أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - داود تلحمي - عندما وقف اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية ضد -وعد بلفور-















المزيد.....



عندما وقف اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية ضد -وعد بلفور-


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 3173 - 2010 / 11 / 2 - 02:54
المحور: القضية الفلسطينية
    


قد توحي القوة الحالية للحركة الصهيونية السياسية، ولدولة إسرائيل التي أقامتها على أرض فلسطين في العام 1948، وكأن هذه الحركة كانت دائماً، منذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر، قوة سائدة ومسيطرة في أوساط المجتمعات اليهودية في بلدان العالم المختلفة. ولكن ذلك لم يكن صحيحاً طوال العقود الأولى لنشوء هذه الحركة، وحتى وصول النازيين الى الحكم في ألمانيا، ثم الجرائم التي ارتُكبت خلال الحرب العالمية الثانية. فقد كان عدد كبير من المواطنين الأوروبيين، وغير الأوروبيين، من أصحاب الديانة أو الخلفية اليهودية معارضين أو غير مؤيدين أو غير مقتنعين بالمشروع السياسي الصهيوني. وهو المشروع الذي أطلقه، بشكل رئيسي، النمساوي تيودور هيرتسل، خاصة عبر كتابه الشهير "الدولة اليهودية" الذي صدر في العام 1896.
ولا شك أن مناخات اضطهاد المواطنين اليهود في المناطق التي كانت تسيطر عليها روسيا القيصرية، وهو اضطهاد تصاعد في أواخر القرن التاسع عشر، وخاصة بعد اغتيال القيصر ألكساندر الثاني في العام 1881، ساهمت في دفع أعداد من يهود هذه المناطق، وبلدان أخرى، لتبني الفكرة الصهيونية السياسية، المتمثلة بإقامة دولة خاصة لليهود، كما بلورها هيرتسل في كتابه، بعد أن طرحها آخرون قبله بصيغ متعددة. هذا، في حين كانت أعداد أخرى من سكان هذه المناطق تختار الإنتماء الى القوى الثورية ذات التوجه الأممي المناهض لكل أشكال التمييز، وهو ما يفسّر أنحياز قسم ملموس منهم للتيارات اليسارية الجذرية هناك، بما في ذلك الحزب البلشفي. وكانت هناك دائماً، من جانب آخر، قطاعات يهودية متدينة تعارض الصهيونية السياسية لأسباب عقيدية مرتبطة بمفاهيم دينية يهودية، ومنهم، على سبيل المثال، تلك الجماعة المعروفة باسم "ناطوري كارتا"، والتي لها أتباع اليوم في بلدان مختلفة، وتعتبر قيام دولة إسرائيل عملاً متناقضاً مع مضامين الدين اليهودي، مما يجعل أعضاء هذه الجماعة لا يعترفون بالدولة الإسرائيلية، ولا يشارك المقيمون منهم في المناطق التي أُقيمت عليها هذه الدولة في الإنتخابات النيابية، لا بل هم يعتبرون أنفسهم فلسطينيين، ويعلنون الولاء علناً للقيادة الفلسطينية.

