أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - علاء مهدي - الدكتور كاظم حبيب في زيارة تأريخية لأستراليا















المزيد.....



الدكتور كاظم حبيب في زيارة تأريخية لأستراليا


علاء مهدي
(Ala Mahdi)


الحوار المتمدن-العدد: 3171 - 2010 / 10 / 31 - 14:35
المحور: مقابلات و حوارات
    


الدكتور كاظم حبيب في زيارة تأريخية لأستراليا

نحاول في هذا اللقاء الذي أجريناه مع الدكتور كاظم حبيب عبر البريد الإلكتروني أن نسلط الضوء على جوانب من شخصية ونشاطات الدكتور كاظم حبيب من خلال قبل بدء زيارته المرتقبة لأستراليا خلال شهر تشرين الثاني الحالي. زيارته هذه وإن كانت بغرض الإستجمام والراحة إلا أنه أبى إلا أن يلتقي الجالية العراقية في لقاء حوار مباشر يجيب فيه على أسئلة وأستفسارات أبناء الجالية العراقية في سدني ولربما في ملبورن أيضاً خاصة في هذا الظرف العصيب الذي يمر به عراقنا وشعبنا الجريح بمحنة تكاد أن توحي بأنها مصرة على أن يبقى العراق وشعبه قابعين في قفص التخلف بعيداً عن ركب الحضارة المدنية وما تحمله من عوامل أساسية تقدمية تحمي الأوطان وتحرر الشعوب وتكفل لهم عوامل التقدم والعدالة والحرية.

تحية تقدير وتثمين للدكتور كاظم حبيب لكرمه في الإجابة على أسئلتنا ، وتحية تقدير وتثمين لمنتدى الجامعيين العراقي الإسترالي الذي تولى رعاية هذا النشاط المتميز. يرجى متابعة إعلانات المنتدى بهذا الصدد.

أترك الأحبة أبناء جاليتنا العراقية للإستمتاع بأجوبة ضيفنا الكبير وكلي ثقة بنجاح ندوة الحوار التي ستعقد في سدني من خلال مشاركات ومساهمات أبناء الجالية في طرح مايجول في خواطرهم من أستفسارات يبحثون عن أجوبة شافية لها مباشرة من الخبير السياسي والإقتصادي والإجتماعي الكبير الدكتور كاظم حبيب.










* نرحب بكم عبر هذا اللقاء الموجز ونود أن نستهل حوارنا بسؤالكم عن ذكرياتكم عن أستراليا ، زيارتكم السابقة لها ، وما تحملونه من صور عنها؟

** كانت زيارتي الأولى إلى استراليا في صيف العام 1986 زيارة عمل هدفها اللقاء بالجالية العراقية وبالتنظيمات السياسية العراقية هناك للبحث في أوضاع العراق السياسية وسير الحرب العراقية –الإيرانية وحركة الأنصار في كردستان العراق. ولهذا كانت السفرة مليئة باللقاءات السياسية مع الجالية العراقية ومع النقابات العمالية الاسترالية والحزب الاشتراكي الاسترالي ومنظمة العفو الدولية.
تسنى للأخوة في سدني تنظيم عقد ندوة فكرية عامة ذات وجهة سياسية واقتصادية واجتماعية على قاعة الفنون في وسط المدينة حضرها جمع غفير من العراقيات والعراقيين حيث تم فيها استعراض وتحليل الوضع في العراق, ثم دار نقاش حيوي حول اتجاهات تطور المواقف السياسية لقوى المعارضة العراقية حينذاك وخاصة إيقاف الحرب العراقية الإيرانية وإسقاط الدكتاتورية في العراق ومهمات الحركة الوطنية العراقية والجالية الكبيرة المقيمة في الخارج.
لم يتسن لي رؤية الكثير من القارة الاسترالية لكونها كانت سفرة عمل من جهة, ولكثرة الدعوات الكريمة على موائد الطعام في بيوت العائلات العراقية الكريمة التي كانت تستغرق وقتاً طويلاً بسبب كرم وود تلك العائلات الطيبة من جهة ثانية. وإذ تمتعت بصحبة جميلة وأكلات عراقية شهية مثل الباچة والكباية والكبة الموصلية وكبة حلب وغيرها, إلا أني لم أتمتع بما فيه الكفاية بجمال استراليا.
لقد مضى على هذه السفرة قرابة 24 عاماً. ومع ذلك حملت معي ذكريات جميلة, سواء أكانت عن تلك اللقاءات الحلوة مع العراقيات والعراقيين, أم الجولات القصيرة والسريعة في مدينة سدني للوصول إلى مواعيد اللقاءات السياسية والنقابية والعراقية والاطلاع على جمالها. تسنى لي السفر إلي ضواحي مدينة سدني للقاء ببعض النقابات التي كانت مقراتها خارج سدني بسبب طبيعة عملها.
كانت جولاتي في المدينة محدودة والتمتع بالطبيعة الاسترالية قليلة بسبب الفترة القصيرة المشحونة بالعمل السياسي الذي لم يترك وقتاً للتمتع بجمال سدني أو ملبورن, إذ كانت الإقامة في ملبورن قصيرة جداً ليلة واحدة لا غير.
ولهذا قررت أن تكون هذه الزيارة الشخصية مع زوجتي أم سامر فرصة للتمتع بجمال الطبيعة الاسترالية وحضارتها الحديثة والتعرف على ما هو مهم ومفيد فيها, ونحن في سن الشيخوخة الجميلة!

الاقتصاد لا ينفصل عن السياسة ولا عن المجتمع والحياة الاجتماعية والثقافية, بل هو قاعدتها الأساسية.

* هنالك ميزة معينة يتميز بها الدكتور كاظم حبيب. فالقارئ المتابع لكتاباتكم يتنقل بسهولة بين مواضيع مختلفة تتناولونها بإستهداف من خلال كتاباتكم. فمن السياسة العراقية إلى العربية أو العالمية، من موضوع اقتصادي إلى آخر إجتماعي أو ثقافي أو فني أو حتى رياضي ، ومن موضوع تحاربون فيه التطرف الديني والطائفي إلى مواضيع تناقشون فيها المواضيع الدينية بإسهاب. ترى ، مالهدف من التنوع في أختيار المواضيع؟ وهل ترون أن هذا التنوع يحقق الهدف أكثر من التركيز على جانب واحد؟

