|
المسرح والتفاعل الاتصالى بين النوظيف الإبداعي والتوظيف العلمي للمعرفة
أبو الحسن سلام
الحوار المتمدن-العدد: 2871 - 2009 / 12 / 28 - 01:07
المحور:
الصحافة والاعلام
بداهة القول أن المسرح شأنه شأن كل وسائل الاتصال وفنونه يستهدف تحقيق أثر ما غير أنه شأن كل فن يتوسل بعناصر الإقناع ؛ متوارياً خلف قناع الإمتاع . من هنا يتفاوت الأثر الاتصالي للتعبير المسرحي communicative effect تبعاً لتفاوت عناصر الإقناع والإمتاع في الحدث الاتصالي الواحد ما بين موقف وآخر ، ولكن يظل لكل حدث آثاره الظاهرة أو المستترة ؛ تبعاً للمعارف التي تأسس عليها التعبير وتبعاً لطريقة إرسالها وطريقة استقبالها . وتتمثل تلك الآثار الاتصالية للتعبير المسرحي وغير المسرحي في ( المعرفة والعاطفة والإدراك) وللتعرف على حدود التأثير يلزم التعرف على ماهية المعرفة التي يرسلها النص أو العرض وماهية العاطفة ثم كيفية إرسالها وكيفية إدراكها أو تلقيها . وهنا يمكن الاستعانة بتصورات كيبلر للآثار الاتصالية . أولاً : الأثر المعرفي cognitive : هو كل اكتساب ذهني لمعرفة أو معلومة أو مهارة أو أداة كنتيجة للتفاعل مع الآخرين أو بسبب التعرض لرسالة اتصالية جماهيرية أو عامة كرسالة شعب طيبة (خطابهم) لأوديب في افتتاحية مسرحية سوفوكليس . ورسالة العلماء في (علماء الطبيعة) لدورينمات ، ورسالة جند أمريكا في فيتنام في مسرحية (ثورة الموتى) للسلطات وللإعلام الأمريكي . ثانياً : الأثر العاطفي affective : وهو ما يعرف بالمشاعر والعواطف الذاتية الناتجة عن الفعل الاتصالي. مثل مشاعر الحب والكراهية وما يخالج ذواتنا عند التعرض لمضامين الرسائل الاتصالية كرسالة " جولييت" ورسالة "روميو" في خطابي المناجاة الغرامية أو كخطاب "قيس" لليلى وخطابها الغرامي له . وكخطاب "ماكدوف" الدرامي العاكس لمشاعر الكراهية المتبادلة بينه وبين "ماكبث" . أو خطاب الكراهية التي يبذرها "ياجو" في طريق سعادة " عطيل وديدمونه " . أو كتلك التي تتأرجح دون أن تبدي حباً أو كراهية كما هي حال هاملت بإزاء كل من في (إليسنور) أو مشاعر كراهية " شايلوك " للبشر في " تاجر البندقية " أو تلك التي تظهرها " ميديا " لجاسون أو مشاعر الاحتقار المتبادل بين كريستيانو وزوجته "كيارا" في مسرحية " القفص " لفراتي " . ثالثاً : الأثر الإدراكي Perceptual motor skills : ويتمثل في الاستجابة الجسدية واللفظية تجاه الرسائل الاتصالية ومضامينها . إذ تتفاوت استجاباتنا للرسائل الاتصالية بحسب الأثر الذي تخلفه في وجداناتنا كأفراد فقد تكون الاستجابة جزئية محصورة في نطاق المعرفة فحسب كتلك التي نراها في نهاية حوارية (السلطان والغانية) في مسرحية توفيق الحكيم حيث تقتنع (الغانية) بحجة السلطان حفاظاً على هيبة رمز الدولة بضرورة توقيعها لحجة عتقه وفق شرط قبول دعوتها بأن ينزل ضيفاً في بيتها لليلة واحدة حتى مطلع الفجر كحل وسط يرضيه ويرضيها : " شرفني بقبول دعوتي وكن ضيفي حتى مطلع الفجر فإذا أذن المؤذن لصلاة الفجر من فوق مئذنته هذه فإني أوقع حجة العتق ، ويصبح مولاي السلطان السلطان حراً طليقاً " وكقول (الحكيم الثاني) في مسرحية (مؤتمر غاسلي الأدمغة) " من سمع بجيش كسب معركة في جو من الحرية الكاملة " والأثر الإدراكي ماثل أيضاً في موقف التاجر من الدليل ومن الأجير عند بريشت في (القاعدة والاستثناء) وفي موقف "ليزي" عند سارتر في (المومس الفاضلة) . وقد نتعرض لرسائل اتصالية تحفزنا على الاستجابة على كل المستويات . وهذه الاستجابات الثلاث على اختلافها تبعاً لمضمون كل منها ولطريقة العرض تحرك معارف البعض ثباتاً أو إضافة أو حذفاً وتحرك سلوك البعض إيجاباً أو سلباً وتحرك إدراك البعض قبولاً أو رفضاً ؛ فالاستجابة في مجملها موقف قد يكون إدراكياً سبيله المعرفة أو يكون عاطفياً سبيله الوجدان الفردي
أخلص مما تقدم إلى أن الاتصال عبر التعبير المسرحي شأنه شأن اتصال البشر بعضهم بعضاً ، غير أنه اتصال يجسد حالة من حالات الصراع بحثاًَ عن حاجة أو عن معنى أو تغليباً لقيمة ما أو معنى ما أو حاجة ما على أخرى ؛ فهو اتصال بشري متناقض الأهداف أو متقارب الأهداف ومتقاطع في آن واحد . وقد يكون اتصالاً سلبياً في الغالب حتى تتحقق خاصية الدراما . غير أنه مقيد في كل الأحوال بعدد من المبادئ حيث يتصف بالدينامية وبالحتمية وبالتطور وبالرمزية وبالتفاعلية.
المسرح ومبادئ الاتصال الجماهيري :
أولاً : الدينامية :
إن اتصال البشر في مجمله ليس إلاّ بحثاً عن المعنى meaning المتأصل في ذواتهم ككيانات واعية ، أي عن هوية الذات الفردية أو عن هوية الذات الفردية في إطار الذات القومية . وهو فعل دائم التغيير dynamic بوصفه نشاطاً حركياً متسلسلاً ضمن منظومة واحدة . ومعنى ذلك أن أي تغيير يحدث في أي عنصر من عناصر تلك المنظومة التعبيرية الاتصالية سيؤدي إلى تغيير في علاقة عناصر تلك المنظومة بعضها بعضاً . وعن طريق ذلك النشاط الحركي المتناغم في تطوره بحكم عدم استقرار عناصر المنظومة الاتصالية تتم المحافظة على هوية التفاعل الاتصالي . فالفعل الاتصالي تعبيرياً كان أم تشكيلياً أم إعلامياً يأخذ أشكالاً وتعبيرات متعددة ذات إيقاعات متناغمة تتوافق مع التوقعات الآنية – غالباً – والخبرات السابقة للأطراف المنخرطة في الحدث نفسه . إن دينامية الاتصال لا تقتصر على تفاعل ذات فردية بذات فردية أو ذوات اجتماعية حاضرة أو غائبة ، حقيقية أو متوهمة أو متخيلة ولكن دينامية التفاعل الاتصالي قد تقتصر على ذات فردية مع نفسها في المسرح وتتضح صورة ذلك في فن (المناجاة) حيث تعبر الشخصية في موقف انفرادي عن شعور بعينه فبعد وصول الصراع بداخلها إلى منتهاه – قبل ظهورها في المشهد المسرحي منفردة التعبير – بحيث يكون خطابها إعلاناً وجدانياً عن النتيجة التي تمخضت عن صراع ذاتها مع ذاتها خارج الصورة المسرحية المجسدة في المنظر المسرحي – بسبب حدوثها في الماضي – كما تتضح صورة ذلك التفاعل الاتصالي الدينامي أيضاً في فن (المونولوج المسرحي) حيث يتجسد تعبير الشخصية عن صراع مشاعرها مع إرادتها تجسيداً حاضراً (صوتاً وحركة) أمام الجمهور وصولاً إلى انتصار مشاعرها على إرادتها . وتتضح كذلك فيما يعرف بالمونودراما أو مسرحية (الممثل الواحد) حيث يكون على ممثل واحد إعادة تصوير عمليات التفاعل الاتصالي بين أكثر من شخصية درامية بأدواتها التعبيرية بالمحاكاة الصوتية والحركية والشعورية محاكاة جزئية .
ثانياً : الحتمية :
تتسم العملية الاتصالية سواء أكانت تعبيرية أم تشكيلية أم إعلامية بالقصدية internationality حتى مع وجود حالات قسرية كما في حالة (هاملت) مع عمه (كلوديوس) أو مع أمه ( جرترود) أو مع (بولونيوس) مستشار عمه الملك ووالد حبيبته ( أوفيليا ) أو كما هي حال بطل مسرحية (اغتصاب) الفلسطيني مع الإرهابي الصهيوني (جدعون) في مسرحية سعد الله ونوس وكما في مسرحية ( قصة حديقة الحيوان) لإدوارد ألبي حيث يفرض شخص ما على شخص آخر نفسه، حينما يجلس إلى جواره على مقعد في حديقة عامة دون أن تكون بينهما أية علاقة ويجبره على التحدث معه ثم يقتله بطعنة سكين في النهاية دون أي مبرر أو دافع واضح أو منطق ما . وكما في حالة ( أنتيجوني) مع خالها الحاكم (كريون) وكما في حالة (إلكترا) مع أمها (كليتيمنسترا) عند سوفوكليس ومعنى ذلك أن رفض الاتصال ليس إلاّ اتصالاً . ومثال ذلك مسرحية سارتر (الأبواب المغلقة) حيث تجد الشخصيات الثلاث في المسرحية أنفسهم مضطرين أو مجبرين جبراً وجودياً بحكم وجودهم في غرفة واحدة محكمة الإغلاق دون أية إمكانية للخروج ، يجدون أنفسهم مجبرين على الاتصال معاً كل في حدود حفاظه على حريته مع التزامه بالمحافظة على حرية الآخرين ، وإلاّ أصبح الوجود جحيماً لا يطاق.
