أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - داود تلحمي - العقد الثاني من القرن: الأزمة الإقتصادية الرأسمالية مستمرة... والإشتراكية على جدول الأعمال، ولو بعد حين















المزيد.....



العقد الثاني من القرن: الأزمة الإقتصادية الرأسمالية مستمرة... والإشتراكية على جدول الأعمال، ولو بعد حين


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 2906 - 2010 / 2 / 3 - 21:11
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


كان من الطبيعي أن يكرّس الرئيس الأميركي باراك أوباما معظم خطابه السنوي حول "حالة الإتحاد" مساء 27/1/2010، بتوقيت واشنطن، للوضع الإقتصادي في الولايات المتحدة والأزمة المستمرة في بلاده، وما تجره من فقدان لفرص العمل وارتفاع في معدلات البطالة، وبالتالي تردي الأوضاع المعيشية لأعداد إضافية من المواطنين. ومع انه حاول أن يشدد على أن بعض التحسن قد حصل في الوضع الإقتصادي الإجمالي خلال الأشهر الأخيرة، إلا انه أقرّ بأن مشكلة البطالة ما زالت قائمة، واعتبر أن مسألة إيجاد فرص عمل جديدة لامتصاص هذه البطالة هي على رأس أولوياته في العام الثاني من ولايته.
وبالرغم من محاولته استثارة المشاعر القومية الأميركية، عبر الحديث عن أن الولايات المتحدة لن تقبل بأن تكون في المرتبة الثانية في أي مجال، فهو، في ثنايا حديثه، لم يستطع أن يخفي أن بعض الدول في شرق آسيا، مشيراً الى الصين خاصة، وبعض دول أوروبا المتطورة، ذاكراً اسم ألمانيا، سبقت الولايات المتحدة في مجالات معينة، مما يفرض العمل، برأيه، لاستعادة المرتبة الأولى في شتى المجالات، بما في ذلك عبر بناء سكة قطار سريع، وفي تطوير مصادر الطاقة "النظيفة"، أي غير الملوثة للبيئة، مثل الطاقة الشمسية وتلك الناجمة عن الرياح، ومصادر الطاقة ذات المنشأ النباتي، أو حتى تطوير نسبة الطاقة النووية لمجمل الطاقة المستهلكة في البلد، مع التحصين الضروري للمفاعلات المولدة لهذه الطاقة بيئياً وأمنياً.