** كما تعرف, أخي الكريم, أنا من حيث الاختصاص العلمي اقتصادي وأستاذ جامعي سابق وأمارس البحث العلمي, ولكني في الوقت نفسه باحث سياسي واجتماعي ارتباطاً بعملي ونشاطي السياسي خلال فترة بلغت عقوداً ستة. وخلال هذه الفترة تسنى لي أن اقرأ أو أدرس بعناية الكثير من الكتب في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية المتنوعة ومن مدارس فكرية مختلفة, وأن أطلع بشكل مناسب على أوضاع العراق وقواه السياسية ومشكلاته المعقدة على امتداد سنوات النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الجديد. كانت اهتماماتي في فترة السجن والإبعاد أو في فترة حركة الأنصار في إقليم كردستان أو أثناء عملي في عضوية سكرتارية وهيئة تحرير مجلة "الوقت" قضايا السلم والاشتراكية في براغ وعضويتي في هيئة تحرير الثقافة الجديدة أو رئاسة تحرير مجلة "الاقتصادي" العراقية ومسؤوليتي لفترة معينة عن إعلام الحزب الشيوعي العراقي وعملي في اللجنة المركزية لسنوات كثيرة وفي مكتبها السياسي لعدة سنوات, وعيشي في الدول العربية وفي الشتات العراقي, سمحت لي بالإطلاع الواسع نسبياً وأن أختزن الكثير من المعلومات والتي تبقى محدودةً بالقياس لما يمكن ويفترض أن يطلع عليه الإنسان ويختزنه ويستفيد منه في حياته العملية.
كما أن بدء عملي في إنجاز كتاب "لمحات من عراق القرن العشرين (11 جزءاً وبحدود 7000 صفحة) قد سمح لي بمزيد من القراءات في تاريخ وحاضر العراق التي كانت زاداً لي في كتاباتي الصحفية وفي اسلوب هذه الكتابة الذي يميل إلى التحليل. (وقد أنجزت كتابتها فعلاً ولكن لم يطبع منها سوى الجزء الأول منها إلى الآن.
إن هذا الواقع هو الذي سمح لي بمحاولة إبداء الرأي بقضايا كثيرة تمس حياة الشعب العراقي والأمة العربية والدول النامية أو البحث في بعض جوانب القضايا الدولية.
كان بالإمكان أن أريح نفسي نسبياً وأقرأ وأكتب في الاقتصاد, ولكن الاقتصاد لا ينفصل عن السياسة ولا عن المجتمع والحياة الاجتماعية والثقافية, بل هو قاعدتها الأساسية.
يمكن أن يساعد التخصص الدقيق في الغوص الأعمق في المادة التي يتخصص بها الإنسان, في حين أن الافتراش الواسع في موضوعات كثيرة لا تسمح بالتعمق الكثير, ولكنها تسمح برؤية ذات طبيعة شمولية وعامة وربما أكثر دقة أيضاً, إضافة إلى أن انقطاعي عن التعليم الجامعي منذ العام 1981, حيث تركت جامعة الجزائر والتحقت بحركة الأنصار الشيوعيين في إقليم كردستان العراق, قد أوقفت قدرة البقاء على اختصاص الاقتصاد, إذ اصبح النشاط السياسي والاجتماعي يأخذ جل أوقاتي. وخشية من ارتكاب حماقة التصور بصواب ما أكتبه أشير دوماً إلى أن هذه وجهة نظر قابلة للخطأ والصواب ولا بد من تمحيصها والتدقيق فيها ونقدها لكي ينشا حوار بين الكاتب والقارئات والقراء او الكاتبات والكتاب.

إن سبب كتاباتي عن القوى الدينية ناشئ عن كوني من مواليد مدينة كربلاء وعشت فيها صباي وبعض شبابي, وخبرت بشكل قريب جداً وملموس طبيعة وواقع القوى الدينية وشيوخ الدين ومواقفهم وسياساتهم وصيغ التمييز الطائفي التي يتميز بها أغلبهم بشكل عام, إضافة إلى أن الواقع الراهن يمدك بما يكفي من الوقائع لتكتب عن هذه الأمور وعن أمور كثيرة أخرى, وخاصة قضايا الإرهاب اليومي الذي يتعرض له الشعب العراقي من قوى الإسلام السياسية وفلول النظام السابق التي كانت تعمل في أجهزة الأمن الخمسة التي كان يديرها صدام حسين وولديه. إن عمري الذي تجاوز الخامسة والسبعين والخبرة المتواضعة التي اكتسبتها عبر السنين ومطالعاتي الكثيفة نسبياً والهم الذي أحمله على كاهلي, كبقية العراقيات والعراقيين, قد جعلني أعمل يومياً قرابة 16 ساعة, وهي التي تجعلني افكر بالعراق وأهله وأوجه كتاباتي نحو هذا الشعب المهموم والوطن الجريح وكثرة من الحكام والسياسيين الذين لا يمتلكون الحكمة والنزاهة وشفافية العمل مع الشعب.

اشعر بضرورة الدعوة لفصل الدين عن الدولة لكي تبقى الدولة حيادية, إذ أن الدين لله والوطن للجميع.

* مالغرض من إنشاء هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق؟ هل تعتقدون أن الهيئة التي أسستموها أدت الغرض من تأسيسها؟ هل ترون أن هنالك بارقة أمل في قيام مجتمع عراقي يحترم أتباع الديانات المتواجدة على الأرض العراقية بصورة حضارية وتقدمية في ظل المعطيات المتوفرة على الساحة العراقية حالياً أو على المستوى المنظور قريباً؟