خيارات "الدولة اليهودية"... من فلسطين والأرجنتين، الى أوغندا

وكان الخيار الأول للحركة الصهيونية الجديدة لمكان إقامة الدولة اليهودية هو فلسطين، التي كانت آنذاك تحت السيادة العثمانية، لكون رواية الكتب الدينية اليهودية تربط تاريخ الشعب العبراني القديم بهذه المنطقة... مع ان هناك نقاشات وجدل بين المؤرخين المعاصرين، وبعضهم من اليهود، حول صوابية هذه الرواية من الناحية الواقعية التاريخية. مع العلم بأن مؤسسي هذه الحركة، بمن فيهم هيرتسل، لم يكونوا متدينين أصلاً. لكن اختيار فلسطين، "أرض الميعاد" في الميثولوجيا الدينية اليهودية، يمكن أن يجعل إمكانية استقطاب الجمهور اليهودي العادي أسهل، في نظر مؤسسي الحركة. إلا ان هذا الإعتبار لم يمنعهم من تدارس ومناقشة خيارات جغرافية أخرى، حيث طرح هيرتسل نفسه في وقت مبكر خيار إقامة الدولة في الأرجنتين. وكل ذلك كان يجري في مرحلة من التاريخ الأوروبي شهدت، في آنٍ واحد، انتعاش واتساع نطاق الحركات القومية في أنحاء أوروبا، وكذلك اتساع نطاق العمليات الإستعمارية الأوروبية في أنحاء العالم، في سياق المرحلة الجديدة من التوسع الرأسمالي التي يتم عادةً توصيفها بمرحلة الإمبريالية، وهي المرحلة التي يتحدد بدؤها عادةً مع أوائل الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
وهكذا، في السنوات اللاحقة على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، بإشراف هيرتسل نفسه، في مدينة بازل السويسرية في العام 1897، جرى التداول في خيارات مختلفة لمكان إقامة الدولة. وكان من بينها مقترح تقدمت به أوساط حكومية بريطانية في العام 1903 يقضي بإقامة الكيان القومي اليهودي في شرق إفريقيا، الواقعة آنذاك تحت السيطرة الإستعمارية البريطانية، وهو الخيار المعروف باسم "مشروع أوغندا"، مع ان المكان المقترح كان أقرب الى موقع كينيا الحالية. وكان هيرتسل يميل الى عدم إهمال هذا الإقتراح. وبالفعل، جرت مناقشته في المؤتمر الصهيوني السادس الذي انعقد في بازل أيضاً في العام 1903، وتمكّن هيرتسل من الحصول على أغلبية الأصوات (295 مع و178 ضد) لصالح دراسة الفكرة. لكن المؤتمر الصهيوني السابع الذي انعقد في العام 1905، بعد وفاة هيرتسل في العام السابق، تخلى عن هذه الفكرة. وبقيت هناك مجموعات أخرى تدعو لخيارات مختلفة لمكان إقامة الدولة. لكن الجسم الرئيسي للحركة الصهيونية اتجه، بعد ذلك، للتركيز على خيار فلسطين.
وكان هيرتسل، في إطار مساعيه للدفع بفكرة الدولة اليهودية الى الأمام، قد التقى، في أول زيارة له لتلك المنطقة، مع قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني خلال زيارةٍ للأخير الى الأراضي المقدسة في العام 1898. من جانب آخر، تمكّن هيرتسل، بعد محاولات سابقة غير ناجحة، من الإلتقاء بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني في العام 1901، لكن الأخير رفض فكرة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. كما حاول هيرتسل استصدار موقف مؤيد لمشروعه من قبل الفاتيكان، لكن المسؤولين هناك أبلغوه بأنهم لا يستطيعون إعلان تأييد لليهود... طالما هم لا يعترفون بالمسيح!
ومع اندلاع الحرب العالمية (الأولى) في صيف العام 1914، والتي تشَكَّل فيها حلفان رئيسيان، أحدهما يضم بالأساس بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، وانضمت الولايات المتحدة الأميركية إليه في وقت متأخر (نيسان/أبريل 1917)، والثاني يضم بشكل رئيسي ألمانيا وإمبراطورية النمسا-هنغاريا والسلطنة العثمانية، بدأ نشطاء الحركة الصهيونية يتحركون لمحاولة الإستفادة من مناخ الحرب لتحقيق اختراق في مشروعهم لإقامة هذه "الدولة اليهودية".
