|
مصر .. على حافة المجهول
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 3229 - 2010 / 12 / 28 - 14:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بدلاً من أن تؤدى الانتخابات البرلمانية الأخيرة إلى تحريك المياه الراكدة والتقدم خطوة إلى الأمام، فإنها أسفرت بنتائجها وملابساتها عن تكريس الأمر الواقع، إن لم يكن التقهقر إلى الوراء، وبالتالى زيادة الشعور العام بالاحباط واليأس من إمكانية تحقيق الاصلاح الدستورى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى فى ظل الأوضاع الراهنة، وبخاصة فى ظل ما أسميناه من قبل "توازن الضعف" بين حكومة عاجزة عن القيام بواجبات الحكم ومعارضة عاجزة عن الاطاحة بهذا الحكم العقيم. وبعيداً عن الخطابات الغوغائية أو التبريرية أو العدمية كان طبيعياً أن تواجه الجماعة الوطنية نفسها بالسؤال الوجودى: مصر إلى أين؟! والطبيعى أن تتعدد الاجتهادات فى الأجابة على هذا السؤال المحورى، ومن بين هذه الاجتهادات تجئ الاجابة المتميزة للكاتب الكبير والمحلل السياسى المحترم مصطفى الحسينى فى كتابه الصادر حديثاً عن دار نشر "ميريت" بعنوان "مصر على حافة المجهول". ويتناول هذا الكتاب المهم وضع مصر على مستويات أربعة: أولها الوضع الداخلى للبلاد الذى يصفه المؤلف بأن "وصل إلى حد من التدهور شارف الانهيار، ليس مجرد انهيار الدولة بما يترتب عليه من غياب القانون والنظام وانتشار الفوضى إلى حد يهدد وجود البلد نفسه، ليحل محله يباب بلا معالم ولا يسكنه شعب، إنما تتوزعه جماعات متفرقة من الناس، تهيم فى أرجائه القاحلة، تفتقر إلى مفهوم الجماعة الوطنية ولا تجمع بينهم هوية متفق عليها ولا يربطهم حس وطنى مشترك. ولا يشغل أفرادها سوى مجرد البقاء على قيد الحياة". المستوى الثانى فى معالجة هذا الكتاب لوضع مصر هو القضية المنسية، أى المسألة الوطنية التى طالما عرفت بأنها قضية الاستقلال. وفى مقابل استنامة المصريين إلى فكرة إكتمال استقلال بلدهم منذ إندحار العدوان الثلاثى على مصر فى عام 1956 يطالب مصطفى الحسينى بالالتفات إلى ما طرأ على فكرة الاستقلال الوطنى من تغير منذ ذلك الزمان. المستوى الثالث فى هذه المعالجة للوضع المصرى هو محاولة لتحليل ما هو دائر فى البلد حول "التغيير". والمستوى الرابع هو آفاق التغيير ومعوقاته. *** وفى معالجته لهذه المستويات الأربعة يستخلص الحسينى أن مصر – بعد وفاة جمال عبد الناصر – وقعت فى براثن ما يسميه "استراتيجية اليباب". واليباب هو الأرض القفر التى لا تنبت، هو الأرض الخراب، هو الأرض العقيم. واستراتيجية اليباب فى رأيه ليست افتراضاً نظرياً، بل ولا نذيرا بمستقبل مشئوم، إنما استراتيجية جربت منذ عقود وأهم أدوات تحقيق اليباب المطلق هى: • تغيير المواضعات الاجتماعية السائدة التى تساعد على تقوية النسيج الاجتماعى. • استخدام التقدم فى وسائل الاتصال لنشر ثقافة استهلاكية تجعل شهية الاستهلاك تفوق طاقة الاقتصاد على الانتاج. • تدمير نظام التعليم الرسمى ثم غير الرسمى. • إدخال