كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 900 - 2004 / 7 / 20 - 06:50
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
عندما سقط النظام النازي الهتلري في ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية صدرت الكثير من الأعمال المهمة التي حاولت القوى الديمقراطية والاشتراكية والشيوعية استيعاب وهضم وتحليل واستخلاص الدروس من الفترة المنصرمة من حكم الفاشية لما يقرب من 12 عاماً, وسبل مواجهة الفكر النازي الذي سيطر على عقول وقلوب الناس الألمان لسنوات طويلة, في ما عدا تلك القوى المعادية للفاشية والحرب والنظام النازي. ويفترض أن نشير إلى أن ألمانيا, ورغم العمل الطويل المتواصل والكثيف ضد فكر الحزب النازي وحكم الفاشية الهتلرية لم تتخلص بشكل كامل ونهائي من بقايا هذا الفكر إذ ما تزال هناك جماعات سياسية سرية وعلنية يطلق عليها بالنازية الجديدة أو الفاشية الجديدة التي لا تختلف في جوهرها عن الفكر النازي القديم, إلا بطريقة العرض لأفكارها وسياساتها أو برامجها ليتسنى لها تجاوز الدستور الديمقراطي الألماني الذي يحرم الفاشية. وفي عام 1946 أخرج فيلم ألمانيا تحت عنوان "القتلة بيننا" حيث كانت النقطة المركزية التي جرى التركيز عليها في هذا الفيلم هي أن النظام الفاشي الهتلري قد سقط حقاً, ولكن الفكر الفاشي ورجاله والقتلة الذين لضخوا أيديهم بدم الملايين الأبرياء من اليهود والروما والسنتي (الغجر الأوربيين) والسلافيين والشيوعيين والاشتراكيين والمسيحيين الديمقراطيين ...الخ, وأن هؤلاء كانوا يجلسون في مواقع المسئولية في الوزارات ومؤسسات الدولة وفي التعليم والبحث العلمي وفي كل مكان. وأن مسئولية الشعب والدولة الديمقراطية هي إيجاد سبل مواجهة القتلة منهم وتحييد الذين فرض عليهم الانضواء تحت لواء الحزب النازي والتعرف على المعادين للحزب النازي الذين كانوا مع ذلك أعضاء في هذا الحز. ورغم مرور ما يقرب من ستين عاماً على سقوط النازية, فأن الصحف تنشر بين فترة وأخرى عن وجود نازي قديم ممن كان يعمل في الاستخبارات العسكرية والأمن الداخلي الألماني يعمل في مكان ما من أجهزة الدولة أو المؤسسات المختلفة أو أنه قد توفى منذ فترة قصيرة ولم يكتشفه أحد.
تواجه العراق اليوم حالة مماثلة, رغم الفارق بين الدولة الفاشية والدولة الصدامية من حيث المكان والزمان والحجم والسكان والمخاطر التي شكلتها النازية الألمانية على العالم بسبب الحرب العالمية الثانية وبسبب ارتباطها بأعتى الاحتكارات الرأسمالية الألمانية التابعة لأكبر الاحتكاريين الرجعيين الألمان. فالعراق يواجه اليوم واقعاً معقداً ينبغي علينا أن ندركه ونتحرى عن الحلول العملية له, إذ أن لنا تجربتنا الخاصة والجديدة في هذا المجال, رغم أهمية التعلم من التجارب الأخرى التي مرت بها العديد من شعوب العالم في هذا الصدد.
فحزب البعث الصدّامي بقي في الحكم ثلاثة أضعاف الفترة التي كان الحكم الهتلري في الحكم تقريباً. واستطاع خلال هذه الفترة ذات الأجيال الثلاثة أن يترك تأثيره المباشر والشديد على الأجيال التي نشأت في ظل حكم البعث وأجبرت على الاتباط بفكر البعث وممارساته, والتي لم تتعرف على القوى السياسية الأخرى التي ناضلت طويلاً في العراق قبل وأثناء وجود البعث في السلطة بسبب محاربته لها وسعيه لاستئصالها من الساحة السياسية العراقية, وأن التربية التي اعتمدها صدام حسين تميزت بوجهتها الاستئصالية للفكر الآخر والشخص الآخر وغرس فكر صدام حسين الاستبدادي والعنصري والقمعي المشوه في أدمغة الأطفال والشباب خاصة في المنطقة العربية من العراق.
