أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - داود تلحمي - أزمات البلدان الأوروبية ومأزق أحزاب -يسار الوسط-















المزيد.....


أزمات البلدان الأوروبية ومأزق أحزاب -يسار الوسط-


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 3036 - 2010 / 6 / 16 - 08:32
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


بات واضحاً الآن أن الأزمة التي انفجرت علناً منذ أواخر العام الماضي في اليونان، البلد العضو في الإتحاد الأوروبي وفي منطقة عملة اليورو، والمتمثلة في إعلان الحكومة الجديدة هناك عن تعذر إمكانية سداد الديون المتراكمة على البلد خلال السنوات الأخيرة ومطالبتها بإعادة جدولة الديون أو توفير مساعدات لسدادها، هذه الأزمة ليست مقتصرة على اليونان وحده.
وإجراءات التقشف التي فرضتها الهيئات الأوروبية المقررة، بما فيها البنك المركزي الأوروبي، وكذلك صندوق النقد الدولي، على حكومة أثينا كشرط لتوفير القروض المالية الضرورية التي طلبتها الحكومة لاستمرار تسديد فوائد الديون وأقساطها، مثل هذه الإجراءات بدأت تتكرر بشكل أو بآخر في بلدان أوروبية أخرى، استباقاً لاحتمال الوصول الى وضع شبيه بالوضع اليوناني. كل ذلك كان له انعكاساته على وضع العملة الأوروبية الرئيسية، اليورو، التي يتبناها 16 بلداً من البلدان الـ 27 الأعضاء في الإتحاد الأوروبي، حيث فقد اليورو منذ ستة أشهر أكثر من 20 بالمئة من قيمته مقابل الدولار الأميركي، ووصل الى أدنى قيمة له مقابل الدولار منذ أربع سنوات.
ويرد ضمن قائمة البلدان المهددة اسم إسبانيا، البلد الذي يعاني أعلى نسبة بطالة في منطقة اليورو وثاني أعلى نسبة بطالة في الإتحاد الأوروبي (بعد لاتفيا، التي ليست عضواً في منطقة اليورو)، وهي نسبة تجاوزت في الأسابيع الأخيرة الـ 20 بالمئة من قوة العمل ( في لاتفيا، النسبة كانت في مطلع ربيع العام الحالي أكثر من 22 بالمئة). كما ترد أسماء بلدان أخرى مثل البرتغال وإيرلندا، وحتى إيطاليا. في حين تسعى دول أوروبية أخرى، في منطقة اليورو وخارجها، الى اتخاذ إجراءات إحترازية لاستبعاد شبح السيناريو اليوناني.
وفي كل هذه الدول، وغيرها، مثل ألمانيا، الدولة الوحيدة في الإتحاد الأوروبي التي شهدت انخفاضاً في نسبة البطالة خلال الأشهر الأخيرة، بحيث باتت النسبة فيها حالياً بحدود الـ 7 بالمئة من قوة العمل، في حين يقترب متوسط البطالة في الإتحاد من الـ 10 بالمئة، يجري الحديث في الآونة الأخيرة عن إجراءات تقشف وتقليص في النفقات العامة، لتخفيض حجم الدين العام (الحكومي)، من جهة، ولتخفيض العجز في الموازنة العامة لكل دولة. وهو عجز وصل في اليونان الى نسبة تتجاوز الـ 13 بالمئة من الناتج الداخلي الإجمالي للبلد، كما أعلن عن ذلك جورج باباندريو، رئيس الحكومة اليونانية التي تشكلت بعد الإنتخابات النيابية التي جرت في أوائل تشرين الأول/أكتوبر الماضي. هذا، في حين تشترط قواعد منطقة اليورو، كما حددتها إتفاقية ماستريخت في العام 1992 والإضافات اللاحقة عليها، ألا يتجاوز هذا العجز في الموازنة نسبة الـ 3 بالمئة من الناتج الإجمالي. ولذلك مطلوب من اليونان أن يشد الأحزمة بشكل عنيف وسريع، بحيث تنخفض هذه النسبة بالقدر المطلوب خلال فترة زمنية محدودة، وتعود اليونان، كما وغيرها من بلدان منطقة اليورو، تحت الخطوط الحمراء المحددة في الإتفاقيات الموقعة.

