو عبارة محمد الماغوط : " سأخون وطني " وغيرها الكثير في التراث الإنساني ، في هذا المنظور ، لا يعنيني التوجه إليه . مع ذلك أدّعي أني بريء إلى درجة كبيرة من الخلط بين السياسة والشعر رغم تداخلهما الموضوعي والذاتي ، وأدع لعلماء الكلام التعبير المناسب لحل هذا الإشكال الخاص ، بينما من ناحيتي أعالجه بطريقتي الخاصة ، ولهذا أحتاج للكتابة بأكثر من طريقة وبشكل منفصل عن الموضوع نفسه ، وهذا أمر كما أعتقد لا يتعلق بي وحدي ولا بزمننا الراهن فقط ، بل كان موجودا وسيبقى إلى أن تنتهي السياسة ، وهذا حلم مشروع ، لأن الشعر وأزعم ذلك سيبقى مادام الإنسان يملك جملة شعورية ولم يتحول بعد إلى تركيبة من السيليكون أو العناصر الأخرى التي يتخيلها أصحاب الخيال العلمي في أفلامهم ورواياتهم وآثارهم الفنية الأخرى . -2- "لايجوز للشاعر أن يتكلم في السياسة " أي في الحياة بكل تفاصيلها ، وطال صمتي أو خيانتي بالأصح عن مناقشة هذا الأمر الذي ناقشه كثيرون غيري ، شعراء وغير شعراء ، والآن لن أستمر في خيانة الشعر في هذا الموقع بالذات . الفنان عموما والشاعر خصوصا تتعدد شخصيته وبتعددها تكون رؤاه متناقضة بحكم تناقضات الواقع والموقع والشخصية نفسها ، هكذا كان بعض الخلفاء العرب شعراء كبارا كالوليد بن يزيد و ابن المعتز وغيرهما ، وإذا كان الشعر تغلّب على العرش لديهما ، ولاسيما الأول الذي سحله الرعاع في شوارع دمشق بسبب شعره وحياته الشعرية ، فإن المعتمد بن عبّاد ورغم شاعريته كان جزارا زرع أرض حديقة منزله برؤوس معارضيه . وكان سيف الدولة الحمداني شاعرا وراعيا للشعر والشعراء ، وكان حاكما شرسا جعل المتنبي على عظمته يطلع علينا بنظرية في علم النفس : والظلم من شيم النفوس ....الخ .
و القضية إنسانية وليست قومية ، فقد كان ماركس مغرما بالشعر حتى أنه في معظم مؤلفاته استشهد بشعراء من جميع العصور ، بل هو نفسه كتب الشعر في مرحلة من عمره ، وبقيت آثار موهبته الشعرية في أكثر آثاره النظرية واضحة ، وفي الوقت نفسه كانت نثرا يقوم بوظيفته المعرفية ، ولم يؤثر ذلك سلبا على الرأي السياسي والموقف النظري أو الفعلي لهذا المفكر الذي التهم بحب وشغف وجنون شعراء الإغريق والرومان القدماء ، أما غوتة وشكسبير ودانتي فكانوا في دمه كالحبر في محبرته ، أما هاينة فكان أحد ملهميه العظام وكان ماركس نفسه يتحدث عن اضمحلال أنواع عديدة من فروع الثقافة كالفلسفة مثلا ، مع تلاشي الدولة والسياسة وفق الحلم الشيوعي العظيم [ وهل هذا الحلم إلا قصيدة إنسانية اجتمعت لخدمتها كل عبقريات المخيلة الإنسانية حتى انبثاقها؟] ، لكنه كان يعتبر الشعر والفن عموما من حاجات الروح الأبدية . أما رفيقه انجلس فلشدة ولعه بأدب بالمسرحي النرويجي هنريك إبسن تعلم لغته الأصلية ليقرأ أعماله. أيضا كان ماو تسيتونغ شاعرا كبيرا ولو أن سياسته اهتدت أكثر بشاعريته ، ما كان للثورة الثقافية أن تتم بذلك الشكل الدموي فالشاعر ماو غير الحاكم البيروقراطي والأمين العام ، وأما العم هوشي منه فقد عرف كشاعر قبل أن يعرف كقائد ثوري ، وظل يكتب الشعر حتى بعد لمعانه كزعيم سياسي. وكان سنغور رئيسا للسنغال وكان شاعرا عظيما ، والأمثلة لاتعد ولاتحصى ، فنحن نتحدث في بداهة ذات وجهين : لايحق للشاعر [الأولى ] ويحق له [الثانية ] مع أن الجوهري ليس في أي من الوجهين . -3- إذن ليس المشكل في وجود الشعر في القراءة السياسية ، بل العكس هو الصحيح . لا يتحمل الشعر المسؤولية عن فساد الرؤية ، سياسية أو غير سياسية ، بل يتحملها صاحب الرؤية ولو كان شاعرا كبيرا ، لأنه انحدر من الشاعرية التي هي الحدس والاختراق والانخطاف والتوهج إلى العادية والمألوف والسطح ، وغالبا ما تكون دوافعه لذلك سياسية أي مصلحية وعابرة ، والأمثلة كثيرة ، فهل يتحمل الشعر مسؤولية سقطات كبرى لشاعر كأدونيس ، تمثيلا لا حصرا : تقدم أدونيس كشاعر جاهلي ونظم [إقرأ : نظم ] قصيدة عمودية في مديح الإمام الخميني العائد من الشانزليزيه ، ليقود الثورة الإيرانية إلى ما وصلت إليه اليوم ؟ وما هي مسؤولية الشعر عن شتائم الشاعر سعدي يوسف للتجربة العراقية اليوم وتناولها - ولو باستمناءات شعرية - بالاتهامات بالمخابراتية والعمالة وغير ذلك من لغة لاتليق بمتذوق للشعر ؟ إن الشعر نبراس داخلي يضيء ما لاتصل إليه أنوار الحواس الخمس ، فيوحدها جميعا ويقودها معا ويرفدها بحواس أخرى ماتزال مجهولة المنابع ، فيرى الشاعر ما وراء المرئي ، وفيما بعد يسهر الخلق ويختصمون بينما يكون الشاعر نائما ملء جفونه كما عبر المتنبي : أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرّاها ويختصم -4- أما أولئك الذين يتصلبون [وكل تصلب مضحك ] في أنفسهم كالآلات متذرعين بالعقل والمحاكمة الموضوعية وقوانين التاريخ وإلى ما هنالك من صيغ جاهزة سقيمة وعقيمة ، فلا ينظرون إلى مجازر ارتكبها زعماؤهم أو أبناء جلدتهم بحق أقوام أخرى ، إلا كنظرة "عقلية " و " باحثة " و " بعيدة عن العواطف " ......الخ وكمثال من ألف : فحتى حين أباد نظام صدام حسين المخلوع بنات وأبناء الشعب الكردي العزّل والأبرياء في حلبجة تقيّأت مطابعهم تبريرات تدّعي الموضوعية والحياد والتفسير والتحليل وصار الموضوع لدى بعضهم : هل استعمل صداّم الكيماوي فعلا أم لا ؟ أو هل كان الأمر بعلمه أم لا؟ ولم يكن الجوهري : الإنسان والحياة الإنسانية ، لاسيما الأطفال والنساء والعزّل والشوفينيية والحقد العرقي هي محور البحث ، والأمر نفسه اليوم قائم ومستمر في العراق وفلسطين وسواهما ، ويقبل حركة الذهاب والإياب ، فقتيلنا شهيد ولو كان مجرما ، وقتيلهم ملعون ولو كان بريئا، وحين تحتج على هذا المنطق الإجرامي ستسربل بالعمالة والشعوبية ، وإذا جاملوك فأنت شاعر بالمعنى المرذول : هائم غاو ...الخ . هؤلاء هم أكثر الناس بحاجة إلى أفياء الشعر ، لأن هجير الإيديولوجيا شوى قلوبهم ويظنون أن عقولهم سليمة ، ولو صح ظنهم ، فليس بالعقل وحده يحيا الإنسان .
#نور_الدين_بدران (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرماد
-
عد كما كنت
-
تلك جنتي يا ملكة
-
كما ترق الأعالي ويحن الذوبان
-
متى ندق باب العصر
-
صمت أبيض
-
الغريب
-
كرنفال يخضورك العالي
-
الصفحة البيضاء
-
جل ما أخشاه أن يكون العكس
-
محطمة قلبي
-
حفقات في جبلة
-
الوراء الوحيد
-
ماذا لو انتصرت؟
-
تنين الأنواء
-
الدكتور مقاومة والمستر.....!!
-
الهاوية
-
جاهلة في الضوء
-
الماضوية الحاكمة
-
ماركس في جبة الغزالي
المزيد.....
-
من مقاتل في -القاعدة- إلى قائد الفصائل المناهضة لنظام الأسد.
...
-
سوريا.. ما حقيقة التسجيل الصوتي لتنحي بشار الأسد عن الرئاسة؟
...
-
مقتل 5 إسرائيليين في حادث مروع في المغرب
-
زيلينسكي يشارك في إحياء ذكرى الجنود الأوكرانيين الذين سقطوا
...
-
قديروف يستقل مدرعة -برادلي- الأمريكية في غروزني (فيديو)
-
رئيس ائتلاف -النصر- حيدر العبادي: العراقيون لا يخافون المناز
...
-
أبرز تصريحات الرئيسين الجزائري والجنوب إفريقي
-
مصر.. عرض مسلسل يتحدث عن جريمة مروعة وأسرة الضحية تعلق
-
الأمن الروسي يفكك عصابة كولومبية حاولت تهريب 570 كغ من الكوك
...
-
مراسلتنا: غارة من مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة تتجه من بلدة
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|