مفهوم جديد للعائد على الاستثمار يستبدل المنفعة الاقتصادية لكل من المستثمر وللاقتصاد بمفهوم الربح النقدى المباشر للمستثمر ، فانقطعت الصلة بين الاستثمار والاقتصاد بل أصبح الاستثمار أحيانا ضد الاقتصاد. • إخراج اللغة القومية من التداول. وقد نجحت هذه الأدوات فى أن يكون "اليباب" هو العنوان الرئيسى للسياسة والاقتصاد. لكن المعضلة هى أن حركة الاعتراض على هذا "اليباب"، وعلى الدولة القائمة فى مصر، ظلت"تتحرك كمن يخوض فى الوحل، ببطء وارتباك". *** وفى هذا السياق لا تبدو صورة الحياة السياسية فى مصر مؤهلة لتداول السلطة إلا بالمعنى الذى أدركه المواطن العادى– معنى تداول مكنة النهب بين عصابات فلم يشارك فى هذه الحياة السياسية الموبوءة. بينما يركز ممن يعتبرون أنفسهم دعاة التغيير على تعديل عدد من مواد الدستور القائم تدور كلها حول انتخاب رئيس الجمهورية وعدد مرات توالى ولايته، غافلين عن كون هذا الاقتصاد كاشف عن أنهم لا يريدون ما يتجاوز وصولهم إلى السلطة وينطوى على تسليم بما هو قائم ويدعون معارضته وهو قيام النظام السياسى على سلطة الرئيس. أى أن التفكير يتجه إلى قصر التغيير فى قمة نظام الحكم لا إلى تغيير نظام الحكم نفسه. وفى رأى المؤلف أن أخطر ما أصاب الحياة المصرية أن السياسة غائبة عن المجتمع المصرى منذ زمان طويل. و مع غياب السياسة غابت عن المجتمع المصرى آليات إنتاج النخب واختبارها. وبالتالى أصبحت النخب "تعين" نفسها دون الانتخاب الطبيعى من خلال تفاعلات المجتمع وانجازات أفراده، فانصرفت صفة النخب إلى أفراد أو مجموعات منهم يركبون على ظهر المجتمع حتى لو كانوا بمؤهلاتهم وسلوكهم أقرب إلى الحثالة. *** هذه النخب "المضروبة" مرتبكة ومشوشة، ويتبدى تشوشها من ظواهر متعددة من بينها مثلا ظاهرة اللجوء إلى القضاء لمعالجة مسائل هى بطبيعتها سياسية ونماذج على ذلك عديدة. فمن أين يأتى التغيير؟ وكيف تبنى المجتمع قدرته على إحداث التغيير؟ إجابة مصطفى الحسينى أن ذلك بالتأكيد ليس بالوقفات الاحتجاجية ولا حتى الاعتصامات والمظاهرات، فقد تكاثرت هذه وتلك على مدى السنوات القليلة الماضية دون أن تحفر مجرى يصب فى قوة قادرة على إحداث التغيير. وبالتأكيد أيضاً ليس بحشد التوقيعات على مواقع التواصل الاجتماعى على شبكة الانترنت حتى لو وصلت إلى مئات الالوف بل الملايين. يحقق المجتمع قدرته على إحداث التغيير عندما يستعيد زمام أموره من يد السلطة التى لا تقف عند حد تجاهله إنما تتعمد فعل كل ما يضر به. وعندما يتلمس المجتمع الطريق إلى استعادة زمام أمره، سيجد فيما هو متداول من أفكار التغيير والطريق إليه الكثير مما يحتاج إلى التوضيح. وفى رأى المؤلف أن الأفكار المتداولة فيما بين الداعين إلى حل سياسى والداعين إلى حل دستورى والتى تدور حول تداول السلطة وضمان نزاهة الانتخابات، لا تفتح أى طريق إلى تغيير يستحق هذا الوصف. وينطبق ذلك على من يضعون نصب أعينهم الانتخابات الرئاسية المستحقة فى 2011 حيث أن وضع الرهانات على هذه الانتخابات وحدها لن يسفر فى