أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - خالد عيسى طه الحالم المستديم!*















المزيد.....

خالد عيسى طه الحالم المستديم!*


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 2879 - 2010 / 1 / 5 - 19:10
المحور: الادب والفن
    


يمثل خالد عيسى طه تاريخاً طويلاً وعويصاً من الاشتغال في الحقل العام: سياسياً ومحامياً ومستشاراً ومفاوضاً وسجيناً ومنفياً. وفي كل مراحل حياته وتضاريسها ومنعطفاتها صعوداً ونزولاً على حد تعبير الجواهري الكبير وهو يتحدث عن تجربته الشخصية بروح النقد الذاتي، كان خالد عيسى طه قابضاً على الجمر، متمسكاً بأهداب الحرية، باعتبارها القيمة العليا، التي لا يمكن الوصول الى أي شيء حقيقي وصميمي وانساني، من دونها.
لقد بنى خالد عيسى طه كيانيته إذا جاز التعبير حبّةًً حبّةً كما يُقال، ولبنةً لبنةً، وقد اختزن تجربة غنية تراكمت مع مرور الأيام، بالنجاحات والانكسارات والأخطاء والخيبات، لكنه ظل حالماً ولم يغادره الحلم، الاّ بحضور حلم آخر، لعل الحلم أصبح جزءًا من حياة خالد، ولعله أراد التماهي مع الحلم وكأنهما يكمّلان بعضهما البعض، ولربما وجد في الحلم تعويضاً عن الواقع المرير الذي نعيشه منذ عقود من الزمان.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا النص كتبه الباحث مقدمة لكتاب خالد عيسى طه " العراق ومسيرة الدم- الطريق الى الحرية" الذي سيصدر خلال أيام من الدار العربية للعلوم "ناشرون" في بيروت، 2010. وللأسف الشديد فقد غادرنا مؤلف الكتاب إثر مرض لم يهمله طويلاً في إحدى مستشفيات لندن، في أوائل العام 2010.


" جئتَ اليوم
مثل الحلم
ومثلَ الحلم ظهرتَ
وتراءى لي أنك ... أنتَ
واحترتُ .. أيهما أنتَ
اتحدت صورتك بالحلم
فكنتَ !
هل انك شئتَ
أم ثمة شيء غامض
كان .. فكنتَ "
بعد وثبة كانون اثر معاهدة بورتسموث العام 1948 عاش خالد سنوات النضال الوطني – الاجتماعي في الخمسينات وشارك بفاعلية فيها وفي الدفاع عن المعتقلين السياسيين وفي حركة السلم وضد حلف بغداد، حتى تكللت وحدة القوى الوطنية في جبهة الاتحاد الوطني العام 1957 بالالتئام، وصولاً الى الثورة العراقية العام 1958 والمعروفة بثورة 14 تموز (يوليو).
ورغم أن خالد كان أقرب الى التيار اليساري والليبرالي الوسطي –الديمقراطي، لكنه كان ميّالاً الى الوحدة الوطنية والى التفاهم والتقارب بين قواها، لما يمثله المشترك الوطني من معاني لديه. ولعله لم يكن يتمنى اندلاع موجة العنف بعد الثورة والمحاولات المختلفة للانفراد بها أو الهيمنة عليها لاعتبارات فئوية ضيقة، الأمر الذي أدى الى اندلاع الصراع بين التيارين الشيوعي والقومي - البعثي، حين حصل الانقسام الوطني وتبددت جبهة الاتحاد الوطني، واصطف الحزب الشيوعي مع الزعيم عبد الكريم قاسم وسعى للانفراد بالشارع أو الهيمنة عليه، في حين توجّه البعثيون والقوميون للاطاحة بعبد الكريم قاسم والاستحواذ على السلطة بالكامل، وحصل هذا في انقلاب 8 شباط (فبراير) العام 1963، الذي فتح الباب على مصراعيه لانفلات العنف الدموي وارتكاب المجازر البشعة، ونال خالد ما ناله عشرات الآلاف من الوطنيين من التيارات الوطنية الشيوعية والديمقراطية والليبرالية والكردية والناصرية لاحقاً.