نسبة البطالة في الولايات المتحدة تتضاعف خلال عامين... من 5 الى 10 بالمئة

والرئيس الأميركي، نصف الإفريقي الأصل، أقرّ بذلك بأن العالم دخل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وسكانه ما زالوا يعيشون انعكاسات الأزمة الإقتصادية الطاحنة، التي كانت بواكيرها الملموسة قد بدأت بالظهور في أواخر العام 2007، وانفجرت، بشكل صاخب، في النصف الثاني من العام 2008 في الولايات المتحدة الأميركية، وامتدت بعد ذلك لتشمل العالم كله تقريباً، بدرجات متفاوتة من الشدة بين بلد وآخر.
ومجرد إشارة أوباما الى انه بذل جهداً لتفادي الوصول الى انهيار كبير، أو "كساد كبير" على غرار ذلك الذي اجتاح العالم في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، وأدى في حينه الى مجاعات واسعة ومآسٍ بشرية رهيبة، كما ساهم في فسح المجال أمام صعود أنظمة التطرف القومي العدواني، وخاصة النظام النازي في المانيا، مجرد هذه الإشارة من قبل أوباما تؤكد حجم الأزمة وخطورتها. وهي تعطي مصداقية لتحليلات الخبراء والإقتصاديين الجادين الذين رأوا في هذه الأزمة، منذ بداياتها، حدثاً أكبر وأعمق من مجرد حلقة جديدة من الإنكماش أو الركود الموسمي، التي طالما شهدت العقود والسنوات الماضية نماذج منها في مناطق مختلفة، وأحياناً متعددة، من العالم، لكنها كانت مؤقتة، وسرعان ما جرى تجاوزها وإعادة تشغيل الآلة الإقتصادية، مع القليل من التغييرات والتعديلات، والكثير من الخسائر لضحايا هذه الأزمات، من الفئات الأضعف دخلاً عادةً، كما من قطاعات من الشرائح متوسطة الدخل.
وحتى خبير أميركي لا يمكن اتهامه بالراديكالية مثل بول فولكر، المستشار الإقتصادي الحالي للرئيس الأميركي، والرئيس السابق، بين العامين 1979 و1987، للإحتياطي الفيدرالي الأميركي (الذي هو بمثابة البنك المركزي في الولايات المتحدة)، ذهب في شهر شباط/فبراير من العام الماضي 2009 الى حد القول بأنه لا يتذكر أي زمن كانت فيه الأمور تتدحرج نزولاً بهذه السرعة وهذا الشمول لأنحاء العالم على الصعيد الإقتصادي، حتى في مرحلة الكساد الكبير، في ثلاثينيات القرن الماضي (وكالة رويترز 20/2/2009).
وبينما كانت تصدر هنا وهناك، في الآونة الأخيرة، أصوات وأرقام عن بعض المسؤولين في الولايات المتحدة وأوروبا وفي بعض المؤسسات المالية الدولية، تتحدث عن مؤشرات لتجاوز الأزمة وبدء الخروج من النفق، ها هي أرقام نهاية العام 2009 تعطي مؤشرات معبّرة وواضحة عن حقيقة الوضع:
* زاد عدد العاطلين عن العمل المسجلين في الولايات المتحدة في الشهر الأخير من العام 2009 بحوالي 85000 عاطل جديد، وهو رقم أعلى مما كان متوقعاً، مما يؤشر الى عدم اطمئنان أصحاب القرار في مرافق النشاط الإقتصادي المختلفة وعدم ثقتهم بتعافي الإقتصاد واستقرار الوضع. وهكذا، بقيت نسبة البطالة الرسمية في الولايات المتحدة في مطلع العام 2010، والعقد الثاني من القرن، بحدود الـ 10 بالمئة من قوة العمل. وبذلك يكون العام 2009 عاماً كارثياً بالنسبة للقوة العاملة في الولايات المتحدة، على حد تعبير التقرير الذي نقلته وكالة "أسوشييتد برس" في 8/1/2010، حيث جرى إلغاء أكثر من 4 ملايين وظيفة عمل خلال العام 2009. في حين بلغ إجمالي الوظائف الملغاة في الولايات المتحدة منذ بدء الأزمة في أواخر العام 2007 أكثر من 8 ملايين وظيفة. وكانت نسبة البطالة هناك في العام 2007 أقل من 5 بالمئة من قوة العمل. وبما أن الإحصاءات في الولايات المتحدة تلغي من احتساب العاطلين عن العمل أولئك الذين يتوقفون عن البحث عن عمل بسبب اليأس من الحصول عليه، ولا تأخذ بعين الإعتبار أولئك الذين يعملون عملاً جزئياً كبديل عن العمل الكامل بعد أن سعوا إليه دون نتيجة، فإن الرقم الفعلي لنسبة العاطلين عن العمل أو غير العاملين بشكل كامل يتجاوز الـ17 بالمئة من قوة العمل، حسب المصدر ذاته، وهي نسبة عالية طبعاً. ولا تتوقع غالبية الإقتصاديين في الولايات المتحدة أن يشهد العام 2010 تحسناً ملموساً على هذا الصعيد، ولا يتوقعون انخفاضاً جدياً في نسب البطالة خلال السنوات القادمة، وإذا حدث فبوتائر بطيئة، حسب تقديراتهم.
* أظهرت الأرقام الرسمية لمؤسسة "يوروستات" الإحصائية أن منطقة عملة يورو، التي تشمل 16 بلداً، وصلت نسبة البطالة فيها الى 10 بالمئة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2009، لأول مرة منذ بدء التعامل بهذه العملة منذ العام 1999. وهذه النسبة من البطالة تعني بالأرقام أن هناك زهاء 16 مليون عاطل عن العمل في هذه البلدان الـ 16. أما في مجمل بلدان الإتحاد الأوروبي الـ27 فإن نسبة البطالة وصلت في الشهر ذاته من أواخر العام 2009 الى تسعة ونصف بالمئة. وقد ارتفعت نسب البطالة في كل من البلدان الـ27، بلا استثناء، عما كانت عليه في أواخر العام السابق 2008. واحتلت لاتفيا، الجمهورية السوفييتية السابقة، الواقعة على بحر البلطيق، ، المرتبة الأولى بنسبة بطالة تجاوزت الـ 22 بالمئة، فيما اقتربت نسبة البطالة في إسبانيا من الـ 20 بالمئة. وسجلت هولندا النسبة الأدنى من البطالة بأقل قليلاً من 4 بالمئة. وهكذا، تكون إسبانيا هي الدولة الأعلى نسبة بطالة من بين دول منطقة عملة يورو، نظراً لكون لاتفيا لا تنتمي إليها، ولكن تنتمي للإتحاد الأوروبي، طبعاً. وإسبانيا لا زالت في وضع إقتصادي صعب في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وكذلك اليونان، الغارقة في الديون والعجوزات في موازنتها، الى جانب بلدان أخرى في الإتحاد الأوروبي.
* أظهر تقرير للمكتب الإحصائي الفيدرالي الألماني ان الإقتصاد الألماني انكمش بنسبة 5 بالمئة خلال العام 2009، وهي أسوأ نسبة تراجع يشهدها الإقتصاد الألماني منذ العام 1932، ابان الإنهيار الإقتصادي العالمي الكبير، وهو العام الذي سبق وصول أدولف هتلر الى السلطة في ألمانيا. ويعود الإنكماش الألماني الحالي، بدرجة رئيسية، الى كون اقتصاد البلد يعتمد على التصدير الى حد كبير. ونظراً لاستمرار الأزمة العالمية وتراجع الإستهلاك في الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الأخرى ومناطق العالم المختلفة، فقد تراجعت صادرات ألمانيا بنسبة كبيرة. وكان الرقم الأسوأ في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية قبل ذلك هو الإنكماش الذي جرى في العام 1975 وبلغت نسبته في حينه أقل قليلاً من 1 بالمئة.