آنية الاتصال :
في عملية الاتصال سواء اتخذت الألفاظ أو الحركات أو الإشارات والإيماءات وسائل لتجسيد الاتصال ، فإن الاتصال يتحقق أو يتم ويستقبل في آن واحد أي في حالة حضور الرسالة والاستقبال في آن واحد معاً . ففي المسرح يتم عرض المسرحية في جو من التفاعل الوجداني أو الإدراكي والوجداني معاً بين الحدث على المنصة والجمهور في قاعة العرض ، حتى مع أن الاتصال الإعلامي الصحافي أو الإذاعي أو التلفازي والسينمائي يتم عبر وسيط إلاّ أنه اتصال آني أيضاً بمعنى أن الاتصال لا يتحقق إلاّ حالة تلقي الرسالة (شكلاً ومحتوى) إدراكاً وتفسيراً عبر تفاعل حاضر بين الإرسال والاستقبال أو عبر وسيط إعلامي أو سينمائي أو مسرحي – أحياناً عبر التلفاز – ويحضرني في هذا الخصوص طلباً تلقيته في العام الماضي من قناة النيل الثقافية لنقد عرض مسرحي تجريبي لفرقة مجرية ليذاع ضمن برنامج (المسرح التجريبي) ولم أكن قد شاهدت العرض حينما عرض على أحد مسارح القاهرة في إطار فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الخامسة عشرة (2003) واقترح مخرج البرنامج عليّ أن أشاهده من خلال عرضه عن طريق الفيديو بمبنى التليفزيون قبل الانتقال إلى دار أوبرا القاهرة لتسجيل حلقة نقدية عن تلك المسرحية معي . وقد كان أن شاهدت عرض ( كم أنت أحمق يا حبيبي ) للفرقة المجرية . وأزعم أن نقدي لذلك العرض كان أكثر توفيقاً مما لو كنت شاهدته مباشرة معروضاً على المنصة المسرحية . ذلك ربما لإحساسي أن تلك المسرحية تعرض لي وحدي . ومن ناحية أخرى ربما تكون الأهم وهي قوة تركيزي لإحساسي بالمسؤولية ولإمكان استيقاف العرض وإرجاع لقطة مضت ثم إعادة العرض واستكماله . وأذكر أنني ركزت في نقدي على العلامات وربط بعضها بعضاً لاستخلاص الدلالات الدرامية والقيم الجمالية. فالعرض يكاد يكون بلا مناظر فلا شيء على المسرح سوى مشجب قائم إلى يمين وسط الفضاء المنظري علقت عليه حلة لرجل وطرحة زفاف نسوية وفي خشبة المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية تتدلى ستارتان بيضاوتان متجاورتان من خشبة تعليق المناظر إلى الأرضية وبقعتان ضوئيتان تضاء إحداهما بالتركيز على ممثل أو مؤدٍ صامتٍ يتحرك معبراً بلغة الجسد عن انطلاق شبابي متحرر ومتدفق وحيوي بما يشي بحالة السعادة التي يعيشها وفجأة وهو على تلك الحال تظهر من خلفه فتاة ممشوقة ويافعة متحررة الحركة وتتدفق حيوية وخفه ، لتشاغله فيتحول المونولوج الحركي إلى ديالوج بينهما ، يبدأ متسللاً وناعماً وانسيابياًُ بما يعكس رومنسية الموقف ، لتتدرج الحركة من التلامس عن بعد إلى الاحتكاك والتشابك الجسدي السريع فتبديل الملابس البسيطة إلى ملابس زفاف أمام الجمهور من فوق المشجب المخصص لكل منهما وصولاً إلى الصعود إلى عمق الفضاء المنظري ليفلت كل منهما إحدى الستارتين من عقدتها ويقف خلفها مختبئاً أو متحرجاً فلا يظهر منه سوى وجهه ظهوراً سريعاً لمرة أو أكثر وتلك دلالة احتماء كل منهما في سكنه فالستارة حلت محل سكن كل منهما أي يخرج كل منهما من وحدته ويتقاربان ، ثم يكشف كل منهما نفسه للآخر رويداً رويداً ثم يعقدان الستارتين من طرفيهما السفليين ويجلسها عليها أرجوحة وظهرها نحو الجمهور وهو إلى جوار الستارة المعقودة من أسفلها مع الستارة الأخرى ، بما يفيد حدوث الارتباط بينهما وهنا يدفعها وهي متشبثة في جلستها بطرفي الستارتين بيديها لتتحول الستارة المزدوجة إلى أرجوحة ، ثم يتسلق هو الستارتين بعد أن جدلهما بحركة دائرية سريعة ليصبح جلوس العروس المتأرجحة في سعادة في داخل حلقة وهو مستمر في تسلق الستارة المجدولة ليصل إلى أعلى سقف المسرح حيث بداية ارتباطها بشبكة التعليق (السوفيتا) ومع حركة تسلقه المتتابع وعلوه تتدرج الإضاءة الحمراء من أسفل إلى أعلى بما يشي بدلالة وصوله إلى أعلى درجات الانتشاء أو السيطرة العاطفية أو الجنسية . كذلك لدلالة على أن ارتباطهما متصل بالسمو والشرعية ، إلى جانب كونه في ارتقائه الستار المجدولة أو الموحدة إلى منتهاها دليل على سيطرته كرجل . وما أن يصل إلى قمة الانتشاء والسيطرة ، ينزلق على الستارة لأسفل ليجلس على فخذيها ويتأرجحان مع خفوت الإضاءة الحمراء المتوهجة بأعلى الستارة لتتبادل هي عملية تسلق الستارة المجدولة حتى قمتها مع التدرج المتصاعد للإضاءة الحمراء حماراً قانياً لتشي بالدلالة السابقة نفسها (قمة الانتشاء والتوهج العاطفي ) في حين يجلس الشاب (الزوج) مكانها متأرجحاً ، وحين ذاك تنزلق الفتاة (الزوجة) لتجد نفسها جالسة على فخذيه وتعنف حركة التأرجح وبعد فترة وجيزة يتحرك الزوجان فيغير كل منهما ملبسه إلى الحالة الأولى في ديالوج يجسد الحياة المنزلية اليومية وربما حياة العمل إذ يذهب كل من الزوجين لممارسة عمل ما وتتجسد تلك الدلالة بحركة آلية متكررة إذ يمسك كل منهما بمطرقة متوسطة ويقفان متجاورين كل منهما في اتجاه معاكس لاتجاه الآخر وجهه إلى عمق خلفية المنظر (نحو الستارة المعقود طرفاها ) ووجهها نحو الجمهور ويحرك كل منهما ذراعه بالمطرقة التي في يده حركة آلية متعاكسة وذات إيقاع حركي متناظر دون أن تصطك مطرقة بأخرى . وبعد وقت قصير يبدأ الاصطكاك المتعمد لمطرقتها بمطرقة زوجها ، دليلاً على بداية ظهور المشكلات أو التحرشات البيتية، وبعد قليل تترك للزوج مطرقتها فيحرك يده بالمطرقتين معاً حركة آلية إلى الأمام وإلى الخلف حتى يصيبه الإعياء . ومع تغير الإضاءة يتغير الإيقاع الحركي لنرى الزوج مستلقياً على ظهره على أرضية المنصة ورأسه ناحية الجمهور وهو منشغل بقراءة صحيفة في أوضاع جسدية متنوعة وأشكال جمالية تعكس حالة قلقه – ربما – أو تعبيراته المتغيرة مع تغير الموضوع الذي يقرأه في الجريدة ، كل هذا والزوجة تنغص عليه ذلك الاعتكاف عنها ، فتتحرش هي به وتقلبه ذات اليمين وذات اليسار وأماماً وخلفاً وانبساطاً وانحناء بل كثيراً ما تحط جسدها على جسده ويتقلبان معاً بالتمرغ على الأرض يمنة ويسرة لعلع يترك ما ينشغل به ليتفرغ لملاطفتها دون جدوى حيث يعود إلى التكور على أحد جنبيه مرة أو بظهره لأعلى في مرة ثانية . وهنا لا تجد أمامها غير تمزيق الجريدة. غير أنه لا يبالي حيث يظل راقداً دلالة على إرهاقه الشديد بتحمل العمل وحده بعد أن اعتزلت هي وتركت عملها . وهنا تتركه لتعود محملة بطوابق من الأطباق المصفوفة رأسياً بدءاً من امتداد ذراعيها من أسفل إلى أسفل رقبتها وتضعها على الأرض فينهض الزوج مستعداً لتفادي حرب الأطباق الذي تبدأها الزوجة بقذف الزوج بالأطباق طبقاً وراء طبق كما لو كانت تستخدم مدفعاً أو منجنيقاً من العصور الوسطى وهنا تظهر براعة الفنان المؤدي للأكروبات حيث يلتقط الأطباق المقذوفة ، كما يلتقط الكلب المدرب ما يقذفه سيده في لعبهما معاً . ليصف الزوج الأطباق طبقاً طبقاً في شكل دائري هو في وسطه وبعد انتهاء قذائف الزوجة الشابة يجمع الزوج الأطباق القذائف مصفوفة ليخرج بها . ومع تغير الإضاءة ليبدأ المشهد الرابع تدخل الزوجة وخلفها الزوج وكل منهما يعلق في رقبته حزاماً تثبتت في نهايته قرصاً خشبياً تدلى حتى بطنه ويجلس كل منهما متجاورين جلسة القرفصاء وليشعل شمعة مثبتة على القرص الخشبي ذي المفرش ويستخدم أدوات المائدة في تناول طعام موهوم من طبق فارغ مع رفع الإضاءة المسرحية من المنظر فلا يكون هناك سوى ضوء الشمعتين وهنا تستعمل الزوجة شوكتها في اصطياد بعض الطعام الوهمي من طبق الزوج وعبثاً يحاول منعها ليتحول العبث إلى مداعبة بينهما وهنا ينسحبان مع إظلام المنظر إيذاناً بانتهاء العرض ثم إضاءة المسرح لخروج الممثلة وزميلها لتحية الجمهور . إذن فلم يحل الوسيط التلفازي دون وصول المعنى الكلي للعمل إلىّ حيث استقبلته على شكل علامات عن طريق النظرية السيميولوجية التي أزعم أن العرض نفسه - سواء تلقيته عن طريق وسيط اتصالي إعلامي أو بالتلقي الحاضر في قاعة العرض المسرحي - قد أشار إليها بوصفها أنسب إلى نقده من غيرها من النظريات النقدية .