وقامت نواة البعث المخلصة لصدام حسين وبدعم من أجهزة الأمن والاستخبارات والمخابرات, بإقصاء غير البعثيين من أجهزة الدولة المدنية والعسكرية ومؤسسات البحث العلمي والمدارس والكليات والجامعات والمؤسسات الاقتصادية والخدمية وقيادات النقابات والمنظمات "غير الحكومية" والمنظمات المهنية ووضع مكانهم بعثيين مخلصين وخاضعين لصدام حسين قبل إخلاصهم لحزب البعث والدولة البعثية.
وفي الحرب الأخيرة ضد نظام صدام حسين, سقط صدام حسين ونظامه ودولته, ولكن لم تسقط أجهزته وقواه الخاصة وعناصره المخلصة, وخاصة العناصر التي شاركت صدام حسين في ترسيخ دولة البوليس السري والاستخبارات والمخابرات العسكرية والقوات الخاصة. فهذه الجماعات ما تزال موجودة في مواقع كثيرة وقادرة في الوصول إلى آخرين موجودين في مواقع مهمة يمكن من خلالهم الحصول على إمكانيات توجيه الضربات لأجهزة الجمهورية الخامسة والحكومة المؤقتة.
سأتطرق في هذا المقال عن تلك المسائل التي يفترض أن تكون معروفة لمن يعمل في رئاسة الحكومة العراقية ووزارة الدفاع والداخلية بشكل خاص, ولكن أجد من واجب كل واحد منا أن يطرح تصوراته بغض النظر عن مدى معرفة الآخرين بها, إذ ربما تنفع في وضع اليد على ما يجب وضع اليد عليه ومنع ممارسة القتل والتخريب والتدمير.
منذ سقوط صدام تحول أعضاء ومؤيدي حزب البعث ومنظماته الشعبية وأجهزته المختصة بالأمن الداخلي والقومي والقوات الخاصة ...الخ إلى أربعة مواقع نبدأ بالأقل خطورة باتجاه الأكثر خطورة: وهي:
1. الموقع الأول: توجهت تلك العناصر, التي كانت تحس بالاضطهاد والقسر في وجودها في حزب البعث ومنظماته وأجهزته, نحو هذا الموقع للعمل في أحزاب أخرى أو بصورة مستقلة بعد أن توفرت لها الفرصة للخلاص من كابوس النظام الثقيل عليها وعلى عائلاتها. وهي تشكل الغالبية العظمى من القوى التي حسبت في يوم ما على ملاك نظام البعث. وهذه المجموعة الكبيرة وجدت في كل مكان وعملت في مواقع مختلفة من حيث الأهمية, ولكن لم تكن في مواقع حساسة في نظام البعث.
2. الموقع الثاني: توجهت لهذا الموقع تلك العناصر الانتهازية, التي كانت ترمي من وجودها في حزب البعث لوصول إلى مواقع المسئولية لتجني ثمار ذلك مالاً ومركزاً اجتماعياً ونفوذاً سياسياً واقتصادياً, وهي ما تزال تطمح إلى مواقع مشابهة في النظام الجديد. فهذه العناصر مستعدة تماماً إلى تغيير مواقعها وصبغتها كما تغير الحرباء لون بشرتها وفق الظروف المحيطة بها. وهي لا تتورع في حالة الخضوع للضغط والابتزاز والتهديد عن التعامل مع قوى البعث القديمة, إن لم تجد الفرصة المناسبة للحصول على موقع مناسب لها ومكاسب جيدة لمصالحها في النظام الجديد. وهي مجموعة كبيرة عملت في صفوف البعث وتنحدر من فئات اجتماعية مختلفة, وبشكل خاص من موظفي الدولة والبرجوازية الصغيرة.
3. الموقع الثالث: توجهت إلى هذا الموقع تلك العناصر التي طلبت منها قوى البعث الصدّامي أن تخلد إلى الهدوء والقيلولة وعدم التحرك لكي لا تكشف عن طبيعتها وهويتها السياسية والعمل على استمرار وجودها في المواقع المهمة التي ما تزال تحتلها من أجل خدمة أغراض قوى صدام حسين في الوقت المناسب, إنها بمثابة قوى احتياطية تتحرك وفق الحاجة, وهي موجودة في كل مكان وخاصة في أجهزة الدولة, وهي من حيث المبدأ مخلصة لقوى صدام حسين ونظامه والتي استفادت من وجوده في السلطة كثيراً. ولا شك في أن الكثير من أئمة المساجد وبعض الجماعات الدينية وبعض القوى القومية تعمل ضمن هذه المجموعة الكبيرة, رغم أنها ليست بالضرورة كانت منتسبة إلى حزب البعث, ولكنها كانت متعاونة معه وحصلت على الكثير من المكاسب أثناء وجود النظام.