عشرات الملايين في العالم ينضمون الى خانة الفقر الشديد، بفعل الأزمة

* جاء في دراسة حديثة لمنظمة العمل الدولية أن عدد العاطلين عن العمل في العالم بلغ 212 مليون عاطل في العام 2009، بزيادة 34 مليوناً، أي بزيادة غير مسبوقة بنسبة 19 بالمئة عن العام 2007، العام الذي سبق الإنفجار العلني للأزمة المالية والإقتصادية. وهذا العدد يرفع نسبة البطالة في العالم في العام 2009، وفق الدراسة، الى 6،6 بالمئة من قوة العمل الإجمالية، بزيادة تقترب من الـ1 بالمئة عن العام 2007. وقد تأثرت القطاعات الشابة بشكل أكبر بهذه الزيادة في البطالة، حيث ارتفعت البطالة في صفوفها الى 13،4 بالمئة من مجمل قوة العمل في أوساطها، بنسبة زيادة عن العام 2007 تقترب من الـ2 بالمئة، وهي الأعلى منذ العام 1991، منذ بدأت مثل هذه الإحصاءات تسجّل.
* وجدير بالذكر أن نسبة البطالة العامة في المنطقة العربية هي الثانية الأعلى من بين مناطق العالم بعد إفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى، وهي كانت تتجاوز ضعف النسبة على الصعيد العالمي في مطلع العام 2009، حيث بلغت زهاء 14 بالمئة، وفق الرقم الذي ورد في مداخلة رئيس البنك الدولي روبيرت زوليك أمام القمة العربية التي انعقدت في الكويت في الشهر الأول من العام 2009 وخصصت للشأن الإقتصادي. ومن المتوقع أن تكون هذه النسبة قد ارتفعت بعد مضي أكثر من عام على هذه القمة نتيجة مفاعيل الأزمة الإقتصادية، سواء بفعل تراجع الطلب العالمي على السلع والمواد الأولية، وفي المقدمة النفط الذي تراجع سعره منذ أواسط العام 2008، أو بفعل تراجع الإستثمارات الخارجية والسياحة والحركة عبر قناة السويس بالنسبة لمصر، علاوة على تراجع حجم التحويلات المالية للعاملين العرب في بلدان الخليج الى بلدانهم، وعددهم كان يصل الى الثلاثة ملايين ونصف المليون في العام 2007، وفقد بعضهم وظائفهم، وكذلك بعض العاملين في بلدان أوروبا، وهم في غالبيتهم من بلدان شمال إفريقيا (المغرب العربي ومصر). وجدير بالإشارة أن هذه التحويلات تجاوزت الـ 27 مليار دولار في العام 2008، ومن المؤكد أن حجمها تراجع في العام الماضي.
* وفيما قدّر صندوق النقد الدولي أن العام 2010 من المفترض أن يشهد نمواً إقتصادياً في العالم بحدود 4 بالمئة، فإن البطالة الإجمالية مرشحة للبقاء مرتفعة خلال العام 2010، بين 6 و7 بالمئة في أنحاء العالم. أكثر من ذلك، هناك مليار ونصف المليار عامل وموظف في العالم وظائفهم "مهددة"، أو غير مستقرة، وهو ما يشكل نصف قوة العمل في العالم. وجدير بالذكر أن اقتصادات الدول المتطورة انكمشت (أي تراجع نموها، أو تطورت سلباً) بنسبة 3 ونصف بالمئة في العام 2009، فيما ارتفعت فيها نسبة البطالة الى زهاء 8 ونصف بالمئة في العام ذاته. وقد عبّر كلاوس شفاب، المدير التنفيذي لمنتدى دافوس الإقتصادي العالمي، عشية انعقاد المؤتمر لهذا العام في أواخر الشهر الأول من العام، عن مخاوفه من الإنعكاسات الإجتماعية المحتملة لاستمرار نسبة البطالة العالية في بلدان العالم وكذلك مديونية العديد من دول العالم وتفاقم العجز في موازناتها. وهذا الحال يشمل البلدان المتطورة إقتصادياً، كما رأينا أعلاه، وبشكل أكثر مأساوية، بلدان العالم قليلة التطور الإقتصادي أو الفقيرة.
* عدد من كبار مدراء المؤسسات المالية في "وول ستريت"، وهو الموقع الذي بات يرمز للأزمة لكون الإنهيارات الأكبر بدأت منه، أقرّوا، وفق ما نقلته وكالة "أسوشييتد برس" يوم 13/1/2009، بأنهم لم يقدّروا عمق الأزمة. كما قدموا اعتذارهم للمواطنين الأميركيين عن سلوكهم "المقامِر"، و"قراراتهم السيئة"، وفق تعابيرهم. ومن بين هؤلاء المدراء الذين كانوا يقدمون شهاداتهم أمام "لجنة التحقيق الخاصة بالأزمة المالية" التي تشكّلت في واشنطن، مدير "بنك أوف أميريكا"، ومدير "جي بي مورغان تشيس أند كومباني"، ومدير "مورغان ستانلي"، ومدير "غولدمان ساكس". وهذه المؤسسات الأربع، التي وصفها الخبر بـ"أنها من بين تلك التي بقيت على قيد الحياة بعد أعمق وأطول ركود منذ الكساد الكبير" في ثلاثينيات القرن الماضي، تلقت أموال دعم وإنقاذ من الحكومة المركزية في واشنطن تجاوزت الـ 90 مليار دولار للحؤول دون انهيارها. بينما وجدت المئات من المصارف والمؤسسات المالية الأخرى نفسها مضطرة لإشهار إفلاسها خلال العامين الماضيين في الولايات المتحدة، كما في غيرها من دول العالم.
