أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - أنا والمجانين















المزيد.....

أنا والمجانين


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 3004 - 2010 / 5 / 14 - 19:53
المحور: المجتمع المدني
    


لا أعرف سببا بعينه لحضي السيء على الدوام مع من أصادفهم من المجانين .. فكثير ما يهاجمني أحدهم وأنا أقوم بحركتي الاعتيادية في الشارع العام أو السوق أو المقهى ، ليترك في نفسي زيادة في الاشفاق بدلا من الشعور بالغبن .

كان ذلك يوما ربيعيا ، وخلال الحقبة التي أنعم بها سلطان بلادنا علينا بويلات حروبه ، حين قررت أن أغامر بالانضمام الى طبقة الميسورين ، فدخلت الى مطعم للكباب ، لا يرتاده إلا من صلحت حاله ، وتوفرت له أسباب النعيم .

المكان كان مزدحم بمن اعتادوا على تناول الطعام فيه ، ويبدو انهم جميعا يعرف بعضهم بعضا ، حيث كانوا يتبادلون الطرف بينهم ، ويناكدون صاحب المطعم بين الحين والآخر .

جلست متواريا في آخر الصالة ، متخيلا كوني مقدم على ارتكاب حماقة كبيرة ، ستجعلني مذنب بنظر من يراني من معارفي ويتهمني حينها بالبطر .. طلبت نفر كباب مع حرصي على أن يكون مع كافة ملحقاته دون استثناء .. من يدري ؟ .. فلربما قد لا تتكرر هكذا فرصة وفي موعد قريب .

نفشت ريشي ، وانا اتطلع لعامل المطعم ، وهو يقوم برصف صحن الكباب ، وبجانبه صحن آخر للطماطم المشوية ، تحيط بهما حزم من الريحان الاخضر الطري ، وذهب مسرعا ليعود وبيده كأس من اللبن تطفو على قمته طبقة من زبد أبيض تسر الناظر .

ماذا يحدث لو أنني هذه المره ، تفرغت لنفسي دون غيري من بقية العائله ؟ .. يلعن أبو الدنيا وما فيها .. سوف اغادر ملامح الحرمان ولو لدقائق ، وانفرد بطاولة تنطلق من فوقها أبخرة الكباب ، واتمتع بوقتي كما أريد .

وقبل أن أبدأ بمداعبة ما تحمله طاولتي ، إستوقفتني حركة مفاجأة مصدرها دخول أحد المجانين الى الصاله ، دون أن يكترث له أحد من الموجودين في الداخل ، فهو على ما يبدو معتاد على زيارة المكان في كل يوم .. الرجل كان كما خمنت ، قريب من سن الاربعين ، يرتدي أسمالا ضاعت فيها أشكال الملابس المعتاده ، فهي عبارة عن خيوط متدلية من كافة أنحاء جسمه .. لحيته إختلطت بفروة رأسه لتشكل مساحة لا يميزها لون واحد .. عيناه يكسوهما إحمرار شديد يوحي بغضب صاحبهما ورغبته بالانتقام ... راح يرمقني بنظراته الحاده فور دخوله المطعم .. وتحرك من مكانه ليمر من خلال الحاضرين ، متوجها الى طاولتي مباشرة .. وأخذ يمسح بيده القذرة كل ما يحتويه صحن الكباب ليلقي به في فمه مرة واحده ، في حين أسقطت حركة ذراعه الاخرى كأس اللبن ، وجرف باسماله ما تبقى على الطاوله ، وغادر الصالة بكل هدوء ، وسط موجة من ضحك الاخرين .

كل ذلك جرى في لحظات ، ولم اتحرك من مكاني .. لقد كانت تحدوني رغبة شديدة باستعادة صورة ما حدث .. الكباب ذهب ولا يمكن لصاحب المطعم أن يعوضني بغيره ، ولا يسعه أن يعفيني من دفع الثمن كونه لا ذنب له بما أصابني من مصاب جلل ... حاولت أن أجد تفسيرا منطقيا لاستهدافي من قبل ذلك المجنون ، رغم أنه مر في طريقه نحوي بعدد من الطاولات تعلوها صحون الكباب ، وكان بامكانه سد رمقه بواحد منها .. وحين عجزت عن ذلك ، ركنت الموضوع تحت باب الصدفة لا غير .

