طه اسماعيل محمد
الحوار المتمدن-العدد: 3084 - 2010 / 8 / 4 - 12:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من سلة المهملات......
بودا
سيبقى يوم الثاني عشر من آذار 2001 يوماً أسوداً في تأريخ البشرية جمعاء. ففي هذا اليوم قامت عصابة من مجرمي الحضارة بتدمير إثنين من أرقى التماثيل التي تمثل تطور الحضارة الإنسانية في بقعة مهمة من هذا العالم. حيث تم بقسوة وبتعمد تدمير أكبر تمثالين لبودا في العالم في وادي باميان الواقع في وسط أفغانستان والتي كانت واحدة من اهم المراكز البودية على طريق الحرير المشهور. يمتد عمر التمثالين الى القرن السادس قبل الميلاد (أي أنه من أولى التماثيل التي بنيت لبودا على مر العصور). شكل التماثيل وهيأة الملابس تبين مدى تأثر الحضارات الأسيوية والأوربية بها مما يدل أنها كانت نتاجاً واضحاً للتمازج بين الهيلينية والبودية وهي ضاهرة واضحة جديرة بالدراسة للفن الأفغاني عامة والقندهاري منه على وجه الخصوص.
إلا أن الذي حيرني بحق هو شكل ردة الفعل لدى الحكومات والمنظمات والأفراد البوديين، التي لم تزد عن ردة فعل بقية العالم كالتعبير عن الأسف الشديد على تدمير آثار تأريخية تمثل جزءً مهماً من الحضارة الإنسانية في العالم. فلم نسمع عن بودي ٍ قام بتفجير سيارة مفخخة في سوق إسلامية، ولا قام بوديٌ يرتدي حزاماً ناسفاً بتفجير نفسه أمام مدرسة للأطفال تقرباً لله أو لبودا. ولا قام شباب بوديون بخطف شاب مسلم وتعذيبه ثم قطع رأسه وهو يتوسل بهم. لم نسمع عن أي من هذا وإنما صلاة تأملية تعبر عن الحزن العميق وكفى بذلك جواباً على وحوش العصر.
ولذلك فكان لابد من وقفة....
ومع أني وجدت أن التعريف الموجود في الموسوعة الحرة يذكر أن الديانة البودية ديانة غير الوهية، فإني أعتقد أن هذا التعريف غير دقيق، إذ أن الديانة البودية قد نشأت بالأساس من رحم العقيدة البراهماتية الهندوسية، وهي –حالها في ذلك حال معظم الديانات الهندية القديمة- ديانات الوهية موحدة، إذ أن الفكر الهندي يتعامل مع فكرة الكثرة والتعدد التي تشمل كل شيء بملاحظة نتائجها وكتابة بيان بها بدل أن يتنكر لها أو يحولها الى مجار أخرى بقصد اذابتها -كما حصل لدى جيرانهم الإيرانيين بطروحات زرادشت التي تطورت لدى شعوب وادي الرافدين فيما بعد- وهو يجد عاملاً مشتركاً بين هذا التعدد وهي الوحدة الإلاهية، و يفسر هذه الكثرة بأنها تعابير مختلفة لنفس المبدأ الموحد. لذا سعى طوال القرون أن يصنف كثرة المظاهر في فئات محددة المعالم تصبح كلها متماثلة في الأصل، وهذا هو المجال الذي يتحرك فيه الفكر الهندي عادة، يدور سكانه الإلاهيون الذين لاحصر لهم، في فلك بعض الآلهة الكبار ويصوغون من ثم تعابير مختلفة عنهم، هذا مع العلم بأن هؤلاء الآلهة ليسوا الا تجسيداً للكائن الواحد. والتطور الذي احدثته العقيدة البودية هي رفضها للمبدأ القائل بأن القيمة الروحية للإنسان تتحدد عند ولادته (كما هو الحال في نظام الطبقات الإجتماعية الهندوسي)، وقد يجدر هنا ملاحظة مدى تأثر الكثير من عقائد الشرق القديمة والحديثة ببقايا الفكر الهندوسي هذا كما في العقيدة الإيزيدية مثلاً، بل وحتى بعض الطوائف الإسلامية التي تؤمن بأفضلية من هم من نسب فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن غيرهم.
والحقيقة أن الإسم الذي أطلق على مؤسس العقيدة البودية (سيدهارنا غوتاما) وهو بودا (بمعنى المتيقظ) يؤشر الى مدى ثورية هذه العقيدة وسبقها لزمانها، فبودا لم يدعي الإلوهية كما لم يقل أنه نبي مرسل يوحى اليه وهو في حالة الوله الإلهي المطلق. وإنما يدعي العكس فهو في يقظته (أو استنارته) وفي قمة انطلاقه الفكري اكتشف حقيقة ما يريده الله من البشر، فمن المستحيل –كما يرى- على الله الذي خلق البشر جميعاً أن يفرق بينهم ابتداءً، وإنما تكون القيمة الحقيقية للإنسان هو ما أنجزه خلال حياته وليس إعتماداً على أصله وفصله.
وأركان العقيدة البودية ثلاث، الأولى هي الإيمان ببودا كمعلم (لاحظ هنا انها نفس التسمية التي أطلقت بعد ذلك بخمس قرون على السيد المسيح عليه السلام)، أي أنه ليس في العقيدة البودية ما يشير الى الوهية بودا بل حتى ولا نبوته. وثاني الأركان هي الإيمان بالمذهب ( (dhamma، وثالثها هو الإيمان بالجماعة وذلك لأن الراهب في السنغا (طائفة الرهبان) يقدم العون للآخرين بالتعليم والنصح.
والعقيدة البودية –شأنها في ذلك شأن العقيدة الجيينية- تؤمن بالأهسيما أي عدم القتل، فلله سبحانه وتعالى الحكمة في خلقه وليس من حق البشر أن ينهوا هذه الخلقة بناءً على رأيهم ومعتقدهم.
ولقد أعلن بودا في أول عضاته أن (الولادة مؤلمة، والحزن والعويل والخور واليأس كلها أمور مؤلمة، والإحتكاك بالأشياء الكريهة مؤلم، ومؤلم أن لا يستطيع المرء أن يحصل على ما يتمنى) وبعد تمحيص وتأمل في هذه الآلام وصل الى أسبابها فيقول (علة الشرور رغبة لا تقهر، وعلتها ظمأ يقود الى الولادة من جديد في سلسلة من الحيوات –الى هنا ما زلنا في العقيدة البراهماتية- وهذه العلة هي في البحث عن اللذة هنا وهناك، أي في الظمأ الى الحياة والظمأ في اللاحياة) ويصل الى نتيجة مؤداها ان ازالة الآلام ممكن (بالكف عن هذا الظمأ والإعفاء عن أي أثر له وذلك بالتخلي وبالإقلاع وبالخلاص وباللاتعلق).
ولذلك فإن العبادة البودية لاقت انبعاثاً في المعابد البراهماتية حينا من الدهر، وتأكدت من جديد فكرة الله كخالق، والفكرة القائلة بأن النعمة التي يسبغها على الأفراد تقترن بتأريخهم هم.
ومع أن بودا نفسه لم يدّع ِ النبوة كما أن أحداً من أتباعه لم يدعها له، الا أن هاجساً يظل يؤرقني كلما قرأت في سيرته وتذكرت قوله تعالى في سورة غافر:-
"ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ". صدق الله العظيم.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