وأجرى عدد من قادة الحركة الصهيونية، ومن ضمنهم حاييم وايزمن، الكيميائي المولود في روسيا البيضاء، الواقعة آنذاك ضمن مناطق سيطرة روسيا القيصرية، والذي هاجر الى بريطانيا عام 1904 وحمل جنسيتها منذ العام 1910، جملة اتصالات بأطراف الحرب المختلفة لتحسين فرص تقدم المشروع الصهيوني بعد الحرب.
وكانت مشاعر المجتمعات اليهودية أثناء الحرب أكثر ميلاً للتعاطف مع المحور الذي تقوده ألمانيا، وذلك لكون المحور الآخر يضم روسيا القيصرية، البلد الذي ارتبط اسمه بحملات اضطهاد مواطنيه اليهود. وهذا الإضطهاد الروسي القيصري هو الذي يفسر كون الحملات الأولى من الهجرات اليهودية المتلاحقة الى فلسطين في تلك الحقبة جاءت بشكل رئيسي من روسيا والمناطق التي يسيطر عليها نظامها القيصري، وهي كانت تشمل أوكرانيا وروسيا البيضاء وبولندا.
فمن المعروف أن عدداً كبيراً من مؤسسي الحركة الصهيونية ورموز الدولة الإسرائيلية التي أُنشأت في العام 1948 أتوا من تلك المناطق، أي من المناطق التي كانت تقع تحت سيطرة روسيا القيصرية: هذا كان حال دافيد بن غوريون، المولود في بولندا والذي هاجر الى فلسطين في العام 1906 وأصبح أبرز قادة الحركة الصهيونية هناك، ولاحقاً أول رئيس حكومة للدولة الإسرائيلية، التي قرأ هو الإعلان عن قيامها في أواسط أيار/مايو 1948. وهذا كان حال ثاني رئيس للحكومة الإسرائيلية موشيه شاريت (شيرتوك)، المولود في أوكرانيا، والذي هاجر الى فلسطين في العام 1906 أيضاً. وهو حال رئيس الحكومة الثالث ليفي إشكول، المهاجر في العام 1914 من أوكرانيا أيضاً، وكذلك حال الرئيسة الرابعة للحكومة (بين العامين 1969 و1974) غولدا مئير، المولودة في أوكرانيا كذلك، والتي انتقلت الى الولايات المتحدة ثم هاجرت الى فلسطين في العام 1921. وهو أيضاً حال رئيس الحكومة بين العامين 1977 و1983 مناحيم بيغن المولود في بريست ليتوفسك (روسيا آنذاك)، وكذلك حال الرئيس الحالي للدولة الإسرائيلية شمعون بيريس، المولود في بولندا... وغيرهم وغيرهم.
لكن تعاطف الجمهور اليهودي الواسع مع المحور الذي تقوده ألمانيا لم يمنع قادة الحركة الصهيونية من إجراء اتصالات واسعة مع القوى المختلفة لم تقتصر على أطراف هذا المحور، بل شملت المحور الآخر، وبشكل خاص بريطانيا، الدولة الأقوى في أوروبا والعالم آنذاك. وفي بريطانيا، أقام حاييم وايزمن، أحد زعماء الحركة الصهيونية كما سبق وذكرنا، والذي سيصبح بعد قيام إسرائيل أول رئيس للدولة الجديدة، لقاءات واتصالات واسعة مع رجال السياسة والإقتصاد والصناعة في بريطانيا، من بينهم ديفيد لويد جورج الذي سيصبح في أواخر العام 1916 رئيساً للحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية، ويحتفظ بهذا الموقع حتى العام 1922. وكان وزير خارجيته بين العامين 1916 و1919 هو آرثر بَلفور، الذي سبق وشغل مهمة رئاسة الحكومة بين العامين 1902 و1905، وكان كذلك نائباً منتخباً عن مدينة مانشستر، التي كان وايزمن يعلّم الكيمياء في جامعتها، مما وفّر فرصة التعارف المبكر بينهما أثناء حملات بلفور الإنتخابية هناك. وبلفور نفسه هو الذي وضع لاحقاً توقيعه، باسم الحكومة البريطانية، على الرسالة الشهيرة التي وجهت يوم 2/11/1917 الى اللورد والتر روتشيلد، أحد كبار الأثرياء البريطانيين اليهود، ومن خلاله الى "المنظمة الصهيونية في بريطانيا وإيرلندا"، وهي الرسالة التي كان يسعى حاييم وايزمن الى استصدارها منذ وقت مبكر، وإن كان رغب بأن تكون صياغتها أكثر جزماً باتجاه وعد بريطاني واضح بدعم إقامة دولة يهودية في فلسطين.

