يا حزن قلبى على مهندسينك يا مصر ( 2 )

محمد حسين يونس

الحوار المتمدن-العدد: 3101 - 2010 / 8 / 21 - 20:10
المحور: المجتمع المدني
    

النقابة :
المهندسون المصريون كما سجلوا – قبل 52 – فى نقابتهم كانوا فئات ثلاث ( أ ، ب ، ج ) الفئة "أ" كانت للمهندسين خريجى المهندسخانة ( كليات الهندسة ) والفئة " ب " كانت لخريجى الهندسة التطبيقية بعد مزاولة المهنة لمدة من ثلاث الى خمس سنوات وتأدية إختبار تجريه النقابة بنجاح ، اما الفئة " ج " فلقد ضمت خريجى مدارس الفنون والصنايع بعد مضى من خمسة عشر لعشرين سنة على عملهم كمساعد مهندس ، واجتياز اختبارات النقابة .
المهندسون فئة " أ " كان عددهم محدود ، ( إذ كانوا يتخرجون من جامعة فؤاد أو فاروق أو إبراهيم باشا ) وإن كانت فاعليتهم غير محدودة ، فى مجالات الرى والسكك الحديدية والتليفونات ومصلحة الميكانيكا والكهرباء ووزارة الشئون البلدية والقروية ( طرق صرف صحى مياه مجارى إنارة ) المهندس " أ " كان المخطط للعمل والمراقب لجودته وزمن إنجازه ، بصرامة لا تقبل أى تهاون .. لقد عمل تحت قيادة مهندسين أجانب ( إنجليز فى الغالب ) وبنظام لا يسمح بالاهمال او الخطأ ، حتى فى المظهر ( بدلة وطربوش ورباط عنق ) وكانت كلمتهم مسموعة ، خاصة لمهندسى الرى فى الأرياف ، الذين كانوا فى الأغلب بشوات اوبكوات ذوى مكانة سامية فى المجتمع ، ويتمتعون بأعلى دخل بين المهنيين .
مهندس " ب " كان مكان عمله الطبيعى هو مواقع الانتاج ،ينفذ الخطط والبرامج ويتاكد من ان طاقم العمل مدرب وعلى وعى بأصول الصناعة ، ومتفهم للرسومات والمواصفات . أما المهندس " ج " فلقد كان يشرف على العمال والفنيين ويتاكد من دقة تفاصيل الانتاج ، والمحافظة على أدوات العمل واستخدام المواد الخام الاستخدام اللامثل بأقل فاقد ممكن ، وهو الذى يتابع عن قرب حركة العمال وسراكيهم وأجازاتهم وعلاواتهم وطعامهم ، ويزلل كل الصعاب التى تواجههم .
نقابة المهندسين كانت تحتل مبنى رائع بشارع الملكة نازلى ( بجوار الاسعاف ) مبنى على طراز عربى حديث ، له مدخل ذو بهو واسع يتوسطه نافورة مياه .. حجراته ذات ارتفاع يتجاوز الأمتار الثلاثة ، ومبانيه من الحجر وأرضياته من الرخام ، كان بيت المهندسين الذى يرتادونه لعقد اجتماعاتهم المهنية أو الاجتماعية أو لتمضية وقت الفراغ بين صالوناته الفخمة ، يتمتعون بخدمة على نفس درجة ومستوى ما يقدم فى مينا هاوس أو كتاراكت أو وينتر بالاس ، الشاى يقدم للبشاوات والبكوات اعضاء النقابة فى براد تحيطه فناجين صينى ومعه لبانة وسكرية ، وبجواره قطع من الكيك الانجليزى بواسطة سفرجى يلبس قفطانا وحزام أحمر ، يتصرف بأدب شديد ورشاقة مذهلة .
كانت النقابة تدار بواسطة مهندسى الرى ، وعادة ما يكون النقيب منهم ، كذلك فان جهاز الاشراف والموظفين والكتبة والسفرجية والحراس جميعهم من الرى تربطهم تقاليد تعلموها من المهندسين الانجليز ، وتم احترامها فى عقد اجتماعى متعارف عليه غير مكتوب ، تحترمه الاجيال المتتالية من المهندسين.
المهندس حيث التخرج كان يحظى باحترام ومحبة من سبقه لمزاولة المهنة من المهندسين ، وكان الموظفين والكتبة يعاملونه بنفس الدرجة التى يعاملون بها كبار المهندسين ، وكان المهندس الأقدم يلتزم بتعليمه وتدريبه وصقله ومراقبة سلوكه وتطوره العلمى وترفعه عن الدنايا ، وفى نفس الوقت يدافع عنه حتى لو أخطأ ... كنت ترى شباب المهندسين وشيوخهم بين أروقة النقابة ، فى غرف التدخين أو صالات البلياردو أو الصالونات الأنيقة ، يتبادلون أحاديث هامسة مهذبة ، مكونين مجتمع من الصفوة المترابطة المعتزة بانتماءها.
النقابة كانت تصدر مجلتها التى تجمع بين الاجتماعى والسلوكى والمهنى من الموضوعات ، وكانت تعقد المؤتمرات السياسية والعلمية وكان أعضاؤها مشغولين بالهم العام ، يشاركون فى الحركة الوطنية وخطط التنمية فى إدارة متكاملة للمجتمع الهندسى المصرى، وكان انضمام عنصر جديد لها فرحة فى هذا المجتمع ومبعث لفخر المهندس الشاب لعلمه بانه قد أصبح أحد أفراد مجتمع يحميه ويؤازره ويعده لدور القيادة .
