|
جيفارا وعبدالناصر: أحلام الكبار!كوبا (7)
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2860 - 2009 / 12 / 16 - 21:24
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
حاولت أن أستعيد ما اختزنته الذاكرة وأنا أقوم بجولة في هافانا، للبحث عن أثر جيفارا قبل ذهابي إلى سانتا كلارا، وهناك داهمتني ذكريات وأحاديث قديمة مضت عليها خمس سنوات وأربعة عقود من الزمان. حين زرت القاهرة لأول مرة في فبراير 1965 كنت أبحث أيضاً عن أثر جيفارا في حواريها وأزقتها ولكن على نحو مختلف عما فعلته في هافانا. في القاهرة كنت أحاول أن أقتفي أثره، حيث كان جيلنا الستيني متطلعاً حالماً، شديد الحماسة، أما في هافانا فقد جئت ناقداً، مقلّباً التجربة وأخطاءنا، مراجعاً المتن والمنهج والممارسة، متفحصاً ما أفرزته الحياة من غث ومن سمين. ولعل الشاعر عبدالوهاب البياتي الذي التقيته في مقهى لاباس في القاهرة في العام 1969 حيث كنّا نلتقي يومياً، كان أول من حدثني عما ترك الرجل من عمق تأثير في القاهرة. أصغينا إليه، الشاعر عبد السامرائي وأنا، وهو يتحدث بإعجاب عن "شاعريته" ورومانسيته الثورية التي قال إنها أقرب إلى الشعر. كانت نقاط الاختلاف والالتقاء تدور حول الكفاح المسلح ودور الطليعة والبؤر الثورية ودور الحزب والعلاقة مع السوفييت، كان بعض ما أورده عبدالوهاب البياتي صحيحاً، بل متقدماً علينا، وهو الذي كتب قصيدته الشهيرة بعد مغادرته موسكو العام 1964 "مدنٌ بلا فجرِ تنامْ/ ناديتُ باسمكَ في شوارعها فجاوبني الظلامْ/ وسألتُ عنك الريح وهي تئنُّ في قلب السكونْ/ ورأيتُ وجهكَ في المرايا والعيون/... وفي بطاقات البريد.. مدنٌ يغطّيها الجليد!". كنت أشم رائحة جيفارا وأنا أتجوّل في الساحات والشوارع وأنتقل بين المكتبات والحانات والمعارض الهافانية وأستمع إلى موسيقى السالسا والسامبا. استعدت الزمن الجميل في القاهرة، يوم كنت أبحث عن مجلة الكاتب ومجلة الطليعة وأزور دار الأهرام العتيدة وجامعة القاهرة "الحية". أتصفح ما يقع تحت يدي آنذاك من أثر لجيفارا وعلاقته بعبدالناصر، ومواقفه من القضية الفلسطينية وقضايا التحرر الوطني، و "الحلم" المنشود. كانت القاهرة أولى محطات جيفارا إلى إفريقيا، حيث كانت زيارته الأولى لها قد استمرت أسبوعين، من 15 يونيو إلى 30 من الشهر ذاته العام 1959، وذلك يوم عيّنه فيدل كاسترو زعيم الثورة المنتصرة في الأول من يناير 1959 "سفيراً مطلق الصلاحيات"، لشرح أهداف الثورة وخططها وتوجهاتها، ولعل اختيار القاهرة له أكثر من دلالة: الأولى: أن زعيمها هو جمال عبدالناصر، بطل حرب السويس والصامد بوجه العدوان الإسرائيلي، الأنجلو-فرنسي والرافض لحلف بغداد ومشروع أيزنهاور، والمساندة لثورة العراق. والثانية: أن توجهه الاجتماعي بتعميق ثورة 23 يوليو 1952 اتخذ مسارات جديدة أكثر راديكالية وثورية بعد تأميم قناة السويس وفشل العدوان، لاسيما الصداقة مع المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي تحديداً. والثالثة: أن مصر هي قلب العروبة وأكبر بلد عربي ولها إشعاع فكري وثقافي وسياسي على العالم العربي كلّه، لاسيما الدور الريادي الوحدوي لجمال عبدالناصر وارتفاع رصيده في مواجهة الإمبريالية، وهي مصدر إلهام لحركات التحرر العربية، التي أخذت تعبّر عن نفسها بالناصرية أو العروبية، وأنا هنا أتحدث عن جانبها الإيجابي، مع وجود نواقص وثغرات وجوانب سلبية للظاهرة، لاسيما الموقف من الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. والرابعة: أن مصر تشكّل قاعدة لتحالف دولي عُرف باسم عدم الانحياز لاحقاً، أو دول الحياد الإيجابي، لاسيما من خلال الزعامات الثلاث، جمال عبدالناصر، وجواهر لال نهرو، وجوزيف برونز تيتو، والذي اتخذ تسمية مجموعة الـ77 فيما بعد. الخامسة: أن مصر هي مركز ملهم لإفريقيا ولحركاتها