رمزية الاتصال : يرى علماء الاتصال أن الاتصال ظاهرة رمزية symbolic خلقتها المجتمعات البشرية فسواء على مستوى اللغة المنطوقة أو اللغة غير المنطوقة (الجسدية) فإن محتوى الفعل الاتصالي ومضامينه لا تكاد تخرج عن عالم الرموز والإشارات signs ؛ التي يكمل بعضها بعضاً . وهذه الرموز الاتصالية تعد منظومة متكاملة في الفعل الاتصالي وبإيقاع متناغم . ففي مواقف الغضب والفرح نجد أن سلوكنا الاتصالي يحتوي على تعابير لفظية وحركات جسدية تجسد هذه المواقف أو تصورها فالسلوك الاتصالي للإنسان يعد كتلة من الرموز التي يكمل بعضها بعضاً للتعبير عن حالات ومعايشات الإنسان لعوالمه الصغرى والكبرى . فالرسالة اللفظية وغير اللفظية يساند بعضها بعضاً ، وفي إيقاع متجانس يصور الحالة السيكلوجية والفسيولوجية المعيشة بين طرفي العملية الاتصالية الواحدة . والتناقض بين هذه الرسائل يحدث إرباكاً لسلوكنا الاتصالي. وممثلو الشخصيات المسرحية وكذلك السينمائية والتلفازية شأنهم شأن كل البشر تتناغم وسائلهم اللفظية مع حركاتهم الجسدية وبشكل يسهل عملية تفاعل كل منهم بوصفه مجسداً لشخصية مسرحية أو سينمائية ما مع الشخصيات الأخرى دون إرباك – حسب بناء الشخصية وبناء الحدث الدرامي ، وحسب النزعة المسرحية وأسلوبها الفني – ( فديدمونة) – مثلاً – عندما تخاطب (عطيل) في أمر ( كاسيو ) يتحاشى النظر إلى عينيه ؛ تدعوه إلى الشك في أنها تخبئ عنه شيئاً – خاصة وأن (ياجو) قد دس لها عنده بأن علاقة ما بينها وبين (كاسيو) – حامل أعلامه – وكذلك الأمر نفسه عندما يتحاشى (ياجو) النظر إلى عيني (عطيل) وهو يدس سم حقده عليه في أذنه يشعر (عطيل) بأنه مراوغ ، ومن ثم يغير (ياجو) لهجته فيدلف من التخصيص (الكلام عن ديدمونه) وضرورة حرص عطيل عليها إلى التعميم ( الكلام عن ضرورة حرص الأزواج عامة على زوجاتهم ). فلغة التفاعل ولغة الجسد معاً تشكلان محور الفعل الاتصالي ، الذي من الضرورة بمكان أن يكون ذا إيقاع متناغم وغير متناقض – إلاّ إذا تطلب أسلوب مسرحي ما كما في مسرح العبث غير ذلك – ومثال ذلك (فلاديمير) و(ستراجون) في نهاية الفصل الأول من مسرحية ( في انتظار جودو) حيث يخاطب (فلاديمير) (استراجون) بقوله : " هيا بنا نذهب " ويجيبه (استراجون) : " هيا بنا نذهب" غير أنهما - وفق إرشاد النص – لا يذهبان ، بل يقعدان على الأرض ليغلق عليهما الستار ، فمسرح العبث يريد تصوير عبث المعنى وعبث الفعل البشري في تناقضه مع القول . ومثال ذلك أيضاً عدم حرص الممثل في المسرح الملحمي وفقاً لنظرية التغريب على عدم الوصول في أدائه للشخصية المسرحية إلى حالة الاكتمال الفني ، إذ يدعوه إلى عدم تجسيد حالة الصدق في أدائه للشخصية بألا يحاول إحلال صوته وحركته ومشاعره ودوافعه محل صوت الشخصية وحركتها ودوافعها وعلاقاتها ، من هنا فلا يعمل على تطابق اللفظ مع الحركة تطابقاً يوهم المتلقي بأنه هو نفسه الشخصية التي يمثلها أو بمعنى أدق يعيد تصويرها – حاكياً لا محاكياً – وذلك بالطبع مقصور على المسرحيات الملحمية التغريبية .
التفاعلية الاتصالية :
لا شك أن التفاعل هو جوهر الاتصال كما يرى الفيلسوف هوسرل Husserl والفيلسوف هيدجر Heiddeger . فلا اتصال بلا تفاعل . والعرض المسرحي أو السينمائي ، حتى نشرة الأخبار وتصفح الجريدة أو مجلة أو قراءة كتاب أو الاستماع إلى شريط موسيقى أو غنائي أو مشاهدة مبارة أو رقصة ما كل منها هو عملية تفاعلية قائمة على التأثير والتأثر المتبادل بين أطراف العملية الاتصالية . غير أن ذلك يتحقق طبقاً لمستويات من التفاعل .
المسرح ومستويات التفاعل الاتصالي
تتفاعل الشخصية المسرحية عبر أداء الممثل مع المؤثرات البيئية والاجتماعية عبر بعدها النفسي وخبراتها السابقة التي تعكسها مصداقية التمثيل إذ يأتي الممثل محملاً بموروثاته السيكلوجية والاجتماعية المناسبة للشخصية التي يطمح إلى تجسيدها حتى يؤثر بتلك الموروثات والخبرات في موقف الشخصية الاتصالي مع الشخصيات الأخرى في الحدث المسرحي والتفاعل معها interaction وذلك بالدخول إلى عالم الشخصية التي يقوم بتجسيدها أولاً ثم الدخول بها إلى عالم الشخصيات الأخرى عبر الحوار والاتصال العفوي المباشر وبذلك تحقق كل شخصية مسرحية معاني ودلالات للرسائل التي ترسلها بشكل خاص يختلف عن غيرها وهذا هو ما يمكن أن نطلق عليه المستوى الذاتي interpersonal في عملية التفاعل الاتصالي للممثل مع أن الشخصية التي يمثلها أولاً ثم مع الشخصيات المسرحية المشاركة في الحدث الدرامي . ولو نظرنا إلى شخصيات مسرحية (راشامون) – مثلاً – أو لشخصيات (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) لوجدنا أن كل شخصية تعطي رسالة مغايرة بمعان مغايرة لموقف واحد أو قضية واحدة ؛ فكل شخصية تحكي القصة نفسها من وجهة نظرها الذاتية ، وكل شخصية تشخص الموقف الواحد ومن ثم تعطي كل منها رسالة مختلفة ودلالات مغايرة لرسائل الشخصيات الأخرى في موضوع شاهدوه جميعاً أو عايشوه فتصبح الحقيقة هنا نسبية ومن ثم يكون الاقتناع بها نسبياً .
المحتوى الدرامي والبعد العلائقي : الاتصال المسرحي شأن كل اتصال فهو في كل الأحوال ليس إلاّ تعبيراً عن العالم المعيش للشخصيات الدرامية أفراداً وجماعات في إطار الحدث الدرامي بغض النظر عن الفروق الطبقية ؛ فالجميع شركاء في محتوى عملية الاتصال والتفاعل الدرامي content وهذا المحتوى محكوم بالعلاقات التي تحدد طبيعة الاتصال ومستوى التفاعل (نوعه وحجمه وإيقاعه) ويمكن الرجوع إلى مسرحية (روميو وجولييت) حيث تتحكم العلاقات بين عائلة (روميو) وعائلة (جولييت) العدائية في هروبهما نجاة بعشقهما الملتهب، الذي لا تحده العادات والتقاليد ولا يطفئ جذوة استعاره ثأر مبيت بين العائلتين الفلورنسيتين ، كذلك تحدد تلك العلاقات المتحاربة سرعة إيقاع الفعل بين العاشقين إذ سريعاً ما يتقاربان، وسريعاً ما يتحول حلم يقظة كل منهما بالارتباط بالآخر إلى واقع ، تتصاعد نبضاته ليصبح حميمياً وطائشاً وسريع العدو نحو حافة الهاوية على مستوى الواقع إلى مجرد قصة محلقة عبر سماوات رومنسية تحكيها مسرحية شكسبير عبر الأجيال ليحاكيها من شباب المحبين من يحاكي ويحكيها من يحكي . على ذلك تتحدد طبيعة الاتصال بين هذه المسرحية الخالدة وجمهور المسرح نوعاً وحجاً وإيقاعاً وتأثيراً . والأمر نفسه قائم في مسرحيات الفرافير حيث العلاقة بين (الفرفور) و(السيد) في أمور تقسيم العمل وحدود كل منهما بوصفه رمز الطبقة الاجتماعية ( عليا – دنيا ) وفق الفلسفة الوضعية ، حيث لا يتخطى أي منهما حدوده الطبقية التي وضعه فيها المؤلف (خالقه) فهو جبر دنيوي وجبر أخروي أيضاً وعلى كل منها كذات أن يحقق جوهر وجوده الجبري أو يصنع ماهيته دون أن يتجاوز تلك الحدود التزاماً بحرية الآخر ، فهناك علاقتان إحداهما مثالية (جبرية) والأخرى وجودية مادية اختيارية. فكلاهما يعيش حالة مزدوجة على المستوى النفسي بين الجبر الغيبي والاختيار الواقعي المادي وبذلك يتحقق نوع الاتصال بينهما وحجمه وإيقاعه – وهذا نفسه ما يحدث مع شخصيات (الأبواب المغلقة ) لسارتر والأمر نفسه قائم بين شخصية (البرنس) وشخصية الدكتور في (حتى) في مسرحية (الأيدي الناعمة) وبين (البرنس) وبنتيه وبينه وبين زوج ابنته وهو من الطبقة العاملة ، وما بين الطبقتين من الكراهية ومظاهرها في عملية الاتصال بينهما .