حتى انقلب العسكر .. النقابة وأعضاؤها أيدوا الانقلاب العسكرى ولكن عندما بدأ تحكم الفرد وقراراته العشوائية غير المخططة ، بدأ التملل فى أروقة النقابة ، ثم المعارضة الايجابية ، ثم المواجهة التى أطاحت بمهندسى الرى ،ونظمهم الصارمة ليحل محلهم أساتذة جامعات بعيدين عن ممارسة المهنة ولكنهم اهلا للثقة.
النقابة مثلها مثل جميع عناصر المجتمع المدنى تغير مسارها .. انتهى التصنيف أ ، ب ، ج بحجة تذويب الفوارق بين الطبقات ليفقد العمل الهندسى معايير إدارته التى كانت القوة الدافعة له لعشرات السنين ، ويختلط الحابل بالنابل ليصل الى موقع القرار من كان عليه التنفيذ أو المراقبة ، وهكذا فقدت النقابة قدرتها تدريجيا على تسيير المجتمع الهندسى ، مع بدايات الحكم الشمولى وسيطرة الدولة على الاقتصاد وسوق العمل ، لتتحول الى مسهل خدمات إقتصادية بانشاء سوق تجارى لبيع السلع بالتقسيط ، أو تخصيص طبيب للكشف على المهندسين مع صرف الدواء بأسعار مخفضة من صيدلية النقابة ، تيسيرا على المهندسين من شظف العيش ، الذى صاحب اوامر التكليف وتحديد الأجور.
النقلة التالية للنقابة كانت غزوة عسكرية حشدت لها القوات المسلحة لتستولى على النقابة ، فتفقد قدرتها على التأثير ويزداد التدهور خصوصا بعد هزائم اليمن وسيناء ، المقاولون بقيادة المهندس عثمان إنقضوا على النقابة بأوامر " ساداتية " عليا ، لتنهار النقابة كما عرفناها فى سابق عهدها ، لقد استخدمت أموالها فى تمويل مشاريع خاسرة ، ودمر المقر المزدهر بعد تحويل قاعة المؤتمرات الى سينما " رمسيس " ، وبناء أدوار إضافية وبيعها لشركات الانفتاح الاستثمارية ، مع تقليص أماكن الصالونات والقاعات ، وعمل تعديلات عشوائية أفقدت المكان روح الحميمية التى ربطت بين الأعضاء والمبنى .
هل استفاد المهندسون من هذه الهجمة الاستثمارية !! هل خفضت اشتراكاتهم !! هل زادت معاشاتهم !! هل تحسنت خدماتهم !! كل هذا حدث عكسه ، فإن تحالف المقاولون مع ضباط الجيش الذين تولوا إدارة المشاريع الاقتصادية ،صادفه الفشل بعد الآخر والخسائر الغير منضبطة بحيث إستعانوا بالاسلاميين الذين كانوا يمهدون لإمبراطوريتهم الوهابية ، وبسرعة احتلوا الاماكن الرئيسية فى جهاز إدارة النقابة ، وأحلوا محل موظفى الرى الملتزمون ، أقارب وأصدقاء ودراويش التحالف الجديد ، وبدأ الأعضاء يعانون من سوء المعاملة والخدمات الفاشلة فى الاسكان والصحة والتكافل ، لتفقد النقابة دورها السياسى والفنى وحتى الخدمى الاجتماعى لصالح مخططات الوهابية الجديدة .
فى مواجهة الجماعات الاسلامية ، قامت الحكومة بسن قوانين جعلت من المستحيل عقد جمعية عمومية ، لتسقط النقابة بين براثن الحراس القضائيين، الذين فى غالبهم لا علاقة لهم بالهندسة ، فى بعض الأحيان كان الحارس محاميا يتقاضى ملايين الجنيهات من خزينة النقابة الخاوية ... وهكذا أصبح مهندسو مصر بدون نقابة ، وتمكن منهم الحراس يستنزفونهم باستحداث أنظمة هدفها زيادة الحصيلة لتغطى أتعابهم ، الكارنيهات تجدد سنويا برسوم تقارب قيمة الاشتراك السنوى ، التمغات على كل ورقة يستخدمها العضو .. غرامات ومخالفات وأتاوات على المهندسين العاملين بالخارج .. أصبحت النقابة مؤسسة حكومية تعانى من كل أمراض الادارة الحكومية ، فانفض من حولها الأعضاء لتذوى ، ويفقد المهندسون ملجأهم وبيتهم المدافع عنهم ، ومركز تطوير مهنتهم ليتفرقوا كل فى مجاله ، بعيدا عن العمل الجماعى المخطط للإرتقاء بالمهنة ، وتنهار القيم التى أصّلها مهندسى الرى ، أمام معاول هدم الثلاثى المتحالف ( العسكر ، الانفتاحيون ، الوهابيون ) , ويا حزن قلبى على مهندسينك يا مصر .

#محمد_حسين_يونس (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات