أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - خاتمَة السيرَة: الشام القديمَة















المزيد.....


خاتمَة السيرَة: الشام القديمَة


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3168 - 2010 / 10 / 28 - 20:18
المحور: الادب والفن
    




أدلجْ، أيها القلبُ، في غلسَة الذاكرَة سَعيَاً لاستعادَة الزمن، الفردوسيّ.
لتكُنْ أنتَ الطريدَ، الطريدَة، ما شاءَ لكَ ناصِبُ الكمائن للأجيالٍ؛ صيّادُ الآجالْ. لتكنْ هجرَتكَ إلى الذاكرَة عَوْدَة ً إلى جغرافيّتها، المَفقودَة. وقد قالتْ الصوفيّة، قبلاً: " يُحمَد غِبّ السَيْر من هوَ سائرُ ".

*
مَعقِدُ اسم " الشام "، كما قيلَ قديماً، أنها كانت شامَة حُسْن الدّنيا.
ومن النافل، أليسَ كذلك؟، ذِكرُ مَبعث التشديد على الفعل الماضي، في الجُملة الفائتة. من جهتهم دوماً، يبدو أنّ أولئك الأقدَمين قد اعتقدوا بأنّ الشامَ هيَ فرْعٌ مُبَرْعَمٌ، جَذرُهُ ثمّة في السّماء السابعة؛ في سِدْرَة المُنتهى. أمّا من جهتكَ أنتَ، فيَحقّ لكَ الزعمَ، أنّ رَقمَ " سبعة " المُلغز، المُبارَك، كانَ شاهداً أرضيّاً أيضاً: إنّ مَدينتكَ هذه، ومَسقط رأسكَ، كانتْ جنة الطفولة والفتوّة والجَهالة؛ كانت كذلكَ، المَدينة الجَنة، إلى نهايَة عَقد السبعينات، السّعيد. من بَعد، غيّبَتْ شمسُ الشام، ولم يَعد كرْمُها ليُثمِرَ غير عناقيدَ المَرارة والعَفن. ففي نهايَة العقد التالي، الثمانينات، حينما همَمتَ أنتَ بمُغادرَة الشامَ، أبداً؛ فكأنما كنتَ تفرّ من فلاة الجحيم.

*
في عَقد عُمْركَ هذا، الخامس، أضحى قديماً بدَوره ذاكَ الزمنُ السّعيدُ، المُستعاد.
أصبحتَ إذاً، ولا غرو، طريدَ العُمْر قبلَ أيّ اعتبار آخر. هروبكَ إلى الذاكرَة؛ هوَ ركضٌ إلى الوَراء. هذه المُفردَة الأخيرَة، كانت دوماً إكسيرَ حياتكَ. إنّ الأمامَ، بالمُقابل، بقيَ تلك المَفازة، المَجهولة، المُتعيّن عليكَ أن تحيدَ عن دَرْبها العَصيّ، الشائك: ليسَ اتفاقا، والحالة تلك، أن يكونَ الدّبْرُ بديلاً سَهلاً للفتى المُراهق، الحَيي، الذي كنته أنتَ؛ طالما أنّ مُنقلبَ الحال، القِبل، كانَ يَعني المُواجَهَة والاقتحام.

*
صغيراً، غريراً، كنتَ ترافقُ الأمّ خلل أسواق المَدينة القديمَة، مُتذمّراً باستمرار.
آنذاك، ما كنتَ على علم، أو حتى على اهتمام، بأنّ هذه الأمكنة العتيقة، المُثيرَة لضجركَ، كانت طوال قرون هيَ مَركز الشام. وإذ يتفاقمُ حالُ طفلها إلى حدّ ذرف الدموع، فإنّ الأمّ كانت تعدُ بأقراص فطائر الصّفيحَة ( اللحم بالعجين ) والمُلحقة دَوماً بالبوظة اللذيذة. كلّ من المَحلّيْن، كانَ يَقومُ في سوق " الحميديّة "، الشهير، المُنساب بين حوائل القلعة وهياكل المَسجد الأمويّ ـ كحيّة المَتاهة، الأولى. دروبُ السوق، يَميناً وشمالاً، كانت بدَورها مَعبراً لأسواق أخرى، ذاتَ نعوتٍ تحيلُ لمِهَن أصحابها. ولكنها مهنة صنع الحلوى، عند صاحبها " بكداش "، ما كانَت تهمّكَ ؛ أنتَ الطفلُ، المَنعوتُ من لدُن والدَيك بلقب " فنفنوك " ( أيْ: المُتذمِّر ).