وعندما حدث انقلاب العام 1968 وضع خالد عيسى طه مسافة بينه وبين العمل السياسي المباشر فلم يرغب وهو السياسي المخضرم والقانوني البارز النزول الى ساحة السياسة بدون عدّة فكرية وحقوقية وأخلاقية، وعندما لم تكن الفرصة مؤاتية كان ينتظر حتى تستكمل المستلزمات، ويسعى بكل ما أوتي من علم ومعرفة لاستكمالها، سواءًا في قراءة الواقع موضوعياً، أو في حشد الامكانات الذاتية، لاستكمال العامل الموضوعي، خصوصاً وقد خبر بعد سنوات حافلة من العمل السياسي والقانوني، إن ميدان المعركة بدون تحضير وتدريب وتهيئة وامكانات، لاسيما في ظروف العراق، سيعني السباحة في النهر دون معرفة " فن العوم"، إذ لا يكفي توفّر الارادة حسب، دون التعلّم ميدانياً والتدريب والتأهيل والمعرفة والظروف الملائمة، والاّ سيكون الغرق نصيبه، وقد يضيع عند أول محاولة.
بعد سنوات طويلة من العمل الحقوقي والجهد القانوني (المحاماة والاستشارات) والخبرة السياسية المتكدّسة والعلاقات مع القوى والشخصيات الوطنية والتعرّض للاعتقال والسجن لعدد من الاعتقالات، لاسيما في سنوات الحكم السابق، حيث كان نزيلاً لخمس سنوات في سراديب وسجون باردة، أدرك خالد عيسى طه أن البقاء في العراق لم يعد ممكناً، واضطر مثله مثل عشرات الآلاف من السياسيين والمثقفين والحقوقيين الى اختيار المنفى والرحيل والاستقرار في لندن، أو الاعتراض بالصمت باعتباره أحد أشكال الاحتجاج.
ورغم الجو المحتدم، لاسيما خلال الحرب العراقية- الايرانية وما بعدها لم يرغب خالد عيسى طه، الانخراط في تجمّعات أو تكتلات نشأت على عجالة وبعضها انفضّ على عجالة، كما لم يرَ جدوى في الدخول في دهاليزها، لاسيما وأن الصراع كان معقداً ومتشابكاً، فرغم رفضه للنظام السابق، لكنه لم يكن يرغب في أن تُحسب حركته على ايران أو لمصلحتها، حيث بدأت بعض التيارات الاسلامية تُعلن انحيازها اليها، ورغبتها في استمرار الحرب حتى الاطاحة بالنظام السابق.
ولعل رغبة خالد كانت تلتقي مع العديد من الجماعات السياسية في ضرورة التغيير، لكنه ظل متحفظاً إزاء البديل الايراني، أو المدعوم من قبل ايران، وفي الوقت نفسه لم يرغب أن يكون متفرجاً، وإذا كانت " المتعة بالفرجة" حسب صموئيل بيكت، فإن الفرجة لدى خالد، كانت تعني المراقبة والتدقيق وانتظار عمل قادم ينسجم مع تطلعاته في حياة مدنية، حضارية، سلمية، ودولة يحكمها القانون وتقوم على أساس المساواة ودون تمييز.
" العزلة المجيدة" والاضطرارية لم تكن إذاً نوعاً من الهروب أو التخلي أو عدم الشعور بالمسؤولية، بل كانت مجاهدة مع النفس واستحضاراً للقادم وإعداداً نفسياً ومعنوياً، لانطلاقة جديدة، بعد رصد ومتابعة وقراءة للمستجدات والمتغيرات.
