باسم السعيدي
الحوار المتمدن-العدد: 953 - 2004 / 9 / 11 - 10:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بعد الحرب العربية الاسرائيلية في 1948 حصلت حالة إحباط شديد لدى العرب ، وتذمر من طريقة ادارة الصراع لدى الحكومات العربية ، مما دعا الى قيام تنظيمات حزبية مناهضة للحكومات ، تميزت بالتطرف الفكري ، في محاولة منها للنهوض بواقع الأمة ، أدت بها في النهاية الى القيام بثورة انقلابات عسكرية على طول العالم العربي وعرضه عدا دول الخليج العربي ، فتحول ساسة الظل الى حكام للعالم العربي .
أدار العسكر الصراع ذاته بالطريقة الاستفزازية التي تنوي تحشيد الرأي العربي والارادة العربية خلف قيادة العسكر لاعادة التوازن مع اسرائيل كتقدمة لتحرير فلسطين ، وككل صراع تم قمع الحريات العامة ، ومنع أية قوى سياسية (تضر) بسياسة الحكومات من أداء واجباتها كمعارضة تقويمية ، مما أدى الى انحراف مسيرة القادة العسكر عن الافكار التي جاؤا من أجلها لسدة الحكم ، وبالتالي خاضت تلك القوى (الحكومية) الصراع بدون تغطية شرعية وخسرت كل الحروب ضد اسرائيل .
كانت المشاعر العربية – المحبطة أصلاً- تنهار معنوياتها يوماً بعد آخر ، ولما كان شعار الحكومات هو استمرار الصراع ، ولا مجال للسلام أو القبول بحقيقة وجود اسرائيل كان لا بد من التضحية بالمزيد من الحريات وحقوق المواطنين ، والتضحية الأعظم كانت بالدستورية في العالم العربي ، وانقسم العرب الى قسمين ، قسم منهم مع الحكومات في سبيل تحقيق تلك الشعارات – وان انقسم هؤلاء الى صنف ثالث يريد ادارة الصراع ذاته لكن بكيفية تختلف عن حكومة العسكر ومنهم الاسلاميون- ، وقسم آخر - مغيب الارادة – يرى أن على الدولة المضي في اعادة الحريات العامة ، والسير بالأمة على طريق الدستورية والمجتمع المدني ومن ثم التعامل مع الصراع على أنه حرب ارادات تخص المجتمع العربي برمته لا معركة الحكومة لوحدها ، وهذا التيار المتوازن الأفكار الذي لم يكن مستعداً للتضحية بالأمة وآفاقها من أجل معركة واحدة هي معركة فلسطين ، بل يرى أن واقع الأمة اذا تفوق على نفسه ، ومضى بعيداً في تحقيق التقدم سيرى نفسه في مواجهة الصراع العربي الاسرائيلي وسيتعامل معه من موقع قوة لا موقع ضعف ، ولن يقف على الحياد ازاء معركة الأمة .
هذه النظرة المتفاوتة من قبل التيارات المتعددة للحدث ذاته كان يجب ان تكون عامل قوة للأمة لا عامل ضعف ، لكن الطريقة التي تعاملت بها الحكومات مع ( المعارضين ) وسياسة الالغاء التي ينتهجها العسكر (وعموم الديكتاتوريات) أدت بالتيارين المعارضين الى نتيجتين مختلفتين هما في تصوري السبب الرئيسي في حالة التدهور التي تمر بها الأمة ،
والتيار التكنوقراطي – لو صح التعبير – اختار الطريق الأسلم له – بما أنه لا يؤمن بالعنف الداخلي – وهو الخروج من دوامة الازمات الداخلية الى العالم الغربي أو الشرقي –كلٌّ حسب توجهاته- وغادرت العقول الى الميادين التي ترى فيها نفسها ، وبدأت رحلة خلوّ الأمة من العقول .
وأما التيار المناهض للحكومة والذي يؤمن بتسخير كل الطاقات للصراع آمن بنظرية القتال في الظل ، ولكنه (والنتيجة واضحة) اختار العنف الداخلي كمقدمة لادارة الصراع مع اسرائيل ، أي التصدي لبرامج الحكومة والقضاء عليها ثم توجيه دفة السفينة الى الوجهة الأخرى .