التقشف يطال أولاً قطاعات العمال والموظفين، ويمس الضمانات الإجتماعية:

المعضلة التي تثير غضب قطاعات واسعة من الفئات الشعبية في اليونان، وفي غيرها من البلدان الأوروبية، هي كون التقشف يجري بالدرجة الأولى على حساب هذه الفئات الشعبية، وخاصة العمال والموظفين والمتقاعدين أو المرشحين للتقاعد، كما على حساب بعض قطاعات الفئات الوسطى، التي عليها أن تتحمل كلها عواقب الأزمة المالية والإقتصادية العالمية، التي لم يتسببواه هم بها، بل تسبب بها كبار المضاربين وأصحاب الإحتكارات والتكتلات المالية الكبيرة، في الولايات المتحدة وفي أوروبا بدرجة رئيسية، والذين يفلتون غالباً من الحساب ودفع الثمن.
إعلان باباندريو، زعيم الحركة الإشتراكية لعموم اليونان (يسار الوسط)، عن موازنة حكومته وعن العجز المحدد فيها لهذا العام شكّل مفاجأة لكون التقديرات السابقة كانت تعطي نسبة للعجز هي تقريباً نصف النسبة التي أعلنها. وقد تبين أيضاً أن الحكومة السابقة دأبت على إخفاء حقيقة مديونية البلد، التي وصلت نسبة هي الأعلى في منطقة اليورو والإتحاد الأوروبي، حوالي 113 بالمئة من الناتج الداخلي الإجمالي للبلد، أي زهاء ضعف المسموح به في قواعد العمل المحددة في الإتحاد، وهو 60 بالمئة كسقف أعلى. وبينما تعلن حكومة اليونان عن عزمها تخفيض العجز في الموازنة الى أقل من 10 بالمئة في نهاية العام 2010، فإن حسابات هيئات الإتحاد الأوروبي أقل تفاؤلاً، حيث تتوقع أن يبقى العجز في الموازنة اليونانية فوق الـ 12 بالمئة في العام الحالي، وأن يزداد، في الوقت ذاته، الدين العام ليتجاوز الـ 120 بالمئة من الناتج الداخلي الإجمالي.
وفي سياق إجراءات التقشف، أعلنت حكومة اليونان أنها ستسعى الى تخفيض نفقات الضمانات الإجتماعية بنسبة 10 بالمئة خلال العام 2010، وتجميد الأجور في القطاع العام حتى العام 2014 ووقف صرف الرواتب السنوية الإضافية (الشهر الثالث عشر والشهر الرابع عشر)، وتخفيض النفقات العامة بنسبة تفوق الـ 40 بالمئة، وهو ما يمس بالدرجة الأولى قطاعي التعليم والصحة، الى جانب الضمانات الإجتماعية، الى جانب توجه الحكومة للسعي لرفع سن التقاعد. وبطبيعة الحال، كان لا بد للحكومة الجديدة أن تشير الى ضرورة العمل على مواجهة المعضلات المزمنة التي يعاني منها الوضع الإقتصادي- الإجتماعي اليوناني، وخاصةً استشراء الفساد والتهرب من الضرائب. وكل ذلك بهدف الوصول الى عجز في الموازنة أقل من 3 بالمئة في العام 2012، وفق تخطيطات الحكومة اليونانية. كل هذه الإجراءات التقشفية ستقود، حكماً، الى تراجع القدرة الشرائية لقطاعات واسعة من الشعب بنسب قد تصل الى أكثر من 30 بالمئة، نظراً لنسبة التضخم العالية في البلد. مما يعني مزيداً من الإفقار في اليونان، علماً بأن البلد يعاني أصلاً من نسبة "فقر" عالية، وفق المعايير المحددة، قدّرتها وكالة الإحصاء الوطنية هناك بأكثر من 22 بالمئة من السكان.
وقد شهدت الأيام الأولى من شهر أيار/مايو الماضي سلسلة من التحركات الإحتجاجية في أنحاء اليونان على إجراءات التقشف هذه التي تمس قطاعات شعبية واسعة، وإن كانت الحكومة اليونانية تتحدث عن إجراءات موازية للحد من امتيازات الأثرياء وكبار موظفي البنوك والمؤسسات المالية. لكن بإمكان الأثرياء، طبعاً، دائماً تهريب أموالهم وإيداعها أو استثمارها في بلدان أخرى من الإتحاد، أو خارجه، وهو احتمال يشكل سيفاً مسلطاً على عنق أية حكومة، مهما كانت نواياها وتجهاتها المبدئية.

الأزمة ليست مقتصرة على اليونان ...