قابلية العملية الاتصالية في الدراما للتجزئ والتفكيك إلى وحدات صغرى :
لو لاحظنا كل من شخصيتي (شمس النهار) و(قمر) في مسرحية توفيق الحكيم سوف نجد أنهما يشكلان طرفي عملية اتصالية درامية ، وأن كل طرف منهما ينظر إلى الآخر باعتباره مثيراً بالنسبة إليه ، بعد أن كانت شمس النهار مثيراً لأبيها الملك وللحاشية حيث ترفض الاقتران بملك أو أمير وتقبل بصعلوك مجهول النسب والموطن والهوية – غير أن عنصر الإثارة التي يستثير بها (قمر الزمان) (شمس النهار) والمملكة كلها وعلى رأسها (الملك) نفسه يتمثل في رفضه الاستقرار والسكن في قصر الملك والرحيل مع زوجته إلى خارج المملكة ، في رحلة صعلكة تعليمية أو استكشافية وما يحدث منه في أثناء تلك السياحة حول مسألة المشاركة الحياتية وتقسيم العمل بينهما ، حيث يلزمهما بأمر من أمرين إما أن تصطاد سمكة من النهر بسيفه أو تجمع بعض الحطب وإشعال النار لإنضاج الطعام وغير ذلك من الأعمال التي يتوجب عليهما التشارك في إنجازهما ، وتبعاً لكل إثارة منه لها يكون عليها أن تتكيف نفسياً ومن ثم تكيف تصرفاتها بناء على تفسيرها الشخصي لمثيرات زوجها وهكذا يتم تفتيت الحدث الاتصالي ( الأميرة شمس النهار) و(زوجها الصعلوك قمر الزمان) وهو الأمير المتنكر في هيئة صعلوك تسهيلاً للتفاعل بينهما وتمكيناً لترجمة الموقف الخاص بكل واحد منهما تحقيقاً للاستجابة بنفس القدر منن السلوك كل تجاه الآخر من أجل فهم تسلسل الحدث الكلي وإدراكه ومن ثم مصداقية التعبير الدرامي في عملية الاتصال بينهما ( أولاً ) وصولاً إلى تحقيق الأثر الدرامي في عملية الاتصال (ثانياً) بينهما وبين جمهور العرض .
عملية الاتصال المسرحي
لسنا في حاجة إلى التأكيد على أن النص المسرحي هو حدث اتصالي جماهيري مرجأ تأسس على سياق درامي (محاكي – حاكي) وعلى سياق جمالي ( إيهامي – إدهاشي) وعلى سياق معرفي (يقيني – ظني) بمعنى أنه قد يقوم على المحاكاة أو يقوم على الحكي أو عليهما معاً في امتزاج بنائي درامي محسوب ، كما يقوم على إيهام أو على الإدهاش أو عليهما معاً في امتزاج أسلوبي محسوس ، كذلك يقوم على بنية معرفية يقينية ممتزجة ببنية ظنية ، على اعتبار أن الفصل بين ما هو يقين وما هو مظنون في التفاعلات الإنسانية أمر غير ممكن حيث تسكننا رسوبيات ثقافية تراثية عابرة للعصور وهو اتصال مرجأ لأن الأصل في فن المسرح هو التمثيل أمام جمهور . ومعنى هذا أن عملية الاتصال المسرحي التام لا تتحقق إلاّ بالعرض المسرحي .
النص المسرحي : حدث اتصالي جماهيري مرجأ ، يستوعب كل مستويات الخطاب الدرامي بملفوظاته الشفوية والكتابية ، وهو قابل لاستيعاب مختلف العلامات من (الصورة إلى الحركة إلى الصوت ، والإشارة والإيماءة ) كما أنه قابل لأن يمدنا بمعارف متضمنة فيه ، كما يضطرنا إلى الاتصال بمعارف لم يصرح بها ، بل يكتفي بالتلميح لها ؛ مما يحيلنا إلى إحالات معرفية نستدعيها استدعاء ذهنياً فورياً ؛ لنعمق بها المعارف والأفكار التي صرح بها . وفوق ذلك كله ؛ فإنه لا يحيا بالقراءة ولكن بالتجسيد المتفاعل بالأداء والعرض تفاعلاً حاضراً . لذلك فهو تعبير اتصالي مرجأ إلى أن تتحقق له عملية الاتصال الجماهيري المتفاعل تفاعلاً وجدانياً وإدراكياًُ .
العرض المسرحي : حدث اتصالي تام ، يستوعب كل عناصر العرض والإخراج ويتفاعل فيه مستويات الخطاب بالتعبير الأدائي الصوتي والحركي والتشكيلي والتأثيري مع جمهور مشارك بالحضور في عملية اتصال وجداني وإدراكي في إطار مبادئ ثلاثة هي ( القصد – التنظيم – الإنجاز) بمعنى قصدية الإرسال الإبداعي المتوافق مع قصدية الاستقبال المنصت المشاهد في آن واحد مع انتظام تتابع عرض الرسالة الإبداعية أداء واستقبالاً يتوافق فيهما الوجدان والإدراك . وأخيراً تمام عملية الاتصال وإنجاز العرض لرسالته وصولاً إلى تمام تحقق الأثر الدرامي التطهيري أو التغييري .
أشكال الاتصال المسرحي بين المسموع والمرئي
الاتصال في جميع أحواله إما أن يكون اتصالاً لفظياً verbal communication وإما أن يكون اتصالاً غير لفظي non-verbal communication وكلاهما يعد لغة باعتبارهما نظاماً اجتماعياً متكاملاً يتهيأ بوساطتها لأفراد المجتمع في كل بيئة الانتماء إلى عالم موحد يحتضنهم وجودياً ويمنحهم هويتهم القومية . فاللغة سمعية أو مرئية هي تخليق إنساني كلامي وغير كلامي. وتتشكل عملية تخليق اللغة في علامات صوتية وإشارية وحركية وإيمائية ورمزية لتوظف في عمليات الاتصال الإنساني عبر الأزمنة واللغة بوصفها نظاماً رمزياً اعتباطياً من ناحية واجتماعياًَ من الناحية الغائية . تعد إحدى أهم السمات التي تميز الإنسان كائناً قادراً على الاتصال وعلى تبادل المعرفة مع الآخرين من أبناء جلدته . لذا فمن بداهة القول أن اللغة أداة توحد ثقافي ، تسهل للأجيال الشابة الارتباط بالأجيال التي سبقتها في الوجود . كما تسهل ارتباط طبقات اجتماعية بطبقات اجتماعية أخرى ، وارتباط أجناس بأجناس بشرية أجنبية عنها . ولعل في انتشار لغة الجسد ولغة السينوغرافيا في العروض المسرحية متضافرين معاً في التعبير عن طرائق حداثية للتواصل بين الشعوب بديلاً عن اللغة الكلامية ما يشيع على المستوى العالمي اللغة بوصفها نظاماً بنيوياً من الرموز لتمثيل شيء معلوم بشيء اعتباطي بتعبير – دي سوسير – حيث أن (الرمز هو ما يحل محل شيء آخر بقصد تمثيله ) فالرمز لا يحمل أي سمة من سمات الشيء الذي يرمز إليه والاعتباطية تعني عدم وجود علاقة سببية أو منطقية بين الدال والمدلول signifier – signified ومثال ذلك في العرض المسرحي الحداثي ماثل في عروض المسرح التجريبي وخصوصاً في عروض الرقص المسرحي . فعرض المسرحية الراقصة (حلم نحات) الذي قدمته فرقة الرقص المسرحي بدار الأوبرا بإخراج وليد عوني والذي تمثلت الأيقونة فيه العلامة الرئيسية في العرض حيث التماثيل – وهي علامة أيقونية يتطابق فيها الدال والمدلول – تلك التي أبدعها محمود مختار المثّال المصري الرائد ، يبدأ مع ارتفاع إطار فارغ بعرض فتحة خشبة المسرح ليتخذ زاوية ميل من أعلى مع ثبات قاعدته على خط الدروع (مقدمة خشبة المسرح) ليرى المتفرجون عبره صور العرض المسرحي المتتابعة ، حيث تتجسد أمامه تماثيل بشرية ترمز إلى تماثيل مختار الخالدة (نهضة مصر – سعد زغلول – القيلولة – إلى النهر – الفلاحة – أم كلثوم – هدى شعراوي – رياح الخماسين – حاملة الجرار – العودة من النهر .. وغيرها ) وهي تتشكل أمامنا أو يبعث بعضها بعضاً من رقاد على أرضية الفضاء المسرحي مبعثرة بداخل ذلك الإطار وهو ممدد على أرضية الفضاء المسرحي تدب فيها الحياة مع دبيبها في النحات الفرعوني الذي تمدد إلى جوارها متزامناً مع صراخ صوت طفل وليد ومع نهوض مثّال معاصر هو مختار الذي يؤديه وليد عوني نفسه تابعاً لحركة النحات الفرعوني الذي يقبض بيمناه على مطرقة صغيرة ويقبض باليسرى على أزميل نحات بصكهما أحدهما بالآخر لمرة واحدة فتدب الحركة في داخل الإطار وتبدأ رحلة بعث فن النحت المصري على يد مختار التي تكتفي بوضع اللمسات الأخيرة على كل معزوفة نحتية بعد أن سبقه الفنان الفرعوني ( ملهمه) إلى تلك المنحوتة . فإذا نظرنا إلى التصوير المنظري أو المعادل التشكيلي للبيئة الثقافية التي تفاعل محمود مختار معها ذاتياً وموضوعياً ، سنرى في خلفية الفضاء المنظري جبلاً شاهقاً ، وقف الفنان الفرعوني بأزميله ومطرقته على جزء متوسط الارتفاع منه في ناحية اليمين – من جهة جمهور قاعة مسرح الجمهورية بالقاهرة – وما أن يستقر الإطار مرتفعاً في مقدمة خشبة المسرح حتى