*
مَركز الشام القديمَة، كما جازَ لِمَعارفَ طفولتكَ اليقينُ، هوَ المُقابل لِلّهو بحيّز أماكنِهِ، الأليفة.
إنه كلّ ما يُسوَّغ به البهجَة؛ خصوصاً في العيدَيْن، الصغير والكبير. إذاك، كانت خطاكَ تسيرُ على هدي خارطة الطفولة، مُتنقلة ً بكَ و لدّاتكَ بين حديقة " المَزرعة "، في جنوب الحيّ، وساحَة " المَرجة ". هذه الأخيرَة، كانت في زمَن طفولة والدَيكَ هيَ مركز المدينة. مَباني الحكومَة، الرّسمية، كانت زمنئذٍ تنهضُ ثمّة مَشرفة ً على تلك الساحَة؛ التي كانت مُعرّفة، بالمُقابل، بمَنصات المًحكومين بالإعدام شنقا.
في صبيحة أحد الأيام، الشتويّة، من السنة المُختتمة بها سيرَتكَ، كنتَ تمضي حثيثاً نحوَ مَوقف الحافلات الصغيرَة، ( الميكرو )، عندما جمّدَ خطوكَ مَشهدٌ غريبٌ، غامِضٌ: إلى اليسار، حيث الدّرب الضيّقة نوعاً والمُنحدرَة إلى " المَرجة "، كانَ جَمْعٌ من الخلق، غفيرٌ، يتجَمهرُ هناك وكأنما على رؤوسهم الطيرُ الأبابيلُ. وكالعادَة، كانَ فضولكَ أقوى من مَغبّة تأخرَك عن العمل في مَصنع الثلاجات، الكائن في إحدى الضواحي، الحقيرَة. فما أن اقتربتَ من ذلكَ المَكان، المُزدَحِم، حتى رَوّعكَ مَرأى رجل مُعلق من رقبته بحبل. لاحقا، ستعلمُ أنّ المَشنوقَ، التعِسَ، هوَ شخصٌ فلسطينيّ كانَ يَتزعّمُ تنظيماً يسارياً، صغيراً. وربما هوَ التنظيمُ نفسه، المسئول عن تنفيذ ما كانَ يُسمّيه " أعمال الإرهاب، الثوريّ "ـ كالهجوم على فندق " سميراميس " بدمشق. ذلكَ، جَدّ في العام الثاني للحرب الأهليّة اللبنانيّة، إثرَ بدء مَتاهة جيشنا السوري ثمّة.

*
سِدّة الإعدام، المَوْصوفة، كانت شبيهة بأرجوحة طفولتنا.
هناك، في حديقة " المزرعة "، كانَ اللهوُ مَجاناً. عندئذٍ، كنا نحنُ صبيَة الحيّ نزاحمُ الآخرين على الاستئثار بالأراجيح والقلابات والزحليطات. طبْعُنا العَنيف، الناريّ، كانَ يَجول إذاكَ مَعنا؛ حتى أنه من النادر، حقا، ألا يكونُ أحَدُنا طرَفاً في مَشادةٍ طارئة، مُشتعلةٍ هنا في الحديقة أو ثمّة في صالة السينما. فيلمُ المُغامرات، " عبلة وعنترة "، قادَ طيشنا أولاً إلى صالة " الشرق "، المَوْصولة بساحة " المَرجة "؛ بالدّرب ذاك، المَوْسوم آنفا بمَشهد الإعدام. بيْدَ أنّ بُعْدَ تلكَ الصالة، النسبيّ، عن مَركز المَدينة، جعلَ حماسنا لها بارداً. بالتالي، أضحى حضورنا دائباً، ثمّة في سلسلة الصالات المُتراصفة في محيط " بوابَة الصالحيّة " وساحة " الفردوس " وجسر " فيكتوريا ": إنه المُحيط، الذي أضحى هوَ مركز الشام مُذ تفجّر ثورة طفولتنا، المَجيدة. هناك، كنا نؤرثُ أوارَ خلقنا، الناريّ؛ في سينما " أمير " و" أوغاريت " و" دمشق " و" الفردوس " و" الدنيا " و" العباسيّة ". في هذه الأخيرة، كانَ دخولنا مَجاناً غالباً؛ لأنّ صاحبَها كانَ صديقَ أبن خالتنا " فيروزا "، العتيّ.
أمّا المَطعم الصغير، المُقابل لصالة " الفردوس "، فقد كانَ شاهداً ذاتَ عيدٍ على حضورنا، " سيفو " وأنا. ربما كنتُ في العاشرَة من عُمْري، حينما ارتقيتُ مع صديقي الدرَجَ الضيّق، المُفضي للدور الثاني. على الأثر، وفي لجاجَة تناول أطباق الفول المدمّس والفتة، لم ننتبه إلى الطاولة المُجاورَة، المَشغولة أيضاً. ولكن، ما أن هممنا بالذهاب، حتى أبصرنا مُسدّسَيْن، مُفضضيْن، مَنسيَيْن فوق تلك الطاولة الخاليَة للتوّ من روّادها. بلا أدنى تردّد، تناولَ كلّ منا سلاحَ الكاوبوي ثمّ دَسّه في حزام بنطاله.
تلك، ولا رَيْب، كانت هيَ المرّة الأولى، والأخيرَة، التي أمدّ فيها يَدي إلى أغراض الغير. إنّ مَظهر المُسدَس، الناصع، جَعَلَ إرادتي ضعيفة. كنتُ مُوَلعاً بشدّة بأفلام الوسترن؛ ومنذ أن اصطحبني شقيقي، " جينكو "، وأنا غلامٌ غريرٌ بعدُ، إلى صالة " أمير " لحضور فيلم " هاريس السّريع ". عند عودتي، رُحُتُ أحاول مُجاراة بطل الفيلم بسرعة إطلاقه الرصاص من مسدسه. سلسلة أفلام " غرينغو "، المُتكفل ببطولتها نجمُ طفولتنا، " جوليانو جيما "، كانت بمَثابة كعك الأعياد. فيما بعد، استعضنا عن تلك السلسلة بأخرى؛ وهيَ " ترينتي "، من بطولة " تيرانس هيل ". إلى هذا الممثل، الأخير، أشار صديقي في يوم المُسدسات، المُختلسَة، قائلاً: " إنه يُشبه أخاكَ، جينكو.. ". كلمَته، المَبثوثة في عتمَة الصالة، عليها كان أن تضيءَ قسمات سحنتي بمَشاعر الزهو، المُعتادَة. ولكنّ أخي، الكبير، كانَ مَفخرَة الحارَة، أيضاً. وإذ كنتُ أخرجُ من الصالة، لكي أقلّدَ بطلَ الفيلم بسلاح الوَهم؛ فإنّ " جينكو "، بالمُقابل، كانَ هوَ بنفسه بطلَ أفلامه الخاصّة، اليوميّة والحقيقيّة.