4. الموقع الرابع: توجهت إلى هذا الموقع تلك العناصر الأكثر إخلاصاً وخضوعاً لصدام حسين والأكثر صراحة في عدائها للوضع الجديد وحملها السلاح واستخدامه فعلاً. وهي عناصر كانت في حزب البعث وفي أجهزة الأمن والقوات الخاصة, وخاصة فدائيي صدام حسين والحرس الجمهوري, وأغلبهم من المحيط الذي سعى صدام حسين على استخدامهم لأغراضه الخاصة وحكمه الاستبدادي. وهذه القوى تحمل السلاح بصورة سرية ولكنها يمكن أن تمارس عملها الاعتيادي اليومي في بعض الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية والجمعيات غير الحكومية والنقابات أو في الإعلام. وهي تتناوب في ما بينها تنفيذ العمليات العسكرية. وبعض هذه العناصر مستعد لطرح وجهات نظره بصراحة بالغة عندما يكون في الأحزاب السياسية العلنية أو شكل تنظيمات خاصة به, كما في تنظيم الاتحاد الوطني الذي أعاد تشكيل نفسه أو في مجالات أخرى غير قليلة. وهذه الجماعة هي المسئولة مباشرة عن تنفيذ عمليات الاغتيال أو التفجير أو التخريب الاقتصادي, مؤسسات إنتاجية وخدمية, أو ضد السفارات والأجانب, وبعضها يقوم بتقديم الخدمات للقوى المضادة القادمة من وراء الحدود لدعم نشاطها التخريبي والقتل الجماعي.
ولا يمكن للمجموعة الأخيرة أن تواصل نشاطها الخطر لفترة طويلة دون أن ينكشف أمرها ما لم تحصل على دعم لوجستي متنوع ومستمر وملموس من الجماعتين الثانية والثالثة وعبر دعم خارجي منسق.
وتمارس جماعات البعث, التي تعمل وفق برنامج تم الاتفاق عليه والتحضير له قبل بدء الحرب بفترة مناسبة وتحت قيادة عزت الدوري, إذ أن خسارة الحرب كانت معروفة تماماً لدى صدام حسين. كان صدم حسين وما يزال رغم اعتقاله, يثق ويعتمد على عزت الدوري لأسباب ثلاثة, وهي: 1) لم يكن الرجل يطمح في الحلول محل صدام حسين على العكس من عدد آخر من القياديين, 2) وكان مؤمناً ومطيعاً لصدام حسين إلى حد العبادة, فهو الذي قال مرة: لو لم يقل محمد بن عبد الله بأنه خاتم الأنبياء والمرسلين لكان صدام حسين هو خاتمهم, 3) ويمتلك قدرة تنظيمية وقدرة على الاختفاء وله علاقات واسعة وخاصة في الريف ومع جماعات الدراويش والبدو وأصحاب المواشي. في إطار مجموعات فلول صدام حسين توجد مجموعات الاغتيالات, ومجموعات التفجيرات والمجموعات المختصة بتهيئة المتفجرات والعتاد, وتلك المجموعات المسئولة عن تنفيذ عمليات التخريب للمشاريع الاقتصادية, ومنها أنابيب النفط الخام والغاز ومشاريع الخدمات العامة, والمجموعات العاملة في الإعلام وخاصة الصحافة, أو تلك المجموعات التي تقوم بالابتزاز وتوجه رسائل التهديد والوعيد, أو مجموعات تهيئة الأموال اللازمة من مخابئها للمواصلة تمويل العمليات المختلفة, إضافة إلى المجموعات التي تنسق مع القوى الأخرى المماثلة لها في الأهداف ...الخ.