كان خالد عيسى طه يقلّب المسألة أحياناً مع عبد اللطيف الشواف الشخصية الوطنية والقانونية الكبيرة، الذي كان هو الآخر محكوماً بعاملين متناقضين، فمن جهة الرغبة في التغيير، ومن جهة ثانية القلق من احتمالات جني ثماره من جانب قوى أخرى، لاسيما الحركة الدينية، خصوصاً بعد الحرب العراقية- الايرانية. وقد أخبرني عبد اللطيف الشواف وخالد عيسى طه بمخاوفهما تلك، وهو ما كنت أشاطرهما به، لكن غزو القوات العراقية للكويت غيّر المعادلة الى حدود كبيرة، لاسيما بعد تدويل المسألة العراقية، وحشد القوات الامريكية وقيادة ما سمي بالتحالف الدولي، الذي وضع المسألة في إطار جديد، خصوصاً بالنسبة للمعارضة، حيث أعاد تركيبها بعد تفكيك تحالفاتها السابقة، ونقلها من الحضن الاقليمي، لتستقر في الملعب الدولي، وإن كانت قد صاحبتها الكثير من العواصف والرعود وردود الفعل والانشطارات لاحقاً.
كان خالد عيسى طه مهيئاً ومتحفزاً ومُثاراً ومعبئاً، لكنه لم يقبل التبرير أو التزوير، وهو وإنْ كان " مندداً " أو "مؤيداً " لهذه المجموعة أو تلك رغم انه حافظ على استقلاله وخصوصيته، الاّ أن أهم ما يميّزه هو هموم الوطن التي كبرت وتسامت لديه على جميع القضايا، بحيث تداخل الخاص بالعام عنده ولم تعد حدوداً فاصلة بينهما أحياناً.
ومع وقفاته وردود أفعاله وبعض مجاملاته أو حتى شطحاته وسبحان من ليس لديه ذلك، لكن قلبه كان أقرب الى اليسار، ووجهات نظره كانت أقرب الى التيار الوسطي الليبرالي، حيث ظل حالماً بدولة مؤسسات وانتخابات ديمقراطية وحريات عامة وخاصة، واحترام حقوق الانسان وحل سلمي حقيقي للقضية الكردية واعتماد مبادئ المواطنة السليمة، التي يمكن أن تضع حداً لمسألة التمييز في قضايا الهوية والمواطنة والجنسية وغيرها.
وأتذكر أنني عندما أهديته كتابي "من هو العراقي؟ - الجنسية واللاجنسية في القانونين العراقي والدولي" وهو دراسة سسيو- ثقافية قانونية في المواطنة والهوية والجنسية، هاتفني لمدة زادت على النصف ساعة، قائلاً ان هذا ما نحتاجه، وعسى أن تستفيد المعارضة منه، رغم انه يعرف رأيي الذي كنت قد جاهرت به، يوم ضجّت الاجندات الخارجية وعلت نبرة التعويل عليها، وارتفعت الاصوات أو خفتت، بشأن الحصار الدولي.
ولم يكن موقف خالد عيسى طه من الحصار الدولي الجائر بعيداً عن الاعتبار الانساني والقانوني، بل والوطني، فقد كان يدرك بسليقته وحسّه الوطني والمعرفي، أن الذي يدفع الثمن باهظاً هو الشعب وليس الحاكم، وأن استمرار الحصار سيزيد من معاناة المواطن ويكون مبرراً إضافياً لامتهان حقوقه وكرامته!
وعندما انقسم الفريق المعارض بين مؤيد للحصار ورافض له منذ العام 1992 وما بعدها، وبين من يدعو لامتثال العراق للقرارات الدولية المجحفة والمذلة، باستثناء القرار 688 القاضي باحترام الحقوق السياسية لجميع المواطنين ووقف القمع الذي تتعرض له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، لاسيما بعد هبّة 1991 الشعبية، كان انحيازه لهذا القرار ورفضه للحصار الدولي، مدركاً أن الوجه الآخر للاستبداد الداخلي، هو الطغيان الخارجي، المتمثل في محاولات ضرب العراق بحجة القضاء على نظامه الدكتاتوري، بل أن هذا الخيار أكثر بشاعة وإثماً ودموية.
لقد عانى خالد عيسى طه لسنوات وتعرّض للاذلال في زنازين وأقبية منسية ومجهولة، كما عانى لسنوات طويلة زادت على ربع قرن في المنافي، التي طال فيها الزمهرير حسب الشاعر الكبير مظفر النواب.