الوزير مونتاغيو: الصهيونية عقيدة مؤذية... وليس هناك شعب يهودي

وكانت الصيغة الأولى للرسالة، كما طُرحت للنقاش في الحكومة البريطانية، أقرب الى التجاوب مع رغبات وايزمن. وكان كل من رئيس الحكومة لويد جورج ووزير خارجيته بلفور يميلان لدعم مطلب وايزمن. لكن المعارضة لهذا الموقف جاءت بشكل أساسي من... البريطاني اليهودي الوحيد، آنذاك، في تلك الحكومة، وهو اللورد إدوين صامويل مونتاغيو، الذي قدم مذكرة داخلية مكتوبة الى الحكومة البريطانية في آب/أغسطس 1917 توضح موقفه وأسباب معارضته لمجمل المشروع الصهيوني، ولدعم بريطانيا له عبر مشروع رسالة بلفور الى اللورد روتشيلد، الذي كانت آنذاك قيد التداول في الحكومة.
ومما جاء في مذكرة مونتاغيو هذه، الموجهة بعد أسابيع قليلة من تسلّم الحكومة البريطانية لرسالة روتشيلد التي تدو لاستصدار الإعلان الخاص بدعم مشروع "الدولة اليهودية" في فلسطين:
"إن الصهيونية كانت تبدو لي دائماً كعقيدة سياسية مؤذية، لا يمكن قبولها من أي وطني في المملكة المتحدة... ويبدو لي أنه من غير المعقول أنه في الوقت الذي يتم فيه الإعتراف بحقوق الروس اليهود ويتم منحهم كافة الحريات (في إشارة منه الى ما جرى بعد ثورة شباط/فبراير 1917 التي أطاحت بالقيصرية في روسيا) يجري الإعتراف رسمياً بالصهيونية من قبل الحكومة البريطانية، وأن الحكومة تسمح للورد بلفور بأن يقول بأن فلسطين ينبغي أن يتم إعادة تشكيلها كـ"وطن قومي للشعب اليهودي". وأنا لا أعرف ماذا سينجم عن ذلك، لكني أفترض أنه يعني أن المحمديين (وفق تعبير بلفور) والمسيحيين يجب أن يتركوا مكانهم لليهود وأن اليهود يجب أن تكون لهم كل مواقع التفضيل... أنا أؤكد أن ليس هناك شعب يهودي... وإذا كان صحيحاً أن فلسطين تلعب دوراً كبيراً في التاريخ اليهودي، فالشيء ذاته يمكن أن يقال عن التاريخ المحمدي المعاصر، وبعد مرحلة اليهود (يقصد العبرانيين القدامى)، هي تلعب دوراً أكبر من أي بلد آخر في التاريخ المسيحي"... وأضاف:"بقيام الوطن اليهودي فيها ستصبح فلسطين أكبر غيتو في العالم...".
وفيما فشل مونتاغيو في تعطيل صدور "الإعلان"، إلا انه تمكّن من تحقيق تغييرات على الصيغة الأولى له، التي كانت أوضح تأييداً للمشروع الصهيوني. ومن بين هذه التغييرات إضافة العبارتين الخاصتين بمراعاة "الحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين"، ومراعاة "الحقوق والوضعية السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر"على النص النهائي لإعلان بلفور. وكان حاييم وايزمن، قبل صدور رسالة بلفور، يواصل تدخلاته وجهوده لاستصدار هذا الإعلان. فذهب الى حد إبلاغ وزارة الخارجية البريطانية، في 10/6/1917، وفق ما أورده المؤرخ البريطاني جوناثان شنير، بأن ألمانيا على أبواب إصدار وعد، من جانبها، بدعم مشروع "الدولة اليهودية"، وأن اليهود بدأوا يتساءلون إذا ما كان من الأفضل بالنسبة لهم تحقيق هدفهم هذا عبر بريطانيا أو عبر ألمانيا وتركيا، مضيفاً بانه هو شخصياً مخلص لبريطانيا التي يحمل جنسيتها، ولكنه أوحى بأن غيره من اليهود ليسوا، بالضرورة، كذلك، وبالتالي يمكن أن يطرقوا الباب الألماني. هذا ما جاء في مقالة نشرها المؤرخ شنير في موقع مجلة "فورين بوليسي" الأميركية الشهيرة بتاريخ 8/9/2010، تحت عنوان مثير: "كيف ساعدت اللاسامية في ولادة إسرائيل".
وبما ان الحرب كانت، في النصف الثاني من العام 1917، تدخل عامها الرابع وهي في مرحلة ضبابية، حيث لم يكن واضحاً أيٌ من الحلفين الكبيرين ستكون له الغلبة، فالهاجس الرئيسي عند الحكومة البريطانية كان محاولة تجميع ما أمكن من الأوراق لصالح بريطانيا أولاً، ولصالح التحالف الذي تشارك فيه ثانياً. و"أولاً" هنا مهمة. فبالرغم من التحالف الوثيق أثناء الحرب مع فرنسا، مثلاً، إلا ان ذلك لم يمنع الحكومة البريطانية من خداع الحلفاء الفرنسيين، من بين الأطراف العديدة التي تم خداعها في هذه القضية.
حيث كانت حكومتا البلدين قد توصلتا الى اتفاق سريّ في 16/4/1916 لتقاسم مناطق شرق المتوسط العثمانية في حالة تفكك السلطنة بعد الحرب، وهو الإتفاق الذي عُرف بعد ذلك باسم موقّعَيه، البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، والذي تم عرضه بعد ذلك على الحليف الروسي القيصري الذي وُعد بحصة في الكعكة من خلال التعهد بإتاحة سيطرته اللاحقة، بعد هزيمة السلطنة العثمانية، على القسطنطينية (إسطنبول) والأناضول. ومن سوء حظ البريطانيين والفرنسيين أن حساباتهم هذه بدأت بالتضعضع بعد أن خسروا الحليف الروسي عندما قامت ثورة أكتوبر 1917 البلشفية، وقام قادتها بكشف الإتفاقيات السرية للنظام القيصري وحلفائه، ومنها إتفاقية سايكس- بيكو، وذلك في الشهر الأخير من العام 1917، مما شكل صدمة لأطراف أخرى كانت موعودة من قبل البريطانيين بحصص من كعكة ما بعد الحرب، ومن بينهم الشريف حسين بن علي، أمير مكة في حينه، والملك اللاحق للحجاز بين العامين 1917 و1924.