*
طفولتنا، المَشطورَة بين الوَهم والخيال، سلّمتنا إلى واقع المُراهقة في مُنقلبه الآخر.
بقيَ مركزُ الشام، القديمَة، هوَ ذاته. إلا أنّ مَجالَ وَعيي، المُبكر، عليه كانَ أن يَنقلَ خطوي نحوَ أماكن لهو، جديدة، مُوزعة هذه المرّة بين بارات ومَشارب " الفريدي "، " الاتيرنا "، " الريّس "، " قصر البلّور " و " السفراء ". إلى ارتياد صالات السينما، الراقيَة؛ من أمثال " السفراء " و" الخيّام " و" الزهراء " و" الحمراء " و" الكندي "؛ هذه الصالات، صارَتْ هيَ مَعقِدُ اجتماعي مع أصدقاءٍ آخرين، جُدَدٍ بدَورهم. صُحبَتي، الوَثيقة، لكلّ من " سيفو " و" آدم "، لم تنقطع بطبيعة الحال. ولكنني، آنذاك، كنتُ أبادلهما أفلامَ الإثارَة، الأثيرَة على مزاجَيْهما، بأفلام طليعيّة كانت بالمُقابل مُتوافقة مَع أفق وَعيي. كانا يُفضلان، خصوصاً، النجمَ " تشارلز برونسون "؛ مُذ أن عُرض فيلمه الشهير، " مُسافر في المَطر "، المُتضمن بعض المَشاهد الايروتيكيّة والعنيفة.
من جهتي، فقد كنتُ في آونة المُراهقة أتنقلُ، أيضاً، بينَ مَراتب مُفاضلة النجوم. " آلان ديلون "، كانَ سبيلاً للمرء إلى الحَظوَة بمرأى الجنس الآخر؛ هوَ الممثلُ، المُعرّف بالوسامة والجاذبيّة. تعرَّفنا عليه، أيضاً، بسلسلة أفلام المُغامرات،" الزنبقة السوداء "؛ العائدَة لزمن طفولتنا. بيْدَ أنّ اسمَهُ، ولا غرو، كانَ ساطعاً في أفلام أكثر جديّة؛ من قبيل " العشيق " مع الممثلة " سيمون سينورييه "؛ وأفلام ذات نفس سياسيّ وبوليسيّ، كما في " أغتيال تروتسكي " مع نجمتي الرائعة " رومي شنايدر "، " بصورة ملاك " مع الممثلة " سانتا برغر "، و " الدائرة الحمراء " بالاشتراك مع النجمَيْن، الكبيرَيْن " ايف مونتان " و" جيان ـ ماريا فولونتي ". هذا الأخير، الإيطاليّ الأصل، حضرتُ له في نفس صالتنا الأثيرَة، " الكِنديْ "، العديدَ من الأفلام الجيّدة؛ مثل " عشيقة غرامينيا "؛ " ساكو وفانزيتي "؛ " قضيّة ماتييه " و" اغتيال ". الفيلم الأخير، كانَ عن قضيّة " المهدي بن بركة ". كانَ النجمُ العظيم، " ميشيل بيكولي "، قد قامَ في الفيلم بدور الجنرال " أوفقير "، المَرهوب الاسم. في ذات الصالة، شاهدتُ لنفس النجم أفلاماً أخرى، ذات طابع اجتماعيّ وُجُوديّ؛ من صنف " ماكس والعاهرَة " و" الأيام العشرَة الحاسمَة ".

