أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - حوار مع الدكتور ميثم الجنابي حول مقاله عن الهوية الوطنية والقومية!الحلقة الأولى حول مفهوم الهوية - الحلقة الأولى















المزيد.....


حوار مع الدكتور ميثم الجنابي حول مقاله عن الهوية الوطنية والقومية!الحلقة الأولى حول مفهوم الهوية - الحلقة الأولى


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 965 - 2004 / 9 / 23 - 10:31
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


حول مفهوم الهوية
نشر الزميل الدكتور ميثم الجنابي مقالاً حديثاً في العدد 15 /2004 من مجلة "الديمقراطية" التي تصدرها مؤسسة الأهرام في القاهرة يبحث فيه موضوع "العراق بين الانتماء القومي والوطني". قرأت قبل هذا كثيراً للزميل الفاضل وكنت معجباً بكتاباته وموضوعيته بشكل عام في تناول الموضوعات الفلسفية والإسلامية بغض النظر عن اتفاقي أو اختلافي معه, أي لا بسبب احتمال الالتقاء الفكري معه في ما يكتب, فهي قضية أخرى, بل بسبب الموضوعية والواقعية التي التزم بها في البحث الفلسفي المعمق والهادئ. وأغلب ما قرأت له كان قد نشر في مجلات عراقية مثل الثقافة الجديدة والنهج أو صدرت له بعض الكتب والكراسات مثل كتاب "علم الملل والنحل" وكراس "على بن أبي طالب". ولكني فوجئت بما قرأته في مقاله المنشور في المجلة المصرية عن الهوية القومية والوطنية في العراق. والمفاجأة تكمن في ثلاث اتجاهات:
1. الابتعاد عن استشفاف التاريخ العراقي والتجربة العراقية المريرة ودروسهما الغنية, منذ قيام الدول العراقية الحديثة في عام 1921 على أقل تقدير.
2. الالتزام بخط قومي عربي غير ديمقراطي يجافي حقائق الحياة والأحداث والواقعية السياسية والرؤية المعرفية لواقع العراق وظروفه الملموسة.
3. الابتعاد عن التحليل العلمي والموضوعي أو المنهج الجدلي في التعامل مع المادة التي يبحث فيها, رغم اختصاصه الفلسفي, وبالتالي فقد وضع نصب عينيه الوصول إلى استنتاجات مقررة سلفاً. وبهذا اقترب من الأسلوب السوفييتي المسبق الصنع في الكتابة السياسية والفكرية وفي استخدام المادية الديالكتيكية والمادية الجدلية بصورة مقلوبة في التحليل. لقد وضع العربة قبل الحصان وتخلى عن الموضوعية التي تميزت بها كتاباته السابقة, بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف بشأنها.
عندما انتهيت من قراءة المقال شعرت بما يلي: إما أن يكون الرجل يعاني من:
• فقدان الذاكرة التاريخية الخاصة والجمعية لدى الزميل والعجز عن استيعاب التجربة الغنية والكوارث التي عاشها الشعب العراقي طيلة ثمانية عقود بسبب سيادة الفكر القومي العربي الرجعي والشوفيني والعنصري الذي هيمن على السياسة العراقية إزاء المسألة الكردية والموقف من القوميات الأخرى.
• أو تحول إلى مواقع فكرية جديدة بعد التحولات التي حصلت في العراق وأصبح موضوع معالجة المسالة الكردية بطريقة عقلانية واعية وترك المواقع الديمقراطية في النظر إلى القضايا القومية التي يواجهها العراق في المرحلة الراهنة.
• أو أنه يبذل جهداً استثنائياً من أجل دغدغة المشاعر القومية الرخيصة للقوى القومية اليمينية الفاعلة حالياً في الساحة السياسية العربية, ومنها الساحة المصرية, لأنه يكتب في مجلة مصرية وليست مجلة عراقية تصل إلى القارئ العراقي بسهولة ويسر. ولو كان قد كتبها للمجتمع العراقي لتجنب الكتابة بهذه الطريقة الفجة, إذ أن العراقيين أدرى بواقع بلدهم ومشكلاته وسبل الديمقراطية في معالجتها.