وفي إيرلندا، التي كان اقتصادها قد نما بنسبة 5 بالمئة تقريباً في العام 2007، أي قبل انفجار الأزمة المالية في الولايات المتحدة، وبنسب أعلى في السنوات السابقة، انكمش الإقتصاد بحوالي 2 بالمئة في العام 2008، وأكثر من 7 بالمئة في العام 2009، فيما ارتفعت البطالة من 5 بالمئة في شباط/فبراير 2008 الى أكثر من 10 بالمئة في شباط/فبراير 2009، والى أكثر من 13 بالمئة حالياً، في أواسط العام 2010. ومشكلة إيرلندا، التي كانت إحدى أفقر دول أوروبا قبل عقود قليلة وتحولت في مطلع القرن الجديد الى إحدى أغناها، أنها استقبلت خلال العقدين الماضيين حجماً كبيراً من الإستثمارات الخارجية، وخاصة الأميركية، حيث جرى فتح فروع ومنشآت للشركات عابرة الحدود، وفي المقدمة شركات المعلوماتية الأميركية الكبرى، وهي كلها شركات قلّصت من مشاريعها بعد انفجار الأزمة في الولايات المتحدة في أواخر العام 2008. مما انعكس سلباً على الإقتصاد الإيرلندي. وهكذا، اضطر رئيس حكومة إيرلندا الى إجراء ضغط في الموازنة العامة المعلنة في أواخر العام 2009 والى اتخاذ خطوات تقشفية أخرى.
وفي إسبانيا، أعلنت حكومة خوسيه لويس ثاباتيرو (يسار الوسط) في الشهر الأول من العام 2010 عن خطة لتخفيض النفقات بمقدار 50 مليار يورو تشمل تقليصاً بنسبة 4 بالمئة في نفقات القطاع العام. كما سعت الى رفع سن التقاعد من 65 الى 67 عاماً. وهو ما أثار موجة من الإحتجاجات الشعبية الواسعة في البلد. ولم تتمكن المفاوضات بين الحكومة والنقابات من التوصل الى اتفاق حتى أواسط حزيران/يونيو، مما يترك المجال أمام إجراءات جزئية من جانب الحكومة، مقابل مزيد من التحرك الإحتجاجي في الشارع. هذا في وقت تشير فيه استطلاعات الرأي الى تراجع شعبية حزب يسار الوسط الحاكم منذ ربيع العام 2004 وتقدم حزب اليمين المعارض الرئيسي، الحزب الشعبي.
وفي البرتغال، اتفق رئيس الحكومة جوزيه سوكراتيش (يسار الوسط أيضاً) مع رئيس المعارضة اليمينية في شهر أيار/مايو الماضي على تخفيض النفقات العامة بهدف تقليص العجز في الموازنة من أكثر من 9 بالمئة في العام 2009 الى زهاء 7 بالمئة في العام 2010 وأقل من 5 بالمئة في العام 2011.
وفي إيطاليا، التي يحكمها إئتلاف يميني منذ ربيع العام 2008، قررت الحكومة إجراءات تقشف لتخفيض العجز في الموازنة، والذي بلغ أكثر من 5 بالمئة في العام 2009، الى أقل من 3 بالمئة في العام 2012.
وحتى ألمانيا، كبرى اقتصادات الإتحاد الأوروبي والقارة كلها، والتي يحكمها إئتلاف يميني صرف منذ انتخابات أوائل خريف العام 2009، قررت الحكومة رزمة ضغط في النفقات لتخفيض العجز في الموازنة، وهو عجز من المتوقع أن يكون هذا العام بحدود الـ 5 بالمئة، الى أقل من 3 بالمئة في العام 2013.

حيرة الناخبين بشأن المخارج من الأزمة:

هذا، وشهدت هولندا، الدولة صاحبة نسبة البطالة الأدنى في الإتحاد الأوروبي (حوالي الـ 4 بالمئة من قوة العمل)، انتخابات نيابية يوم 6/6/2010 نتج عنها تراجع كبير في نسبة أصوات وعدد مقاعد الحزب اليميني (المسيحي الديمقراطي) الحاكم حتى ذلك الحين لصالح حزب يميني آخر (حزب الشعب للحرية والديمقراطية) يدعو الى تطبيقات ليبرالية جديدة والى خفض في النفقات العامة، كما لصالح حزب يميني متطرف (الحزب من أجل الحرية) معادٍ للجاليات المسلمة في البلد، تحول هكذا الى الحزب الثالث في البلد متجاوزاً الحزب اليميني الحاكم سابقاً، في حين جاء حزب العمل، حزب يسار الوسط، في المرتبة الثانية، بفارق مقعد واحد عن الحزب الليبرالي الفائز. أي أن قطاعاً من الناخبين اختار طريق "الليبرالية الجديدة" وقطاعاً متقارب الحجم دفع باتجاه الخيار "الإجتماعي الديمقراطي"، فيما هرب قطاع ثالث نحو الشعارات المناهضة للأجانب (المسلمين، في هذه الحالة). ومن غير الواضح ما هي السياسة التي يمكن أن تتبعها أية حكومة جديدة، ستكون إئتلافية من عدة أحزاب بالضرورة، حيث أن من الواضح أن الإقتراع لم يعطِ تكليفاً واضحاً وحاسماً لأي تيار. وجدير بالإشارة أن العجز في موازنة البلد من المقدر أن يصل الى أكثر من 6 بالمئة من الناتج الإجمالي خلال العام الحالي 2010.
وارتباك الناخبين في هولندا سبقه ارتباك عكسته محصلة الإنتخابات البريطانية التي جرت في 6/5/2010 الماضي وشهدت تراجعاً في رصيد حزب العمال (يسار الوسط)، الحاكم منذ العام 1997، وإن يكن التراجع الحاصل أقل مما كان متوقعاً في استطلاعات الرأي، لكن الناخبين لم يمنحوا أغلبية واضحة للخصم الرئيسي للحزب الحاكم، حزب المحافظين، اليميني، الذي اضطر الى تشكيل إئتلاف حكومي، وهي حالة نادرة في بريطانيا، مع الحزب الثالث في البلد، الحزب الليبرالي الديمقراطي، الذي كان من المفترض أن يكون أقرب في مواقفه السياسية والإجتماعية الرئيسية الى حزب العمال.
وشهدت بلجيكا كذلك في انتخابات 13/6/2010 نتائج تعطي انطباعاً مشابهاً، حيث صوّت جسم أساسي من الإثنية الفلامانية، القريبة من الهولندية، والتي تشكل حوالي 60 بالمئة من سكان البلد، لصالح الحزب الإنفصالي الرئيسي، في حين شهدت المناطق الناطقة بالفرنسية تقدماً لحزب يسار الوسط، الإجتماعي الديمقراطي، مما يجعل مسألة تشكيل حكومة أصعب من السابق، وربما يعزز احتمالات انشطار البلد في المستقبل. وفي حالة وصول الأمور الى حد الإنفصال بين المجموعتين الإثنيتين الكبيرتين في البلد، وهو ما كان يدعو له في برنامجه الإنتخابي الحزب الفلاماني الفائز، وإن كان قد خفف من لهجته هذه بعد الإنتخابات، تكتمل المفارقة: حيث ينقسم البلد الذي يستضيف مؤسسات الإتحاد الأوروبي والذي هو أحد مؤسسي مشروع الوحدة الأوروبية منذ الخمسينيات الماضية. فكيف يمكن أن تقوم وحدة متعددة القوميات والثقافات على صعيد القارة، في حين لا تستطيع إثنيتان أن تستمرا في التعايش في بلد تشكّل بالأساس منهما؟!
وفي فرنسا، التي جرى فيها منذ ربيع العام 2007 انتخاب الرئيس الأكثر يمينية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958، والمقصود طبعاً نيكولا ساركوزي، المناصر علناً للإجراءات النيوليبرالية والمتناغم، في حينه، مع إدارة جورج بوش الإبن، وحتى مع "المحافظين الجدد" الأميركيين الذين كان نفوذهم قد تراجع في السنوات الأخيرة من حكم بوش، تراجعت أسهم ساركوزي بسرعة بعد توليه الحكم، وخاصة في ظل المناخات التي رافقت بداية انكشاف الأزمة الإقتصادية الرأسمالية. وهو ما اتضح بشكل صارخ في انتخابات المقاطعات (المناطق) التي جرت في آذار/مارس 2010 حيث سجلت المعارضة اليسار- وسطية والبيئوية مكاسب كبيرة على حساب حزب ساركوزي، الذي تكبّد خسائر كبيرة. ويحاول ساركوزي في الآونة الأخيرة أن يستفيد من مناخات أزمة اليونان وتراجع قيمة العملة الأوروبية وإجراءات شد الأحزمة المقررة في عدد من بلدان أوروبا، للعودة الى مشاريعه المبيتة السابقة، والداعية الى تأخير سن التقاعد عدة سنوات واشتراط التقاعد بمدة خدمة أطول، وإجراءات أخرى يرى فيها العمال والموظفون قضماً لمكاسبهم الإجتماعية، مما دفع النقابات الممثلة لهذه القطاعات الى التحرك المتواصل في شوارع فرنسا في الأشهر الأخيرة، بحيث وصلت حركة الإضرابات والتظاهر يوم 27/5 الماضي لتشمل زهاء المليون متظاهر في 176 تحركاً موقعياً في أنحاء البلد. وهو تحرك يمكن أن يتكرر ويتسع في حال استمرت الحكومة في عزمها على محاولة تمرير إجراءاتها.