وفي مرة اخرى .. شعرت وأنا أسير على رصيف الشارع ، بأن أحدا قام بلطمي من الخلف على مؤخرة رأسي وبشده .. التفت وأذا به شاب معتوه يجري وسط السيارات المزدحمه مبتعدا نحو الرصيف المقابل .. وفي ثالثة أضطرني أحدهم لمغادرة المقهى المزدحم بالزبائن ، كونه أصر على مشاركتي طاولتي ليحاورني بيديه ورأسه المتحرك كالآله ، وقد تكرم علي أخيرا بدلق قدح الشاي على بدلتي ، مستريحا بالتخلص مني حينما هربت بجلدي ، وأنا اتلفت مخافة أن يكون قد قرر ملاحقتي الى ابعد من المقهى .

مرات عديدة حضيت خلالها بمغازلة المجانين ، وكانت لي معهم لقاءات غير حميمه .. ولا أتذكر بأن حالة من غضب قد انتابتني في واحدة من حالات كهذه ، بل على العكس ، لقد جرتني مواقفهم تلك ، الى أن أتمثل كياناتهم الانسانية الناقصه ، وأسعى للحصول على فحوى ان يكون الانسان مسلوب العقل ، ويحيا وسط مجتمع تتصادم بين أركانه سبل السلب والنهب وهدر حقوق الآخرين ، والتزاحم على نيل أسباب الحياة دون مراعاة لعرف أو قانون أو دين .

ترى .. كيف يتحرك هؤلاء خلال يومهم الكامل ؟ .. أين يذهبون حينما يسكن كل شيء ويطبق الظلام ، وتتهادى الاجساد الى مكامنها وأفرشة نومها ؟ .. ماذا يحدث في فضاء العالم الذي يسكنونه بعقولهم المعطله ، حين يختفي ضجيج الحركة من حولهم في الليل ؟ .. ماهي ردود أفعال أجسادهم جراء ما تسلطه عليها عوامل المناخ المتقلبه ؟ .. ثم وهذا هو الاهم .. ماهي صلتهم بصفة المواطنة ؟ .. هل هم يتمتعون بهذه الصفة اللصيقة بكل من يحمل جنسية بلادهم ، أم أنهم خارج حدود هذه الصفه ؟ .. وان كانوا مواطنين مسجلين في دوائر الاحوال المدنية وحسب الاصول المرعية قانونا ، فلماذا لا تعمد الدولة الى منحهم حق الحياة في ملاجيء تحميهم من شرور الضياع والموت وهم يحملون صفة ( مجهول ) ؟ .. إن ذلك قطعا سوف لن يتعدى ما تكلفه نفقات مراسيم استقبال الوفود الرسمية خلال عام واحد .

ولكوني بدأت أشعر بوجود مداخل حقيقية لعالم ما يسمونه بالسياسة ، غير النبش في معاجم تفسير مصطلحاتها الجامده ، وغير أن يقضي المرء عمره في ملاحقة التاريخ ورموزه ، لينازع سواه في أمر قدسية هذا الرمز او ذاك .. مداخل تجعل من امر الاقتراب من فنون لعبة الحياة الحقيقية ، للتتجسد امام المتقصي صور غير مبتسرة ، صور كاملة تقول ما غيبته بطون الكتب ومراجع التحليل الاكاديمي المتخصصه .. لكوني كذلك ، فقد وجدتني ألاحق بنظري وسمعي واحاسيسي كل ما يحيط بي من عالم تنطق محافله اليومية بكل جديد ، لابني افكاري الخاصة ، مستمتعا غاية الاستمتاع ، بما احضى به من صور تؤثر في تشكيل صيغ التفكير لدي ، وبشكل يفوق بكثير ذلك الاثر الذي يتركه كتاب أو مقال عابر .