يبدأ المقال بمناقشة موضوع الهوية وعلاقتها بالوطن والقومية والدين في العراق ويخلص إلى القول بأن القوى في العراق ستجبر على "إدراك الحقيقة البسيطة القائلة بأن العراق يكفي الجميع وهو قادر على احتواء ما هو أكثر في ظل رؤية عقلانية وتوجه واقعي صوب الحرية والنظام في مواجهة المشاكل الفعلية والإشكاليات الكبرى لمعاصرة المستقبل فيه. إضافة إلى مكونه الرافدي والعربي والإسلامي بوصفه العمود الفقري للهوية العراقية" (راجع: الديمقراطية, العدد 15/السنة الرابعة/2004. القاهرة. ص 51). يبدو من المقال وكأن المشكلة هي مشكلة المكان ومن يمتلك موقعاً تحت الشمس وليست قضية حقوق قومية تقرها القوانين والشرعة الدولية ولائحة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة من جهة, ويتطرق إلى نصف الحقيقة وينسى نصفها الثاني من جهة أخرى حين أشار إلى أن العراق مكونه رافدي وعربي وإسلامي فقط, وغاب عن باله بأن العراق رافدي وكردي وإسلامي أيضاً, وكذلك مسيحي وآشوري وكلداني. لم يتهم الكرد بالعنصرية حين يتحدثون عن قوميتهم وثقافتهم وهويتهم, ولكنه لماذا لا يجد, عندما يتحدث عن القومية العربية والهوية العربية, في أطروحاته القومية الجديدة أي أثر للعنصرية؟
في هذه السلسلة من المقالات سأحاول خوض حوار مع أفكار الدكتور الجنابي من خلال البحث في عدد من القضايا:
1. مفهوم الهوية والموقف منها بشكل عام.
2. الموقف من الحقوق القومية في العراق وسبل معالجتها.
3. الموقف من الأفكار التي لخص بها الدكتور الجنابي رؤيته لمشكلة الهوية القومية والوطنية في العراق.

أولاً: مفهوم الهوية والموقف منه بشكل عام

السؤال الذي أطرحه وأسعى للإجابة عنه هو: ما هي الهوية وما هي وظيفتها ودورها في جميع المجتمعات؟ هل هناك أكثر من هوية واحدة للفرد أو الجماعة في مجتمع أو في بلد ما؟ هل الهوية مجرد وهم يتشكل عند هذا الفرد أو ذاك أو لدى هذه الجماعة أو تلك, أم أنها حقيقة قائمة ذات أوجه عديدة وأغراض كثيرة؟
أصبحت الهوية ذات أهمية ملموسة وعملية في العلاقات القائمة في ما بين الشعوب والدول, رغم ما يكتنف الموقف منها من إشكاليات. فإلى جانب كونها أداة للتعريف بالبشر, فإنها أداة للتمييز في ما بين البشر أيضا. وهي لا ترتبط بالهوية الشخصية التي يحملها الفرد, باعتبارها نموذجا تفصيليا في ذكر أهم المواصفات التي يراد بها التمييز بين البشر, ومنها على نحو خاص, الإثنية والقومية و "العرق" والدين ولون البشرة والشعر والعينين والعلامات الفارقة فحسب, بل إنها محاولة يراد منها تأكيد انتماء هذا الشخص أو ذاك إلى جماعة بشرية بعينها من جهة, واختلافه عن جماعات بشرية أخرى من جهة ثانية. والانتماء المشترك إلى جماعة معينة يعني المساهمة في تنمية عواطف ومشاعر مشتركة على أساس اللغة والتراث والعادات والتقاليد والدين والثقافة والتاريخ المشترك, إضافة إلى "العِرق" أو الإثنية والقومية المشتركة والأرض المشتركة, وبالتالي يساهم في تأمين التكافل والتضامن لا في داخل هذه المجموعة فحسب, بل وفي اتخاذ المواقف المشتركة إزاء الجماعات الأخرى أو إزاء الآخر. وهنا يزداد الشعور لا بالانتماء فحسب, بل وبالحدود القائمة بينه وبين الآخر, وعلى نحو خاص في مجالات القومية والدين واللغة ولون البشرة. وفي هذا يشتد فعل "الأنا" إزاء "الآخر". والآخر في حالة ثانية يصبح هو "الأنا", في حين تأخذ "الأنا" مكان "الآخر". أي عندما أبدأ بالتساؤل "من أنا" أو "من أكون", عندها يطرح السؤال التالي نفسه مباشرة "من "أنت" أو "من تكون", أو "من هو" و "من يكون". وهنا تبدأ المقارنة المتحيزة بين أنا والآخر. وعند البدء بتحديد مثل هذه الهوية للذات, يبدأ معه أيضا تحديد هوية الآخر وإبراز أوجه التباين عنه وأحياناً الاقتراب منه أيضا, أي عندما يبدأ الحديث والتفاخر والتغني بخصائص الذات والجماعة والحديث ب "أنا" و "نحن", يبدأ الحديث عن خصائص "الآخر" أو "هو" و "هم", أي أولئك الأقل شأنا. وفي هذه الحالة لا يتخذ هذا الاتجاه صيغة العفوية, بل يستند إلى خلفية فكرية وسياسية وذات مضمون اجتماعي واضح وتركم مجتمعي جمعي. وفي فترات مختلفة من ماضي البشرية لعبت هذه الهوية أو تلك, وفق الظروف والشروط التي كانت تمر بها الجماعات المختلفة, دورا كبيرا في خلق الكثير من النزاعات والصراعات والحروب التي راح ضحيتها الملايين من البشر, إنها من الهويات التي تعمق التمايز بين الشعوب وتنشر الحقد والكراهية, وهي في هذه الحالة تعتبر من الهويات القاتلة, كما عبّر عنها الكاتب والروائي المبدع أمين معلوف في كتابه الموسوم "الهويات القاتلة". فقد كتب عن هذا الموضوع المعقد والشائك بكل بساطة وعمق ما يلي: "…, ما أن نعتبر الهوية مجموعة من الانتماءات المتعدَّدة, بعضها مرتبط أو غير مرتبط بتاريخ اثني, وبعضها الآخر متعلِّق بموروث ديني, ما أن نرى في كياننا وجذورنا ومساراتنا روافد وإسهامات وتلاقح وتأثيرات مختلفة ودقيقة ومتناقضة, حتى تنشأ علاقة مغايرة مع الآخرين, وكذلك مع "العشيرة" التي ننتمي إليها, ولا يعود الأمر يقتصر على "نحن" و "هم", أي على جيشين متأهبين يستعدان للمواجهة القادمة والانتقام العتيد, فأكتشف أن هنالك أشخاصا من "طرفنا" لا أملك معهم في نهاية المطاف الكثير من القواسم المشتركة, وأن هناك أشخاصا من "طرفهم" قد أشعر بنفسي قريبا منهم للغاية". (راجع: معلوف, أمين. الهوية القاتلة. ط 1.دار الجندي للطباعة والنشر والتوزيع. دمشق. 1999. ص 48). وإذا كانت مجموعة من رجال الكنيسة المسيحيين في فترات معينة لعبوا دورا رئيسيا في هذا التمييز وفي إلحاق الضرر بالناس المختلفين عنهم, فأن كثرة من الخلفاء المسلمين وجماعات من رجال الدين المسلمين وغيرهم مارسوا ذلك في المشرق العربي في فترات أخرى أيضاً. وتجدر الإشارة إلى إن الهوية الضيقة والقاتلة لا تكون بالضرورة موجهة ضد شعوب وديانات أخرى, بل يمكن أن تتوجه ضد الشعب ذاته وضد أصحاب الدين الواحد. فالهوية التي يريد المسلمون المتطرفون التميز بها باعتبارهم "جماعة تحمل التراث وتعمل على التغيير وتريد العودة إلى الأصول النقية", كما يجرى منذ سنوات في الجزائر, فأنهم يتوجهون بتكفير كل الذين يختلفون معهم أو حتى ضد الذين لا يؤيدونهم, وبالتالي يدعون إلى ويعملون على التخلص منهم أو تخليص المجتمع من شرورهم من خلال القتل! إن الهوية التي تؤكد على مضمون "عِرقي" أو إثني أو قومي أو ديني أو طائفي أو على اللغة ولون البشرة وشعر الرأس, تنطلق من وجود فوارق جوهرية وجذرية بين البشر وتتجلى في هذه الخصائص الظاهرة على محيا الإنسان والتي تميزه عن الآخر وتمنحه في الوقت نفسه مضمونا آخر لفحوى الإنسان أو بنيته الداخلية, بما فيها عقله وقلبه وعواطفه ونفسيته. وفي هذا التصور يكمن الخلل الأساسي. ومثل هذه الهوية تكون مغلقة