ينزل ليقود خطى مختار الذي ولد لحظة نزول النحات الفرعوني من الجبل وهو مصدر المادة النحتية المصرية منذ تاريخ مصر القديم ، ولسوف نرى في يسار مقدمة الفضاء المنظري عند قاعدة الإطار (راكوز المثّال الذي يشيد عليه تمثاله بالصلصال عن طريق الإضافة والحذف مستعملاً كمشجب علقت عليه سترة (جاكيت) مختار وغطاء رأس كشفي بمظلة أمامية وأسفله مباشرة (جرة) تستند إليه. وعلى جانبي الفضاء المنظري أجهزة (stands) مصممة خصيصاً لذلك العرض يحتوي كل منها على طبقة من كشافات الإضاءة المسرحية projectors مختلفة الطاقة الضوئية والألوان وطبقة من المراوح الكهربية التي تسلط تيارات الهواء من جانبيا لمنظر مع الإضاءات التأثيرية سطوعاً أو ضبابية حسب الحالة التأثيرية المقصودة في كل لوحة أو مع كل ولادة لتمثال أو لمنحوتة جديدة ينزع عنها الفنان مختار الغلالة الشفافة التي تلفها . ومع كل منحوتة أو تمثال يتم تخليقه أمامنا أو يكشف عنه أو يدخل وخلفه الفنان العظيم (خالقه) تشيع في المسرح موسيقى خليطة في تداخل هارموني أو تتابع فيه حسن تخلص ما بين انتهاء مقطوعة وابتداء أخرى ملتحقة بها زمنياً ، بما لا يشعر السامع بأدنى نشوز بين هذه المقطوعة وتلك مع أنهما من قوالب موسيقية متباينة في النغمات والآلات الموسيقية وفي أصول التأليف والتوزيع بل في المنابع الثقافية وخصائص كل فكر موسيقي عند هذي وتلك ؛ لأن المعزوفة البانورامية التي تشكل خلفية تتجسد مع رقصات باليهية لحسناوات في هيئة تماثيل هي أقرب إلى آلهة الموسيقى (الموسا) اليونانية في خلفية بعض التماثيل المفردة للفلاحة المصرية والجرة أو لتمثال (النبع) أو لتمثال (لقاء الأحبة) أو لتمثال (رياح الخماسين) الذي يتوسط الإطار المنظري العام ؛ في حين تجسد معزوفة أو أغنية سشعبية مصرية نوبية أو صعيدية الفضاء السمعي الذي يصور المعادل الوجداني السمعي للشعب المصري مستعاداً أو مستحضراً إلى وجدان من شكل ذلك اللون من الغناء المصري الشعبي الخالص ماضي فنه الشعبي الأصيل ومسترجعاً معه عبق تراثه وبصمة هويته القومية . إلى هنا وما يزال كلامنا مجرد عرض للعلامات المجسدة للعرض المسرحي (حلم نحات أو رياح الخماسين) بوصفها لغة الاتصال التعبيري والمعرفي في ذلك العرض أو المعرض الدرامي النحتي فماذا عن توظيفها توظيفاً مسرحياً ودلالياً ، ماذا عن بنيوية تلك اللغات غير الكلامية ، ماذا عن إخضاع تلك العلامات (الرموز والإشارات والمجسمات اللغوية المرئية والمسموعة) المتفاعلة في منظومة ذلك العرض التي لا تصلح في تجسيد حياة فنان تشكيلي نحات سواها ماذا عن منظومة تلك اللغة غير الكلامية المحددة والتي هي بمثابة قوانين مزج الصور والأصوات مزجاً متناغماً أو مزجاً تكوينياً متوازناً بين الكتلة والفضاء واللون والتدرج والضوء والعتمة والصفاء والضباب والرياح والسكون والغناء الشعبي المصري لأغان تكاد تكون نادرة مع مختارات من مقطوعات موسيقية كلاسيكية ورقص درامي مع رقص كلاسيكي ونحات فرعوني يقود خطوات نحات مصري حديث ولدا معاً في العرض كتوأم فني و "راكوز" نحات يستخدم مشجباً لجاكيت غربي الطراز مع "كاسكيت" وأسفله (جره – بلاص) وجبل شامخ في خلفية المنظر ثابت ثبات كل طود طوال العرض مع إطار أمامي تعرض في فضائه كل الصور ( المجسمات والمجسدات والمؤثرات الموازية) ألا تشكل تلك المفردات الرمزية التي نسقها المخرج المصمم وليد عوني لغة العرض أو بمعنى آخر مخزن حاجاتنا القومية في هذا الزمن الرديء الذي يتعالى فيه خطاب الغطرسة الأمريكية الذي يرفع في وجه العالم شعار موت التاريخ تاريخ القوتين المتوازنتين على مستوى العالم الحديث وميلاد قوة غاشمة واحدة ومنفردة إلى تعظيم رموز أمتنا واستعادة عرض ملامح من تاريخها . إننا مع العرض المسرحي نسترد هويتنا التي أرادت الهيمنة الأوروبية طمسها ولم تفلح ، وها نحن نواجه بها محاولات الهيمنة الأمريكية الغاشمة لطمس لغتنا وهويتنا القومية، نسترها المستودع القومي التراثي الذي أودع فيه أسلافنا كل تحصيلهم المعرفي والوجداني ، نسترد منه عن طريق ذلك العرض المسرحي ما يحتاج إليه شبابنا لكي يتصلوا بالآخر عبر لغة الأصالة والحداثة معاً وهي لغة الصورة فيما لا يجيد التعبير عنه بغير الصورة السمعية والمرئية المكتسبة والمتفاعلة والمتوالدة والمتنامية النابضة بالحياة على الرغم مما تبدو عليه من سكون أو موات. هكذا كان عرض (حلم نحات) وعاء وجدانياً ومعرفياً حاضناً لمكتسبات الثقافة القومية المتراكمة ولنقلها من جيل إلى جيل بما يحافظ على هوية الأمة . وتتبدى أصالة لغة ذلك العرض ممتزجة بحداثته في هارمونية الامتزاج الثقافي بين لغة التعبير المصرية القومية ولغة التعبير الأوروبي ، تلك التي امتزجت في وجدان محمود مختار وفي وعيه وهو ما عبرت عنه الموسيقى الكلاسيكية الموازية لحركة راقصات الباليه في خلفية تجسيد حركي درامي وجمالي لأحد التماثيل مع أغنية نوبية أو صعيدية أو مع موال شعبي ، إذ يجسد وليد عوني طبيعة البنية الثقافية والوجدانية للفنان محمود مختار ، والأمر نفسه يتجسد كدلالة على ذلك التزاوج الثقافي عند ذلك الفنان وهو التزاوج الذي يعكس للأجيال الشابة التي تشاهد ذلك العرض أسباب نجاح مختار عالمياً في خلق لغة للتواصل الحضاري دون أن يتخلى عن هويته القومية ودون أن يكتفي بالثبات عند ماضيه والتقنع خلف موروثه الحضاري في وقت تسير فيه الأمم بخطى متسارعة نحو المستقبل المأمول وتلك كانت دلالة ارتباط مفردات المظاهر الأوروبية (الجاكيت – الكاسكيت) بمظاهر الثقافة المصري (الجرة) وشكل الإطار منظوراً حداثياً يغلف تاريخ مختار أو حلمه في بعث فن النحت المصري في حين كان للتوظيف التكنولوجي (المراوح) تأثير الرياح بوصفها النحات الطبيعي والأبدي وبوصف الرياح (إله النحت) . لقد دل هذا العرض على أن الترجمة الفنية لعلم من أعلام النحت أو فن التصوير لا يتجسد بغير لغة الصورة أو لغة الجسد متفاعلة ومتناغمة مع لغة السينوجرافيا ، كما دلل على أننا نستطيع التواصل الحضاري مع العالم عن طريق امتزاج أصالتنا الفنية والإبداعية بحداثة لغة الاتصال العالمية . وهو ما يعد إشارة إلى فناني شبابنا العربي وأساتذة علوم الفن العربي المعاصر . ثبت المصادر والمراجع
1. برتولد بريشت ، القاعدة والاستثناء (المسرح) ع الثاني 1964 ،ط. الأهرام ، المؤسسة المصرية العامة للمسرح والسينما . 2. برتولد بريشت ، توراندوت أو مؤتمر غاسلي الأدمغة،ترجمة نبيل حفّار سلسلة المسرح العالمي (14)بيروت،دار الفارابي 1981 3. توفيق الحكيم ، مسرحية السلطان الحائر ، القاهرة ، مكتبة الآداب بالجماميز 1964م . 4. ريونوسوكي أكوثاجا ، راشامون ، مكتبة الفنون الدرامية ع 20 ، القاهرة ، دار مصر للطباعة. 5. سارتر ، الجحيم ، ترجمة : جلال العشري ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب . 6. سعد الله ونوس ، اغتصاب ، مجلة (أدب ونقد) القاهرة ، حزب التجمع الوحدوي. 7. سوفوكليس ، أنتيجونا ، ترجمة: د. علي حافظ ، سلسلة من المسرح العالمي الكويتية. 8. ــــــ ، إلكترا ، ترجمة: د. طه حسين ، بيروت ، دار الملايين 9. شكسبير ، روميو وجولييت ـ ترجمة : د.محمد عناني (المسرح) القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 10. لويجي بيراندللو ، ست شخصيات تبحث عن مؤلف ، ترجمة د. محمد إسماعيل محمد ، ع14 ، القاهرة ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي د/ت. 11. يوسف إدريس ، الفرافير ، سلسلة المسرحية ، عن ( مسرح الحكيم) وزارة الثقافة المصرية 1964.