وكان الشريف حسين قد اتفق مع البريطانيين في العام 1916 على مشاركة عربية في التمرد على العثمانيين على أرضية وعد بريطاني بمنحه مملكة عربية تشمل المناطق الناطقة باللغة العربية الواقعة شرق المتوسط، أي بلاد الشام والعراق. وبعض المصادر الرسمية البريطانية تشير الى أن الوعد اشتمل على ذكر واضح لفلسطين. وهذا الإتفاق غير المعلن كان قد تم التداول به في المراسلات الشهيرة المتبادلة بين الشريف حسين والسير هنري ماكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر، بين أواسط العام 1915 وأوائل العام 1916، وهو ما قاد الى مشاركة قوات من الحجاز في القتال مع البريطانيين منذ أواسط العام 1916. أما الورقة التي تم الإتفاق عليها في مطلع العام 1919، أي بعد انتهاء الحرب، بين حاييم وايزمن والأمير فيصل، ابن الشريف حسين، والتي تضمنت تفهماً من قبل الأمير العربي لتطلعات وايزمن والحركة الصهيونية في فلسطين، فلم تصبح سارية المفعول، لأن التزام فيصل كان مرتبطاً، كما ورد في النص، بتنفيذ وعد قيام الدولة العربية شرق المتوسط. وهو الأمر الذي لم يتحقق بعد ذلك، كما هو معروف. حيث جرى تقاسم المناطق المشرقية العربية بين فرنسا وبريطانيا، وقام الفرنسيون بطرد الأمير فيصل من سوريا في العام 1920 وسيطروا عليها بعد معركة ميسلون الشهيرة، بعد أقل من أربعة أشهر على تنصيبه ملكاً عليها. ومعروف أنه أصبح لاحقاً ملكاً على العراق، الذي سيطرت عليه بريطانيا.
وهكذا، فقد تم اقتسام مناطق شرق المتوسط، العثمانية سابقاً، بين بريطانيا وفرنسا، وحصلت بريطانيا على حصة الأسد، مع هذه السيطرة على العراق، البلد الواعد بالنفط في ذلك الحين، والمتاخم لإيران التي سبقته باستخراج النفط في وقت أبكر. واستطاع البريطانيون ضم منطقة الموصل الى الكيان العراقي الذي سيطروا عليه، بعد أن كان الفرنسيون موعودين بتلك المنطقة في صيغة سايكس- بيكو. كما حصلت بريطانيا على انتدابها وحدها على المناطق الواقعة بين العراق والبحر المتوسط، والتي تشمل فلسطين والأراضي الواقعة بين العراق ونهر الأردن، حيث أقامت في العام 1921 إمارة شرق الأردن بزعامة الأمير عبدالله، الإبن الآخر للشريف حسين. وكان البريطانيون يراهنون على أن الدولة، أو المحمية (الكومنويلث) اليهودية التي ستقام هناك بناء على وعد بلفور ستكون ركيزة أساسية للنفوذ البريطاني لحماية سيطرتهم على قناة السويس، القناة المائية الإستراتيجية في المواصلات الدولية في ذلك الحين، من جهة، ومن جهة أخرى، حماية طريق الهند، "درة التاج" البريطاني، كما كانت تُسمّى في ذلك الحين. هذا، علاوة على حماية مناطق النفط المكتشفة حديثاً في تلك المنطقة، المادة الخام التي بدأت أهميتها في الصناعة والمواصلات والحروب تتزايد في تلك الآونة.
ويبدو، هكذا، أن البريطانيين ناوروا ووعدوا أكثر من طرف بالأراضي العربية الواقعة الى الشرق من البحر المتوسط، بما في ذلك فلسطين، التي كان من المفترض وفق اتفاق سايكس- بيكو السرّي أن يكون لفرنسا حصة فيها. لكن البريطانيين، في النهاية، خدعوا أيضاً حلفاءهم الفرنسيين، وليس فقط الشريف حسين بن علي وأبناءه، ففضّلوا إدخال الحركة الصهيونية على الخط، على أمل أن يكون الكيان الصهيوني العتيد محمية لهم، وبالتالي نقطة ارتكاز بريطانية في المنطقة، كما ذكرنا. ولكن، بالطبع، تطورت الأمور لاحقاً بشكل مختلف في الأربعينيات، مع خروج بريطانيا من الحرب العالمية الثانية منهكة وضعيفة، وحلول الولايات المتحدة مكانها كالدولة الغربية الرأسمالية الرئيسية، التي ستمد شبكة نفوذها بعد الحرب، بشكل تدريجي، الى كافة المناطق العربية المستعمرة سابقاً، والى الدولة الصهيونية نفسها.
وكان قادة الحركة الصهيونية الرئيسيين قد اختلفوا مع بريطانيا بعد إصدارها للكتاب الأبيض في ربيع العام 1939، إثر الثورة الفلسطينية الكبرى التي بدأت في العام 1936، وهو الكتاب الذي تعهدت فيه بريطانيا بالحد من الهجرة اليهودية الى فلسطين في السنوات اللاحقة. فاختار عدد من أبرز قادة الحركة الصهيونية، وخاصة دافيد بن غوريون، الإتجاه المبكر نحو القوة الصاعدة في سماء المنطقة والعالم، الولايات المتحدة، إثر انخراطها في الحرب العالمية الثانية بعد الغارة اليابانية المدمرة على الأساطيل الأميركية في مرفأ بيرل هاربر في أواخر العام 1941. حيث عقد القادة الصهيونيون مؤتمرهم الثاني والعشرين في فندق بيلتمور في نيويورك في أيار/مايو من العام 1942، وأعلنوا صراحة عن معارضتهم للسياسات البريطانية القاضية بالحد من هجرة اليهود الأوروبيين الى فلسطين، وأوضحوا توجههم نحو إقامة الكيان اليهودي الخاص في فلسطين.
وهكذا، سيكون قد أتى دور الولايات المتحدة، بعد ثلاثة عقود تقريباً من صدور "وعد بلفور" البريطاني، لتواصل حمل المشروع الصهيوني ودعمه في المراحل الأخيرة من التحضير لإقامة الدولة، بدءً من الدفع بقوة لإعادة فتح باب هجرة اليهود الأوروبيين بدون قيود نحو فلسطين، وإنتهاءً بدعم مشروع تقسيم فلسطين في أواخر العام 1947، عبر الضغط على عدد كبير من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت لصالحه، ثم الإسراع للإعتراف بقيام الدولة الإسرائيلية بعد 11 دقيقة من الإعلان أحادي الجانب من قبل دافيد بن غوريون عن قيامها، لتكون الولايات المتحدة الدولة الأولى التي تقدم اعترافها الواقعي بالدولة الجديدة.