* رئيس البنك الدولي، روبيرت زوليك، نفسه، وهو نائب وزير سابق في عهد جورج بوش الإبن، الذي عيّنه قبل أكثر من عامين في رئاسة البنك الدولي، وهو موقع يحتله عادة مرشح من الولايات المتحدة، أن "العالم سيبقى يعيش تأثيرات الأزمة المالية"، على حد تعبيره، لعدة سنوات. وزوليك، الذي كان يتحدث في مؤتمر صحافي في العاصمة الألمانية برلين يوم 15/1/2010، أضاف أن أكثر من 64 مليون إنسان إضافي سيقعون في خانة الفقر الشديد خلال العام الحالي نتيجة الأزمة. وأشار الى أن الأزمة تنعكس في البلدان المتطورة إقتصادياً في مجال تراجع فرص العمل والنمو الإقتصادي، وفي البلدان الأضعف إقتصادياً بمزيد من الجوع والفقر والمرض وبآثار على حياة جيل من الأطفال لسنوات عديدة قادمة.
* وكان زوليك إياه، قد ذكر في محاضرة له، يوم 28/9/2009 في جامعة جون هوبكنز الأميركية، أن أيام أميركا كقوة عظمى إقتصادية بلا منازع يمكن أن تكون معدودة، وأن الدولار الأميركي من المرجح أن يخسر دوره كعملة رئيسية، فيما يتعاظم دور الـ"يورو" ودور الـ"رينمينبي" الصيني. وأضاف أن الولايات المتحدة وحفنة من الدول الغنية الأخرى لن تستطيع مواصلة السيطرة على الإقتصاد العالمي، وأن أميركا تفقد قدرتها على التحكم فيه. وزوليك، طبعاً، أبعد ما يكون عن الراديكالية أو اليسارية، وهو يكتفي هنا بتسجيل وقائع تجري أمام أعينه وأعين العالم.
* مدير مؤسسة بلاكستون غروب للحسابات ستيفن شوارزمان كان قد صرح في ندوة انعقدت في آذار/مارس 2009، ونقلت الخبر عنها وكالة رويترز البريطانية، بأن "ما بين 40 و45 بالمئة من الثروة العالمية تم تدميرها في أقل من عام ونصف العام" جراء الأزمة المالية. وتوقع هو نفسه بأن تكون هناك "بؤر قوة" متمثلة في الصين، التي تعهدت، حسب تعبيره بتحقيق نمو بحدود الـ 8 بالمئة في ذلك العام، وفي الهند، حيث "الإقتصاد يتباطأ، ولكن المصارف في حالة جيدة". وبعض المصادر العربية قدّرت خسائر البلدان العربية، وخاصة البلدان المنتجة للنفط وصاحبة الإستثمارات الخارجية، بحوالي 3 تريليونات دولار، أي 3000 مليار دولار!
* وفي سياق التمايز الصيني المشار إليه أعلاه، جاءت إحصائيات الشهر الأخير من العام 2009، لتسجّل زيادة في صادرات الصين بنسبة تقترب من 18 بالمئة، لتبلغ قيمة الصادرات في ذلك الشهر زهاء 131 مليار دولار. وفي مجمل العام 2009 بلغت صادرات الصين ما قيمته 1200 مليار دولار، مقابل زهاء 1170 مليار دولار لصادرات ألمانيا خلال العام، بحيث تتجاوز هكذا الصين ألمانيا لأول مرة، وتصبح الدولة المصدِّرة الأولى في العالم، قبل كافة دول العالم الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة واليابان طبعاً.
* وفي العام ذاته، تجاوزت الصين الولايات المتحدة في حجم صناعة السيارات خلال العام 2009. * ومن المتوقع أن تنتقل الصين الى المرتبة الثانية في العالم، بعد الولايات المتحدة، من حيث حجم الناتج الداخلي الإجمالي (الإسمي)، لتسبق بذلك اليابان، وذلك خلال أشهر معدودة. فيما هي تجاوزتها، فعلاً، من حيث حجم الناتج الداخلي الإجمالي (الفعلي) الذي يأخذ بعين الإعتبار القوة الشرائية الفعلية للعملة وليس الأرقام الإسمية فقط. وكانت الصين قد تجاوزت ألمانيا من حيث الناتج الداخلي الإجمالي (الإسمي) في العام 2007.

آثار إجتماعية طويلة الأمد للأزمة... ورهانات على دور إنقاذي للنمو الصيني

كل هذه الأرقام تظهر أن الأزمة الإقتصادية الرأسمالية العالمية ما زالت مستمرة، بمفاعيلها الإجتماعية السلبية الواسعة. وليس من الواضح لأحد ما هو المدى الذي يمكن أن تستغرقه، وما هي النتائج طويلة الأمد التي ستتركها وراءها. وتراهن إقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا واليابان على اقتصادات آسيا الشرقية والجنوبية، وخاصة على اقتصاد الصين، والى حد أقل إقتصادات الهند والبرازيل، لسحب الإقتصاد العالمي من أزمته، وذلك من خلال إعادة تنشيط الحركة التجارية العالمية، عبر الحفاظ على نسب نمو عالية. وقد حققت الصين فعلاً خلال العام 2009 نسبة نمو بحدود الـ 8 بالمئة المتوقعة، بالرغم من تراجع الطلب العالمي على السلع، وبالتالي تراجع حجم الصادرات الصينية، بما في ذلك وخاصة للولايات المتحدة نفسها، أكبر مستهلك في العالم.
وما بات واضحاً خلال العامين الأخيرين أن الوضع العالمي بعد الأزمة، سواء طالت أو تم تجاوزها بعد فترة من الزمن، ولو بشكل جزئي، سيكون مختلفاً عما كان عليه قبلها. وكان المحلل السياسي المعروف في صحيفة "ذي غارديان" البريطانية شوماس مايلن غير بعيد عن الحقيقة حين كتب، مبكراً، في عدد يوم 23/10/2008 من الصحيفة، مقالاً يحمل عنواناً ومضموناً مثيرين: "هو ليس موت الرأسمالية، ولكن ميلاد نظام عالمي جديد"، معتبراً أن نموذج السوق الحرة والليبرالية الجديدة الذي انتعش منذ الثمانينيات الماضية قد اهتز بقوة بفعل هذه الأزمة، وأن أنصار هذا النموذج جزعون مما يمكن أن يخرج من هذه الأزمة من بدائل.
وليس من المبالغة القول أن ما كان يقال عن فترة انهيارات تجارب التحول الإشتراكي في أوروبا الشرقية ثم تفكك الإتحاد السوفييتي نفسه وانهيار تجربته، بين العامين 1989 و1991، كمحطة تغير كبرى في الموازين وفي الخارطة العالمية، استفردت بعدها الولايات المتحدة بموقع القوة العظمى الوحيدة، يمكن أن يقال الآن، من زاوية أخرى، عن الأزمة الإقتصادية العالمية، التي من الواضح أنها أخذت ترسم ملامح خارطة عالمية جديدة. فلم تعد الولايات المتحدة، بعد هذه الأزمة، قادرة على تحمُّل أعباء الدولة العظمى الوحيدة، والدور الكوني الذي كان يحلم به جورج بوش الإبن. وهو حلم ينقلب اليوم الى ما يشبه الكابوس، على الأقل بالنسبة لملايين المتضررين من الأزمة الإقتصادية ومن الحروب التي شنها، بمن في ذلك المتضررين في الولايات المتحدة نفسها.
وليس صدفة أن يسعى الرئيس الجديد في الولايات المتحدة، الذي كان من الصعب تصوّر إمكانية انتخابه، كنصف إفريقي وإبن لأب مسلم، لولا هذه الأزمة الإقتصادية، الى استرضاء العديد من دول العالم في سياق السعي لإنقاذ البلد من الأزمة الطاحنة وانعكاساتها داخله وخارجه. وكان واضحاً في اللقاءات التي شارك فيها أوباما مع المسؤولين الصينيين، مثلاً، سواء خلال زيارته للصين أو خلال زيارات الوفود الصينية عالية المستوى للولايات المتحدة، أو في المؤتمرات الأوسع التي شارك فيها الرئيسان الأميركي والصيني، أن الطرف الصيني بات يتصرف من موقع الناصح أو حتى أحياناً، الضاغط، لاتخاذ واشنطن قرارات إقتصادية معينة. فخلال زيارة وفد صيني عالي المستوى في شهر تموز/يوليو الماضي لواشنطن لإجراء مفاوضات ثنائية بين القوتين الإقتصاديتين الكبريين، صرّح باراك أوباما بأن"العلاقات بين الولايات المتحدة والصين سترسم ملامح القرن الحادي والعشرين". وفي حين حاول الجانب الأميركي في هذه المفاوضات أن يطرح إشكالية استمرار العجز الكبير في الميزان التجاري بين البلدين، لصالح الصين طبعاً، مجدِّداً المطالبات الأميركية السابقة برفع قيمة العملة الصينية، عبّر الوفد الصيني الذي كان برئاسة نائب رئيس الحكومة وانغ كيشان، المختص بالشؤون الإقتصادية، عن قلق الصين بشأن استمرار العجز العالي في الموازنة الأميركية. وجدير بالذكر أن العجز التجاري بين البلدين، لصالح الصين طبعاً، هو الأعلى بين الولايات المتحدة وأي بلد آخر في العالم، في حين تستوعب الصين الحجم الأعلى من الدين العام الأميركي (سندات الخزينة)، حيث تجاوز هذا الدين الـ800 مليار دولار في نهاية العام 2009. والخشية الصينية من استمرار العجز الأميركي في الموازنة، والذي من المتوقع أن يقترب من الألفي مليار دولار في العام المالي الحالي، ناتجة عن احتمال تكبدها خسائر ملموسة في حال شهد الإقتصاد الأميركي نسبة تضخم عالية في المرحلة القادمة تُفقد العملة الأميركية المزيد من قيمتها، وبالتالي قيمة احتياطيات الصين منها، سواء بشكل سيولة أو بشكل سندات.