** عرف العراق على امتداد تاريخه الطويل, باعتباره أحد مهود الحضارة الإنسانية الرائعة, تنوعاً كبيراً في قومياته وفي أديانه ومذاهبه ولغاته واتجاهاته الفكرية والسياسية. وقد مرت على العراق اقوام كثيرة حطت فيه وأخذت منه الكثير وأضافت إلى ساكنية الكثير وعاشت سوية وكأنها في بلدها, وقد تحول سكانه إلى كتلة عراقية كبيرة مع التنوع في القومية واللغة والثقافة واللون والدين والمذهب والفكر.
وإذ كان التناغم العام قد شكل سمة العلاقة بين أتباع القوميات والديانات ةوالمذاهب في العراق, فأن غالبية حكام العراق قد لعبت دوراً سلبياً, وخاصة في الفترات التي تعرض فيها العراق للغزو والاحتلال, وكثيراً ما تعرض إلى ذلك في تاريخه المديد, في محاولة منهم لتفريق الصف العراقي وإثارة الفتنة بين سكانه. وعلينا أن نتذكر الصراع العثماني الفارسي الذي كان يدور على أرض العراق, كانت له عواقبه السلبية في فترتي الاحتلال العثماني والفارسي للعراق على اتباع المذهبين الشيعي والسني, دع عنك سلوك الحكام الطائفيين في العراق الحديث.
لقد عاش في العراق إلى العام 1949/1950 ما يقرب من 150 ألف مواطنة ومواطن يهودي عراقي, وهم من أصل أولئك الأسرى الذين جلبوا عنوة وجوراً إلى وادي الرافدين وإلى جبال كردستان العراق, ثم هجروا عنوة وغدراً على وفق مؤامرة ثلاثية الأطراف: الموساد الإسرائيلي والحكومة البريطانية والحكومة العراقية, وخاصة بعد صدور قانون إسقاط الجنسية العراقية في فترة الحكومة التي كان يترأسها توفيق السويدي في بغداد. ولم يبق من عشرات ألوف يهود العراق اليوم سوى ثلاثة اشخاص. وهي خسارة فادحة.
وفي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي تعرض الكرد الفيلية, باعتبارهم كرد وشيعة, إلى سياسة تهجير وإبادة في عهد الدكتاتور صدام حسين. كما وتعرض العرب الشيعة في الوسط والجنوب لشيء مماثل أيضاً.
ومنذ سقوط النظام الدكتاتوري استمر تعرض جمهرة المسيحيين, من كلدان وآشوريين وسريان, إلى محاولة جادة مماثلة لما حصل لليهود وذلك بدفعهم إلى الهجرة بالرغم منهم. وهكذا يواجه أتباع الديانة المندائية نفس السياسة والممارسة, وكذا حال أتباع الديانة الإيزيدية الذي يقطنون في الأقضية والنواحي والقرى التابعة لإدارة محافظة الموصل.
كما أنتم وانا والشعب العراقي يتابع ما جرى ويجري في الصراع بين الأحزاب السنية والشيعية أولاً, وفي ما بين الأحزاب الشيعية- الشيعية والأحزاب السنية – السنية ثانياً, وما يجري إزاء أتباع الديانات الأخرى في العراق من قبل قوى متطرفة وهمجية ثالثاً, والعدد الهائل من الضحايا التي سقطت بسبب الإرهاب الدموي والقتل العمد والعشوائي لأتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق على نحو خاص. إن هذا الحالة المأساوية غير المتوقفة دفعتني إلى اقتراح تشكيل هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق وبالتعاون مع عدد من الأصدقاء الكرام الذين التقوا معي بأهمية مثل هذه الهيئة في البلاد, أي العمل من اجل:
++ فضح القوى التي تمارس عمليات الإرهاب والتهديد والتهجير والتشريد القسري والقتل الفعلي لعدد كبير من بنات وابناء الشعب العراقي من مختلف الأديان والمذاهب الدينية.
++ المطالبة بتوفير الحماية الجدية لبنات وأبناء الشعب العراقي من القوى العدوانية التي اعتدت لا على البشر فحسب, بل وعلى بيوت العبادة أيضاً.
++ تحريك الرأي العام العالمي لإدانة ما يجري في العراق من إرهاب واعتداء وقتل من جانب قوى الإرهاب والمليشيات الطائفية المسلحة من جهة, ومطالبة الحكومة بتوفير الأمن للناس من جهة ثانية.
++ التثقيف بأهمية الاعتراف والاحترام المتبادل بين جميع أتباع الديانات والمذاهب الدينية في العراق وعدم التجاوز عليها وحقها في ممارسة عباداتها بكل حرية وأمن وسلام.
من هنا يبدو واضحاً إن عمل الهيئة بالأساس تنويري وتثقيفي وفضح, وكذلك الدفاع عن حرية وحق كل إنسان في الحياة والكرامة والعيش بأمان. لا تهمني ولا تهم "هيئة الدفاع عن اتباع الدينات والمذاهب الدينية في العراق" الهوية القومية أو الدينية أو المذهبية التي يحملها الإنسان, بل تهمنا معاً حياته وكرامته وعيشه الكريم ومنع الأذى عنه وحقه في اختيار الدين والعقيدة وممارستها بكل حرية. كما اشعر بضرورة الدعوة لفصل الدين عن الدولة لكي تبقى الدولة حيادية, إذ أن الدين لله والوطن للجميع.
لا نريد أن نخسر مكوناً آخر من مكونات الشعب العراقي القومية او الدينية او المذهبية او الفكرية والسياسية الديمقراطية. بل يمكن للعراق أن يضمهم جميعاً, وأن يعيش الجميع في أمن واستقرار وسلام وازدهار. هل وكم استطعنا أن نحقق على هذا الطريق؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال واتركه لمن اكتوى بنيران التمييز الديني والمذهبي في العراق.
نعم اتوقع ان يحل على الشعب العراقي ذلك اليوم الذي يتخلص فيه من ذهنية عدم الاعتراف بالآخر ورفضه والتمييز بين اتباع الديانات والمذاهب الدينية التي تحصل اليوم بفضل وجود قوى إسلامية سياسية والقوى المتحالفة معها في السلطة والتي لا تتصدى لتلك الظواهر السلبية وتدعي التمسك بهويات طائفية قاتلة على حساب الهوية الوطنية العراقية وتتخلى عملياً عن هوية المواطنة الحقة والحرة والمتساوية والمتآخية. وأكرر هنا قول الشاعر العربي :
وستنقضي الأيام والخير ضاحك يعم الورى والشر يبكي ويلطم


كانت كتب التعليم لا تتحدث أو تذكر شيئاً عن وجود شعب كردي يقطن كردستان العراق

إن الشعب الكردي الكبير يعتبر الشعب الوحيد في منطقة الشرق الأوسط الذي لا يمتلك دولته الوطنية المستقلة

* إهتماماتكم بالقضية الكردية تأخذ حيزاً كبيراً من جهودكم. كيف تنظرون لها؟ ماهي الحلول المحتملة التي يمكن أن تبني منظومة سلمية تتعايش من خلالها القوميات العراقية على أرض الواقع السياسي العراقي الحالي؟ وهل إن الحل المنشود من قبل الأحزاب الكردية سيضمن سلاماً يشمل بقية القوميات التي تضمها الأمة العراقية؟