كتاب جديد لمؤرخ بريطاني عن "إعلان بلفور": حسابات لندن الـ"لاسامية"!

قبل أسابيع قليلة، وتحديداً في آب/أغسطس الماضي، صدر في بريطانيا كتاب جديد واسع التوثيق وغني المصادر والتغطية حول "إعلان بلفور" من تأليف المؤرخ البريطاني الذي أشرنا اليه أعلاه جوناثان شنير. ويبدو، وفق المراجعات المنشورة له، أنه من بين أهم ما كتب من دراسات حتى الآن حول هذا الإعلان، الذي ما زال الصهيونيون يعتبرونه صك تصريح الولادة للدولة اليهودية في فلسطين، ويعتبره الفلسطينيون والعرب حدثاً أسود في مسلسل التآمر الإستعماري على أرضهم وحقوقهم ومشروعهم الإستقلالي والوحدوي.
ومما يلفت الإنتباه في ما نقل عن هذا الكتاب تحليله لدوافع كل من آرثر بلفور ورئيس حكومته ديفيد لويد جورج وراء التجاوب مع المطلب الصهيوني لاستصدار هذا الإعلان، بالرغم من وجود معارضة قوية للمشروع الصهيوني لدى بعض أوساط البريطانيين اليهود، بما في ذلك، كما أوردنا، معارضة العضو البريطاني اليهودي الوحيد في تلك الحكومة. ويرى المؤرخ شنير أنه، بالرغم من النظرة التقليدية الى لويد جورج بكونه مؤيداً للحركة الصهيونية، وما عُرف من تعاطف بلفور أيضاً معها، إلا إن الحسابات وراء هذا الإعلان كانت أقرب الى أفكار يمكن إعتبارها، بمعايير ومفاهيم اليوم، لاسامية، أو بالأحرى مناهضة لليهود.
فقد كان كل من لويد جورج وبلفور وزملائهما في الحكومة، باستثناء مونتاغيو، كما ذكرنا، يعتقدون أن "اليهودية العالمية"، وهو التعبير الذي كانوا يستعملونه في خطابهم العادي وكان آنذاك لا يثير الحساسية التي يمكن أن يثيرها اليوم، لها نفوذ كبير على الصعيد الإقتصادي العالمي بحيث يمكنها أن تساهم في دعم بريطانيا المستنزفة إقتصادياً في الحرب، في حال اتخاذ الحكومة البريطانية لموقف متعاطف مع مطالب الحركة الصهيونية. كما انهم كانوا يعتقدون أن اليهود لهم نفوذ كبير في الولايات المتحدة، بحيث يمكن أن يساهموا في دفع الإدارة الأميركية للإنخراط في الحرب أولاً، وهو ما لم يحدث إلا في ربيع العام 1917، كما ذكرنا، ثم تطوير مستوى هذا الإنخراط، الذي بدأ محدوداً وبطيئاً في أشهره الأولى، للمساعدة على حسم الحرب لصالح التحالف البريطاني - الفرنسي، خاصة بعد أن بدأت نذر تخلخل وضع الحليف الروسي تتزايد في النصف الثاني من ذلك العام.
ويشير الكاتب في هذا السياق أيضاً الى رهان لدى لويد جورج وبلفور على تأثير "اليهودية العالمية" على يهود روسيا، بحيث ينحازون الى جانب مواصلة انخراط روسيا في الحرب والإبتعاد عن الخيار الذي كان يطرحه الحزب البلشفي، بقيادة فلاديمير لينين، بإخراج البلد من الحرب. وكان لدى المسؤولين البريطانيين مراهنة حتى على إمكانية تحييد بعض اليهود المنخرطين في المشروع البلشفي، ومنهم من كانوا في مواقع القيادة، من خلال طرح فكرة الكيان القومي اليهودي، لكن ذلك الرهان كان يستند الى ضعف معرفة بمواقف الحزب وقياداته المناهضة بقوة للفكر الصهيوني. ومع ان مشروع إعلان بلفور كان في التداول منذ عدة أشهر في الحكومة البريطانية، إلا ان الصدفة شاءت أن يأتي صدور الإعلان، في 2/11/1917، قبل خمسة أيام فقط من إستيلاء البلاشفة على السلطة في روسيا، في يوم 7/11/1917، الموافق 25/10/1917 وفق الرزنامة اليوليانية التي كانت متبعة في ذلك الحين في روسيا القيصرية.
وأكثر من ذلك، يورد الكاتب أن البريطانيين كان لديهم اعتقاد أن "اليهودية العالمية" هذه كان لديها نفوذ حتى على بعض أصحاب القرار في السلطنة العثمانية، بما يفتح المجال للتأثير على الأتراك للإنسحاب من الحرب الى جانب الحلف الألماني - النمساوي. والمثير على هذا الصعيد أن الوثائق التاريخية تُظهر أن البريطانيين أنفسهم فتحوا خطاً مباشراً مع السلطنة العثمانية في سعي لتشجيعها على فك التحالف مع ألمانيا والنمسا- هنغاريا، مقابل إغراءات مالية، وكذلك وعد بريطاني بإبقاء فلسطين تحت الإشراف العثماني!!! وهو ما يظهر حجم المناورات والألاعيب التي مارسها حكام بريطانيا في تلك الفترة، ويضع كل سياساتهم ونواياهم في ميزان الشك، ويؤكد بأن الحساب الأول والأخير لديهم هو ما يعزز فرص بريطانيا في الخروج منتصرة من الحرب، وليس، بالطبع، أي حق من حقوق البلدان والشعوب والمجتمعات الأخرى التي حاولوا استدراجها للوقوف الى جانب حربهم، ولا حتى اتفاقاتهم مع حلفائهم، الأقوياء والضعفاء على حد سواء.