*
الفنّ، كانَ عليه، إذاً، أن يُداوي كلومَ مُراهقتي، المُتعثرَة.
فترَة مَنفايَ في دار الجدّة، كانت هيَ الأكثر غنىً بمُتعة التسكّع؛ سواءً بسواء، أكنتُ مُتبطلاً أو عاملاً في المَكتب الهندسيّ ومَصنع الثلاجات. هذا الأخير، بلغ من أيام انقطاعي عنه، إنني كنتُ في آخر كلّ شهر لا أكادُ أحصّل شيئاً من الراتب. طوال حياتي كنتُ، وما أفتأ، أحتقرُ أيّ حِرْفة يَدَويّة أو بيروقراطيّة. تحتَ جلدي، كانَ يَنمو توْق الإبداع ومُذ أن كنتُ أسلي " آدم " بحكايات مُغامرَة، مُطوّلة، يَختلقها خيالي خلال الظهيرَة؛ ثمّة، في مَنظرة الحديقة أو تحتَ سقف الدهليز. مساءً، كنتُ أفعل الشيء نفسه مع أخوتي وأبناء عمومتي، الأصغر سناً.
" كنتُ كاتباً دائماً، حتى قبلَ أن يُتاحَ لي كتابَة سطر واحدٍ "، هكذا قالَ مرّة ً " جان جينيه ". إلا أني كنتُ أفضل فألاً، ولا شكّ، من ذلك الكاتب الفرنسيّ، الكبير؛ الذي كانَ قد حُرمَ من طفولته، كما ومن إمكانيّة الدّراسَة المَنهجيّة. فمنذ فترَة حداثتي، أتيحَ لمَوهبتي الكتابيّة غرور مُحاولة كتابَة روايَة طويلة، رومانسيّة، كانت مُتأثرَة بقراءة ملحمَة " مَم و زين "، الكلاسيكيّة، المُترجمَة للعربيّة. علاوة على محاولاتي كتابة القصائد، والمَطبوعة آنذاك غالباً بوَحي مُطالعاتي المُبكرَة لنزار قباني ومحمود درويش وعبد الوهاب البياتي.
هاجسي الآخر، الفنيّ، قدّر له مَن يأخذ بيَده. بدءاً، من خلال حضوري دروس الرّسم، رفقة شقيقتي الكبرى؛ ثمّة، في " دار المُعلّمات "، أين كانت هيَ تدرُس. من بعد، أخذتني مُعلّمتها (اسمُها هيام طبّاع، ربما؟ ) إلى معهد الفنون التشكيليّة، " أدهم اسماعيل "، الكائن في أسفل الحيّ بمنطقة " المزرعة ". اهتماماتي تلك، المَوْصوفة، جعلتْ أخفافَ مُراهقتي تتنقلُ بين صالة " الشعب " للفنون التشكيليّة ومكتبات المَركز؛ مثل " النوري " و" دمشق " و" ميسلون " و" نوبل ". في صالة الفنون، عرّفني صهري، المُثقف، على مُتعهّد أعمالها، " أحمد "( شقيق المرحوم " محمّد برزنجي "؛ المُهتمّ بآداب اللغة الكرديّة وتراثها ). وعن طريق الصهر، أيضاً، التقيتُ في مَقهى " النجمَة " بالفنان التشكيليّ، الذي سُيصبح في مَهجرَه الأوروبيّ ذا اسم عالميّ؛ " عمر حمدي ".
كانَ زوجُ أختي نفسه، في مُناسبة أقدمَ، قد مَضى فيّ إلى صَديقه القديم ومُواطنه الجزراويّ، " جان ألكسان "؛ الصحفيّ البارز في الصحافة المَحليّة. هذا، كانَ قد أشارَ لصديقه إلى الصحيفة الحكوميّة، الجديدة، " تشرين "؛ والتي كانت آنذاك ما تفتأ بلا رسّام كاريكاتوريّ. على ذلك، اصطحبتُ معي عدداً من الرّسوم، المُعالجَة لقضايا مَعيشيّة وسياسيّة. من بينها، كانَ ثمّ رسمٌ أو أكثر يتناول مَوضوع الحرب الأهليّة، اللبنانيّة، ومن وجهة نظر يساريّة مُباشِرَة. أسبوع، على الأثر، وأعتذر ذلك الصحفيّ من صديقه، عن عدَم إمكان تشغيلي في الصحيفة الجديدة، العتيدة.
لم أكُ، في الحقيقة، مَلهوفاً على العمل الصحافيّ، المُحترف. إلا أنّ ذلك لم يَمنعني، لاحقا، من مُحاولة مُراسلة " سعيد فريحة "، صاحب دار " الصيّاد " البيروتيّة. إنّ من كانَ، هذه المرّة، مَشجعي لتلك الخطوَة، هوَ " صبيح ملا "؛ الذي كانت شقيقته الصغرى، الشقراء والهيفاء، صديقة لأختنا في المَرحلة الإعداديّة. إنه شابّ طريف، غريبُ الأطوار. من أصدقائنا من كانَ يَعتبرُهُ عبقرياً، فيما آخرون يَتعاملون معه بوصفه معتوهاً أخرَقَ. كانَ مَوهوباً باللغات الأجنبيّة؛ وخصوصاً، الفرنسيّة. إلا أنّ حذقه لغته الأمّ، الكرديّة، كانَ مُدهشاً لناحيَة الفقه والنحو. فرنسيّته المُمتازة، كانت قد أوصلته إلى " بيروت الشرقيّة ". ثمّة، ما لبثَ أن تعرّف على رئيس بعثة تبشير، بابويّة ، من أصل بلجيكيّ. وعن طريقه، أعتنق" صبيح " الكاثوليكيّة، ليُسافر من بعد إلى العاصمَة الفرنسيّة، كي يَدرس هناك علمَ اللاهوت. قبل ذلك، اشتهرَ الفتى، الطريفُ، بحكايَة تخلّصه من الخدمَة العسكريّة.
كانَ " صبيح "، ومُذ مُستهلّ الدورَة التدريبيّة، الأولى، يدّعي فقدانَ السّمَعَ. إلا أنهم ثمّة، لم يأبهوا له. حتى حانَ مَوعدُ إحدى المُناسبات، الوَطنيّة، التي تعهّدَ فيها إلقاء كلمَة باسم زملائه من تلاميذ صف الضباط. عند ذلك، أستهلّ صاحبُنا خطاباً مُدوّ، مُطوّلاً للغايَة. مديرُ المدرسة، طالبَ مُتذمّراً بوَقف الخطيب. ولكنّ هذا، مُتصنعاً الصمّم، كانَ لا يُعير التفاتاً أصواتَ الذين يُطالبونه بإنهاء الخطبَة. والنتيجة، أنّ المديرَ، المَشفق أخيراً على حال" الفتى الأطرش "، هوَ من رفع تقريراً يوصي بإعفائه من الخدمَة.

