|
عمر بن حفصون ، لماذا نبشوا قبره ، و مثلوا بجثته ؟
أحمد حسنين الحسنية
الحوار المتمدن-العدد: 3022 - 2010 / 6 / 2 - 20:02
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مقولة : التاريخ يكتبه المنتصر ، تصدق كثيرا على ما قبل العصر الحديث ، حين كانت وسائل تسجيل التاريخ ، و نقل المعلومات ، محدودة ، و حين كان كثير من المؤرخين ، و الأدباء ، يعتمدون في معيشتهم على رعاية الحكام لهم ، و لكن المؤرخ الحديث عليه أن يمحص التاريخ . هذا ما ألوم عليه رينهرت دوزي ، إنه لم يفند في بعض الأحيان ما وصله من معلومات تاريخية ، و دوزي هو المؤرخ الهولندي الشهير ، المتوفي عام 1883 ، صاحب كتاب تاريخ مسلمي الأندلس ، الذي ترجمه إلى العربية د. حسن حبشي بعنوان : المسلمون في الأندلس ، و نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب في ثلاثة أجزاء بين عامي 1994 و 1998 ، و هي الطبعة التي أعتمد عليها في هذا المقال . الإهتمام بتفنيد ما جاء في الكتاب ، و بعد زمن طويل من وفاة مؤلفه ، يعود لأهمية الكتاب ، و الذي يستحق - عن جدارة - أن يعد أفضل ما كُتب عن تاريخ أسبانيا في الفترة من عام 711 و إلى عام 1110 . إنه كتاب عمدة ، لهذا فمن الخطأ أن يترك بعض ما جاء فيه ، و أرى إنه يناقض الحقيقة ، دون نقد ، و ليس هناك كتاب من تأليف بشر مرفوع عن النقد . دوزي ، كما أراه في بعض المواضع في ذلك الكتاب ، أخذ بما وصله من المصادر القديمة ، و لم يترك لعقله الجبار فرصة النقد ، خاصة مع علمه إن ما أثبته في كتابه المشار إليه أعلاه ، عند حديثه عن بعض الشخصيات ، كان مصدره فقط ما كتبه المنتصر ، لأنه لا يوجد مصدر أخر يوازن الأمر . و لكن نقص المصادر الأصلية الأصيلة التي تنقل وجهات نظر مختلفة ، لا يعفي المؤرخ من تهمة التقصير ، لأن من مهام المؤرخ - كما ذكرت عالية - أن ينقد ، و يمحص ، و دوزي نقد ، و محص ، في الكثير من مواضع كتابه هذا ، و لكن للأسف لم يشمل بنقده ، و تمحيصه ، كافة المواضع . في هذا المقال سأتحدث عن عمر بن حفصون ، و تحديدا سأبحث عن السبب الذي دعا السلطة الأموية لنبش قبر عمر بن حفصون ، و قبر ولده جعفر ، و التمثيل بجثتيهما . لمن لا يعرف عمر بن حفصون أكتب هذا المختصر عن شخصه : الأسم : عمر بن حفصون . الأصل : حسب ما أورده دوزي هو من أصل أسباني ، و هو ما أرجحه لأنه قاد التيار الوطني الأسباني ، بمسلميه ، و مسيحييه ، لفترة طويلة في مواجهة السلطة الأموية بالأندلس ، و لا يعقل أن يقود ذلك التيار شخص من أصل مختلف . دوره التاريخي : قيادته حركة لإسقاط حكم بني أمية . على أن ما يميز تلك الحركة إنها كانت وطنية بكل معنى الكلمة ، فإنضوى تحت رايتها الأسباني المسلم ، و المسيحي ، و لم يجد عرب ، و أمازيغ ، من مواطني شبه الجزيرة الأيبيرية ، تمردوا على السلطة ، عارا في التحالف معها ، أو الإنضمام لرايتها ، و كان ممن إنضموا لعمر بن حفصون ، أو لاذوا به ، محمد بن عبد الله ، والد عبد الرحمن الثالث ، المعروف أيضا بعبد الرحمن الناصر . إنها حركة - من وجهة نظري - من حيث نزعتها الوطنية ، و حياديتها الدينية ، أشبه ما تكون بحركة تنتمي