***
بقية القصة بعد ذلك معروفة. ولكن ما يهمنا هو أن نظهر أن الحركة الصهيونية لم تكن في تلك المرحلة حركة مسيطرة في وسط المجتمعات اليهودية في البلدان الأوروبية، وخاصة في أوروبا الغربية، حيث لم يتعرض اليهود، على الأقل حتى ذلك الحين، الى أشكال الإضطهاد الدموي الذي عاشوه في روسيا القيصرية. وإن كانت هناك مناخات قديمة مناهضة لليهود في تلك القارة لأسباب تاريخية عديدة معروفة، ليس هنا المجال للدخول في تفاصيلها، كما يتضح، على سبيل المثال لا الحصر، من خلال أعمال أدبية بارزة مثل مسرحية وليام شكسبير الشهيرة "تاجر البندقية"، التي كُتبت في السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر، أو رواية تشارلز ديكينز الشهيرة "مغامرات أوليفر تويست" التي صدرت في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أو أحداث مثل محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي ألفرد دريفوس في العقد الأخير من القرن التاسع عشر بتهمة الخيانة العظمى والعمالة لألمانيا، وهي التهمة التي تبين لاحقاً أنها زائفة. لكن الأمور لم تتطور في غرب أوروبا الى الشكل الدموي الذي وصلته في روسيا إلا بعد وصول الحركة النازية الى الحكم في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين.
وكان الزعيم النازي أدولف هتلر، الذي أصبح مستشاراً لألمانيا في مطلع العام 1933 ثم زعيماً (فورر) لها في العام التالي، معروفاً بعدائه المعلن لليهود، كما كان واضحاً في كتابه الشهير "ماين كامبف"- "كفاحي"، الذي صدر في أواسط العشرينيات. وكانت الأزمة الإقتصادية العالمية الكبرى التي اندلعت في أواخر العام 1929، وعانت منها ألمانيا، كما دول عديدة أخرى في أنحاء العالم، دافعاً للشرائح والقوى اليمينية الحاكمة للبحث عن عدو داخلي أو خارجي لتوجيه السخط الشعبي باتجاهه وإبعاده عن المصدر الحقيقي للأزمة، النظام الرأسمالي نفسه والشرائح الحاكمة المستفيدة منه. وهكذا تم اختيار المواطنين اليهود و(أو) الشيوعيين واليساريين كأعداء داخليين من قبل النازيين الألمان وغيرهم من أوساط اليمين واليمين المتطرف الأوروبي، وبالطبع، كان الإتحاد السوفييتي الخصم الخارجي المفضل لدى هذا اليمين.
وقد دفع وصول هتلر للحكم العديد من يهود ألمانيا الى الهجرة خارجها، حيث ذهب أعداد كبيرة منهم الى بلدان أوروبا الغربية الأخرى والى الولايات المتحدة، في حين عملت الحركة الصهيونية على محاولة اجتذاب من أمكن اجتذابه للهجرة الى فلسطين. ولا شك أن الإضطهاد الواسع اللاحق الذي مورس بحق التجمعات اليهودية المختلفة، سواء في ألمانيا أو في البلدان التي احتلتها الجيوش النازية عشية الحرب العالمية الثانية وأثناءها، قد قلب الوضع تماماً في أوساط اليهود الأوروبيين، مما سهّل الأمور كثيراً على الحركة الصهيونية بعد الحرب للدفع باتجاه اجتذاب أعداد كبيرة من اليهود الناجين الى فلسطين، وإعطاء دفعة قوية للمشروع الصهيوني بإقامة "الدولة اليهودية" في مهلة زمنية محدودة. خاصة وأن أوساطاً نافذة في الولايات المتحدة لم تكن تحبذ هجرة اليهود الأوروبيين اليها، وكانت تدعم المشروع الصهيوني من هذا المنطلق. وهو ما يزيد من مصداقية المقالة التي أشرنا إليها أعلاه للمؤرخ البريطاني شنير المعنونة: "كيف ساعدت اللاسامية على ولادة إسرائيل".