مأزق أحزاب "يسار الوسط"!

يمكن القول باختصار أن الأزمة الإقتصادية تتواصل بأشكال أشد حدة في دول أوروبا الرئيسية خلال الأشهر الأخيرة. وفيما تتسع تحركات الشارع في معظم هذه البلدان، تسعى عدد من حكوماتها، بما في ذلك حكومات التيار الإجتماعي الديمقراطي (يسار الوسط)، الحاكم في بريطانيا حتى انتخابات 6/5 الماضي، والحاكم حالياً في كل من اليونان وإسبانيا والبرتغال وبلدان أخرى، لتمرير إجراءات تدخل في سياق توصيات "الليبرالية الجديدة"، وتشمل قضماً للضمانات الإجتماعية المكتسبة، تحت ذريعة محاولة إنقاذ تلك الدول من الإفلاس والإنهيار الإقتصادي أو تفادي أزمات مستقبلية أكبر. وإذا كان تراجع قيمة اليورو تجاه الدولار يعطي انطباعاً أولياً بتضعضع إقتصادات منطقة اليورو، التي تضم بعضاً من كبرى اقتصادات العالم، وفي المقدمة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وهي دول أعضاء في مجموعة الدول الرأسمالية السبع الرئيسية الشهيرة، فإن لهذا التراجع في قيمة اليورو، بالمقابل، ميزة كبيرة: حيث انه يجعل الصادرات الأوروبية اقل كلفة بالنسبة للبلدان الأخرى المستوردة، مما يمكن أن يساعد في تنشيط حركة التصدير، وبالتالي في انتعاش اقتصادات منطقة اليورو. لكن ذلك ليس سوى جانب من الصورة، حيث ليس واضحاً بعد الى اي مدى يمكن أن يتراجع اليورو، وإذا ما كان تنامي الصادرات وحده يمكن أن يُخرج البلدان الأوروبية من أزماتها.
ففي واقع الحال، يرى العديد من المحللين الإقتصاديين، بمن فيهم من المحللين اليمينيين، أن إجراءات شد الأحزمة المطبقة، في بلد مثل اليونان، لن تقود الى إخراج البلد من الأزمة، بل ستفاقم من حجم الدين الخارجي خلال السنوات القادمة، وستحول دون تنشيط الإقتصاد الداخلي مع تراجع دخل غالبية المواطنين، مما يهدد بمزيد من التباطؤ الإقتصادي وتفاقم نسبة البطالة. فاليونان تقترض المزيد لتسديد فوائد واقساط ديون سابقة. ومن الواضح انه، حتى في البلدان التي لا تعيش أجواء متأزمة حادة مثل اليونان، فإن الجهات الحاكمة تسلّم عملياً بأن البطالة باتت ظاهرة مزمنة، وربما ضرورية، من وجهة نظر بعض منظري "الليبرالية الجديدة"، في ظل النظام الإقتصادي السائد، وأن أولوية الجهات الحاكمة هي إعادة عجلة النمو الإقتصادي الإجمالي للبلدان، ولو على حساب القطاعات الأدنى والفئات الوسطى في هذه البلدان، على أرضية أن الإنتعاش يتأتى بالأساس من خلال انتعاش الشركات الكبرى وعملية الإنتاج والتصدير. أما البطالة، فبإمكانها أن تنتظر.
والمفارقة هنا تكمن في أنه، في الوقت الذي نبعت فيه الأزمة الإقتصادية العالمية الحالية من ممارسات مرحلة "الليبرالية الجديدة"، التي انطلقت بقوة منذ مطلع الثمانينيات الماضية، خاصة من بريطانيا والولايات المتحدة في عهدي مارغريت ثاتشر ورونالد ريغن، فإن إجراءت شد الأحزمة المفروضة حالياً على البلدان الأوروبية لا تعدو كونها، في نهاية المطاف، تسريعاً في تطبيق توصيات "الليبرالية الجديدة" الداعية الى تقليص نفقات الدولة، بما في ذلك الضمانات الإجتماعية للعمال والموظفين، بدلاً من التخلي عن هذا الخيار الإقتصادي. ومفارقة أخرى تكمن في كون تطبيقات شد الأحزمة هذه تجري في عدد من الدول الأوروبية، مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال، على أيدي أحزاب التيار الإجتماعي الديمقراطي، أي يسار الوسط، الذي من المفترض أن قاعدته الإنتخابية هي، في جزء كبير منها، من قطاعات العمال والموظفين والطبقات الوسطى، مما يضع هذا التيار في مأزق، ويهدد، بطبيعة الحال، بفقدانه لأصوات قسم من ناخبيه التقليديين. وهو ما حدث في انتخابات بريطانيا الأخيرة، وما يبدو أنه يمكن أن يحدث في بلد مثل إسبانيا في حال أجريت الإنتخابات في وقت قريب، وفق استطلاعات الرأي. وبما أن خيارات التغيير الجذري في النظام الإقتصادي ليست متوفرة وليست لديها روافع تنظيمية كافية، على الأقل حتى الآن، فإن قسماً من جمهور يسار الوسط يتجه للتصويت لأحزاب اليمين، وأحياناً لأحزاب اليمين المتطرف العنصري، وهي ظاهرة رافقت في البلدان الأوروبية خلال العقود الأخيرة تنامي نسب البطالة وتفاقم التهميش الإجتماعي الذي ينجم عنها.
ومفارقة أخرى تكمن في دور الإتحاد الأوروبي نفسه، حيث يبدو هنا، بمؤسساته الموحدة الرئيسية، بما في ذلك المفوضية والبنك المركزي، وكأنه حامي حمى تطبيقات "الليبرالية الجديدة". وهو ما بدأ يدفع بعض الأوساط في البلدان الأكثر تضرراً بالتفكير بمدى فائدة البقاء في منطقة اليورو أو في الإتحاد نفسه. مع العلم بأن خيار الخروج منه ليس قراراً سهلاً وله كلفته أيضاً على الأمد المباشر، ولا يبدو، بالتالي، خياراً مطروحاً في الأمد القصير.
لكن هذه التطورات تريح، الى حد معين، بلداً مثل تركيا كان يطمح للإنضمام الى الإتحاد الأوروبي، لكنه يجد الآن في التطورات الأوروبية الأخيرة مزيداً من التبرير لسياسة الإنفتاح الواسع شرقاً التي اتبعتها حكومة تركيا في السنوات الأخيرة.