** نشأ اهتمامي بالقضية الكردية منذ كنت صبياً حين وصلت إلى مدينة كربلاء مجموعة من الكرد المبعدين في العام 1946 كما أتذكر, بسبب المطالبة بالحقوق من جهة, ومشاركة جمهرة من الكرد العراقيين في دعم جمهورية مهاباد في كردستان إيران وعلى راسهم الملا مصطفى البارزاني من جهة أخرى. ولم أعرف من هم هؤلاء الذين يرتدون شراويل طويلة وملاخانيات (أشبه بالجاكيت) ويشدون على خاصرتهم وبطونهم قطعة قماش طويلة (بشتينات) ويضعون على رؤوسهم (الجمدانات) الكفيات الحمراء, إذ كانوا كما عرفت لاحقاً أنهم من منطقة برزان ومن العشيرة المسماة بذات الاسم, علماً بان أهل برادوست والإيزيديين يلبسون الجمدان الأحمر أيضاً. أسكنوهم في المدرسة الفيصلية الابتدائية للبنين أثناء العطلة الصيفية. استفسرت من الوالد عن هوية هؤلاء الناس, فذكر لي بأنهم من الشعب الكردي من كردستان في شمال العراق. بقى هذا الأسمان في ذاكرتي وأنا صبي يستغرقه ويحركه الفضول وحب الاطلاع.
وفي المتوسطة كان لدينا مدرس يدرسنا مادتي التاريخ والجغرافية, واسمه الأستاذ عبد الرسول معصوم من الكاظمية, قد قضى عطلة صيفية في كردستان. وحين جاء كتب مقالاً للنشرة الشهرية الجدارية باسم "المعلم" التي كنت أصدرها في ثانوية كربلاء للبنين, إضافة إلى نشرة جدارية أخرى باسم "السراج", تحت عنوان " جولة في مصيف سولاف". وتحدث فيه لا عن المصيف فحسب, بل وعن الشعب الكردي هناك, حيث كانت كتب التعليم لا تتحدث أو تذكر شيئاً عن وجود شعب كردي يقطن كردستان العراق, بل كان الحديث فيها يجري عن العرب في العراق لا غير. وهذا التغييب هو شكل سيئ من أشكال سياسات التهميش الفعلي.
وحين بدأت العمل مبكراًَ كعضو في اتحاد الطلبة العراقي العام ابتداءً من الصف الأول المتوسط, ومع انتقالي إلى الصف الثاني ارتبطت بعلاقة سياسية مع شباب وشابات لهم علاقة بالحزب الشيوعي العراقي. وما لبثت أن التحقت بالعمل السياسي الفعلي وفي صفوف هذا الحزب ابتداءً من العام 1952. وكان تثقيف الحزب الشيوعي في هذه الفترة واضحاً وسليماً بشأن القضية الكردية والموقف منها ومن حقوق هذا الشعب.
عندها تكونت عندي لوحة أفضل وأوسع عن الشعب الكردي وعن القوميات الأخرى في العراق وعن الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له. كما اطلعت على الكراس الذي كتبه الأستاذ عزيز شريف حول "المسألة الكردية في العراق" في العام 1950, وطبع بعدها عدة مرات. وهو كراس قيم ومبدئي وجرئ في طرحه للقضية الكردية.
وفي فترة تدريسي طلبة الجامعة المستنصرية كنت أدرس مواد التخطيط الاقتصادي والاقتصاد السياسي واقتصاديات العراق والوطن العربي والاقتصاد الزراعي. وفي محاضراتي (ولدي الثقة بأن كل الطالبات والطلاب الذين كنت أدرسهم حينذاك يتذكرون جيداً) لم أكن أتحدث عن الكرد وشمال العراق, بل عن الشعب الكردي وكردستان العراق, وحين أتحدث عن شمال العراق كان حديثي يمس الموصل. وقد ذكرني البعض من الأصدقاء بذلك قبل سنوات عدة. لقد كان هذا في أعوام 1969-1975 حيث كان البعث يرفض ذكر مثل هذه المصطلحات الواقعية والصحيحة بل كان يعاقب عليها, وقبل أن أُنقل إلى المجلس الزراعي الأعلى بقرار ملزم من مجلس قيادة الثورة. وكان في الصفوف التي أدرس فيها حينذاك الكثير من البعثيين وجواسيس الأمن والمخابرات, الذين كانوا لا يكتفون بكتابة ما أتحدث به, بل كانوا يقومون بتسجيل محاضراتي لأغراض معروفة.
وفي العام 1981 التحقت بحركة الأنصار الشيوعيين في كردستان العراق تاركاً مقعد الأستاذية في كلية الاقتصاد في جامعة الجزائر العاصمة وتدريس مادة الاقتصاد لطلبة كلية الحقوق وطلبة الماجستير. وكان هدف النضال يتلخص في "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان". وفي حينها تركت زوجتي وطفلي في برلين لمدة اربع سنوات تقريباً, كما فعل الكثير من المناضلين حينذاك.
اهتمامي بالقضية الكردية ليس حديثاً, ولم يبدأ مع وصول الأحزاب الكردستانية إلى السلطة أو بعد سقوط النظام الدكتاتوري بل قبل ذاك بكثير ونابع من ثلاث حقائق, وهي:
1 . إن هذا الشعب الكردي الكبير يعتبر الشعب الوحيد في منطقة الشرق الأوسط الذي لا يمتلك دولته الوطنية المستقلة رغم إن تعداده يتجاوز ألـ 30 مليون إنسان في أجزاء كردستان الأربعة, في حين أمامنا مناطق قومية وبتعداد سكاني لا يتجاوز نصف مليون إنسان تشكلت فيها دولاً قزمية صغيرة وحكومات ممثلة في الأمم المتحدة والجامعة العربية أو بعض دول أخرى مماثلة في كل من آسيا وأفريقيا.
2 . وأن هذا الشعب قد عانى من الويلات ومن القهر والتهميش الشيء الكثير, رغم أنه يمتلك من الناحية الإنسانية والحقوقية كل الحق في إقامة دولته الوطنية المستقلة. وفي فترة حكم البعث تعرض الشعب الكردي لجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في مجازر الأنفال وحلبچة والهجرة المليونية في العام 1991.
3 . وأن هذا الشعب ورغم كل المآسي والكوارث التي تعرض لها في ظل النظم السياسية العراقية العربية لم يطرح إقامة دولة وطنية مستقلة, بل أقر طوعاً الاتحاد الاختياري مع العرب وبقية القوميات في عراق ديمقراطي اتحادي مدني.
وعلينا هنا أن نعود إلى الوراء ونتذكر بأن عصبة الأمم حين وافقت على إلحاق ولاية الموصل بالدولة العراقية في العام 1926, كانت بضمنها سناجق الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك, وحين تقرر رفع الانتداب عن العراق في العام 1932, ألزمت العراق عبر الملك فيصل الأول والحكومة العراقية حينذاك بتحقيق مطالب أساسية كانت قد وضعت لصالح المنطقة الكردية والشعب الكردي والتي أخلت بها الحكومة العراقية ولم تنفذها بعد وفاة الملك فيصل الأول. وبدلاً من الاستجابة لتلك المطالب التي كان يطالب بها الكرد, كانت الحكومات العراقية المتعاقبة تقوم بضرب مناطق الكرد بالمدفعية أو قصفها بالطيران العسكري والحملات العسكرية كما حصل هذا في الثلاثينات وفي الأربعينات وفي الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن العشرين.
إن اهتمامي بالقضية الكردية يخضع لثلاثة مبادئ مقتنع بها كل القناعة:
1 . حق كل شعب من شعوب الأرض في تقرير مصيره بنفسه دون وصاية عليه من أحد.
2 . حق الأفراد والشعوب بالتمتع بالحقوق القومية وحقوق الإنسان كاملة غير منقوصة.
3 . وإن من يحترم قوميته لا بد له أن يحترم كل القوميات الأخرى, ومن يرفض الضيم والقهر والتهميش لنفسه ولقوميته, يرفضها لغيره وللقوميات الأخرى. والعكس في كل ذلك صحيح ايضاً.