على الذات وتسعى إلى خلق ما يطلق عليه بجماعية الهوية الخاصة التي تتميز بها هذه الجماعة البشرية أو تلك. ومثل هذا الشعور بالهوية المشتركة لا يقود إلى الانغلاق على الذات وخلق الحدود مع الآخرين فحسب, بل يدفع إلى تأليه الذات والتعالي على الآخرين أو حتى احتقارهم واعتبارهم أقلا شأناً. ومثل هذه الهوية الجمعية هي التي كانت تنتهي إلى الالتزام بالعنصرية البغيضة والتي عانت منها شعوب العالم الكثير من المرارات وقدمت الكثير من الضحايا, وعودة إلى تاريخ العلاقات بين أوروبا الرأسمالية وأفريقيا على امتداد عدة قرون وتحويل الناس فيها إلى عبيد لهم وقتلهم بالجملة, أو العلاقة بين الأوربيين البيض النازحين إلى الولايات المتحدة والأفارقة أو الهنود الحمر على امتداد أكثر من قرنين من السنين تؤكد هذه الحقيقة وهذا النهج العنصري والتمييز غير الإنساني بين البشر. وهذه الذهنية هي التي ما تزال يمكن أن تهدد البشرية بالكثير من النزاعات والكوارث. ويمكن هنا الإشارة أيضاً إلى تجارب الماضي البعيد, مثل الحروب الصليبية, أو من الماضي القريب, النازية والحرب العالمية الثانية ومن ماضي بلادنا الحروب التي شنت ضد الشعب الكردي أو ضد القوميات الأخرى, أو التهجير القسري للكرد الفيلية أو لسكان عرب الجنوب والوسط على اساس أنهم من الشيعة ومن تبعية إيرانية.
إن الجماعات البشرية التي تتحدث عن الهوية الثقافة المشتركة ولا تشير إلى الجانب "العرقي", فأنها تلّمح بطرف خفي ولكنه واضح أيضا إلى الجانب القومي أو الإثني, بل وحتى العرقي, عندما تحاول التمييز بين الثقافات ووضع حدود فاصلة بينها, والتبشير بثقافتها المتميزة على بقية الثقافات ومحاولة فرضها على الآخرين. وهي في هذا تحاول رفض ثقافة الآخرين أو اتخاذ موقف العداء إزاء بقية الثقافات أو رفض الاعتراف أو عدم احترام بقية الثقافات أو التعالي عليها أو التقليل من شأنها. ومن هنا تنشأ المصاعب في طريق العمل المشترك أو الاندماج بين الثقافات والشعوب, خاصة وأن عدم الاعتراف أو عدم احترام ثقافات الشعوب الأخرى يقود بدوره إلى التعنت والتعصب واتخاذ موقف مماثل إزاء الآخرين. وعندها ينشأ التوتر بين الجماعات القومية أو الثقافية المختلفة.
عاش ودرس ودرّس الدكتور الجنابي في الاتحاد السوفييتي ومن ثم في روسيا الاتحادية سنوات طويلة. ولا شك في أنه قد اطلع على العلاقة بين المواطنين الروس والمواطنين من القوميات والجمهوريات الأخرى على مستوى الحزب والدولة والمجتمع. وعاش أيضاً بأن الهوية السوفييتية لم يمكن في مقدورها أن تصمد كهوية وطنية لكل مواطنات ومواطني الاتحاد السوفييتي لأسباب ترتبط بالضبط في محاولة فرض الهوية الروسية باعتبارها الهوية السوفييتية على المجتمع السوفييتي كله. وقد وجد هذا تعبيره في سياسات وسلوكيات كثيرة, رغم وجود جوانب كانت مهمة في التجربة السوفييتية الفائتة. لقد كانت النظرية المطروحة شيئاً جيداً والواقع المعاش شيئاً آخر غير مقبول وساهم في دفع الدولة السوفييتية إلى نهايتها المعروفة. عندما طلب الفنلنديون ممارسة حقهم في تقرير المصير وافق لينين على ذلك انطلاقاً من الموقف المبدئي للدولة الجديدة واستنادها إلى الموقف الماركسي من حق تقرير المصير. وانفصل الفنلنديون وأقاموا دولتهم الوطنية المستقلة, وكان الموقف سليماً ومطابقاً للنظرية بعكس ما جرى فيما بعد إزاء شعوب وقوميات أخرى.