وللانصاف نقول ان الأمة العربية أوقعها الطرفان المتحاربان ( أي الديكتاتورية ) و ( أعداء الديكتاتورية) في مطب الاحتراب الداخلي للوصول الى السلطة كمقدمة للتصدي الى ادارة الصراع مع اسرائيل ، مم قزَّم تطلعات كلا الطرفين الى حالة تردِّي هي أسوأ من سابقتها .
والتجربة الأوضح في هذا المجال هي صراع الناصريين والاخوان المسلمين في مصر ، وبالتالي خلت الأمة من أدوات قيامها ونهوضها ونلخصها بالتالي :-
1- خلوّ الأمة من الطاقات التكنوقراطية التي هاجرت هرباً من التطرف والعنف الحكومي والمضاد له في الداخل.
2- هدر الطاقات المتبقية في معركة داخلية لا قيمة حقيقية لها في الصراع العربي الاسرائيلي .
3- انهيار المؤسسات الدستورية التي تبني أمة حقيقية ، وتجعل الأنظمة دولة بارونات يقف فيها الشعب كمتفرج ليصفق للفائز ، مما همش دوره في الصراع .
4- أسست هذه الحقائق على الأرض دورة جديدة لإنشاء سياسيين متطرفين في كلا الجانبين يؤمن كلٌّ منهم بهذا العنف الداخلي دون أن يعي أسبابه الحقيقية وجذوره ، فضلاً عن جدواه الصراع الرئيسي.
5- تكرَّست حالة الاحباط ، وبدأت مرحلة الضياع لدى الأمة ، مما ولَّد في النتيجة جهات متطرفة متعددة وصلت الى مصاف التكفير ، ومصادرة كل الأفكار المخالفة ، والعمل على محاربتها .
6- ولَّد التطرف (عند جميع الاطراف) خللاً في فهم ادارة الصراع وأدواته ، وتجنباً للوقوع في مطب التخطئة والتكفير من قبل المنافسين ، والمثال على هذه الفقرة هي نظرة كل الأطراف على عقد التحالفات ، والتفاوض لأجل حل الصراع ، وحفلت فترة الستينات والسبعينات بهذه العقيدة ، ورأينا مواقف العرب حكومات ومعارضات من اتفاقية كامب ديفيد التي عقدها السادات لاسترجاع سيناء .
7- تطور عقيدة الاحتراب الداخلي الى منهج فكري يتضمن اصطلاحات لا تنفع الصراع بالمرة ، منها التخوين والاتهام بالعمالة والتجسس وغيرها .
8- أسست النقطة السابعة لاحباط من نوع جديد ، فقد نزعت الأمة ثقتها بحكوماتها ، وأحزابها ، ورجالها ، مما أدى الى فقدان ثقة الأمة بنفسها ، وخسرت بذلك الصراع نهائياً .
9- من رحم عدم الثقة بالنفس ولدت عقيدة جديدة وهي ان لكل حكومة أو فئة أو حزب أو حركة لها حربها الخاصة ، فتمزقت الجبهة العربية الى الأبد .
10- أدت الفقرة التاسعة الى حالة تشرذم ، وهرولة كل دولة الى التفاوض أو الحرب وفق أجندة منفصلة ، وتوقيع اتفاقيات سلام منفرد مع اسرائيل ، مما شكل نقطة ضعف خطيرة عند المفاوض من الجبهة الأخرى .
11- أما المنظمات المتطرفة الأخرى التي لا تملك القدرة على التفاوض ، اما عقائدياً ، أو سياسياً فوجدت نفسها تخوض الحرب لوحدها ، مما جلب النقمة على بقية الفرقاء ، وبالتالي كانت تخوض حرباً ، لا تستشير ولا تحسب حساب الآخر من الفرقاء فيها ، حتى وان كانت خارج خطط الأمة أو بقية الفرقاء ، كما يحدث من حماس والجهاد ويتقاطع مع ارادة بقية الشركاء في الوطن وخصوصاً الحكومة النتخبة .
12- وصلت التيارات المتطرفة المختلفة الى حد لم تعد تقبل –مجرد قبول – بحساب وجود الأغلبية الصامتة التي ما زالت ( توَّلد) التيارات الفكرية والطاقات البشرية التي قد تخالفها الرأي ، وارادة تلك الأغلبية .