وهكذا، بالرغم من استمرار الولايات المتحدة في موقع القوة الإقتصادية العالمية الأولى، بات وضعها الإقتصادي هشاً، وباتت بحاجة لمعونة الصين لإخراج الإقتصاد الأميركي، والعالمي، من أزمته، كما سبق وذكرنا. وبات السلوك المتعجرف للرئيس الأميركي السابق بوش مع الرئيس الصيني، هو جينتاو، في لقاءاتهما خلال السنوات السابقة، من الماضي المطوي، المُخجل وغير المسؤول، لرمز من رموز عنجهية القوة الأميركية، التي لم يعد لها أساس مادي للإستمرار.
وليس صدفة أن يكون الرئيس الأميركي الجديد، باراك أوباما، أكثر تواضعاً في تعامله مع دول العالم المختلفة، الى حد الإنحناء أمام إمبراطور اليابان أو ملك السعودية، أو الوقوف في الصف الثاني أمام آلات التصوير في بعض القمم العالمية أو الإقليمية، وهي سلوكيات لقيت، بالطبع، انتقادات واسعة من قبل رموز ووسائل إعلام اليمين التقليدي في الولايات المتحدة. لكنها سلوكيات لا يمكن تفسيرها فقط بالسمات الشخصية المختلفة لباراك أوباما عن سلفه: فالولايات المتحدة اليوم بحاجة لدول العالم الأخرى للخروج من أزمتها وتجاوز مشاكلها الإقتصادية العميقة. أما قوتها العسكرية الكونية، التي لا زالت، وبمسافة كبيرة، في المرتبة الأولى في العالم، فلا يمكنها أن تعوض عن هشاشة وضعها الإقتصادي، الذي لم يعد يسمح لها بتكرار المغامرات العسكرية التي كان اليمين يحلم بها منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، لفرض السيطرة الأميركية شبه الكاملة على مناطق العالم المختلفة، وخاصة على مناطق الموارد الطبيعية ذات الطابع الإستراتيجي، وفي المقدمة مصادر الطاقة.
وذلك لا يعني أن التغير في سلوك القيادات الأميركية هو تغيّر نهائي، وأن اليمين الأميركي قد سلّم بهزيمة نهائية له في قيادة البلد، وفي محاولة فرض هيمنته العالمية، كما ظهر من ردات فعل بعض رموزه على خطاب أوباما حول "حالة الإتحاد". ولكن أي عاقل في الولايات المتحدة، أو غيرها من دول العالم، لم يعد يستطيع أن يتجاهل أن موازين القوى في العالم تتغير، وانه لم يعد ممكناً أن تُحتسب فقط إنطلاقاً من الموازين العسكرية البحتة وحدها، وأن دولاً ومناطق جغرافية أخرى مرشحة للعب دور متزايد التأثير في السياسة العالمية، بدءً بالصين طبعاً، ومروراً بالهند وروسيا والبرازيل، وتجمعات إقليمية أخرى يمكن أن تتبلور في السنوات القادمة.
وفي هذا السياق، كان في منطق الأشياء أن يكون رئيس الحكومة الجديدة التي تشكلت في اليابان، إثر تفوق حزبه الديمقراطي، الأقرب الى الوسط سياسياً، في انتخابات أواخر آب/أغسطس الماضي وإطاحته بالحزب الليبرالي، اليميني، الحاكم منذ أواسط الخمسينيات الماضية، من دعاة تشكّل تجمع إقتصادي آسيوي يضم اليابان والصين وغيرهما من بلدان المنطقة. وهي دعوة لا تلقى، بالطبع، ترحيباً في واشنطن، التي كانت تتعامل منذ العام 1945 مع اليابان، الدولة المهزومة في الحرب العالمية الثانية، باعتبارها منطقة نفوذ أميركية حصرية.
وبإمكاننا أن نضيف الى الصورة أيضاً، ولأسباب ومعطيات داخلية مختلفة، ذلك الهامش المتزايد من الإستقلالية في سلوك بلد قريب من منطقتنا العربية مثل تركيا، وهي قوة إقتصادية متوسطة الحجم، حيث تأتي في المرتبة الخامسة عشرة عالمياً من حيث حجم اقتصادها. فتركيا كانت طوال فترة "الحرب الباردة" قاعدة مضمونة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وحليفاً وثيقاً لإسرائيل، بينما شهدت السنوات القليلة الماضية، وحتى منذ ما قبل الأزمة الإقتصادية، وبفعل تحولات داخلية في الرأي العام وفي المشهد السياسي التركي، مزيداً من التوجه للتقارب مع المحيط العربي والإقليمي المشرقي والأورو-آسيوي وانتهاج سياسة أكثر انسجاماً مع هذا الخيار الجديد. وهو ما تجلى منذ ما قبل الغزو الأميركي – البريطاني للعراق، حين رفضت الحكومة التركية السماح للقوات الأميركية بالإنطلاق من أراضيها.

عالم ما بعد 2008... آفاق مفتوحة على اشتراكية "القرن الجديد"، وبنفس طويل

ولا شك أن الصورة الجديدة للوضع العالمي قد تأخذ بعض الوقت حتى تتبلور، وحتى تظهر معالم ومعطيات هذا العالم الجديد، عالم ما بعد هذه الأزمة الإقتصادية الكبرى، عالم ما بعد 2008. وهذا العالم الجديد سيكون، بالضرورة، عالماً مختلفاً عن ذلك الذي تصوَّره بعض منظّري سيادة "الرأسمالية الليبرالية" و"نهاية التاريخ" في مطلع التسعينيات الماضية. وسيكون، بالتأكيد، مختلفاً عن العالم الذي حاول جورج بوش وفريقه من "المحافظين الجدد" والمحافظين الأقدم تثبيت دعائمه، والإسراع في فرض سيطرة واشنطن الكونية واستباق صعود قوى جديدة منافسة على المستوى العالمي، كما أوصى بذلك، في وثيقة شهيرة تسربت الى وسائل الإعلام في حينه، بول وولفوويتز، الذي كان أحد مساعدي وزير الدفاع الأميركي في العام 1992، والذي أصبح نائباً لوزير الدفاع خلال الولاية الأولى لجورج بوش الإبن، وكان، بالطبع، أحد كبار الداعين والمندفعين لغزو العراق، كمدخل للسيطرة على مناطق الثروات الطبيعية في العالم، واحتواء نمو القوى العالمية الصاعدة.
وبما ان الصين ستحتاج الى فترة من الزمن، ربما عقدين، ليتجاوز حجم اقتصادها حجم اقتصاد الولايات المتحدة، فهي لا تسعى الآن الى تحميل نفسها عبء دور كوني منافس للولايات المتحدة، على غرار دور الإتحاد السوفييتي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى تفككه. وفي كل الأحوال، فهي لا تسعى الى تكرار التجربة السوفييتية على الصعيد العالمي، وهي، بالتأكيد، افترقت عنها كثيراً في مجال السياسات الإقتصادية.
ولكنها تعمل بهدوء وبدون صخب على تدعيم قوتها العسكرية، على أرضية تطور وضعها الإقتصادي، والأهم تلك "القوة الناعمة" التي تجعل نفوذها الإقتصادي، وبالتالي السياسي، يتمدد، أولاً في محيطها الجغرافي الآسيوي، ومن ثمّ في قارات ومناطق أخرى في أنحاء العالم، بما في ذلك في القارة الإفريقية وفي أميركا اللاتينية، لتأمين المواد الأولية والموارد الطبيعية التي تحتاج صناعاتها لها، كما لفتح أسواق جديدة لبضائعها المتزايدة الكم والمتطورة النوع، ولاستثماراتها المتزايدة لتصريف الكم الهائل من الدولارات التي تجمعت لديها، قبل أن تؤثر أزمة الإقتصاد الأميركي على قيمة هذه العملة. والصين تتصرف على أساس أن الطريق أمامها لا زال طويلاً: وبعض المراقبين المهتمين يرون في هذا الموقف امتداداً لتلك الحكمة الصينية والشرق- آسيوية القديمة، وذلك التواضع الذي يلمسه الإنسان في أكثر من بلد من بلدان تلك المنطقة الصاعدة على المسرح العالمي.
والمهم، بالنسبة للصين في المرحلة الحالية، هو المساهمة، مع دول صاعدة أخرى في الإقتصاد العالمي، في لعب دور في صياغة وبلورة علاقات دولية جديدة قائمة على توازن فعلي للمصالح، وليس على أساس القوة والغطرسة العسكرية، التي كان اليمين الأميركي يعتبرها مدخله للسيطرة على العالم. ومن الواضح الآن أن هذا اليمين قد فشل في ذلك، على الأقل في الصيغة الإمبراطورية التي كان يتصورها في مطلع التسعينيات. وعلى القوى الصاعدة أن تلعب الدور المطلوب في المساهمة في رسم ملامح العالم الجديد.
***
ويرى الإقتصادي والمحلل الإستراتيجي اليساري المصري، المعروف عالمياً، سمير أمين، أن الأزمة الحالية للإقتصاد الرأسمالي العالمي هي أزمة بنيوية، وعلاجها الجذري لن يكون إلا من خلال تجاوز النظام، وانه حتى ولو جرى بعض التحسن في الوضع الإقتصادي الرأسمالي من خلال إجراءات الدعم المالي المتبعة من قبل الحكومات المختلفة، فإن الأزمة لن تلبث أن تعود بأشكال جديدة في السنوات القادمة. وقد أوضح سمير أمين وجهة نظره في كتاب صدر له في النصف الأول من العام 2009 تحت عنوان "خروج الرأسمالية من أزمتها، أم الخروج من الرأسمالية المأزومة".
وكان سمير أمين قد دعا قبل فترة من الزمن الى تشكيل "أممية خامسة" لتجميع جهود قوى اليسار المناهض للرأسمالية في العالم. وحمل كتاب له صدر في العام 2006 عنواناً بهذا المعنى "في سبيل الأممية الخامسة". وهي دعوة تبناها مؤخراً رئيس فنزويلا أوغو تشافيس، الذي ينوي تنظيم اجتماع أول لوضع أسس هذا التجمع الأممي الجديد، وذلك في نيسان/أبريل القادم في العاصمة الفنزويلية كاراكاس. ومن المشروع تماماً أن يجري التفكير بتسمية أخرى لهذه الأممية الجديدة منعاً لأي التباس أو أية حساسيات تاريخية، حيث ان اليسار العالمي المناهض للرأسمالية بغنى عنها بعد كل ما حدث في القرن الماضي، بحيث تسمى مثلاً "أممية القرن الحادي والعشرين"، أو أية تسمية أخرى مناسبة.
ويرى سمير أمين ان عملية التحول الإشتراكي، خلافاً للتصورات التي كانت سائدة خلال القرن العشرين، لن تكون ناجمة عن ثورات جامحة تُجري نقلة سريعة، بين ليلة وضحاها، من النظام الرأسمالي الى النظام الآخر البديل، الإشتراكية، وإنما عن عملية تحلل وتضعضع طويلة نسبياً للنظام الرأسمالي، تفتح المجال أمام عملية إنتقال، مديدة الى حد ما، نحو اشتراكية كونية. وهو هنا يتمايز، طبعاً، عن تلك التصورات التي كانت، في مطلع القرن العشرين، تتوقع أن تتحقق نهاية النظام الرأسمالي في زمن قريب، ويتم بناء المجتمع الإشتراكي على أنقاضه في ظرف سنوات أو عقود قليلة. وهو ما أثبتت تطورات القرن الماضي أنه كان تصوراً بعيداً عن الواقع، ويتضمن قدراً كبيراً من "الإرادوية" وإحلال التمنيات مكان الوقائع المادية.
ولكن، في الأمد القريب، من الواضح اننا أمام إعادة رسم لخارطة التوازنات العالمية، بحيث يتراجع، الى حد معين وبشكل نسبي، موقع ونفوذ الولايات المتحدة، وعلى الأغلب أيضاً مركزية عملتها، الدولار، التي احتلت عملياً مكانة العملة الدولية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهو أمر سلّم به بشكل صريح، كما رأينا أعلاه، مسؤولون أميركيون كبار مثل رئيس البنك الدولي روبيرت زوليك.
يبقى أن نرى كيف يمكن أن تدفع هذه التوازنات العالمية الجديدة نحو الحد من تدهور الأوضاع المعيشية لقطاعات واسعة من سكان الكرة الأرضية، وتساهم في بلورة نظام عالمي جديد يتجه الى توزيع أكثر عدالة للثروة العالمية، التي تكفي، لو تم تجاوز سوء التوزيع الراهن، لتغطية احتياجات البشرية كلها. وهو ما شدّد عليه العالم الإجتماعي والناشط السياسي السويسري التقدمي جان زيغلر، النائب المعارض السابق في برلمان بلاده والعضو الحالي في اللجنة الإستشارية لمجلس حقوق الإنسان في منظمة الأمم المتحدة، حين أعاد التذكير بتقديرات المنظمة الدولية للغذاء والزراعة "فاو" بكون الإنتاج الزراعي الحالي في العالم يكفي، من حيث الكم، لتوفير الغذاء لـ 12 مليار إنسان، أي لضعف عدد سكان الكرة الأرضية الحالي تقريباً. كما دعا زيغلر، في تصريحات له في أواخر العام المنصرم، الى تقديم أصحاب المؤسسات المالية العالمية المسؤولين عن انفجار الأزمة المالية الى المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لكون الأموال التي اكتسبوها أو قادوا الى تبديدها، أو تلك التي يتم توفيرها من الحكومات في ما بعد اندلاع الأزمة لدعم مصارفهم ومؤسساتهم المالية وإنقاذها من الإنهيار، تمت سرقتها، وفق تعبيره، من أفواه الجياع في العالم الذين يموتون بأعداد متزايدة بسبب تفاقم الفقر في مناخ الأزمة الإقتصادية.
وهكذا، يبقى التطلع نحو بناء مجتمع عالمي أكثر عدالة وإنسانية طموحاً مشروعاً، وإن كان تحقيقه يتطلب نفَساً طويلاً وعملاً دؤوباً مشتركاً بين كل من يعتقد أن الظلم والإستغلال والفاقة ليست قدراً، وأن فشل محاولات سابقة، بمعزل عن عوامل قوتها وضعفها وتناقضاتها، لا يعني التسليم بالواقع القائم وبهذا النظام الإقتصادي والسياسي العالمي الجائر الذي يحكم على قسم كبير من البشرية بالموت جوعاً أو قهراً أو تحت قذائف ورصاص المدافعين عن هذا النظام وجيوشه الغازية.