أحسن الأحوال عن شئ سوى جراحة تجميل دستورية تقتصر على تسهيل تداول السلطة ونزاهة الانتخابات، بغض النظر عن أهلية البيان السياسى للبلد عموما – والمعارضة على وجه الخصوص – لذلك التداول. وهو نهج قد يؤدى إلى قدر هزيل من تحسين شروط تداول السلطة دون تغيير يذكر يمكن أن يؤدى إلى تصفية منظومة الفساد المستشرية فى الدولة والمجتمع أو إلى تحسين ظروف معيشة أغلبية السكان، ناهيك عن أن ذلك يكرس نموذجا للمعارضة، متعجل ويائس من شأنه أن يفضى إلى أن يدب الاحباط واليأس فى نفوس الناس. فهل هناك بديل لذلك؟ نعم .. بذل الجهد لبناء القنوات التى تؤدى إلى تمكين الناس من المشاركة الفعالة فى الجهد من أجل التغيير. *** تبدو كلمة "التمكين" كما لو كانت كلمة السر فى اجتهاد مصطفى الحسينى للخروج من هذه الأزمة المزمنة. لكن كيف يكون تمكين المواطن المصرى ممكناً؟ وألا يفتح ذلك السؤال بدوره الباب أمام عشرات التساؤلات ذات الصلة من أجل فتح نوافذ مغلقة حالياً بالضبة والمفتاح، لمواصلة استطلاع دروب ممكنة للتغيير.. وبدون ذلك لن يبقى أمامنا على الأرجح سوى الانتظار على حافة المجهول.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حائط برلين لا يزال قائماً!
-
الورطة!
-
أربعاء الغضب -الأعمى-
-
تقرير نبيل عبدالفتاح.. أفضل رد علي تقرير هيلاري كلينتون
-
دليل الصحفي النزيه .. للوصول إلي قلب القارئ الذكي
-
فوضى خصخصة الأثير.. فاصل ونواصل
-
عماد سيد أحمد .. وحديث المحرمات
-
«الشيوعى» فى حضن «الإسلامى»
-
مصر .. فوق المسجد والكنيسة (2)
-
مصر... فوق المسجد والكنيسة
-
اختطاف مصر!
-
محمود محيي الدين.. الدولي!
-
سعد هجرس مدير تحرير«العالم اليوم»: لست من أنصار جمال مبارك..
...
-
موائد الرحمن الرمضانية.. وداعاً .. يحدث في مصر فقط: الفقراء
...
-
لا تتظاهروا بالمفاجأة إذا اختفي الهرم الأكبر.. غداً
-
هل مصر «دولة فاشلة»؟!´-1
-
هل مصر دولة فاشلة؟! (2 -2) .. نكتة أمريكية: جيبوتي أقل فشلاً
...
-
البلطجة تخرج لسانها للقانون!
-
حكومة »الإظلام التام«.. والموت الزؤام!
-
رداً على إحراق القرآن فى فلوريدا .. هل نحرق قلوب أقباط مصر؟!
المزيد.....
-
مصادر تكشف لـCNN عن معلومات استخباراتية جديدة بشأن أهداف بوت
...
-
المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية -فوجئت- بخبر تعيين روبيو مس
...
-
تحقيق في البنتاغون بشأن مشاركة وزير الدفاع أسرار ضرب الحوثي
...
-
إسرائيل تعلن شن غارة قرب القصر الرئاسي في دمشق.. ونتنياهو يع
...
-
ما حاجة الكوريين إلى المشاركة في عملية روسيا العسكرية الخاصة
...
-
لماذا يرفض زيلينسكي وقف إطلاق النار في عيد النصر؟
-
الجيش الإسرائيلي يغير قرب القصر الرئاسي في دمشق ونتنياهو يوج
...
-
طبيبة: الجلد -الرخامي- قد يكون أحد أعراض ورم الغدة الكظرية
-
اكتشاف -إلهة الفجر- مخفية على أعتاب درب التبانة!
-
هل أوكرانيا جاهزة لإجراء الانتخابات؟
المزيد.....
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
المزيد.....
|