ولم يكن المشهد السياسي يخلو من بعض التشوش والارتباك، بل وحتى الاستعجال بالتغيير بأي ثمن، بعد أن طالت المعاناة ولعبة شد الحبل الدولية المفروضة، بالملاذ الآمن في الشمال (كردستان) ومناطق الحظر الجوي (في جنوب العراق) ولم يكن ذلك بمعزل عن ضبابية التغيير وطغيان الخارج الذي حاول البعض أن يزيّنه، ليعوّل عليه، واختلطت لدى خالد عيسى طه مشاعر متناقضة، فمن جهة يريد أن يسهم في التغيير ومن جهة مخاوفه الوطنية وثقل تاريخه، وحاول النقاش مع السياسي المخضرم عبد اللطيف الشواف، الذي كان هو الآخر يقدّم خطوة ويؤخر خطوتين.
وإذا كانت قد ضغطت بعض الظروف لولوج مشاريع التغيير التعويلية، فقد كان خالد مشدوداً الى الخلف باستمرار، وعند أول منعطف حزم أمره واستعاد رباطة جأشه، ولاسيما بعد شعوره، بأن الأمر لا يخلو من ورطة، وانسحب دون أن يلتفت الى ما يُقال، وكان صدقه مع نفسه هو الاساس.
لم يفكر خالد عيسى طه في صفقة أو منصب، فقد ترك كل ذلك خلفه، وكان بامكانه أن يكون ضمن تشكيلات ومؤسسات تأسست على عجالة ما انزل الله بها من سلطان، لكنه فضّل زاويته اللندنية وأصدقاءه المقرّبين وحروفه الطازجة والبهيّة، ليعبّر فيها عمّا يختلج في صدره، حتى وإن كان التعبير في الكثير من الاحيان مصدر اشكاليات، يعود اليها خالد ليعالجها ويصححها ويتبنى عكسها، والسياسة تجارب كما يقال، وعندما نخطأ علينا أن نصحح أخطاءنا، لاسيما إذا كانت صميمية، وكنت أردد من زمن: أنني لا استنكف من أخطائي ولا أخفيها، وأشعر أنها جزء مني ولن أكون كما أنا من دونها، لذلك فأنا اعتز بها، لاسيما من خلال نقدي الذاتي لنفسي وللآخر وللظاهرة.
وأعتقد أن خالد عيسى طه كان صادقاً مع نفسه واستطاع أن يعالج مواقفه بروح الحكمة والدراية والخبرة، وتمكن من تجديدها وتعديلها وترصينها باستمرار، وذلك ديدن المتعلّم، المتواضع، صاحب المعرفة وليس من أدعيائها.
لدى خالد عيسى طه فكر قانوني متوقد ورأي سياسي يجاهر به ولا يخفيه، فهو ضد الطائفية على طول الخط، وأظن أنه واحد من الشخصيات الحقوقية العراقية المتميزة بنقدها الشجاع للظاهرة الطائفية، دون أن يحسبه أحد على هذا الفريق الطائفي أو ذاك، ولموضوعيته في النقد يجهل البعض أين يصنفه وكيف يتعامل معه؟ إذ ليس بالامكان احتسابه ببساطة ويُسر، فلم يكن خالد يراهن على شيء أكثر من مراهنته على ضميره، وكان خالد عيسى طه يتحدث عن علاقات والده عيسى طه المتنوعة والواسعة، وصداقاته النجفية والفرات أوسطية والكردية والبصراوية- الجنوبية، والموصلية وهو ما تشرّب عليه .
كان خالد يتذكر ويستذكر باعتزاز كتابات علي الوردي عالم الاجتماع العراقي، حول الطائفية، وكثيرا ما استذكرنا قول الوردي وهو يصف بعض الطائفيين : " انهم طائفيون بلا دين"، فالمتديّن والمسلم والمؤمن الحقيقي ينبغي ان يكون ضد الطائفية، لأن الدين عامل توحيد وليس عنصر تفريق.