التحررية، فضلاً عن كونها جسر الوصل مع آسيا، وكانت القاهرة يومها تعجّ بالثوار الأفارقة والقيادات والزعامات المختلفة. السادسة: أن مصر يمكن أن تشكل إقليماً قاعدياً لوحدة عربية أو اتحاد عربي أكبر من مصر وسوريا، لاسيما بعد انتصار الثورة العراقية في 14 يوليو 1958 التي شكلت ضربة كبيرة لمخططات الإمبريالية والغرب الاستعماري في المنطقة وبخاصة لحلف بغداد، لولا الصراعات التي لا مبرر لها والأخطاء والثغرات التي رافقت العلاقات حينها، مثلما وجهت الثورة الكوبية ضربة موجعة لواشنطن في فنائها الخلفي، لهذه الأسباب اختار جيفارا زيارة القاهرة وبدء تحالفه الثوري- الاستراتيجي منها. السابعة: أن جيفارا أراد دراسة التجربة المصرية، لاسيما الصناعية منها والزراعية، وبخاصة الإصلاح الزراعي وتجربة سد أسوان وبهدف استفادة الكوبيين من خبرة مصر في هذه الميادين، ولعل شخصية القائدين المستقلين المتميزين (عبدالناصر وكاسترو) ووضعهما مسافة بين بلديهما والاتحاد السوفييتي، بحيث لا تتحول كوبا أو مصر إلى "تابعين" كما هي البلدان الاشتراكية، أعطاهما أهمية استثنائية في العلاقة، رغم عدائهما الشديد للولايات المتحدة، ولعل ذلك بحد ذاته كان عنصر جذب لتعزيز الصداقة المديدة بين عبدالناصر وجيفارا، لاسيما تقارب وجهات نظرهما بهذا الخصوص! وقد انجذب جيفارا إلى الثورة المصرية وتأثر بمواقف عبدالناصر منذ أن كان مع صديقه فيديل كاسترو في المكسيك وكذلك صديقه راؤول، يومها نَظَم بضعة أبيات أسماها نشيد النيل (العام 1956- إثر العدوان الثلاثي الإسرائيلي، الأنجلو-فرنسي). لم يكن جيفارا يحب البروتوكول الدبلوماسي أو السجادة الحمراء التي يفرشها له مستقبلوه المصريون، وقد حاول عدة مرات تضليل مرافقيه، ليذهب إلى المناطق الشعبية ويلتقي بالناس البسطاء، ويأكل أسياخ اللحم المشوي من الكباب والشقف في أزقة القاهرة وحاراتها. خلال حضوره مناورات عسكرية مصرية في البحر الأبيض المتوسط، سأل جيفارا الرئيس جمال عبدالناصر "كم عدد الأشخاص الذين اضطروا للهروب من البلاد بسبب الإصلاحات الزراعية؟" فأجابه عبدالناصر "إنهم قلة" فردّ عليه جيفارا وقد غلبه الشك: "هذا يعني أن الثورة لم تُحدث تغييراً مهماً في مجال الإصلاح الزراعي" وأردف جيفارا قائلاً: إنني أقيس عمق التغييرات الاجتماعية بعدد الأشخاص الذين تنالهم هذه الإصلاحات... أُعجب عبدالناصر بالشاب جيفارا الذي يصغره بنحو عشر سنوات، وبدأ يشرح له مسعى تدمير القاعدة الاجتماعية والسياسية التي ارتكز عليها الإقطاع. خلال زيارته الأولى إلى مصر حصل عدوان على غزة التي كانت تحت الإدارة المصرية، فلم يتوان عن القيام بزيارتها يوم 18 يونيو 1959، ويتجوّل في المخيمات الفلسطينية، حيث استقبل بهتافات ترحيبية وتضامنية مع الثورة الكوبية، مشدداً على موقف كوبا من ثورة مصر وثورة الجزائر والتضامن الأممي الأميركي- اللاتيني- العربي الإفريقي. وفي خطاب له في المؤتمر الأفرو-آسيوي، قال جيفارا بروح أممية "لقد بدأت إفريقيا وآسيا بالنظر إلى ما وراء البحار"، ولعل ذلك كان مرتكزاً لدراسة كان قد كتبها بعنوان "أميركا من على الشرفة الإفريقية والآسيوية" وقد نُشر هذا البحث الذي يمثل رؤية استراتيجية بما عُرف لاحقاً بالجيفارية في أواخر العام 1959. يذكر الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل، أن عبدالناصر كان معجباً بجيفارا وارتبط معه بعلاقة حميمة، وكان جيفارا من جهته شديد الإعجاب بقيادة عبدالناصر التي بإمكانها لا الانخراط في جبهة البلدان المتحررة من الاستعمار فحسب، بل أن تلعب دوراً مهماً فيها، لاسيما في إفريقيا وآسيا، وبالخصوص في العالم العربي. وقد حاول تفسير أسباب ثورة 23 يوليو 1952 بتشديده على أن الفقر والاستغلال هما سبب تحرّك الضباط الشباب للإطاحة بالنظام السياسي واستعادة الثروات المنهوبة وإجلاء القوات