إن وجود أكثر من قومية واحدة في بلد ما يعتبر من الناحية النظرية والعملية عملية إغناء حقيقية للمجتمع. ولكي تصبح كذلك لا بد من ممارسة جملة من القواعد المهمة في العلاقة في ما بينها. ومنها:
• الاعتراف والاحترام المتبادل للثقافتين أو حتى لأكثر من ثقافتين موجودتين في المجتمع, إذ لا يمكن أن يتم التعامل الإنساني المتكافئ بين مجموعتين من البشر إحداهما تحترم ثقافة الثاني والثانية تتنكر لثقافة المجموعة الأول ولا تحترمها, إذ أن بروز الاختلاف والتناقض والصراع ثم النزاع يكون مبرمجا مسبقا. ومن هنا تأتي مخاطر الأحكام المسبقة التي يحملها البعض إزاء البعض الآخر والتي كانت وما تزال تقود إلى مشكلات كبيرة في عالمنا المعاصر. لا يجوز بأي حال الدعوة إلى ثقافة قومية معينة والطلب باعتبارها ثقافة مشتركة وأولى, ونسيان وإهمال الثقافات الأخرى الفاعلة في بلد ما. إنها ثقافات متعددة ذات مستوى واحد والتعامل معها يفترض أن ينهض على أساس التكافؤ.
• الحق المشروع لأتباع كل ثقافة بممارسة مكونات ثقافتها دون أن تؤثر بالسلب على ممارسة أصحاب الثقافات الأخرى أو النيل من حقوقها. فالحق للجماعات المختلفة بممارسة ثقافاتها المتعددة وممارستها فعلا لا تشريعا فحسب, يقنع الأطراف الأخرى بحق الآخرين بممارسة ثقافاتها أيضاً وتوفير مستلزمات تحقيق ذلك فعليا.
• إيجاد الفرص المناسبة للتبادل والتفاعل والتلاقح الثقافي المتبادل بدون محاولة فرض إحداها على الأخرى. وفي هذا الاتجاه يمكن اعتبار ثقافتين أو أكثر في بلد ما مصدر إغناء متبادل, مصدر أخذ وعطاء وتفاعل وتلاقح مستمر. لا يمكن انتظار حصول تبادل وتفاعل ثقافي أو وضع الحدود في ما بينها بصورة عفوية, إذ في الحالتين توجد قوى معينة تريد حصول هذا أو ذاك. ومن هنا تأتي أهمية ودور تلك القوى التي تريد التبادل والتفاعل والتلاقح في تنشيط هذه العملية وفي التصدي الديمقراطي الفعال للوجهة الأخرى التي تخلق الإشكاليات للمجتمع وللجماعات أو القوميات العديدة التي تعيش في دولة واحدة.
إن سيادة مثل هذه الأجواء, إضافة إلى ما أشير إليه سابقا, تخلق الأرضية الصالحة للاندماج الاجتماعي والأخذ من الثقافة الأخرى وعدم اعتبار الثقافة المقابلة أو الهوية الأخرى اختراقاً للثقافة التي تؤمن بها هذه الجماعة أو تلك, وتسهم بشكل فعال في توفير مستلزمات التفاعل والاندماج الإيجابي وبعيدا عن الصهر الثقافي, بما فيه الديني, أو القومي. كتب السيد أمين المعلوف في هذا الصدد يقول بصدق متميز: "يفترض التقارب الحقيقي من الآخر أن يمدَّ المرء ذراعيه ويرفع رأسه, ولا يمكن أن يمدَّ ذراعيه إلا إذا كان رأسه مرفوعاُ. فإذا ما شعر المرء في كل خطوة يخطوها أنه يخون أهله ويتنكَّر لذاته, يكون التقارب من الآخر خاطئا. وإذا كان الشخص الذي أتعلَّم لغته لا يحترم لغتي, فالتحدث بلغته لا يكون دليلا على الانفتاح بل ولاءً وخضوعاً" (معلوف, أمين. الهويات القاتلة. مصدر سابق ص 65/66). وبكلمة مختصرة لا يجوز أن تكون الهوية الثقافية للإنسان سببا في إعاقة الاندماج المتبادل, بل يفترض أن تكون دليلا على تفتح الإنسان وحيويته وقدرته على التفاعل والأخذ والعطاء وعلى احترام التنوع باعتباره إغناء للمجتمع لا إلحاق الضرر به.