مراجع أجنبية :
R. Kibler, L. Barker, and D.Miles, behavioral, objectives and instruction, Boston: Allyn and Bacon. 1970.
المسرح والتفاعل الاتصالي
بين التوظيف الإبداعي والتوظيف العلمي للمعرفة
أ.د/ أبو الحسن سلاّم
بداهة القول أن المسرح شأنه شأن كل وسائل الاتصال وفنونه يستهدف تحقيق أثر ما غير أنه شأن كل فن يتوسل بعناصر الإقناع ؛ متوارياً خلف قناع الإمتاع . من هنا يتفاوت الأثر الاتصالي للتعبير المسرحي communicative effect تبعاً لتفاوت عناصر الإقناع والإمتاع في الحدث الاتصالي الواحد ما بين موقف وآخر ، ولكن يظل لكل حدث آثاره الظاهرة أو المستترة ؛ تبعاً للمعارف التي تأسس عليها التعبير وتبعاً لطريقة إرسالها وطريقة استقبالها . وتتمثل تلك الآثار الاتصالية للتعبير المسرحي وغير المسرحي في ( المعرفة والعاطفة والإدراك) وللتعرف على حدود التأثير يلزم التعرف على ماهية المعرفة التي يرسلها النص أو العرض وماهية العاطفة ثم كيفية إرسالها وكيفية إدراكها أو تلقيها . وهنا يمكن الاستعانة بتصورات كيبلر للآثار الاتصالية . أولاً : الأثر المعرفي cognitive : هو كل اكتساب ذهني لمعرفة أو معلومة أو مهارة أو أداة كنتيجة للتفاعل مع الآخرين أو بسبب التعرض لرسالة اتصالية جماهيرية أو عامة كرسالة شعب طيبة (خطابهم) لأوديب في افتتاحية مسرحية سوفوكليس . ورسالة العلماء في (علماء الطبيعة) لدورينمات ، ورسالة جند أمريكا في فيتنام في مسرحية (ثورة الموتى) للسلطات وللإعلام الأمريكي . ثانياً : الأثر العاطفي affective : وهو ما يعرف بالمشاعر والعواطف الذاتية الناتجة عن الفعل الاتصالي. مثل مشاعر الحب والكراهية وما يخالج ذواتنا عند التعرض لمضامين الرسائل الاتصالية كرسالة " جولييت" ورسالة "روميو" في خطابي المناجاة الغرامية أو كخطاب "قيس" لليلى وخطابها الغرامي له . وكخطاب "ماكدوف" الدرامي العاكس لمشاعر الكراهية المتبادلة بينه وبين "ماكبث" . أو خطاب الكراهية التي يبذرها "ياجو" في طريق سعادة " عطيل وديدمونه " . أو كتلك التي تتأرجح دون أن تبدي حباً أو كراهية كما هي حال هاملت بإزاء كل من في (إليسنور) أو مشاعر كراهية " شايلوك " للبشر في " تاجر البندقية " أو تلك التي تظهرها " ميديا " لجاسون أو مشاعر الاحتقار المتبادل بين كريستيانو وزوجته "كيارا" في مسرحية " القفص " لفراتي " . ثالثاً : الأثر الإدراكي Perceptual motor skills : ويتمثل في الاستجابة الجسدية واللفظية تجاه الرسائل الاتصالية ومضامينها . إذ تتفاوت استجاباتنا للرسائل الاتصالية بحسب الأثر الذي تخلفه في وجداناتنا كأفراد فقد تكون الاستجابة جزئية محصورة في نطاق المعرفة فحسب كتلك التي نراها في نهاية حوارية (السلطان والغانية) في مسرحية توفيق الحكيم حيث تقتنع (الغانية) بحجة السلطان حفاظاً على هيبة رمز الدولة بضرورة توقيعها لحجة عتقه وفق شرط قبول دعوتها بأن ينزل ضيفاً في بيتها لليلة واحدة حتى مطلع الفجر كحل وسط يرضيه ويرضيها : " شرفني بقبول دعوتي وكن ضيفي حتى مطلع الفجر فإذا أذن المؤذن لصلاة الفجر من فوق مئذنته هذه فإني أوقع حجة العتق ، ويصبح مولاي السلطان السلطان حراً طليقاً " وكقول (الحكيم الثاني) في مسرحية (مؤتمر غاسلي الأدمغة) " من سمع بجيش كسب معركة في جو من الحرية الكاملة " والأثر الإدراكي ماثل أيضاً في موقف التاجر من الدليل ومن الأجير عند بريشت في (القاعدة والاستثناء) وفي موقف "ليزي" عند سارتر في (المومس الفاضلة) . وقد نتعرض لرسائل اتصالية تحفزنا على الاستجابة على كل المستويات . وهذه الاستجابات الثلاث على اختلافها تبعاً لمضمون كل منها ولطريقة العرض تحرك معارف البعض ثباتاً أو إضافة أو حذفاً وتحرك سلوك البعض إيجاباً أو سلباً وتحرك إدراك البعض قبولاً أو رفضاً ؛ فالاستجابة في مجملها موقف قد يكون إدراكياً سبيله المعرفة أو يكون عاطفياً سبيله الوجدان الفردي
أخلص مما تقدم إلى أن الاتصال عبر التعبير المسرحي شأنه شأن اتصال البشر بعضهم بعضاً ، غير أنه اتصال يجسد حالة من حالات الصراع بحثاًَ عن حاجة أو عن معنى أو تغليباً لقيمة ما أو معنى ما أو حاجة ما على أخرى ؛ فهو اتصال بشري متناقض الأهداف أو متقارب الأهداف ومتقاطع في آن واحد . وقد يكون اتصالاً سلبياً في الغالب حتى تتحقق خاصية الدراما . غير أنه مقيد في كل الأحوال بعدد من المبادئ حيث يتصف بالدينامية وبالحتمية وبالتطور وبالرمزية وبالتفاعلية.
المسرح ومبادئ الاتصال الجماهيري :
أولاً : الدينامية :
إن اتصال البشر في مجمله ليس إلاّ بحثاً عن المعنى meaning المتأصل في ذواتهم ككيانات واعية ، أي عن هوية الذات الفردية أو عن هوية الذات الفردية في إطار الذات القومية . وهو فعل دائم التغيير dynamic بوصفه نشاطاً حركياً متسلسلاً ضمن منظومة واحدة . ومعنى ذلك أن أي تغيير يحدث في أي عنصر من عناصر تلك المنظومة التعبيرية الاتصالية سيؤدي إلى تغيير في علاقة عناصر تلك المنظومة بعضها بعضاً . وعن طريق ذلك النشاط الحركي المتناغم في تطوره بحكم عدم استقرار عناصر المنظومة الاتصالية تتم المحافظة على هوية التفاعل الاتصالي . فالفعل الاتصالي تعبيرياً كان أم تشكيلياً أم إعلامياً يأخذ أشكالاً وتعبيرات متعددة ذات إيقاعات متناغمة تتوافق مع التوقعات الآنية – غالباً – والخبرات السابقة للأطراف المنخرطة في الحدث نفسه . إن دينامية الاتصال لا تقتصر على تفاعل ذات فردية بذات فردية أو ذوات اجتماعية حاضرة أو غائبة ، حقيقية أو متوهمة أو متخيلة ولكن دينامية التفاعل الاتصالي قد تقتصر على ذات فردية مع نفسها في المسرح وتتضح صورة ذلك في فن (المناجاة) حيث تعبر الشخصية في موقف انفرادي عن شعور بعينه فبعد وصول الصراع بداخلها إلى منتهاه – قبل ظهورها في المشهد المسرحي منفردة التعبير – بحيث يكون خطابها إعلاناً وجدانياً عن النتيجة التي تمخضت عن صراع ذاتها مع ذاتها خارج الصورة المسرحية المجسدة في المنظر المسرحي – بسبب حدوثها في الماضي – كما تتضح صورة ذلك التفاعل الاتصالي الدينامي أيضاً في فن (المونولوج المسرحي) حيث يتجسد تعبير الشخصية عن صراع مشاعرها مع إرادتها تجسيداً حاضراً (صوتاً وحركة) أمام الجمهور وصولاً إلى انتصار مشاعرها على إرادتها . وتتضح كذلك فيما يعرف بالمونودراما أو مسرحية (الممثل الواحد) حيث يكون على ممثل واحد إعادة تصوير عمليات التفاعل الاتصالي بين أكثر من شخصية درامية بأدواتها التعبيرية بالمحاكاة الصوتية والحركية والشعورية محاكاة جزئية .
ثانياً : الحتمية :
تتسم العملية الاتصالية سواء أكانت تعبيرية أم تشكيلية أم إعلامية بالقصدية internationality حتى مع وجود حالات قسرية كما في حالة (هاملت) مع عمه (كلوديوس) أو مع أمه ( جرترود) أو مع (بولونيوس) مستشار عمه الملك ووالد حبيبته ( أوفيليا ) أو كما هي حال بطل مسرحية (اغتصاب) الفلسطيني مع الإرهابي الصهيوني (جدعون) في مسرحية سعد الله ونوس وكما في مسرحية ( قصة حديقة الحيوان) لإدوارد ألبي حيث يفرض شخص ما على شخص آخر نفسه، حينما يجلس إلى جواره على مقعد في حديقة عامة دون أن تكون بينهما أية علاقة ويجبره على التحدث معه ثم يقتله بطعنة سكين في النهاية دون أي مبرر أو دافع واضح أو منطق ما . وكما في حالة ( أنتيجوني) مع خالها الحاكم (كريون) وكما في حالة (إلكترا) مع أمها (كليتيمنسترا) عند سوفوكليس ومعنى ذلك أن رفض الاتصال ليس إلاّ اتصالاً . ومثال ذلك مسرحية سارتر (الأبواب المغلقة) حيث تجد الشخصيات الثلاث في المسرحية أنفسهم مضطرين أو مجبرين جبراً وجودياً بحكم وجودهم في غرفة واحدة محكمة الإغلاق دون أية إمكانية للخروج ، يجدون أنفسهم مجبرين على الاتصال معاً كل في حدود حفاظه على حريته مع التزامه بالمحافظة على حرية الآخرين ، وإلاّ أصبح الوجود جحيماً لا يطاق.