#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يسار أميركا اللاتينية في عقده الثاني...التيار الجذري هو الذي ...
- اليسار الياباني مرشّح لتأثير أكبر على سياسات البلد
- هل تفتح الأزمة الإقتصادية العالمية آفاقاً جديدة أمام اليسار؟
- اليسار الأوروبي: هل من مؤشرات للخروج من المرحلة الرمادية؟
- لماذا تراجع اليسار في انتخابات الهند الأخيرة؟
- على خلفية خطوات فنزويلا وبوليفيا التضامنية ابان محنة غزة... ...
- من ستالينغراد، عام 1943، الى معارك جورجيا 2008... تطورات الق ...
- حول سمات وآفاق الوضع الفلسطيني بعد الحرب على غزة (من ندوة لم ...
- هل بالإمكان تجاوز الأزمة الإقتصادية العالمية بدون حروب كبيرة ...
- نجاحات جبهة فارابوندو مارتي الإنتخابية في السلفادور تؤكد است ...
- الحرب على غزة... وخطة شارون- داغان لتصفية مشروع الإستقلال ال ...
- بعد عشر سنوات على رحيل عالم التاريخ والتراث هادي العلوي...ما ...
- نهاية نهاية التاريخ..!
- حول الموقف السوفييتي من مسألة فلسطين في العامين 1947-1948
- حول بعض الملاحظاتٍ على كتاب -اليسار والخيار الإشتراكي-
- في أربعين -الحكيم- جورج حبش... نكبات فلسطين المتعاقبة وتحديا ...
- -اليسار والخيار الإشتراكي... قراءة في تجارب الماضي وفي احتما ...
- 90 عاماً على الثورة البلشفية في روسيا.... هل كان بالإمكان تف ...
- حروب النفط والصراعات على منابعه وممراته مرشّحة للإتساع
- القرن 21 سيكون قرناً آسيوياً؟


المزيد.....




- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - داود تلحمي - العقد الثاني من القرن: الأزمة الإقتصادية الرأسمالية مستمرة... والإشتراكية على جدول الأعمال، ولو بعد حين