إن التجارب التي مرت بها الشعوب المختلفة تشير إلى أن الإنسان لا يحتاج باستمرار إلى تأكيد هويته القومية أو الثقافية ما دام يتمتع بوضع سياسي واقتصادي واجتماعي مستقر ولا يواجه تحديات تقلقه أو تثير لديه مخاوف معينة. ولكنه يبدأ بالبحث عن هويته وعن من يشاركه فيها ويسعى إلى إبرازها بأشد الأشكال ضجيجا عندما يشعر بخطر يتهدده من طرف آخر أو منافسة تقض مضاجعه, وربما لا يوجد سببا فعليا لمثل هذه المخاوف سوى أوهامه أو ذاكرته المجتمعية التاريخية أو من يرسم له ويؤجج فيه مثل هذه الهواجس.
والهوية التي يحملها الإنسان معه في مجتمع تسوده الحرية والديمقراطية والمساواة والتمتع بالحقوق الثقافية لا تشكل خطراً أو تهديداً لأي هوية أخرى, بل يمكن أن تتفاعل معها وتشكل مجتمعة هوية مشتركة, هي ما يمكن أن يطلق عليه بالهوية الوطنية لدولة ما. إلا أن هذه الهوية الوطنية لا يمكن فرضها على أحد ولا على جماعة معينة ما لم تقرر هذه الجماعة القومية أو تلك باختيارها الطوعي بتبني تلك الهوية, ولن يتم ذلك عبر القهر والاضطهاد والصهر القومي. والهوية التي تعيش في أجواء الديمقراطية تتخلص تدريجاً من كل مظاهر العنصرية المحتملة أو الشوفينية أو ضيق الأفق القومي, والعكس صحيح أيضاً عندما تواجه بعنصرية مضادة من قومية أكير ومهيمنة على المجتمع والدولة وتحاول تهميش دور القوميات الأخرى, كما حصل في العراق طيلة العقود المنصرمة منذ إلحاق ولاية الموصل بالعراق الملكي في عام 1926.
فلو سألني أي إنسان كان عن هويتي, فسأقول له: أني إنسان ولد في العراق وفي عائلة عربية وله تاريخ وحضارة رافدينية وخليجية وعربية وإسلامية وآسيوية في آن واحد, ولكني أحمل معي مشاعر الوعي بوجود إنسان آخر بجواري يحمل ذات السمات ولكنه لم يولد في عائلة عربية بل كردية, وثالث ولد في عائلة تركمانية ورابع في عائلة كلدانية مسيحية أو آشورية مسيحية أيضاً .. وهلمجرا. فهؤلاء الناس جميعاً يحملون هويات مشتركة وأخرى مميزة لهم دينياً أو ثقافيا. ولكن ليس من حقي في كل الأحوال أن أقول بأن هوية العراقيين, كل العراقيين, عربية, فهو خطأ فادح وتجاوز غير مشروع في آن واحد, وعلينا تجنبه. فالشعب الكردي له هوية عراقية, ولكنه ليس عربياً بك كردياً ويرتبط بقومية وأمة كردية, وفي الوقت نفسه يرتبط بالعراق بأواصر تشكل جزء مهماً وأساسياً من هويته الوطنية. وهذا الجزء المشترك من هويته الوطنية العراقية يفترض فيها أن لا تسلبه هويته القومية والثقافية التي تشكل جزء عضوياً منه. إن منح العرب الحق في تسمية هويتهم بالعربية, ومنع الكرد من ذلك هي التي تسمح بتصاعد الأجواء المعارضة وتتسبب في إشكاليات غير قليلة. ولم يبدأ بها الكرد ولا مسئولي الكرد, بل الحكام العرب في العراق وفي غير العراق. والآن تنتشر في صفوف بعض الأوساط المثقفة بسبب تأثيرات دينية أو مذهبية أو قومية متزمتة.
