ثائر دوري
الحوار المتمدن-العدد: 958 - 2004 / 9 / 16 - 09:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
فتحت كارثة احتجاز الرهائن في أوسيتيا و تحريرهم من قبل قوات الأمن الروسية من أيدي مختطفيهم إلى القبر بهذا الشكل الدموي ، الذي لا يستطيع الخيال أن يحيط به . فتحت ملف القوقاز من جديد . فما هي آفاق الواقع الراهن ؟ و ما هي خلفياته التاريخية ؟
إن الدولة الروسية حديثة التواجد في القفقاس , إذ استلمته بشكل رسمي من الدولة العثمانية بموجب معاهدة باريس عام 1856 م . و استسلم الشيخ شامل , الذي كان يقود الكفاح المسلح ضد الروس , عام 1859 م . وبعدها بدأت مأساة تهجير و إبادة لشعوب القوقاز المسلمة التي سلخت عن فضائها العربي الإسلامي . تذكر كتب التاريخ أنه في العام 1861 م لم يبق في منطقة القبردي سوى 5200 أسرة و قد كان عدد سكانها 400 ألف عام 1739 م . لقد امتدت الحرب في القفقاس على مدى قرنين من الزمن , إذ بدأت مع صعود بطرس الأكبر الشهير إلى سدة الحكم في روسيا 1672- 1725 . تقول كتب التاريخ عن بطرس الأكبر إنه كان شخصاً ماجناً سكيراً , فقد قرب منه الأجانب و اللوثريين في بلد أرثوذكسي محافظ . ويقال إنه كان يحتقر كل ما هو روسي و كان معجباً بالغرب و بكل تفاصيل حياته . لقد كان سلفاً نموذجياً لقادة العالم الثالث في القرن العشرين عبر انبهارهم بالغرب و تبنيهم حضارة الغرب بكل تفاصيلها و احتقارهم لكل ما هو موروث و أصيل في أوطانهم . و النموذج الأشهر لهؤلاء هو أتاتورك و الأتاتوركية . و يصل التشابه إلى حده الأقصى بين هذين الشخصين فقد تبنى أتاتورك مرسوماً أجبر بموجبه الأتراك على ارتداء ملابس غربية , و كذلك فعل بطرس الأكبر .
يشير مرسوم الثياب الذي فرضه بطرس الأكبر إلى ما يجب أن يرتديه المواطنون :
(( بدلات سكسونية و فرنسية و تحتها قمصان و سراويل , و الجزمات و الأحذية و القبعات ألمانية الطراز )) .
إن هذا الافتتان بالغرب و محاولة تقليده في كل شيء يعني على الصعيد السياسي الرغبة بالتحول إلى دولة نهب , أي دولة لها مستعمرات . هذا هو جوهر التحديث الذي قام به بطرس الأكبر .
كان الوضع السياسي المعقد داخل أوربا يمنع الدولة الروسية من التوسع هناك و امتلاك مستعمرات , لذلك اندفعت روسيا جنوباً حيث الدولة العثمانية و العالم العربي _ الإسلامي , و كان القوقاز مسرح هذه الإندفاعة الروسية . لقد كان نجاح حلم بطرس الأكبر الاستعماري مرتبطاً بشكل وثيق بالوصول إلى منافذ بحرية تحقق الصلة بأوربا . و كانت الخيارات أمامه هي التالية :بحر الشمال , و بحرالبلطيق و البحر الأسود . أما بحر قزوين فلم يدخل في الحسابات لأنه رغم سعته بحيرة داخلية مغلقة . وجد بطرس أن بحر الشمال بعيد وغير مناسب للتجارة و للعلاقات الثقافية مع الغرب . وفي تسعينات القرن السابع عشر قرر تأجيل موضوع بحر البلطيق بسبب ظروف أوربا السياسية , فتفرغ للبحر الأسود , الذي كان بحيرة عثمانية بالكامل من سيباستول في الشمال إلى مضيق البوسفور . و هنا كان الدخول الروسي إلى القوقاز .
يمتد القوقاز من البحر الأسود إلى بحر قزوين و كان يشكل الحد الفاصل بين الدولة العثمانية و قياصرة روسية . و منذ اللحظة الأولى كان لدى الروس خطة استعمارية متكاملة للسيطرة على القوقاز الذي سيفتح لهم أبواب البحر الأسود , فقد كانوا ينشئون القلاع و الطرق و المباني العسكرية و التحصينات تمهيداً للدخول إلى عمق القفقاس . وفي القرن التاسع عشر لخص الجنرال ديليالينوف خطة استعمار القفقاس بالتالي :
1-إقامة تحصينات في المناطق المهمة طبوغرافياً .