والآن لا بد لنا أن نميز بين قضية قومية عادلة وبين سياسات تمارسها أحزاب سياسية يمكن أن تخطئ وأن تصيب. ولكن احتمال الخطأ أو الصواب في السياسة والممارسة لا يخل بقضة شعب وحقوقه ومصالحه, رغم أن السياسات الخاطئة تجلب الضرر على الشعب المعني, والمقصود هنا هو الشعب الكردي. ولذلك لا بد من التمييز الواضح في كوني من مؤيدي القضية الكردية لا في العراق فحسب, بل في سوريا وتركيا وإيران أيضاً, ولكني لست من دعاة تأييد كل السياسات التي تمارسها الأحزاب الكردية, إذ أن موقفي يبنى في التأييد أو المعارضة على مدى تقديري لصواب أو خطأ سياسة ما أو موقف بعينه.
ولا شك انكم مطلعون جيداً على مقالاتي. وإذا ما تصفحتموها ثانية ستجدون الكثير من النقد الموضوعي البناء للأوضاع في كردستان ولسياسات الحكومات الكردستانية المتعاقبة, إذ لا أبخل عليهم بالنقد والتخطئة, كما أرى, وربما أكون مخطئاً, ولكن لا استحي من التفكير الحر وتسجيل اجتهاداتي الشخصية. ولا بد لنا من القول بأنهم حققوا منجزات مهمة لا بد أن تذكر ايضاً. "الصديق من صَدَقكَ القول, وليس من صدَّقك"!
يبدو لي أن عدداً غير قليل من عرب العراق والعرب في الدول الأخرى يصعب عليهم تصور عواقب سياسات الاضطهاد والإهمال والتهميش الطويلة الأمد التي يتعرض له شعب معين في بلد معين من قبل حكومات ذلك البلد واوساط قومية فيه, إذ يصعب عليهم فهم التعقيدات النفسية التي تنشأ لدى شعب ما حين يشعر بأنه يعامل على أساس أنه مواطن من الدرجة الثانية, أو كما كان الكرد يعبرون عنه بأن العرب يسكنون في الدار والكرد يسكنون في الكراج! حين تريد أن تفهم موقف شخص أو شعب ما, ما عليك إلا أن تحاول وضع نفسك في مكانه قدر الإمكان, عندها تدرك العوامل المحركة لذلك الموقف.
وحين تنشأ فرص استعادة الحقوق والمصالح المهدورة والمغدورة سابقاً, يمكن أن تحصل أخطاء هنا وهناك أو تجاوزات, خاصة حين لا تكون هناك تقاليد وقواعد وقيم وقوانين تنظم العلاقة بين الحكومة الاتحادية والحكومة الإقليمية في دولة اتحادية ولدى الطرفين, خاصة وأن نظام البعث قد أجرى تغييرات ديموغرافية وجغرافية كبيرة جداً على مسألتين مهمتين:
1) في الجانب السكاني, حيث أجرى تنقلات وتهجير قسري للناس من مناطق كردية إلى مناطق عربية والعكس أيضا.
2) وفي الجانب الجغرافي, حيث أجرى تغييرات واسعة على الأقضية والنواحي والقرى التي كانت تابعة للألوية العراقية الـ 14 لواء في العهدين الملكي والقاسمي (راجع: التقسيمات الإدارية لعام 1962 مثلا), إذ ألحق نظام البعث العديد من الاقضية والنواحي الكردية بالمحافظات العربية مثلاً.
وهذه الحالة هي التي تشكل اليوم واحدة من العقد الكبيرة لما أصبح يطلق عليه بـ "المناطق المتنازع عليها".
لدي الثقة بأن حكومة اتحادية ديمقراطية من جهة, وحكومة ديمقراطية في الإقليم من جهة ثانية, يمكنهما معاً وضع الحلول الشافية للمشكلات القائمة وسن قوانين تحكم تلك العلاقات بعد أن يعاد بناء الثقة المتبادلة بين الأحزاب والقوى السياسية من كل القوميات التي سوف تحكم العراق في الفترات القادمة.
إن الشروط المطروحة من جانب قائمة التحالف الكردستاني تجسد بالضبط الهواجس والمخاوف وعدم الثقة المهيمنة على تفكير السياسيين الكرد عموما, وهي لم تأت من فراغ بل من واقع سياسي عاشه الشعب الكردي أكثر من ثمانين عاماً. والخبرة هي التي علمتهم ضرورة التعامل الحذر مع الحكومات العراقية المتعاقبة. والحكومة العراقية الراهنة والأحزاب الإسلامية السياسية لا تسمح للكرد ولا لكم ولا لي بالثقة بها. ولا يكفي المجال للتوسع في هذا الموضوع.
لا شك في أن الشروط المطروحة قابلة للنقاش وقابلة للتنضيج والتعديل والإغناء لتصبح ضمانةً للعراق كله وليس لكردستان وحدها. فلا يمكن أن تكون كردستان مستقرة دوماً وبقية انحاء العراق يعاني من مشكلات أمنية جمة, بل سرعان ما ينتقل سوء الوضع إلى كردستان أيضاً. ولهذا لا بد من وجود ضمانات للشعب العراقي كله بحياة حرة وديمقراطية وتفاهم, بأمن واستقرار وتقدم.
ومن المفيد هنا أن أشير إلى ملاحظة أخرى أراها مهمة:
على وفق قناعتي فأن الحركات القومية كافة الساعية إلى تحقيق أهدافها ومصالحها, وخاصة تلك المضطهدة منها على مستوى محلي أو دولي, تبرز فيها تيارات مختلفة: تيار قومي متطرف, وتيار قومي معتدل, وتيار يساري. ويسري هذا التقسيم على جميع القوميات في العالم, ويمكن أن نتلمسها في منطقة الشرق الأوسط بشكل مباشر. وحركة التحرر الكردية لا تختلف في ذلك عن غيرها أيضاً, إذ توجد فيها مثل هذه التيارات وهي فاعلة دون أدنى ريب, ولكن بأوزان مختلفة. فالتيار اليساري قد تراجع كثيراً خلال العقدين الأخيرين في كردستان العراق لأسباب موضوعية وذاتية, ولكن الكثير منها غير مبرر. والتيار القومي اليميني المتطرف تراجع هو الآخر, ولكنه أكثر دوراً وقوة وتاثيراً من التيار اليساري. وفحص الواقع القائم في الإقليم يشير إلى أن كلا التيارين يمارسان دورهما في التأثير على التيار الوسط المعتدل يساراً أو يميناً. وحين يكون أحدهما هو الأقوى يؤثر بصورة اقوى على التيار الوسط المعتدل. وهذا هو الحال في إقليم كردستان العراق, ومع ذلك فأن الاعتدال سيأخذ مكانه حين يتحسن الوضع في بغداد وتسود أجواء أكثر موضوعية وعقلانية وحكمة في العراق, إذ أن البلد لا يمكن أن يحقق التقدم إلا بالتفاهم والتناغم والتفاعل في ما بين قومياته كافة.
هذه الوجهة التي أشرت إليها موجودة بشكل بارز في الأوساط القومية العربية في العراق. كما أن ضعف التيار الديمقراطي واليساري في مقابل قوة التيارين القومي والديني اليمينيين قد اضعف الوسط المعتدل لصالح الوجهة اليمينية بما فيه التعامل مع القضايا القومية والدينية.
أدرك بعمق مسألة واقعية وأساسية هي أن العرب والكرد والقوميات الأخرى في العراق سيعيشون سوية عقوداً طويلة قادمة, فالوحدة الكردية ليست اسهل تحقيقاً من الوحدة العربية, في حين ان تماسك وتطور الوحدة العراقية ممكنة التحقيق شريطة أن تسود مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة في المواطنة وعدم التمييز وعدم التهميش والكل سواسية أما القانون وإزاء الحقوق والواجبات, نساء ورجالاً, بغض النظر عن الأثنية أو القومية او الدين أو المذهب أو الفكر غير الشمولي وغير العنصري وغير الطائفي, أو السياسة, والعدالة الاجتماعية.

نحن بحاجة إلى تغيير في نمط تفكير الإنسان العراقي وتطوير نشاط منظمات المجتمع المدني وزيادة دور وضغط الرأي العام العالمي على القوى السياسية العراقية لتغيير نهجها وأساليب عملها. وهي عملية معقدة وصعبة وطويلة الأمد. ولكن لا بد منها ولسنا في نهاية التاريخ!

* دون شك أن خبرتكم النضالية والسياسية والحياتية الطويلة قد بلورت الكثير من المعطيات والنتائج المهمة لأحداث مررتم والعراق بها. ترى، هل سبق للعراق أن مر بمحنة كالتي يمر بها الآن؟ أين الحل وما هي أحتمالات الخروج من هكذا أزمة بأقل الخسائر على كافة الأصعدة؟

** مر العراق في تاريخه الحديث, دع عنكم القديم والوسيط, بمحن كبيرة وعسيرة ومتنوعة, كانت تبدو كلها وكأنها استثنائية بسبب قسوتها على المجتمع وديمومتها لسنوات طويلة. وكان لكل من هذه المحن خصوصيته وعواقبه المتباينة في شدتها على المجتمع.
فحكم البعث الذي دام طوال 35 سنة كان بحد ذاته محنة استثنائية, وإذا ما أضيف إليها ما حصل فيها من حروب, ومنها الحرب العراقية – الإيرانية بأعوامها الثمانية العجاف التي اختلط فيها الدم بالدموع لمئات ألوف من البشر ولغالبية الشعب العراقي, فالمحنة تبدو هنا أنها الأكثر رعباً ومرارة حقاً, خاصة وأنها ارتبطت بالقهر والقمع والاستبداد. ثم كان غزو الكويت وكانت حرب تحريرها, وهي محنة مركبة وطويلة الأمد استمرت عواقبها طيلة الفترة الواقعة بين 1990-2003, كانت محنة لا حدود لمراراتها وعذاباتها مع ما حصل فيها من قطف وقطع للرؤوس قبل وبعد انتفاضة الشعب العفوية في العام 1991. وإذا ما تذكرنا الحصار الاقتصادي الدولي, لأدركنا مدى عمق الماساة والمحنة التي واجهها هذا الشعب خلال فترة الحصار التي استمرت قرابة 13 سنة.
ثم جاء الغزو الأمريكي-البريطاني شبه الدولي وإسقاط نظام الخيانة الذي تسبب في ذلك الغزو والاحتلال, حيث تخلص الشعب من دموية الشخصية السادية والنرجسية والمصابة بجنون العظمة والعصاب في آن واحد, ومن العواقب التي نشأت عن تلك العلل التي كان مصاباً بها ويعاني منها صدام حسين وابتلى بعواقبها القاسية الشعب والجيران.
إن إسقاط النظام الصدامي, يعتبر منقبة كبيرة ما كان في مقدور الشعب إنجازها ربما لسنوات طويلة قادمة, إذ كانت كل دول المنطقة تريد بقاء صدام حسين ونظامه سائداً في العراق, رغم إنها كانت تريده ضعيفاً وغير قادر على إلحاق الأذى بها. إلا أن ما نشأ بعد السقوط يشير إلى ما كنت أنبه له وأتوقعه قبل الحرب الخليجية الثالثة والأخيرة في العام 2003 إلى الآن, بأن الإسقاط من الخارج قد دلل بما لا يقبل الشك بأن المجتمع العراقي لم يكن قادراً ولا مستعداً ولا مؤهلاً لإسقاطه وتسلم زمام الحكم وإقامة البديل الديمقراطي وبناء حياة حرة وديمقراطية سليمة, بناء دولة مدنية وطنية ديمقراطية تحترم حق المواطنة وحقوق الإنسان. ثم أُضيف إلى كل ذلك الإرهاب الدموي من القاعدة والميليشيات الطائفية المسلحة, شيعية وسنية, وكذلك فلول البعث الصامية في أجهزة الأمن وحزب البعث على نحو خاص, إضافة إلى تدخل دول الجوار المشين والمستمر بالشأن العراقي.
إن المحنة الحالية هي الأخرى استثنائية من طراز خاص, ولكنها كبقية المحن العراقية, فريدة في نوعها. الشيء المركزي المشترك في ما بين جميع هذه المحن هو ضخامة حجم الموت واستمرارية قطف رؤوس الناس أو جرحهم وتعويقهم وسيول الدموع المسكوبة من عيون النساء والأطفال والرجال, تعددت الأسباب والموت واحد.
إن الفارق في هذه المحنة يبرز في وجود قوى احتلال مباشرة رغم توقيع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية من جهة, وصراع طائفي ونزاع سياسي متفاقم بين الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية التي تسعى إلى نقل الصراع والنزاع من صفوفها إلى صفوف المجتمع من أجل تحقيق الاصطفاف الطائفي والغلبة لكل منها في هذا النزاع من جهة أخر, إنها الهوية الطائفية المهيمنة والقاتلة للشعب العراقي, المدمرة لوحدة نسيجه الوطني ودولته. وهو أخطر ما في هذه المحنة وأكثرها مرارة.