يمكن للإنسان يحمل أكثر من هوية, وهي مسألة ترتبط بواقع الإنسان ومحيطه الذي يعيش فيه وإرادته أيضاً. كما أن الإنسان في البلد الواحد يمكن أن تكون له أكثر من هوية, سواء بسمات مشتركة أم خاصة, بالضبط كما أشرت إليه في أعلاه.
برلين في 22/09/2004 كاظم حبيب
يتبع: الحلقة الثانية غداً.



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل سيستمر البعثيون القدامى والجدد على إرسال رسائل التهديد وا ...
- هل هناك محاولات لتوسيع رقعة وتطوير نوعية وحجم العمليات الإره ...
- إلى ماذا يسعون مرتكبو الجرائم الإرهابية العمياء في العراق وب ...
- رؤية حوارية حول واقع وسبل معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماع ...
- هل حقاً عاد البعثيون الصدّاميون إلى الحكم في العراق ثانية؟
- رسالة مفتوحة إلى السيد وزير الدفاع العراقي حول الموقف من ماض ...
- 2-2 من هم ال?يشمر?ة في كردستان العراق؟ لِمَ تشكلت ميليشيا مق ...
- 1-2من هم ال?يشمر?ة فی كردستان العراق؟
- !حوار مع مضامين رسالة السيد حلمي حول اغتيال الأساتذة في العر ...
- أين تقف حكومة قطر من مصالح الشعب العراقي؟
- لنناضل سوية ضد جرائم اختطاف واغتيال الأساتذة والصحفيين الأجا ...
- هل انتهت مشكلة مقتدى الصدر أم بدأت لتوها؟
- نحو تغيير جذري في واقع ودور وحياة المرأة العراقية
- !لنتذكر جميعاً, مع تصاعد الإرهاب, خطط صدام حسين لمواجهة الأو ...
- هل من علاقة بين الإرهاب في العراق وارتفاع أسعار النفط الخام ...
- !حوار مع الأخ الفاضل زهير الزبيدي حول مواقف إيران إزاء العرا ...
- مرة أخرى حول مواقف إيران من الوضع الراهن في العراق؟
- هل لم يعد مقتدى الصدر حراً في قراراته أو حتى في تصريحاته؟
- من المستفيد من الحسابات الخاطئة للعقلية السلفية المتطرفة لمق ...
- موضوعات للمناقشة في الذكرى الخامسة والعشرين لانتهاء مذابح ال ...


المزيد.....




- أسير إسرائيلي لدى حماس يوجه رسالة لحكومة نتنياهو وهو يبكي وي ...
- بسبب منع نشاطات مؤيدة لفلسطين.. طلاب أمريكيون يرفعون دعوى قض ...
- بلينكن يزور السعودية لمناقشة الوضع في غزة مع شركاء إقليميين ...
- العراق.. جريمة بشعة تهز محافظة نينوى والداخلية تكشف التفاصيل ...
- البرلمان العراقي يصوت على قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي ...
- مصر.. شهادات تكشف تفاصيل صادمة عن حياة مواطن ارتكب جريمة هزت ...
- المرشحة لمنصب نائب الرئيس الأمريكي تثير جدلا بما ذكرته حول ت ...
- الاتحاد الأوروبي يدعو روسيا إلى التراجع عن قرار نقل إدارة شر ...
- وزير الزراعة المصري يبحث برفقة سفير بيلاروس لدى القاهرة ملفا ...
- مظاهرات حاشدة في تل أبيب مناهضة للحكومة ومطالبة بانتخابات مب ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - حوار مع الدكتور ميثم الجنابي حول مقاله عن الهوية الوطنية والقومية!الحلقة الأولى حول مفهوم الهوية - الحلقة الأولى