للعصر الحديث ، كالتي قاومت الغزو الفرنسي لأسبانيا في عهد نابليون ، منها بحركة تنتمي للقرنين التاسع ، و بدايات العاشر ، الميلاديين . المصير : تناوبت على حركة ابن حفصون فترات مد ، و جزر ، متعددة ، و لكنها لم تنجح في سعيها الأساسي ، و أعني إسقاط دولة بني أمية ، و لكنها أيضاً صمدت لمدة طويلة تصل إلى نصف قرن تقريبا ، في وجه أربعة حكام من بني أمية ، و توفي عمر بن حفصون و هو غير مغلوب على أمره . لكن للأسف لم يترفع عبد الرحمن الناصر عن مشاعر الكراهية الذميمة ، فنبش قبره ، و قبر ولده جعفر ، و بعث بجثتيهما إلى قرطبة ، لتسمرا على عمودين . التهمة ، أو السبب في ذلك المصير : التنصر ، و هي التهمة التي لم يفندها رينهرت دوزي ، و أخذ بها كما وصلته من المنتصر الذي كتب التاريخ ، و سأقوم هنا بتفنيدها . سأفند تلك التهمة التي ألصقت بابن حفصون من كتاب دوزي ، و بالتالي من كتب التاريخ القديمة ، لأن دوزي الذي كان يجيد العربية بدرجة متقنة ، ضمن ما كان يجيد من لغات ، نقل من المصادر القديمة مباشرة ، دون الأخذ بالوسطاء ، و في هذا قيمة كبيرة لكتابه ، و على هذا أيضا ففي تفنيد ما كتب دوزي ، تفنيد مباشر لما كتب المنتصر . أولاً : قبل تاريخ حادثة الردة المزعومة نجد ان عمر بن حفصون ، و حين بدا أن الأسرة الأموية على وشك السقوط ، إتصل بالأغالبة في شمال أفريقيا ، طالبا منهم أن يتوسطوا لدى الخلافة العباسية ، لتصدر الخلافة العباسية مرسوم بتوليته حكم الأندلس . ثانيا : بعد تاريخ حادثة الردة المزعومة ، و في فترة جزر مرت بحركة عمر بن حفصون ، لم يرد في قائمة أسماء الممالك ، و الحكام ، الذين راسلهم ابن حفصون بهدف التحالف ، سوى اسم واحد مسيحي ، و أعني مملكة ليون ، في المقابل نجد في القائمة : إبراهيم بن القاسم ، صاحب أرزيلة ، في مراكش ، و بني قسي - بالسين - تلك الأسرة القوية المسلمة ذات الأصل القوطي ، في شمال الدولة الإسلامية بشبه الجزيرة الأيبيرية ، و إبراهيم بن حجاج اللخمي ، أقوى الزعماء العرب بالأندلس في وقته . لقد فشل مشروعه للتحالف مع بني قسي بوفاة محمد بن لب ، كما فشلت - على ما يبدو - بقية المشاريع الأخرى ، و لكنه نجح في التحالف مع ابن حجاج ، و حارب جيشيهما معا جيش الأسرة الأموية . ثالثا : بعد سنوات من تاريخ ردته المزعومة ، و بعد سقوط دولة الأغالبة ، و قيام الدولة الفاطمية بشمال أفريقيا ، إعترف عمر بن حفصون بسيادة عبيد الله المهدي ، أول خلفاء بني فاطمة ، و بالتالي كانت تُعتبر المناطق التي كان يسيطر عليها في الأندلس جزء من الدولة الفاطمية . ألم يكن في ذلك التحالف - لو صحت قصة الردة - ما يضر بسمعة الدولة الفاطمية التي كانت لازلت غضة ، و تتعرض للسهام المادية ، و المعنوية ، من كل جانب ؟؟؟ ثم أليس سهلا على من وصلت رسله إلى شمال أفريقيا مرات عدة ، في زمن الأغالبة ، و زمن الفاطميين ، و إتصل بأحد الحكام من الأشراف الأدارسة من قبل ، و تفاهم مع بني قسي في الشمال الأسباني ، أن تصل رسله إلى فرنسا ، أو روما ، ليحاول الحصول على دعمهما بصفته الجديدة ؟؟؟؟ ألم تكن صفته الجديدة - المزعومة - تسهل عليه الوصول إلى دعم فرنسي ، أو فاتيكاني ، أكثر من الحصول عن دعم إسلامي ؟؟؟ رابعا : قال دوزي أن أسرة عمر بن حفصون بأكملها تنصرت معه ، و لكن الغريب أن دوزي يذكر أن عبد الرحمن بن عمر بن حفصون ، كان رجل قلم ، أكثر منه رجل سيف ، و إنه بادر بالإستسلام في عهد عبد الرحمن الثالث ، و بعد وفاة عمر بن حفصون ، و شخص إلى قرطبة حيث عكف بقية حياته على نسخ المخطوطات ، أما الأغرب أن جعفر بن عمر بن حفصون ، و الذي قتل قبل سقوط الحركة ، و الذي قال دوزي إنه عاد إلى الإسلام ، و حاول إستمالة المسلمين الأسبان ، و قتل في مؤامرة شارك فيها أحد إخوته ، هو الذي نُبش قبره ، مثلما نبش قبر أبيه عمر ، و أرسلت جثته ، و جثة أبيه ، إلى قرطبة ، ليمثل بهما . لماذا نُبش قبر جعفر ، المسلم ، و ليس قبر أخيه الذي تسبب في قتله ؟ خامسا : ألقى المؤرخون الأقدمون التهمة على الفقهاء ، حين إدعوا أن الفقهاء المصاحبون لعبد الرحمن الناصر ، هم الذين ألحوا في نبش قبر عمر بن حفصون ، و ولده جعفر ، لبيان هل دفنا على الطريقة الإسلامية ، أم المسيحية . أليس في هذا الطلب في حد ذاته دليل على الشك ، و أن التهمة برمتها زائفة ، خاصة أن الطلب يشمل أيضا قبر جعفر ، المسلم بحسب رواية دوزي . ما أرى في ذلك الطلب إلا إنه طلب زائف ، لم يطلب في الحقيقة ، و إنه ليس أكثر من محاولة من مؤرخي الأسرة الأموية لنفي تهمة نبش القبور ، و التمثيل بالجثث ، عن عبد الرحمن الثالث ، و إلصاقها بالفقهاء . السؤال يبقى : لماذا إختلفت معاملة عمر بن حفصون ، عن غيره من المتمردين الأخرين ، الذين كان يموج بتمردهم الجزء الإسلامي من شبه الجزيرة الأيبيرية ؟ الإجابة : نعم لم يكن عمر بن حفصون هو المتمرد الوحيد على السلطة الأموية ، فقد كانت هناك حالة من الفوضى العارمة ، و التفكك في السلطة ، وصلت معه السلطة من الضعف ، و المهانة ، أن السلطان الفعلي للحاكم الأموي إنحسر لفترة ما في مدينة قرطبة فقط ، و أصبحت نواحي الدولة مقسمة بين أسرات ، و أفراد ، يحكمون على هواهم ، لكن عمر بن حفصون إختلف عن كافة المتمردين الأخرين ، من أسبان ، و عرب ، و أمازيغ ، في إنه لم يكن يفكر مثل بقية المتمردين ، الذين كان جل تفكيرهم هو كيفية البقاء في الحكم في مناطقهم ، و ربما الإستيلاء على منطقة مجاورة لهم ، ليس أكثر . المتمردون الأخرون كانوا أشبه بالحكام في عصر الطوائف ، الذي جاء بعد ذلك ، أما عمر بن حفصون فكان يملك عقل مؤسس دولة ، و قدراته ، لهذا أراد أن يحكم شبه الجزيرة الأيبيرية بأجمعها ، ليؤسس دولة حلم بها ، لا يُضطهد فيها أحد بسبب دين ، أو مذهب ، أو عرق ، و لكنه عرف أنه يحتاج لغطاء شرعي مقبول شعبيا ، فبحث عنه في بغداد ، ثم في المهدية ، حيث العدوين اللدودين لبني أمية ، و هذه جريمته الكبرى . عمر بن حفصون لم يكن فقط سابق لعصره ، و سابق لعبد الرحمن الثالث في تسامحه الديني ، حين لم يفرق بين أحد بسبب دينه ، فحارب تحت رايته المسلم بجانب المسيحي ، و زاد على عبد الرحمن الثالث في ذلك الميدان ، برفضه للنظرة المذهبية الضيقة التي شابت حكم عبد الرحمن الناصر ، بل كان أيضا الأصلب عوداً ، و الأشد شكيمة ، بين كل