*
لم أدر وقتذاك، أوَصَلتْ رسالتايَ، المُرسلتان إلى " بيروت "، أم لم تصلا لسببٍ ما.
وعلى أيّ حال، كنتُ في خريف العام نفسه، على موعدٍ مع احتفال الحزب الشيوعيّ بنصف قرن على تأسيسه. جمّعتُ ثلاثين رسماً كاريكاتوريّاً، إضافة لرسوم أخرى مائيّة، وعرضتها في صالة مُخصصّة للمُناسبَة. ثمّة، في " بوابَة الصالحيّة "، أفرغتْ عيادَة أحد " الرفاق " لأجل المَعرض ذاك. مساءً، عندما بَحَثَ عني أبن " قاسو "، مسئولنا التنظيميّ، كنتُ إذاك في صُحبَة " كيمو " وآخرين في إحدى قاعات المَعرض. كانت زوجُ زعيمَ الحزب، المَرهوبَة الجانب، هيَ مَن طلبَ رؤيَة الرسّام الكاريكاتوريّ. وكم كانت دهشتها بيّنة، عندما قدّمَ لها المسئولُ غلاماً فتيّاً، لم تنبت لحيته بعدُ، قائلاً بنبرَة مَرحَة: " هذا هوَ فناننا.. ". ولكن، إنّ ما أثارَ مشاعري بقوّة يومئذٍ، هوَ حضورُ " سوزان " للمعرض. قِبْلة الحبّ، الأول، كانت هناك إذاً. وكانت تلك، على أيّ حال، هيَ المرّة الأخيرَة التي ألتقي معها وَجهاً لوَجه خلال عقد السبعينات؛ طالما أنها ستسافر بعدَ أقلّ من عامَيْن إلى بلاد البلاشفة في منحَة دراسيّة. وكان اتفاقاً، بطبيعة الحال، أن ترافقها " مليكة "، ما غيرَها، في رحلة الدراسَة وبنفس التخصّص، الطبيّ.
بالرغم من احتفائهم بمَوهبتي، ظاهرياً على الأقلّ، فإنّ " الرفاق " امتنعوا عن نشر أيّ رَسم لي في صحافتهم. حتى قصّتي القصيرَة، المُعنونة بـ " الفقر والناس "، لم تجدَ طريقها المَطلوب؛ مع أنّ من تسلّمها مني، الأستاذ " محمد علي طه "، أعربَ عن إعجابه البالغ بها. ولأني لم أعرف طريقا آخر، فلا غروَ أن أدفنَ رسومي وكتاباتي طيّ مكتبة منزلنا، كي أمضي دونما كبيرُ اكتراث في دروب التسكّع، المُمتعة.