آنية الاتصال :
في عملية الاتصال سواء اتخذت الألفاظ أو الحركات أو الإشارات والإيماءات وسائل لتجسيد الاتصال ، فإن الاتصال يتحقق أو يتم ويستقبل في آن واحد أي في حالة حضور الرسالة والاستقبال في آن واحد معاً . ففي المسرح يتم عرض المسرحية في جو من التفاعل الوجداني أو الإدراكي والوجداني معاً بين الحدث على المنصة والجمهور في قاعة العرض ، حتى مع أن الاتصال الإعلامي الصحافي أو الإذاعي أو التلفازي والسينمائي يتم عبر وسيط إلاّ أنه اتصال آني أيضاً بمعنى أن الاتصال لا يتحقق إلاّ حالة تلقي الرسالة (شكلاً ومحتوى) إدراكاً وتفسيراً عبر تفاعل حاضر بين الإرسال والاستقبال أو عبر وسيط إعلامي أو سينمائي أو مسرحي – أحياناً عبر التلفاز – ويحضرني في هذا الخصوص طلباً تلقيته في العام الماضي من قناة النيل الثقافية لنقد عرض مسرحي تجريبي لفرقة مجرية ليذاع ضمن برنامج (المسرح التجريبي) ولم أكن قد شاهدت العرض حينما عرض على أحد مسارح القاهرة في إطار فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الخامسة عشرة (2003) واقترح مخرج البرنامج عليّ أن أشاهده من خلال عرضه عن طريق الفيديو بمبنى التليفزيون قبل الانتقال إلى دار أوبرا القاهرة لتسجيل حلقة نقدية عن تلك المسرحية معي . وقد كان أن شاهدت عرض ( كم أنت أحمق يا حبيبي ) للفرقة المجرية . وأزعم أن نقدي لذلك العرض كان أكثر توفيقاً مما لو كنت شاهدته مباشرة معروضاً على المنصة المسرحية . ذلك ربما لإحساسي أن تلك المسرحية تعرض لي وحدي . ومن ناحية أخرى ربما تكون الأهم وهي قوة تركيزي لإحساسي بالمسؤولية ولإمكان استيقاف العرض وإرجاع لقطة مضت ثم إعادة العرض واستكماله . وأذكر أنني ركزت في نقدي على العلامات وربط بعضها بعضاً لاستخلاص الدلالات الدرامية والقيم الجمالية. فالعرض يكاد يكون بلا مناظر فلا شيء على المسرح سوى مشجب قائم إلى يمين وسط الفضاء المنظري علقت عليه حلة لرجل وطرحة زفاف نسوية وفي خشبة المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية تتدلى ستارتان بيضاوتان متجاورتان من خشبة تعليق المناظر إلى الأرضية وبقعتان ضوئيتان تضاء إحداهما بالتركيز على ممثل أو مؤدٍ صامتٍ يتحرك معبراً بلغة الجسد عن انطلاق شبابي متحرر ومتدفق وحيوي بما يشي بحالة السعادة التي يعيشها وفجأة وهو على تلك الحال تظهر من خلفه فتاة ممشوقة ويافعة متحررة الحركة وتتدفق حيوية وخفه ، لتشاغله فيتحول المونولوج الحركي إلى ديالوج بينهما ، يبدأ متسللاً وناعماً وانسيابياًُ بما يعكس رومنسية الموقف ، لتتدرج الحركة من التلامس عن بعد إلى الاحتكاك والتشابك الجسدي السريع فتبديل الملابس البسيطة إلى ملابس زفاف أمام الجمهور من فوق المشجب المخصص لكل منهما وصولاً إلى الصعود إلى عمق الفضاء المنظري ليفلت كل منهما إحدى الستارتين من عقدتها ويقف خلفها مختبئاً أو متحرجاً فلا يظهر منه سوى وجهه ظهوراً سريعاً لمرة أو أكثر وتلك دلالة احتماء كل منهما في سكنه فالستارة حلت محل سكن كل منهما أي يخرج كل منهما من وحدته ويتقاربان ، ثم يكشف كل منهما نفسه للآخر رويداً رويداً ثم يعقدان الستارتين من طرفيهما السفليين ويجلسها عليها أرجوحة وظهرها نحو الجمهور وهو إلى جوار الستارة المعقودة من أسفلها مع الستارة الأخرى ، بما يفيد حدوث الارتباط بينهما وهنا يدفعها وهي متشبثة في جلستها بطرفي الستارتين بيديها لتتحول الستارة المزدوجة إلى أرجوحة ، ثم يتسلق هو الستارتين بعد أن جدلهما بحركة دائرية سريعة ليصبح جلوس العروس المتأرجحة في سعادة في داخل حلقة وهو مستمر في تسلق الستارة المجدولة ليصل إلى أعلى سقف المسرح حيث بداية ارتباطها بشبكة التعليق (السوفيتا) ومع حركة تسلقه المتتابع وعلوه تتدرج الإضاءة الحمراء من أسفل إلى أعلى بما يشي بدلالة وصوله إلى أعلى درجات الانتشاء أو السيطرة العاطفية أو الجنسية . كذلك لدلالة على أن ارتباطهما متصل بالسمو والشرعية ، إلى جانب كونه في ارتقائه الستار المجدولة أو الموحدة إلى منتهاها دليل على سيطرته كرجل . وما أن يصل إلى قمة الانتشاء والسيطرة ، ينزلق على الستارة لأسفل ليجلس على فخذيها ويتأرجحان مع خفوت الإضاءة الحمراء المتوهجة بأعلى الستارة لتتبادل هي عملية تسلق الستارة المجدولة حتى قمتها مع التدرج المتصاعد للإضاءة الحمراء حماراً قانياً لتشي بالدلالة السابقة نفسها (قمة الانتشاء والتوهج العاطفي ) في حين يجلس الشاب (الزوج) مكانها متأرجحاً ، وحين ذاك تنزلق الفتاة (الزوجة) لتجد نفسها جالسة على فخذيه وتعنف حركة التأرجح وبعد فترة وجيزة يتحرك الزوجان فيغير كل منهما ملبسه إلى الحالة الأولى في ديالوج يجسد الحياة المنزلية اليومية وربما حياة العمل إذ يذهب كل من الزوجين لممارسة عمل ما وتتجسد تلك الدلالة بحركة آلية متكررة إذ يمسك كل منهما بمطرقة متوسطة ويقفان متجاورين كل منهما في اتجاه معاكس لاتجاه الآخر وجهه إلى عمق خلفية المنظر (نحو الستارة المعقود طرفاها ) ووجهها نحو الجمهور ويحرك كل منهما ذراعه بالمطرقة التي في يده حركة آلية متعاكسة وذات إيقاع حركي متناظر دون أن تصطك مطرقة بأخرى . وبعد وقت قصير يبدأ الاصطكاك المتعمد لمطرقتها بمطرقة زوجها ، دليلاً على بداية ظهور المشكلات أو التحرشات البيتية، وبعد قليل تترك للزوج مطرقتها فيحرك يده بالمطرقتين معاً حركة آلية إلى الأمام وإلى الخلف حتى يصيبه الإعياء . ومع تغير الإضاءة يتغير الإيقاع الحركي لنرى الزوج مستلقياً على ظهره على أرضية المنصة ورأسه ناحية الجمهور وهو منشغل بقراءة صحيفة في أوضاع جسدية متنوعة وأشكال جمالية تعكس حالة قلقه – ربما – أو تعبيراته المتغيرة مع تغير الموضوع الذي يقرأه في الجريدة ، كل هذا والزوجة تنغص عليه ذلك الاعتكاف عنها ، فتتحرش هي به وتقلبه ذات اليمين وذات اليسار وأماماً وخلفاً وانبساطاً وانحناء بل كثيراً ما تحط جسدها على جسده ويتقلبان معاً بالتمرغ على الأرض يمنة ويسرة لعلع يترك ما ينشغل به ليتفرغ لملاطفتها دون جدوى حيث يعود إلى التكور على أحد جنبيه مرة أو بظهره لأعلى في مرة ثانية . وهنا لا تجد أمامها غير تمزيق الجريدة. غير أنه لا يبالي حيث يظل راقداً دلالة على إرهاقه الشديد بتحمل العمل وحده بعد أن اعتزلت هي وتركت عملها . وهنا تتركه لتعود محملة بطوابق من الأطباق المصفوفة رأسياً بدءاً من امتداد ذراعيها من أسفل إلى أسفل رقبتها وتضعها على الأرض فينهض الزوج مستعداً لتفادي حرب الأطباق الذي تبدأها الزوجة بقذف الزوج بالأطباق طبقاً وراء طبق كما لو كانت تستخدم مدفعاً أو منجنيقاً من العصور الوسطى وهنا تظهر براعة الفنان المؤدي للأكروبات حيث يلتقط الأطباق المقذوفة ، كما يلتقط الكلب المدرب ما يقذفه سيده في لعبهما معاً . ليصف الزوج الأطباق طبقاً طبقاً في شكل دائري هو في وسطه وبعد انتهاء قذائف الزوجة الشابة يجمع الزوج الأطباق القذائف مصفوفة ليخرج بها . ومع تغير الإضاءة ليبدأ المشهد الرابع تدخل الزوجة وخلفها الزوج وكل منهما يعلق في رقبته حزاماً تثبتت في نهايته قرصاً خشبياً تدلى حتى بطنه ويجلس كل منهما متجاورين جلسة القرفصاء وليشعل شمعة مثبتة على القرص الخشبي ذي المفرش ويستخدم أدوات المائدة في تناول طعام موهوم من طبق فارغ مع رفع الإضاءة المسرحية من المنظر فلا يكون هناك سوى ضوء الشمعتين وهنا تستعمل الزوجة شوكتها في اصطياد بعض الطعام الوهمي من طبق الزوج وعبثاً يحاول منعها ليتحول العبث إلى مداعبة بينهما وهنا ينسحبان مع إظلام المنظر إيذاناً بانتهاء العرض ثم إضاءة المسرح لخروج الممثلة وزميلها لتحية الجمهور . إذن فلم يحل الوسيط التلفازي دون وصول المعنى الكلي للعمل إلىّ حيث استقبلته على شكل علامات عن طريق النظرية السيميولوجية التي أزعم أن العرض نفسه - سواء تلقيته عن طريق وسيط اتصالي إعلامي أو بالتلقي الحاضر في قاعة العرض المسرحي - قد أشار إليها بوصفها أنسب إلى نقده من غيرها من النظريات النقدية .