لا يمكن أن تدوم هذه المحنة الراهنة, إذ أنها حقاً مدمرة, ولكن لا يتم ذلك بالتمني أو الرجاء, إذ لا بد من العمل الجاد في صفوف المجتمع لتغيير اللوحة الفعلية الراهنة إلى التعامل على وفق مبدأ المواطنة المتساوية والحرة, لا بد من العمل لإقناع الناس بماهنضة الطائفية السياسية وليس ضد وجود مذاهب متنوعة وانتماءات لها في العراق, ولكن ضد وصول طائفيين سياسيين يميزون بين الناس على اسس دينية ومذهبية إلى البرلمان العراقي ومجلس الوزراء وأجهزة الدولة الأخرى. إنها عملية معقدة وطويلة وربما ستلعب الوثائق التي نشرت على موقع ويكيليكس دورها في تعرية السياسات الطائفية والطائفيين وفي تعرية كل القوى السياسية المستبدة والشمولية في وجهة تفكيرها وعملها في الحكومة الراهنة وفي الحكومات السابقة بما فيهما حكومة علاوي وحكومة الجعفري. ومن المهم الآن وبعد بروز تلك الفضائح والاتهامات أن تشكل لجنة دولية تأخذ على عاتقها التحقيق بتلك الاتهامات وتقديم المتهمين إلى محكمة حقوق الإنسان الدولية لكي يتسنى للشعب العراق أن يضع حداً حقاً للاعتقالات الكيفية والتعذيب وما يقترن به من استبداد وتجاوز على الدستور وإرادة الشعب ومصالحه..الخ.
نحن بحاجة إلى تغيير في نمط تفكير الإنسان العراقي وتطوير نشاط منظمات المجتمع المدني وزيادة دور وضغط الرأي العام العالمي على القوى السياسية العراقية لتغيير نهجها وأساليب عملها. وهي عملية معقدة وصعبة وطويلة الأمد. ولكن لا بد منها ولسنا في نهاية التاريخ!
إن ما نراه حالياً هو أن هذه المحنة أو الأزمة سوف لن تنتهي بسرعة بسبب اختلال التوزان في المجتمع العراقي لصالح القوى الطائفية ووجود قوى تجد التأييد والمساندة من المراجع الدينية الشيعية منها والسنية وتجد الدعم والتأييد من جانب قوى سياسية عراقية ساكتة عن هذا الصراع المدمر للمجتمع, ومنها قوى التحالف الكردستاني, وهي تجد في هذا النزاع الطائفي فائدة لها, رغم الخطأ الكبير في هذا التفكير, إضافة إلى الدعم الخارجي المتواصل الذي تتلقاه القوى الطائفية السنية والشيعية.
علينا أن ننتبه إلى أن القائمة العراقية قد شكلت تحالفاً سياسياً قومياً وبعثياً سنياً بشكل عام, كما أن فيه بعض العناصر الديمقراطية, ولهذا قلت بأن القائمة العراقية فيها "كورة زنابير" بل وأكثر من كورة واحدة, كما أنها مدعمة في الواقع العملي من دول عربية سنية, كما في حالة البيت الشيعي المدعم من إيران على نحو خاص. ويبدو لي أن الطرفين غير نافعين لتشكيل حكومة عراقية ديمقراطية, إذ كلاهما يشكل تهديداً للديمقراطية وهوية المواطنة في العراق. ولهذا فأن إبعاد نوري المالكي وأياد علاوي عن تشكيل الحكومة ربما يشكل حلاً معيناً, وأن كان لا يخلص العراق من الطائفية السياسية ولكنها تخفف من احتمال انطلاق أزيز رصاص جديد.
عوامل حل الأزمة الراهنة ضعيفة في داخل العراق ولكنها ممكنة, والخارج يصب المزيد من الزيت على النيران الملتهبة, وهو الخوف الأكبر في المرحلة الراهنة, خاصة وأن المليشيات المسلحة الطائفية لدى الأحزاب الشيعية والسنية لا تزال موجودة ومسلحة ومستعدة في كل لحظة, إضافة إلى وجود قوى القاعدة وتزايد دورها وقوى الإرهاب البعثية المتحالفة معها ومع هيئة علماء المسلمين السنة.
إن الحل العملي والواقعي يأتي من خلال التخلي عن النهج الطائفي في التعامل السياسي مع الواقع العراقي, ويتم عبر السير على طريق المصالحة الوطنية الحقة وليس الحديث عنه فقط. والمصالحة تستهدف استبعاد قوى البعث الصدامية التي ارتكبت جرائم بحق الشعب وانتهكت حقوقه وحرياته وسيادته, وتأمين حياة هادئة مستقرة لمن أدان ويدين جرائم حزب البعث السابقة, كما يستوجب التخلي عن استجداء الخارج لتأييد تسلم رئاسة الوزراء من القائمة العراقية أو قائمة دولة القانون, فهذا معيب حقاً على وفق الطريقة الجارية حالياً في العراق من جانب رئيسي القائمتين المالكي وعلاوي. وإذا ما حلت الأزمة بمساومات غير مبدئية فإنها سوف لن تعالج المشكلة الأساسية في العراق مشكلة الطائفية وعدم القناعة بالتداول الديمقراطي البرلماني للسلطة ..الخ.