*
في الأشهر تلك، السابقة على سَوْقي لخدمَة الوَطن السّعيد، كنتُ مُشتتَ الخطى بينَ منازل الأصدقاء في الحيّ، ومَواطن اللهو في مَركز المدينة، القديمَة. ثمّة، كنتُ أقضي ساعات المَساء، الحَميمَة، في صُحبَة أولاد عمومَة صهري؛ والتي مَتنها زيارتي لبيتهم هناك، في مركز محافظة " الجزيرَة ". شقيقهم الكبير، وزوجُ ابنة خالتي، كانَ شابّا كريماً ولطيفا. شراكته للرجل المَوْسوم بنعت " بدر باله "، في محلّ الملابس المُستعملَة، المَركون في " البوابَة "؛ هذه الشراكة، كانت تعودُ علينا بالخير المُعمّم. فما أن يَمضي بدرُ البالات، المُنير، إلى شؤون ليله، حتى يُهرع أصدقائي أولئك لنبش الرُزم الجديدة، القادِمَة من أوروبة، بحثا عن الملابس الأكثر أناقة وجدّة.
إنه مَركز الشام القديمَة، الشاهد أيضاً وأيضاً على خوضي العراكَ مع أمن " سرايا الدفاع "، المُكلفين بتفريق مَسيرَة الأوّل من أيار. ثمّة، عند صالة سينما ومَسرح " الحمراء "، تمّ اعتقال عدد من شباب الحيّ؛ وفيهم أبنُ " الظاظا "، الذي تسلّمه رجالً أمن المخابرات الجويّة ، كي يَقضي من بعد سنة ونصف في أحد معتقلاتهم. قبلها، وَقفتُ شاتماً لاعناً زيارَة الرئيس الأمريكي، " نيكسون "، المار مَوْكبه للتوّ من أمام سينما " أوغاريت ". إذاك، تطلع فيّ رجلٌ مُهندَمٌ، مُرتدٍ نظارَة سوداء، ثمّ هزّ رأسه بغموض. كانَ على الأغلب من عناصر الأمن، المُكلّفين بحراسّة المَوكب. إنّ طفوليّة مَظهري، على ما يبدو، كانت شفيعاً لي عند ذلك الرّجل.
بغض الطرْف عن طبْعي المُسالم، الهاديء، بيْدَ أنّ طبْع جيلنا، الناريّ، عليه كانَ أن يُصيبني بشرارَته. إنه، في آخر الأمر، طبْعُ سلالتنا الصخريّة؛ التي رماها المَقدورُ في بيئةٍ قصيّة، غريبَة. ثمّة إذاً، في دروب الشام القديمَة، كانَ كرْمُ السلالة قد أكمَحَ بدَوره؛ وكنا نحنُ الثمارَ. آثارُ أسلافنا أولئك، سنعثرُ عليها حكاياتٍ حقيقيّة، أقربَ للأسطورَة؛ هناك، في صالة سينما " دمشق ": ثمّة، ما يَزال أثرُ خنجر " علي حسّو "، المُصوّب إلى الشاشة رأساً. كانَ هذا الدركيّ برفقة زملائه، يَحضرون لأولّ مرّة فيلماً مَصرياً. بطلُ الفيلم، ظهرَ في أحد المَشاهد ليَتحدّى أعداءه. وبما أنّ وَجه البطل كانَ مًتجهاً نحوَ جمهور الصالة، فإنّ زوجُ ابنة عمّتي ذاك، ما كان منه إلا الالتفات لرفقته، مُتسائلاً بغضب: " انظروا إلى الرّجل الوَقح، كيف يتحدّانا ويشتمنا ". خارج الصالة، كانت تمرّ قاطرَة الترمواي، المُهيبَة. وإنه " حمّو جمّو "، والدُ دركيّنا، مَن عليه كانَ في زمَن آخر، أسبق، أن يَستقلّ القاطرَة آمراً سائقها بخشونة الاستمرار فيها حتى الحارَة.
" ولكنّ سكّة الترمواي، يا آغا، غير مَوْصولة بصالحيّة الأكراد..؟ "، خاطبَ الرّجلُ الحائرُ أقوى عتاة زمنه. إلا أنّ هذا، وكانَ ثملاً عندئذٍ، لم يأبه بالأمر. عندئذٍ، لجأ السائقُ إلى الحيلة. فما أن مَضى بقاطرَته إلا قليلاً، مُصعّداً في طريق " الشيخ محي الدين "، حتى صاحَ بالراكب المُزعج: " أكراد.. أكراااد ". فانتبه الآغا من غفلة سكره، صائحاً بدَوره بالسائق: " عندَكَ، يا هذا، عندك.. ". ما أن نزلَ العتيّ، حتى بادرَ السائقُ إلى سدّ باب المَقطورة والمُضيّ بها من ثمّ فوق سكّة الخلاص.
حكاياتُ الأسلاف تلك ، الحقيقيّة، كنتُ قد روَيتها لأصدقائي مُذ مُبتدأ عقد الثمانينات. إنهم أصدقاءٌ مُختلفون، ولا رَيْب، عن أصدقائي السابقين من لدّات الطفولة والجهالة. ثمّة، في حُجرَتيْ " أحمد حسّو " و " ناصر الماغوط "، الكائنتيْن في منزل عمّنا في الزقاق؛ في حجرَة " علي جنيدي "، في الزقاق المُفضي لتربَة " مولانا النقشبندي "؛ وفي حجرَة الضيوف في منزل " أبي كَوران "، في مُخيّم الفقراء عند ضواحي المدينة.. هناك، ما تفتأ تلك الحكايات تدوّمُ مثل طيور الأسطورَة. إنها حكاياتُ الشام القديمَة؛ أو " أسكي شام " باللفظ العثمانيّ.