وإذا كان خالد عيسى طه قد انتظر التغيير طويلاً وحلم بعراق مستقر تتصارع فيه بشكل سلمي، الكيانات والتيارات الفكرية والسياسية، في إطار التنوع والحق في الاختلاف، لكن حلمه اصطدم منذ الأيام الاولى، وارتسمت مكانه صور كابوسية، انفلتت على نحو غرائزي-عدواني، لتعمّ العراق أعمال عنف منفلتة لم يشهد لها في تاريخ حركته الوطنية والسياسية على هذا النحو، حين بدأ القتل على الهوية في إطار عمليات تطهير عرقي واثني، طال الجميع.
ولم ينعقد لسان خالد عيسى طه حين طغت الموجة الطائفية وزاد روّادها وتطاير رذاذها، فهو اللسان الفصيح الذي تغنى بالوطنية ونبذ الطائفية، بل انطلق يكتب ويحاور ويناقش كل صغيرة وكبيرة تهمّ الوطن المنكوب والشعب المُستلب. وتعكس كتاباته ومقابلاته التلفزيونية، عفوية وتلقائية، فتراه يعلّق على الحدث دون أدلجة أو تنظيرات عقائدية، فيقول الموقف والرأي ، ويقول ضده لاحقاً إذا ما توفرت لديه معطيات جديدة، وليس في الأمر ثمة غرابة، طالما أن الحياة متغيّرة، والسياسة تجارب كما يُقال وهو مثل غيره يخطأ ويصيب، ويصحح ويصوّب، وخطابه وإن كان صريحاً ومتمدناً وأحياناً فيه شيء من الارادوية، فهو انعكاس لرغباته التي يحاول أن يستعيض بها عن الواقع.
ولهذا تراه يكتب أحياناً عن الامل ويركض وراء الحلم ويطارد المستقبل، لكي يرسم صورة العراق الذي يريد، والانسان الذي يتمنى والمرأة التي يشتهي، ورجل الدين الذي يرغب، والسياسي الذي يفكر فيه، والمثقف الذي يتصّوره، والتاجر الذي يأتمنه، ...
لعله يسافر في التيه!
وسفر التيه هو سفر من عنده وسفر اليه
وسفر فيه،
وهذا هو سفر التيه والحيرة
وسفر التيه والحيرة وسفر التيه لا غاية منه!
كما يقول محي ابن عربي!
إن باقة الكتابات التي ينشرها خالد عيسى طه في هذا الكتاب، باقتراح من عدد من أصدقائه تعكس روح وقلب وعطاء رجل حالم، بما فيه من حيوية ومرح وشبابية وتمدن وتحضّر وعقلانية، ولم يقل انه كاتب محترف، لكنه صاحب رأي ووجهة نظر، وتحمل كتاباته هماً صادقاً ومكابدة حقيقية ومعاناة شديدة، واخلاصاً كبيراً.
وإذا كان خالد قد حلم مثل الكثيرين في العودة الى بيته ومكتبه ومكتبته وبعض أصدقائه، وهو القادر على كسب الاصدقاء واحتوائهم بعذوبة لسانه وصدق تعامله وشديد تسامحه، فإن العراق الذي تمنّاه ما يزال بعيد المنال، والتغيير الذي حلم فيه اختلف مساره، ولعله يردد كما يقول الجواهري الكبير:

وكنّا كالزروع شكت محولاً فلما استمطرت ألقت جرادا

أكثر ما روّع خالد عيسى طه هو الاحتلال، فلم يكن يتصور بلده سيقع تحت الاحتلال، وأعتقد ان الندوات والدراسات المستقبلية والقانونية التي نُظمت في الخارج وانخرط فيها الكثيرون، " إيماناً " أو رغبة أو مصلحة، باعتبارها ستشكل خلفية للتغيير والدمقرطة الموعودة، لكن ظنّه قد خاب، حين اندلع حمام الدم وسارت الامور باتجاه التشظي ونشطت الميليشيات وساد العنف وانقسمت الجماعات الى متاريس طائفية واثنية، واستشرى الفساد المالي والاداري على نحو مريع، وارتفعت الى السطح المحاصصات الطائفية- الاثنية، التي كرسها بول بريمر الحاكم المدني في العراق في مجلس الحكم الانتقالي، وأصبحت قاعدة للتقاسم الوظيفي والاداري والعسكري.