ومؤرخ إسرائيلي معاصر يعيد النظر في قصة "الشعب اليهودي"

ولم يكن اليهود الأوروبيون وحدهم الذين عانوا من العنصرية النازية واليمينية الأوروبية. كان هناك الغجر، وكان هناك الشيوعيون واليساريون، وكانت هناك، في المحصلة شعوب أوروبا والإتحاد السوفييتي، التي عانت من أهوال الحرب الأكثر دموية في تاريخ البشرية. وفي نهاية المطاف، كان شعب فلسطين العربي هو الذي دفع ثمن هذا الإضطهاد الأوروبي للمجتمعات اليهودية، قبل وأثناء وبعد نكبة العام 1948، عبر مصادرة قسم كبير من أراضي العرب الفلسطينيين وأملاكهم، وتهجير أكثر من أربعة أخماسهم، في ذلك الحين، خارج وطنهم وديارهم. وخلافاً للأساطير التي بُنيت عليها العملية الصهيونية وفكرة "الشعب اليهودي" الواحد، الذي غادر فلسطين، أو "أرض إسرائيل" كما يسمونها، قبل ألفي عام، وتوزع في أنحاء العالم، بحيث يشكل المشروع الصهيوني عملية "عودة" الى هذه الأرض، وهي أساطير اعتمدت على ما ورد في الكتب الدينية اليهودية من روايات ليست، بالطبع، ذات طابع تأريخي، فإن المشروع الصهيوني كان له مضمون آخر سبق وأشرنا إليه. وهو ما أوضحه بشكل جلي، من بين العديد من المؤرخين المعاصرين، وبعضهم من اليهود، الأستاذ الجامعي الإسرائيلي شلومو زاند في الكتاب الذي أصدره في العام 2008 باللغة العبرية بعنوان "متى وكيف تم اختراع الشعب اليهودي"، وهو الكتاب الذي تمت ترجمته بعد ذلك الى لغات عدة، وصدر مؤخراً باللغة العربية.
فقد استعرض زاند في كتابه تاريخ التجمعات اليهودية المختلفة في روسيا وأوروبا، كما في شمال إفريقيا واليمن ومناطق أخرى، مستخلصاً أن هؤلاء اليهود هم من نسل شعوب أخرى تحولت الى الدين اليهودي ولا علاقة تاريخية لهم مع أولئك العبرانيين القدامى الذين كانوا، وفق رواية التوراة، يسكنون في الأرض التي كان المصريون القدامى والآشوريون، والرومان لاحقاً، قد أطلقوا عليها اسم فلسطين، وهو الإسم الذي استخدمه المؤرخ اليوناني هيرودوتوس منذ القرن الخامس قبل الميلاد وفق اللفظة الواردة في كتاباته باللغة اليونانية القديمة.
***
وفي الوقت الذي يقوم فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نيتينياهو بمناورة مكشوفة من خلال المطالبة باعتراف فلسطيني وعربي مسبق بكون إسرائيل دولة يهودية، أو دولة الشعب اليهودي، تظهر هذه الحقائق التاريخية كم ان الأرضية التي يستند عليها هشة، وتزيد من وضوح مراميه من وراء هذه المناورة لمواصلة التنكر للحقوق الفلسطينية وترسيم عملية النهب والتطهير العرقي التي جرت في الماضي، وتتواصل بأشكال شتى في هذه الأيام من خلال عمليات الإقتلاع السكاني والتهجير المتدرج والإضطهاد المتواصل للمواطنين في القدس الشرقية المحتلة عام 1967 وبقية الضفة الغربية، وحتى في غزة المحاصرة، التي لم تخرج إسرائيل منها إلا لتخفيض كلفة عمليات التنكيل بأهلها وسكانها لتحقيق الهدف ذاته: إعادة تبديد القضية الوطنية الفلسطينية من خلال تمزيق أوصال شعبها ومحاولة دفعه لليأس والتسليم بالأمر الواقع المفروض عليه بقوة السلاح، وبدعم القوى الغربية العظمى المتعاقبة للمشروع الصهيوني الإجلائي.
لكن مئة عام تقريباً من هذا الصراع الذي فُرض على الشعب الفلسطيني نتيجة جرائم ارتُكبت من قبل غيره تكفي للدلالة على انه هو الذي يحتفظ بالنفس الأطول، رغم الإختلال المتواصل في موازين القوى في كل المراحل التاريخية السابقة منذ وعد بلفور. وليس غريباً، في وضع كهذا، أن ينقل صحافي بريطاني معروف، في أواخر العام 2005، عن عدد من المسؤولين الإسرائيليين الذين التقاهم بعد فترة وجيزة من خروج القوات والمستوطنين الإسرائيليين من داخل قطاع غزة، وفي الفترة التي كان فيها آريئيل شارون لا زال رئيساً للحكومة وفي أوج سطوته، مشاعر بالتحسر لعدم قبول الحركة الصهيونية في مطلع القرن بـ"مشروع أوغندا". لكن الوضع على الأرض يشير الى أن الطريق سيكون طويلاً قبل أن يقرّ المسؤولون المعنيون بالظلم الذي ألحقوه بالشعب الفلسطيني، ويسلّموا بضرورة وضع نهاية له.



#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة أكتوبر 1917 والتجربة السوفييتية في مسار التاريخ البشري
- امتحانان إنتخابيان مهمان لتيّارَي اليسار في أميركا اللاتينية
- إشتراكية القرن الحادي والعشرين: إستخلاص الدروس... وإحلال ديم ...
- عندما اضطر كارل ماركس أن يقول... بأنه ليس ماركسياً!!
- أزمات البلدان الأوروبية ومأزق أحزاب -يسار الوسط-
- بعد 35 عاماً على النصر التاريخي... فييتنام تحث خطى التنمية و ...
- وحدة اليسار مهمة... لكن تمايز مشروعه هو الأهم
- خيارات الشعب الفلسطيني في ظل انسداد آفاق -الحلول القريبة-
- العقد الثاني من القرن: الأزمة الإقتصادية الرأسمالية مستمرة.. ...
- يسار أميركا اللاتينية في عقده الثاني...التيار الجذري هو الذي ...
- اليسار الياباني مرشّح لتأثير أكبر على سياسات البلد
- هل تفتح الأزمة الإقتصادية العالمية آفاقاً جديدة أمام اليسار؟
- اليسار الأوروبي: هل من مؤشرات للخروج من المرحلة الرمادية؟
- لماذا تراجع اليسار في انتخابات الهند الأخيرة؟
- على خلفية خطوات فنزويلا وبوليفيا التضامنية ابان محنة غزة... ...
- من ستالينغراد، عام 1943، الى معارك جورجيا 2008... تطورات الق ...
- حول سمات وآفاق الوضع الفلسطيني بعد الحرب على غزة (من ندوة لم ...
- هل بالإمكان تجاوز الأزمة الإقتصادية العالمية بدون حروب كبيرة ...
- نجاحات جبهة فارابوندو مارتي الإنتخابية في السلفادور تؤكد است ...
- الحرب على غزة... وخطة شارون- داغان لتصفية مشروع الإستقلال ال ...


المزيد.....




- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...
- مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى المبارك
- مقتل فتى برصاص إسرائيلي في رام الله
- أوروبا.. جرائم غزة وإرسال أسلحة لإسرائيل
- لقطات حصرية لصهاريج تهرب النفط السوري المسروق إلى العراق بحر ...
- واشنطن.. انتقادات لقانون مساعدة أوكرانيا
- الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواري ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - داود تلحمي - عندما وقف اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية ضد -وعد بلفور-