من تمردوا في فترة حياته على سلطان بني أمية ، و أيضا كان الأوسع أفقاً ، و الأكثر حيلة ، و الأكثر طموحاً ، و لهذا كان مصيره مختلفاً عنهم جيمعاً . لقد كان لابد لبني أمية تحطيم ذكراه ، بعد أن رحل عن هذه الدنيا الفانية ، فكان تسامحه الديني ، و ترفعه عن الطائفية ، و النظرة المذهبية الضيقة ، هما المطرقة التي أردوا تحطيمه بها . إنني ، و برغم أصلي المختلف ، لا أجد في وسعي إلا أن أتعاطف مع عمر بن حفصون الحقيقي ، لا الزائف الذي وصلنا من خلال مؤرخي بني أمية ، و من نقل عنهم .
02-06-2010
ملحوظة دائمة : أرجو من القارئ الكريم ألا يعير إهتمامه للتلاعب الصبياني الأمني ، في نصوص المقالات ، ذلك التلاعب الذي يشمل التلاعب في طريقة كتابة الكلمات ، أو بالحذف و/أو الإضافة ، فلا يصرف ذلك التلاعب الأمني الصبياني تركيزه على ما ورد بالمقالات من أفكار .
بوخارست - رومانيا
#أحمد_حسنين_الحسنية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هكذا سيتدخل نظام آل مبارك عسكريا في دول حوض النيل
-
في قضية الردة ، لنخسرهم ، و لنكسب العالم
-
المشكلة في البوصلة السياسية الإيرانية ، و ليست القنبلة
-
علينا إعداد العدة لإحتجاجات ما بعد إنتخابات 2011
-
كترمايا جاءت لجمال مبارك على الطبطاب
-
السودان لن يقبل بأقل من التحكيم في حلايب
-
للإخوان : هناك ما هو أكبر من غزة
-
ما الذي يدفعهم للإخلاص لأوباما ، بعد أن طعنوا كلينتون في ظهر
...
-
الخدمة العسكرية الإلزامية ، هذه سياستنا
-
أغبياء ، لا يعلمون على من ستدور الدوائر
-
لا حصانة لدبلوماسي في وطنه
-
لا تطلق النار ، الدرس القرغيزي الثاني
-
نريدها كالقرغيزية
-
ليس من مصلحتنا تجاهل ذلك العلم
-
علم السلالات البشرية ، هذه المرة سينفع البشرية
-
و حقوق الإنسان تأتي بالديمقراطية
-
مشروع إنهزامي لا شأن لنا به
-
حسني مبارك أخر حكام أسرة يوليو ، أو الديكتاتورية الأولى
-
البوركا الساركوزية لم تكن سابغة بما يكفي
-
الديمقراطية الناضجة تلزمها ديمقراطية
المزيد.....
-
شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال
...
-
مصادر تكشف لـCNN كيف وجد بايدن حليفا -جمهوريا- غير متوقع خلا
...
-
إيطاليا تحذر من تفشي فيروس قاتل في أوروبا وتطالب بخطة لمكافح
...
-
في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشارالمرض
...
-
لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟
-
3 قتلى على الأقل في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا في رفح
-
الولايات المتحدة تبحث مسألة انسحاب قواتها من النيجر
-
مدينة إيطالية شهيرة تعتزم حظر المثلجات والبيتزا بعد منتصف ال
...
-
كيف نحمي أنفسنا من الإصابة بسرطانات الجلد؟
-
واشنطن ترسل وفدا إلى النيجر لإجراء مباحثات مباشرة بشأن انسحا
...
المزيد.....
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
-
آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس
...
/ سجاد حسن عواد
-
معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة
/ حسني البشبيشي
-
علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|