هكذا تبدد حلم خالد وهو الذي لم يكن يرغب أن تطير لحظة من بين أصابعه، وكلما كنت ألتقيه أو كان يهاتفني، كان ألمه يزداد ومكابدته تشتعل وهواجسه تكبر. وأقول واعترف، أنه رغم كل شيء ما زال حالماً حتى هذه اللحظة، فالحلم وحده هو الذي منحه هذه القدرة العجيبة على المواصلة والكتابة والاصرار على قول الرأي، وفي كل عمل لا بدّ من حلم، وفي كل فلسفة هناك حلماً، ولعل الانسان بدون أحلام يفقد الأمل ويصاب باليأس، وتنتهي لديه القدرة في المشاركة بالتغيير.
قد يكون المرء متشائماً، فكل شيء من حولنا مدعاة للتشاؤم، لكن التشاؤم غير اليأس، وهو اعتراف بواقع مزري، وتأكيد على ضرورة التغيير. بالحلم يمكن أن نستمر، وهو ما كان خالد يفعله في كل حياته المثمرة، الغنية، الصعبة، المعقدة، المتناقضة والجميلة، ولعلي هنا أقتبس قولاً أثيراً لانجلز يقول فيه " السعادة في النضال والتعاسة في الخنوع"... وحين يكون المرء في " الميدان" مشاركاً بفكره أو قلمه أو عمله، يشعر باللذة والاعتداد والكبرياء، أما الذين اختاروا الخنوع " تخادماً " أو "رغبة" أو "اكراهاً " فتحوّل الأمر لديهم الى مجرد " اعتياد "، فمهما قالوا ومهما فعلوا أو برروا، فلن تنفع المرء الاّ كرامته ورأيه الحر، ويصح قول المتنبي العظيم فيهم:
" من يهُنْ يسهُلِ الهوان عليه ما لجرح بميت إيلامُ "
وخالد عيسى طه هو أقرب الى هذا النوع، الذي يتمسك بالكرامة والرأي الحر، وقد فهم السياسة على طريقة جدّ المثقفين السهرودي، باعتبارها المعادلة التي تنهض بين المصائر والأفعال، أي " ما بين النيّة والتوجه يكتشف القصد"!!
كان حلم خالد مستديماً ولذلك سيظل أخضراً ومتجدداً مثل شجرة الحياة!





#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كوبا.. رؤية ما بعد الخمسين (10) التغريد خارج السرب: رومانسيا ...
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (9) جيفارا والمهدي بن بركة.. غياب ...
- جدل هادئ للفيدرالية الساخنة في العراق
- النجف... والفرصة الواعدة!! سعد صالح (3)
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (8)- جيفارا وعبدالناصر: قلق وهواجس ...
- النجف... والفرصة الواعدة!! سعد صالح (2)
- المجتمع المدني بين القانونين الوطني والدولي
- جيفارا وعبدالناصر: أحلام الكبار!كوبا (7)
- محاكمة اسرائيل بين القانون والسياسة
- سعد صالح الضوء والظل -الوسطية- والفرصة الضائعة(ح1)
- الحرب الثقافية في العراق
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (6).. جيفارا وأحمد بن بيلا: العنفو ...
- الاتحاد الأوروبي: هل من وقفة جديدة إزاء -إسرائيل-؟
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (5).. جيفارا والمباراة المصرية- ال ...
- الحزن الذهبي لرحيل المفكر محمد السيد سعيد!!
- إسرائيل- ومفارقات العنصرية -الإنسانية-
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (4)
- في تجربة الفيدراليات ودلالاتها عراقياً!
- -إسرائيل- أي قانون دولي تريد؟
- كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (3)


المزيد.....




- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - خالد عيسى طه الحالم المستديم!*