13- في ذلك الخضم الهائل من التطرف ، وفقدان الموضوعية ، والانسياق وراء الشعارات ، والتقوقع داخل تلك الشعارات –علماً ان السياسة فن الممكن لا الشعار- استمرت رحلة العقول حتى هذه اللحظة هرباً من واقع الأمة ، ولم يعد أحد يحسب حساب الخسارة الكبيرة التي تخسرها الأمة على مدى عقود ، ولا وجود للبديل عن تعويض تلك الخسارة التي تفرط في انحدار الأمة التي لم تعد لها هوية سوى الشعار ، وفقد الشعب وجوده لصالح الشعار .
الحل لهذه المعضلة يكمن في كلمة واحدة ، هي الديمقراطية، والتي هي اقتتال داخلي لكن بالاوراق بدلاً عن الرصاص ، ولكن الديمقراطية لا تعني التخوين والعمالة والاتهام بالتجسس، بل تعني ان يقف الخاسرون وراء الفائزين ، فتتحد الكتلة ثانية ، ولا يكون هنالك أي مجال لشطب الأغلبية لأنها حينها لا يمكن أن ندعوها صامتة بل هي ستكون الناطق الحقيقي والمعبر عن ارادة الأمة الحقيقية ، ولا يتبقى أي مبرر لهجرة العقول ، بل ما سيحدث سيكون انطلاقة لعمل تلك النخب الفكرية داخل الوطن ، وحين يأتي دور المعركة سيقف الجميع صفاً واحداً مع الذي صوتوا له .
هذه الديمقراطية سترسم طريقاً لتصحيح المسار ، نعم هو بطيء لكنه مثمر ، والخطوات التي بموجبها انتزع الطغاة حرية الشعب كيما يستحثوا الهمم من أجل المعركة الفاصلة هذه الخطوات التي من المفترض أنها ستسبق الزمن لتحرير فلسطين ، أنهت بصورة أو بأخرى القضية الفلسطينية ، وأضاعت نصف قرن من عمر الأمة بأكملها ، وبدلاً من تحرير فلسطين أضاعت الجولان والضفة وغزة ووصلت دبابا اسرائيل الى بيروت ، هذه الرؤية السياسية التي أنتهت أجيال عاشت القهر والحرمان من أجل رؤية اليوم الموعود لم تعد قادرة على الصمود للابقاء على حياة الأمة وكرامتها ، وآن الوقت لكي تتنحى تلك الرؤية المريضة التي تروض الأمة لأقدار أنفار من أجل شعار لا غير .
الديمقراطية هي المدخل الذي يحتم علينا سلوكه لكي نجد للأمة حياتها ثانية ، ولانهاء فكرة الاحتراب الداخلي ، ولتكريس جهود الأمة للحياة لا للموت .
فالديمقراطية تقضي على التطرف ، الذي يقضي بدوره على التشرذم تفريق الصفوف ، وما لا تستيع أخذه بالقهر تستطيع تناوله بحب وكرامة ورضا الناس بل وبتأييدهم اذا ما فزت عبر صناديق الاقتراع .
والأمة التي تحترم أبناءها ومواطنيها لن تعدم تأييدهم ونصرتهم يوم الفصل الموعود ، فالذي تصوت له الأمة وتختاره تؤازره في القرارات الصائبة ، أما الخاطئة والتي لا ترضى عنها الأمة ، فلديها الوسائل الديمقراطية التي تمكنها من رفض ارادة لا تعبر عنها ، ولا تلبي طموحاتها ، وبذلك تستعيد الأمة الثقة بالنفس التي خسرتها الى غير رجعة عام 1948 .
لم يعد الصمت ممكناً ، ونحن نرى التغوط على النفس الذي تمارسه القوى السياسية العربية وتدعوه جهاداً أو نضالاً ، أو حتى صموداً ، لم يعد الأمر يخصنا ، فالاجيال التي تلعن ساسة الأمس ستلعن ساسة اليوم وهكذا الى ما شاء الله .
اذا لم يكن بمقدور الأمة استعادة سيادتها على نفسها من خلال سيادة الشعب على قراراته ، فلن تقوم لنا قائمة ، وأخوف ما أخافه هو أن لا تعي أذن استقراء التاريخ لانهيار الأمم التي لم تمتلك ثقتها بنفسها .
بغداد 10/ أيلول
#باسم_السعيدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