***
تمّت
أوبسالا 2007 ـ مراكش 2010


> السيرَة الأخرى، السلاليّة، وعنوانها " أسكي شام "؛ هيَ قيدُ الإنجاز..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمكنة الكمائنُ 14: المَبغى المُقدّس
- الأمكنة الكمائنُ 13: الجدرانُ الأخرى
- الأمكنة الكمائنُ 12: السّفح المُتسكع
- الأمكنة الكمائنُ 11: المَخطر المَشبوه
- الأمكنة الكمائنُ 10: الجوار المُتأجّج
- الأمكنة الكمائنُ 9: المَحفل المُزدوَج
- الأمكنة الكمائنُ 8: أسطحُ الأصحاب
- الأمكنة الكمائنُ 7: خرائبُ الرّغبة
- الأمكنة الكمائنُ 6: أوابدُ الوَجاهة
- الأمكنة الكمائنُ 5: بيتُ بَديع
- الأمكنة الكمائنُ 4: مَأوى آموجنيْ
- الأمكنة الكمائنُ 3: كهف الفتوّة
- الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة
- الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل
- الأوانس والجَواري 5
- الأوانس والجَواري 4
- الأوانس والجَواري 3
- الأوانس والجَواري 2
- ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
- المُتسكعون والمَجانين 4


المزيد.....




- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - خاتمَة السيرَة: الشام القديمَة