2- أخذ الأراضي من الجبليين بسرعة و إسكان القوقاز في محطات على هذه الأراضي .
3-تخريب الحقول و مصادرة الأراضي .
أي أن الخطة هي مزيج من سياسة الاستيطان و الأرض المحروقة و التهجير . كتبت صحيفة القفقاس الرسمية :
(( كان جنرالات الروس يقومون بحملات في الجبال و يطلقون النار على كل شيء و يقتلون السكان بالحراب و النار و يأخذون كل شيء و يسرقون الماشية , و كانوا يعاقبون الناس بتدمير قرى بأكملها )) .
وفي العام 1877 م دعا نائب القيصر في القوقاز إلى نزع سلاح المسلمين القفقاس و تهجيرهم إلى تركيا .
لقد حاولت ثورة أكتوبر الجيدة التخلص من هذا الإرث الاستعماري البغيض فأقرت المساواة بين الشعوب و القوميات و حاولت بناء علاقات بين البشر متحررة من منطق مستعمر و مستعمر , من معادلة سيد و عبد . و أتيح لشعوب القفقاس التعبير عن نفسها قومياً و لغوياً بعد أن تم ترسيم لغاتها الشفاهية , وبرز في صفوف أبناء القفقاس أدباء لامعين على مستوى الاتحاد السوفيتي , و العالم و لعل أشهرهم هو الشاعر رسول حمزاتوف ابن جمهورية الداغستان .
لكن الحلم الاشتراكي ما لبث أن انهار و حل مكان النظام الاشتراكي في روسيا نظام رأسمالي مافيوي دمر البلاد و أجاع العباد . بلاد حكمها قيصر مريض هو يلتسين . صاحب نزوات لا تنتهي , و بالمناسبة قدر الخبراء الاقتصاديون تكلفة علاج يلتسين منذ توليه السلطة و حتى نهاية حكمه بمبلغ ثلاثمائة مليون دولار , أما إذا حسبت تكلفة المرض غير المباشرة المتضمنة إلغاء حجوز الطيران و الفنادق في اللحظة الأخيرة بسبب تعديل زيارات الوفود الرسمية أو إلغائها بسبب مرض يلتسين المفاجئ , يضاف إلى هذا كلفة تغيير الحكومات التي كان القيصر يستبدلها كل ثلاثة أو أربعة أشهر و هزات البورصة التي ترافق كل مرض للرئيس و كل تغيير للحكومة , يقول الخبراء إن الرقم يصل إلى خمسين مليار دولار !!
ثم تلى ذلك بوتين الذي لا يبتعد عن جو يلتسين كثيراً فالقوى التي اختارت الرجلين هي نفسها . و لعل توصيف النظام الروسي الحالي بنظام المافيا هو أقرب توصيف إلى الواقع .
في ظل هذا النظام المافيوي , و في ظل روسيا مريضة يأتي سياق العملية الأخيرة .لا نملك حتى الآن معطيات دقيقة عن حقيقة ما جري . لكن بين أيدينا إشارات تكفي , منها أن هناك صراع على السلطة في موسكو بين من قاموا بنهب القطاع العام و أثروا بعد انهيار الإتحاد السوفيتي و ما قضية شركة النفط العملاقة يوكوس إلا السطح الطافي من جبل الجليد .....
و باعتقادي لا يمكن لعملية ضخمة مثل عملية احتجاز الرهائن هذه أن تتم بدون تسهيلات داخلية .
و الأمر الثاني ما قيل عن مشاركة عناصر شيشانية في الموضوع و يكفي أن تقول الشيشان حتى تفوح رائحة النفط . و هذا يعني تورط أمريكي بشكل أو بآخر لأنه من غير المعقول أن يكون النفط حاضراً و لا تكون الإدارة الأمريكية كذلك .
إن المركب الروسي يترنح و هو يوشك على الغرق . وعندما توشك سفينة على الغرق يفر ركابها دون السؤال عن الوجهة التي سيتوجهون إليها . ربما انتهى الأمر بهؤلاء الركاب الذين فروا من السفينة الغارقة أملاً بالنجاة , ربما انتهى الأمر بهم طعاماً لقروش و حيتان البحر . لكن من منهم كان يفكر بهذا المصير عندما غادر المركب الغارق !! هل هذا ما يحدث مع اخوتنا في القوقاز ؟ أخشى أنه كذلك خاصة إذا استحضرنا التاريخ وعلمنا أن مأساتهم بدأت مع خروج العرب و المسلمين من مواقع صنع القرار الدولي . ولأن العرب و المسلمين ما زالوا غائبين فليس هناك من يتلقف هؤلاء الآملين بالنجاة سوى قروش وحيتان البحر الإمبريالية .
#ثائر_دوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