وبسبب المضايقات المتزايدة على قوى البعث وغيرها في الداخل, بدأت بعض تلك القيادات مغادرة العراق ومواصلة العمل من الخارج, حيث تم تشكيل التحالف السياسي بين جميع القوى المناهضة للوضع القائم والتي كانت مستفيدة جداً من وجودها في السلطة. وهي موزعة على عدة دول مجاورة. وتساعد التقنيات الحديثة على تذليل صعاب الاتصال في ما بينها. ويفترض أن يعرف المسئولون العراقيون بأن صدام حسين قد بني تنظيماته المختلفة وفق الأسس التي تبنى عليها عصابات الجريمة المنظمة (المافيا), والتي تعني ضمن ما تعني قتل الذين يعبرون في عرف المافيا أنهم خانوا العهد الذي قطعوه على أنفسهم إزاء المنظمة. ولهذا نفذت حتى الآن بعض الاغتيالات باعتبارها أحكاماً بالإعدام من المافيا التابعة لصدام حسين والتي يترأسها الآن عزت الدوري.
إن الإشكالية الكبيرة في الوقت الحاضر هو أن فكر البعث الصدّامي ورجال صدّام حسين وممارساته وعلاقاته وتأثيراته ما تزال فاعلة في العراق, وهي بالتالي التي تجسد وجود القتلة فكراً وشخوصاً في ما بيننا وعلى المجتمع أن يضع اليد عليهم دون أن يفقد الثقة بنفسه أو يشك في الجميع. فالشعب يعرف هؤلاء الناس ويستطيع تشخيصهم بسهولة إن قرر التعاون الجاد والفعلي مع الحكومة العراقية المؤقتة. والخطورة الفعلية تكمن في القوى التي بدأ يطلق عليها في أوروبا بالجماعات "النائمة" أو أنها في القيلولة, أي الجماعات الساكنة لكي لا تجلب الانتباه إليها, إذ أنها تشكل حصان طروادة في المجتمع والتي يفترض أن تراقب جيداً لمنع قيامها بما يلحق أضراراً فادحة بالمجتمع والاقتصاد الوطني.
إن النشاطات الأخيرة لقوى الإرهاب تعكس تداخلاً واضحاً وتوزيعاً ملموساً للعمل بين جميع الفصائل البعثية وجماعات القاعدة وأنصار الإسلام وأنصار جيش السنة وغيرها, ولها مواقع حصينة في تكريت والفلوجة والرمادي وبعقوبة وفي المناطق الحدودية بين العراق وسوريا وبين العراق والأردن والعراق وإيران على نحو خاص. كما أن لها إمكانيات العبور عبر الحدود العراقية-السعودية أيضاً نحو العراق بسبب المطاردة المستمرة لعناصرها في السعودية فيتم تصديرهم عملياً إلى العراق. ولا أشك بأنهم سيبدأون أعمالهم التخريبية في سوريا أيضاً حالما تبدأ سوريا بالتضييق الجدي على هذه القوى على الحدود العراقية-السورية, وهو ما لم يحصل حتى الآن, إذا ما تزال سوريا تطلق على هذه القوى اسم "المقاومة".
من هنا يتطلب الأمر عملاً جماعياً من قبل جميع الأحزاب والقوى السياسية المناهضة للصدّامية, فكراً وممارسةً, ولكل القتلة الذين سخرهم النظام لقتل إرادة الشعب وسحق كرامته وإذلاله, والى توزيع العمل على المجالات الفكرية والسياسية والجوانب المختلفة من الحياة الثقافية العراقية, في مجالات الغناء والموسيقى والرقص والرسم والنحت والمسرح والسينما, في الشعر والقصة والرواية والصحافة, في العمل التدريسي والتثقيفي اليومي للجماهير الشعبية, في الإعلام السمعي والبصري والمقروء. ولن ينفعنا العنوان البائس الذي وضعه بريمر للهيئة الوطنية لاجتثاث البعث, إذ أن الذين تبنوا هذا الشعار لا يختلفون في تفكيرهم عن التفكير الإستئصالي للفكر الآخر, وهو لا يعدو عن كونه عملاً ديماغوجياً وتهريجياً لا نفع منه, وربما أساء أكثر مما نفع حتى الآن. إن العمل الفكري الدءوب والتحليل والنقد العلمي لمرحلة حكم وفكر البعث وممارسات صدام حسين هو الذي يساعدنا على إفشال فكر البعث الصدّامي وتعريته في الساحة العراقية والعربية على أقل تقدير. وإلى هذا النهج أدعو الحكومة العراقية وكل الأحزاب السياسية للعمل المنظم والمبرمج لمواجهة الفكر الصدّامي الفاشي بطبيعته العنصرية والاستبدادية والقمعية. وهذا يتطلب وضع برنامج مشترك, في مقدمته تبرز مهمة مكافحة الإرهاب الراهن في العراق.
برلين في 19/07/2004 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