لا طريق غير طريق المجتمع المدني والعلمانية والهوية الوطنية والتوافق بين قومياته واتباع أديانه ومذاهبه واتجاهاته الفكرية الديمقراطية غير الشمولية

لقد دخل العراق في نفق الطائفية وسوف يحتاج إلى وقت غير قصير للخروج منه,

* كيف تنظرون لمشرعات القوى والأحزاب اليسارية العراقية الهادفة لحل المعضلة العراقية الحالية؟ هل ترون أن في الأفق أملاً في تبني أية مشاريع تقدمية تنقل العراق من حالة الإحتلال والتخلف إلى حالة التطور والمدنية أسوة ببقية الدول الحضارية في العالم؟

** في الصف الديمقراطي بشكل عام والصف اليساري العراقي بشكل خاص ضعف شديد وتفكك كبير وضعف ثقة متبادلة. وهي ظواهر ناشئة عن تركة ثقيلة عمرها أكثر من نصف قرن من الاستبداد والقهر والتشتت. وهي مرتبطة أيضاً بمحاولة كل طرف أن يعزز قواه وينميها دون اعتبار لأهمية العمل المشترك والتنازلات المشتركة من أجل وضع مشروع مشترك. ولهذا ترى يبرز هنا مشروع هيئة تنسيق التيار الديمقراطي, وهناك مشروع الحزب الوطني الديمقراطي, ثم مشروعات ديمقراطية ويسارية أخرى نشرت في الصحافة العراقية أو يجري تداولها عبر المواقع الإلكترونية أو بين الأصدقاء لبلورة مشروع ديمقراطي معين. وهي جهود مشكورة ومهمة, ولكنها لا ترقى إلى ما يحتاجه العراق وما يتطلبه الوضع الفكري والسياسي والاجتماعي العراقي, لا يرقى إلى حاجة التغيير في وجهة تفكير الإنسان ورأيه وموقفه وبالتالي اختياراته, ولا إلى دور أكبر لقوى التيار الديمقراطي.
الجهود المبذولة لا يفترض أن تبخس, وخاصة جهود هيئة تنسيق التيار الديمقراطي العراقي, ولكن هذه الجهود غير موحدة وغير كافية لتحقيق المنشود, لأن "الشق أكبر بكثير من الرقعة" المتاحة حالياً.
لقد قدمت مقترحات متواضعة ورجوت التفكير فيها, ولكن أشك كثيراً بوجود رغبة فعلية للأخذ بها, لأن كل طرف يرى في نفسه القدرة على القيادة, في حين نحن نحتاج إلى لم الشمل وقيادة جماعية وليس من طرف واحد, نحن لا نحتاج: إلى ما كنا ندرسه في الابتدائية في حديث الذئب: "أنا ابوكم وهذا بيتي وسقفه قوي ..". أورد هذا المثل متعمداً لأن ليست هناك ثقة متبادلة حتى بين المتعاونين في هيئة واحدة, ولهذا يفترض استعادة الثقة من خلال التواضع والفرص المتساوية والتعاون لتطوير الجميع لا طرف واحد على حساب الأطراف الأخرى. ينبغي أن ننهي قاعدة هناك من ينبغي له أن يقود وأن على الآخرين القبول بقيادته, بل علينا أن نتحرى عن قيادة مشتركة وربما متناوبة للعمل الجبهوي للقوى الديمقراطية واليسارية في العراق. ولهذا دعوت إلى عقد مؤتمر واسع للقوى الديمقراطية واليسارية تطرح فيه ورقة عمل أو أكثر لتناقش وتخرج عبر تشكيل لجنة مشتركة ورقة عمل واحدة يلتزم بها الجميع ويحس كل طرف أنه مساهم بها وليست مفروضة عليه من حزب أكبر أو اقوى أو تاريخي كالحزب الشيوعي العراقي. هذه مسألة مهمة من الناحية النفسية ومن ناحية المشاركة الفعلية للجميع. يفترض, كما أرى, أن يتضمن شعار المرحلة الراهنة لكل القوى الديمقراطية مسألتين, وهما:
** قووا تنظيم الحركة الوطنية, تتقوى كافة التنظيمات المشاركة.
** تنشيط وتعزيز العلاقة الكفاحية مع فئات الشعب والدفاع عن مصالحها اليومية بمشاركتها الفعلية فيها.
لا يوجد طريق أمام العراق يفترض سلوكه غير طريق الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والأمن والاستقرار والسلام, لا طريق غير طريق المجتمع المدني والعلمانية والهوية الوطنية والتوافق بين قومياته واتباع أديانه ومذاهبه واتجاهاته الفكرية الديمقراطية غير الشمولية. ولكي يتحقق ذلك تبدو لي المسافة غير قصيرة والجهد غير قليل والضحايا كبيرة. لقد دخل العراق في نفق الطائفية بجهد دولي وإقليمي ومحلي مميز, وسوف يحتاج إلى وقت غير قصير للخروج منه, ولا يخرج منه دون جهود موجهة لإخراجه من هذا النفق المظلم والمقيت والمميت.
1/11/2010 كاظم حبيب



#علاء_مهدي (هاشتاغ)       Ala_Mahdi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى روح الشهيد إكرام سعادة
- كل الكفاءآت من أجل إعادة البناء
- بعضهم يولدون شيوعيون
- إلى اللقاء . . كامل شياع
- قيس أسطيفان ... مدعاة فخر وإعتزاز
- نحن أيضاً نستحق إعتذاراً
- مذكرة تفاهم
- براءة اختراع بامتياز
- لا - للعودة -
- قوات الصحوة؟
- لنعترف؟(مداخلة هادئة وعادلة مع الحملة العالمية لإيقاف العنف ...
- هداكم الله!
- الثغر الباسم
- أنهم يمنحوننا فرصة شتمهم
- الحوار المتمدن : واحة أمان بدون حدود
- مقترح قانون تقاعد السياسيين العراقيين
- وداعاً جوني ، أهلاً كيفن
- تشرينيات
- تركة ثقيلة
- حذار من العراقيين


المزيد.....




- شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال ...
- مصادر تكشف لـCNN كيف وجد بايدن حليفا -جمهوريا- غير متوقع خلا ...
- إيطاليا تحذر من تفشي فيروس قاتل في أوروبا وتطالب بخطة لمكافح ...
- في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشارالمرض ...
- لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟
- 3 قتلى على الأقل في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا في رفح
- الولايات المتحدة تبحث مسألة انسحاب قواتها من النيجر
- مدينة إيطالية شهيرة تعتزم حظر المثلجات والبيتزا بعد منتصف ال ...
- كيف نحمي أنفسنا من الإصابة بسرطانات الجلد؟
- واشنطن ترسل وفدا إلى النيجر لإجراء مباحثات مباشرة بشأن انسحا ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - علاء مهدي - الدكتور كاظم حبيب في زيارة تأريخية لأستراليا