#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعد 35 عاماً على النصر التاريخي... فييتنام تحث خطى التنمية و ...
- وحدة اليسار مهمة... لكن تمايز مشروعه هو الأهم
- خيارات الشعب الفلسطيني في ظل انسداد آفاق -الحلول القريبة-
- العقد الثاني من القرن: الأزمة الإقتصادية الرأسمالية مستمرة.. ...
- يسار أميركا اللاتينية في عقده الثاني...التيار الجذري هو الذي ...
- اليسار الياباني مرشّح لتأثير أكبر على سياسات البلد
- هل تفتح الأزمة الإقتصادية العالمية آفاقاً جديدة أمام اليسار؟
- اليسار الأوروبي: هل من مؤشرات للخروج من المرحلة الرمادية؟
- لماذا تراجع اليسار في انتخابات الهند الأخيرة؟
- على خلفية خطوات فنزويلا وبوليفيا التضامنية ابان محنة غزة... ...
- من ستالينغراد، عام 1943، الى معارك جورجيا 2008... تطورات الق ...
- حول سمات وآفاق الوضع الفلسطيني بعد الحرب على غزة (من ندوة لم ...
- هل بالإمكان تجاوز الأزمة الإقتصادية العالمية بدون حروب كبيرة ...
- نجاحات جبهة فارابوندو مارتي الإنتخابية في السلفادور تؤكد است ...
- الحرب على غزة... وخطة شارون- داغان لتصفية مشروع الإستقلال ال ...
- بعد عشر سنوات على رحيل عالم التاريخ والتراث هادي العلوي...ما ...
- نهاية نهاية التاريخ..!
- حول الموقف السوفييتي من مسألة فلسطين في العامين 1947-1948
- حول بعض الملاحظاتٍ على كتاب -اليسار والخيار الإشتراكي-
- في أربعين -الحكيم- جورج حبش... نكبات فلسطين المتعاقبة وتحديا ...


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - داود تلحمي - أزمات البلدان الأوروبية ومأزق أحزاب -يسار الوسط-