من هنا .. فقد وجدتني يوما ، وحين لمحت احد من نسميهم بالمجانين ، مضطجعا على الارض في احدى الحدائق العامة المهجوره ، إقتربت منه بحذر ، وجلست على الارض تاركا مسافة بيني وبينه للطواريء .. حاولت حمله على الحديث ، وكان بينا الحوار القصير التالي –

- كيف حالك ؟
- لاجواب .
- ما اسمك ؟
- أنا جائع .
- سوف اشتري لك سندويج إن أخبرتني عن اسمك ؟ .
- محمود .
- اين هم اهلك يامحمود ؟ .
- لاجواب .
- اين تنام في الليل يامحمود ؟ .
- هنا .. انا جائع .
- خذ هذه واذهب لشراء السندويج .
هب واقفا دون ان ينحني جسده كما يجري للانسان عندما ينوي النهوض من نومه ، وخطف قطعة النقود الورقية من يدي ، وجرى كالبرق حيث اختفى من أمامي بسرعه مذهله .
كان كل ما في داخلي يصرخ .. أسرع يامحمود .. قد لا تنال فرصة أخرى كهذه كي تحصل على قطعة سندويج من فلافل الطعمية البسيطه ، ليتك تعلم يامحمود بان قطارات محملة بحبوب الحنطة الاسترالية الفاخرة ، تلقي بحمولتها لاطعام اسماك بحيرات السلطان ، وحين يمل السمك طعم الحنطه ، تستبدل بالبيض المسلوق .. وليتك تعلم وانت تطير فرحا لقطعة سندويج ، بأن مطابخ لا حصر لها تقوم يوميا باعداد طعام نمور البرنس الكبير من ابناء الخديوي العظيم .

نفضت التراب عن ملابسي ، وغادرت المكان ، وأنا اتذكر ما رواه أحد معارفي حين زار مستشفى الشماعية في بغداد ، وهو المستشفى الرئيسي لايواء مجانين العراق .. حيث يقومون بتزويد الاشخاص الاكثر عدوانية من المجانين بسلاسل حديدية طويله ، ليقوموا بضرب بقية زملائهم العراة وفي قاعات مغلقه ، كجزء من عمليات الترويض .

حين دخلت جيوش الاحتلال الى العاصمة بغداد ، كان مجانين الشماعية من ضمن المشمولين ببركات التحرير ، فانتشروا في شوارع وازقة المدينه ، لتطال البعض منهم رصاصات مجهولة ، ومن بقي منهم ضل يحاور عالمه الخاص حرا طليقا كسواه من خلق الله .. وقد يكون صاحبي الذي خطف مني صحن الكباب ، واحد من هؤلاء ، لا زال يبحث عن فرصة اللقاء بي في يوم من الايام .



#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- واحد من مشاريع التمرد ، إسمه ستار أكاديمي
- تشضي الشخصية العربية ، وفقدان وسيلة التخاطب .
- ألنفط وصراخ الكفار
- يوم في مستشفى عمومي
- أين نحن من توقعات مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجي ...
- ألفرات وقربان المدينه .. ( قصة قصيره )
- مشاوير شخصيه ، في ثنايا الماضي .
- حينما تصر الجماهير على رفض مسببات خلاصها .. أين الحل ؟ .
- أعمارنا ليست عزيزة علينا ، وحربنا معها مستمره .
- لماذا هذا الإهمال المتعمد للكفاءات العراقية المهاجره ؟؟ .
- ألواقع الاجتماعي العربي .. بين ثورة الجسد والعقل ، وعبثية رد ...
- أفكار مهشمه !
- أليسار في دول العالم العربي ، ومقاومة التجديد .
- من ذاكرة الحرب المجنونه
- بعيدا عن رحاب التنظير السياسي .. 2
- ألحريه .. حينما تولد ميته .
- الزمن العربي .. وسوء التسويق
- حلوى التمر
- سلام على المرأة في يومها الأغر
- مراكز نشر الوعي في الوطن العربي .. الى أين ؟


المزيد.....




- الحكم على مغنٍ إيراني بالإعدام على خلفية احتجاجات مهسا
- الإعدام لـ11 شخصا في العراق أدينوا -بجرائم إرهابية-
- تخوف إسرائيلي من صدور أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت ورئيس ...
-  البيت الأبيض: بايدن يدعم حرية التعبير في الجامعات الأميركية ...
- احتجاجات أمام مقر إقامة نتنياهو.. وبن غفير يهرب من سخط المطا ...
- الخارجية الروسية: واشنطن ترفض منح تأشيرات دخول لمقر الأمم ال ...
- إسرائيل.. الأسرى وفشل القضاء على حماس
- الحكم على مغني إيراني بالإعدام على خلفية احتجاجات مهسا
- -نقاش سري في تل أبيب-.. تخوف إسرائيلي من صدور أوامر اعتقال ب ...
- العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة بذخائر أمريكية ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - أنا والمجانين