الأجنبية البريطانية وتأميم قناة السويس، الأمر الذي ردّت عليه بريطانيا وفرنسا ومن خلال العدوان الإسرائيلي بالهجوم على مصر، في معركة راح ضحيتها 3000 مدني في مدينة بورسعيد وحدها، ولكن بفضل التضامن العالمي ومقاومة الشعب المصري تم دحر العدوان. يروي محمد حسنين هيكل، أن عبدالناصر شعر بأن جيفارا كان حزيناً ومهموماً فطلب منه أن يفضي إليه بمكنونات قلبه، فقال جيفارا إنه متجهٌ إلى الجزائر وبعد عودته سيصارحه ويفضي إليه بهمومه، كان ذلك لدى توقف جيفارا في القاهرة لمدة ثلاثة أيام في 19 يناير 1965 قبل ذهابه إلى الجزائر، وكان وقتها يدير مجموعة خلايا لقوى تحررية إفريقية من قاعدة في الجزائر ودار السلام (تنزانيا) إضافة إلى القاهرة، ولعل خطاب الجزائر 24 فبراير 1965 كان الإعلان الأول عن "قطيعة" جيفارا مع المواقع الرسمية، وهو ما سيبوح به لعبدالناصر.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محاكمة اسرائيل بين القانون والسياسة
-
سعد صالح الضوء والظل -الوسطية- والفرصة الضائعة(ح1)
-
الحرب الثقافية في العراق
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (6).. جيفارا وأحمد بن بيلا: العنفو
...
-
الاتحاد الأوروبي: هل من وقفة جديدة إزاء -إسرائيل-؟
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (5).. جيفارا والمباراة المصرية- ال
...
-
الحزن الذهبي لرحيل المفكر محمد السيد سعيد!!
-
إسرائيل- ومفارقات العنصرية -الإنسانية-
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (4)
-
في تجربة الفيدراليات ودلالاتها عراقياً!
-
-إسرائيل- أي قانون دولي تريد؟
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (3)
-
بغداد - واشنطن: للعلاقة تاريخ
-
الانتخابات العراقية والحل السحري
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (2)
-
ستراتيجية أوباما: قراءة في الثابت والمتغيّر
-
بغداد - واشنطن: الحوار حول المستقبل
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (1)
-
5 اتجاهات إزاء الفيدرالية في العراق
-
الفيدرالية في البرلمان الكندي
المزيد.....
-
الانتخابات في رومانيا.. هل يصل اليمين المتطرف للسلطة؟
-
المملكة المتحدة: اليمين المتطرف يفوز بالانتخابات المحلية ويو
...
-
زاخاروفا تندد بنبش قبور الجنود السوفييت في أوكرانيا (صور)
-
سُحُب الغضب الاجتماعي تتجمع لمواجهة الإفقار والتجويع
-
-كان في حالة غضب-.. أول تعليق من نجل عبد الناصر على حديثه ال
...
-
تركيا: اعتقال المئات من المتظاهرين في إسطنبول خلال مسيرة بمن
...
-
فيديو – مواجهات بين الشرطة الفرنسية ومتظاهرين بمناسبة عيد ال
...
-
كلمة الرفيق رشيد حموني رئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس ال
...
-
تظاهرة فاتح ماي 2025 بالدار البيضاء (الكونفدرالية الديمقراطي
...
-
الشيوعي العراقي: نطالب بالتمسك بقرار المحكمة الاتحاديّة وضما
...
المزيد.....
-
كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة
/ شادي الشماوي
-
الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة:
...
/ رزكار عقراوي
-
متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024
/ شادي الشماوي
-
الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار
/ حسين علوان حسين
-
ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية
/ سيلفيا فيديريتشي
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
/ حازم كويي
-
لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات)
/ مارسيل ليبمان
-
قراءة ماركسية عن (أصول اليمين المتطرف في بلجيكا) مجلة نضال ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسائل بوب أفاكيان على وسائل التواصل الإجتماعي 2024
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|