رمزية الاتصال : يرى علماء الاتصال أن الاتصال ظاهرة رمزية symbolic خلقتها المجتمعات البشرية فسواء على مستوى اللغة المنطوقة أو اللغة غير المنطوقة (الجسدية) فإن محتوى الفعل الاتصالي ومضامينه لا تكاد تخرج عن عالم الرموز والإشارات signs ؛ التي يكمل بعضها بعضاً . وهذه الرموز الاتصالية تعد منظومة متكاملة في الفعل الاتصالي وبإيقاع متناغم . ففي مواقف الغضب والفرح نجد أن سلوكنا الاتصالي يحتوي على تعابير لفظية وحركات جسدية تجسد هذه المواقف أو تصورها فالسلوك الاتصالي للإنسان يعد كتلة من الرموز التي يكمل بعضها بعضاً للتعبير عن حالات ومعايشات الإنسان لعوالمه الصغرى والكبرى . فالرسالة اللفظية وغير اللفظية يساند بعضها بعضاً ، وفي إيقاع متجانس يصور الحالة السيكلوجية والفسيولوجية المعيشة بين طرفي العملية الاتصالية الواحدة . والتناقض بين هذه الرسائل يحدث إرباكاً لسلوكنا الاتصالي. وممثلو الشخصيات المسرحية وكذلك السينمائية والتلفازية شأنهم شأن كل البشر تتناغم وسائلهم اللفظية مع حركاتهم الجسدية وبشكل يسهل عملية تفاعل كل منهم بوصفه مجسداً لشخصية مسرحية أو سينمائية ما مع الشخصيات الأخرى دون إرباك – حسب بناء الشخصية وبناء الحدث الدرامي ، وحسب النزعة المسرحية وأسلوبها الفني – ( فديدمونة) – مثلاً – عندما تخاطب (عطيل) في أمر ( كاسيو ) يتحاشى النظر إلى عينيه ؛ تدعوه إلى الشك في أنها تخبئ عنه شيئاً – خاصة وأن (ياجو) قد دس لها عنده بأن علاقة ما بينها وبين (كاسيو) – حامل أعلامه – وكذلك الأمر نفسه عندما يتحاشى (ياجو) النظر إلى عيني (عطيل) وهو يدس سم حقده عليه في أذنه يشعر (عطيل) بأنه مراوغ ، ومن ثم يغير (ياجو) لهجته فيدلف من التخصيص (الكلام عن ديدمونه) وضرورة حرص عطيل عليها إلى التعميم ( الكلام عن ضرورة حرص الأزواج عامة على زوجاتهم ). فلغة التفاعل ولغة الجسد معاً تشكلان محور الفعل الاتصالي ، الذي من الضرورة بمكان أن يكون ذا إيقاع متناغم وغير متناقض – إلاّ إذا تطلب أسلوب مسرحي ما كما في مسرح العبث غير ذلك – ومثال ذلك (فلاديمير) و(ستراجون) في نهاية الفصل الأول من مسرحية ( في انتظار جودو) حيث يخاطب (فلاديمير) (استراجون) بقوله : " هيا بنا نذهب " ويجيبه (استراجون) : " هيا بنا نذهب" غير أنهما - وفق إرشاد النص – لا يذهبان ، بل يقعدان على الأرض ليغلق عليهما الستار ، فمسرح العبث يريد تصوير عبث المعنى وعبث الفعل البشري في تناقضه مع القول . ومثال ذلك أيضاً عدم حرص الممثل في المسرح الملحمي وفقاً لنظرية التغريب على عدم الوصول في أدائه للشخصية المسرحية إلى حالة الاكتمال الفني ، إذ يدعوه إلى عدم تجسيد حالة الصدق في أدائه للشخصية بألا يحاول إحلال صوته وحركته ومشاعره ودوافعه محل صوت الشخصية وحركتها ودوافعها وعلاقاتها ، من هنا فلا يعمل على تطابق اللفظ مع الحركة تطابقاً يوهم المتلقي بأنه هو نفسه الشخصية التي يمثلها أو بمعنى أدق يعيد تصويرها – حاكياً لا محاكياً – وذلك بالطبع مقصور على المسرحيات الملحمية التغريبية .
التفاعلية الاتصالية :
لا شك أن التفاعل هو جوهر الاتصال كما يرى الفيلسوف هوسرل Husserl والفيلسوف هيدجر Heiddeger . فلا اتصال بلا تفاعل . والعرض المسرحي أو السينمائي ، حتى نشرة الأخبار وتصفح الجريدة أو مجلة أو قراءة كتاب أو الاستماع إلى شريط موسيقى أو غنائي أو مشاهدة مبارة أو رقصة ما كل منها هو عملية تفاعلية قائمة على التأثير والتأثر المتبادل بين أطراف العملية الاتصالية . غير أن ذلك يتحقق طبقاً لمستويات من التفاعل .
المسرح ومستويات التفاعل الاتصالي
تتفاعل الشخصية المسرحية عبر أداء الممثل مع المؤثرات البيئية والاجتماعية عبر بعدها النفسي وخبراتها السابقة التي تعكسها مصداقية التمثيل إذ يأتي الممثل محملاً بموروثاته السيكلوجية والاجتماعية المناسبة للشخصية التي يطمح إلى تجسيدها حتى يؤثر بتلك الموروثات والخبرات في موقف الشخصية الاتصالي مع الشخصيات الأخرى في الحدث المسرحي والتفاعل معها interaction وذلك بالدخول إلى عالم الشخصية التي يقوم بتجسيدها أولاً ثم الدخول بها إلى عالم الشخصيات الأخرى عبر الحوار والاتصال العفوي المباشر وبذلك تحقق كل شخصية مسرحية معاني ودلالات للرسائل التي ترسلها بشكل خاص يختلف عن غيرها وهذا هو ما يمكن أن نطلق عليه المستوى الذاتي interpersonal في عملية التفاعل الاتصالي للممثل مع أن الشخصية التي يمثلها أولاً ثم مع الشخصيات المسرحية المشاركة في الحدث الدرامي . ولو نظرنا إلى شخصيات مسرحية (راشامون) – مثلاً – أو لشخصيات (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) لوجدنا أن كل شخصية تعطي رسالة مغايرة بمعان مغايرة لموقف واحد أو قضية واحدة ؛ فكل شخصية تحكي القصة نفسها من وجهة نظرها الذاتية ، وكل شخصية تشخص الموقف الواحد ومن ثم تعطي كل منها رسالة مختلفة ودلالات مغايرة لرسائل الشخصيات الأخرى في موضوع شاهدوه جميعاً أو عايشوه فتصبح الحقيقة هنا نسبية ومن ثم يكون الاقتناع بها نسبياً .
المحتوى الدرامي والبعد العلائقي : الاتصال المسرحي شأن كل اتصال فهو في كل الأحوال ليس إلاّ تعبيراً عن العالم المعيش للشخصيات الدرامية أفراداً وجماعات في إطار الحدث الدرامي بغض النظر عن الفروق الطبقية ؛ فالجميع شركاء في محتوى عملية الاتصال والتفاعل الدرامي content وهذا المحتوى محكوم بالعلاقات التي تحدد طبيعة الاتصال ومستوى التفاعل (نوعه وحجمه وإيقاعه) ويمكن الرجوع إلى مسرحية (روميو وجولييت) حيث تتحكم العلاقات بين عائلة (روميو) وعائلة (جولييت) العدائية في هروبهما نجاة بعشقهما الملتهب، الذي لا تحده العادات والتقاليد ولا يطفئ جذوة استعاره ثأر مبيت بين العائلتين الفلورنسيتين ، كذلك تحدد تلك العلاقات المتحاربة سرعة إيقاع الفعل بين العاشقين إذ سريعاً ما يتقاربان، وسريعاً ما يتحول حلم يقظة كل منهما بالارتباط بالآخر إلى واقع ، تتصاعد نبضاته ليصبح حميمياً وطائشاً وسريع العدو نحو حافة الهاوية على مستوى الواقع إلى مجرد قصة محلقة عبر سماوات رومنسية تحكيها مسرحية شكسبير عبر الأجيال ليحاكيها من شباب المحبين من يحاكي ويحكيها من يحكي . على ذلك تتحدد طبيعة الاتصال بين هذه المسرحية الخالدة وجمهور المسرح نوعاً وحجاً وإيقاعاً وتأثيراً . والأمر نفسه قائم في مسرحيات الفرافير حيث العلاقة بين (الفرفور) و(السيد) في أمور تقسيم العمل وحدود كل منهما بوصفه رمز الطبقة الاجتماعية ( عليا – دنيا ) وفق الفلسفة الوضعية ، حيث لا يتخطى أي منهما حدوده الطبقية التي وضعه فيها المؤلف (خالقه) فهو جبر دنيوي وجبر أخروي أيضاً وعلى كل منها كذات أن يحقق جوهر وجوده الجبري أو يصنع ماهيته دون أن يتجاوز تلك الحدود التزاماً بحرية الآخر ، فهناك علاقتان إحداهما مثالية (جبرية) والأخرى وجودية مادية اختيارية. فكلاهما يعيش حالة مزدوجة على المستوى النفسي بين الجبر الغيبي والاختيار الواقعي المادي وبذلك يتحقق نوع الاتصال بينهما وحجمه وإيقاعه – وهذا نفسه ما يحدث مع شخصيات (الأبواب المغلقة ) لسارتر والأمر نفسه قائم بين شخصية (البرنس) وشخصية الدكتور في (حتى) في مسرحية (الأيدي الناعمة) وبين (البرنس) وبنتيه وبينه وبين زوج ابنته وهو من الطبقة العاملة ، وما بين الطبقتين من الكراهية ومظاهرها في عملية الاتصال بينهما .
قابلية العملية الاتصالية في الدراما للتجزئ والتفكيك إلى وحدات صغرى :
لو لاحظنا كل من شخصيتي (شمس النهار) و(قمر) في مسرحية توفيق الحكيم سوف نجد أنهما يشكلان طرفي عملية اتصالية درامية ، وأن كل طرف منهما ينظر إلى الآخر باعتباره مثيراً بالنسبة إليه ، بعد أن كانت شمس النهار مثيراً لأبيها الملك وللحاشية حيث ترفض الاقتران بملك أو أمير وتقبل بصعلوك مجهول النسب والموطن والهوية – غير أن عنصر الإثارة التي يستثير بها (قمر الزمان) (شمس النهار) والمملكة كلها وعلى رأسها (الملك) نفسه يتمثل في رفضه الاستقرار والسكن في قصر الملك والرحيل مع زوجته إلى خارج المملكة ، في رحلة صعلكة تعليمية أو استكشافية وما يحدث منه في أثناء تلك السياحة حول مسألة المشاركة الحياتية وتقسيم العمل بينهما ، حيث يلزمهما بأمر من أمرين إما أن تصطاد سمكة من النهر بسيفه أو تجمع بعض الحطب وإشعال النار لإنضاج الطعام وغير ذلك من الأعمال التي يتوجب عليهما التشارك في إنجازهما ، وتبعاً لكل إثارة منه لها يكون عليها أن تتكيف نفسياً ومن ثم تكيف تصرفاتها بناء على تفسيرها الشخصي لمثيرات زوجها وهكذا يتم تفتيت الحدث الاتصالي ( الأميرة شمس النهار) و(زوجها الصعلوك قمر الزمان) وهو الأمير المتنكر في هيئة صعلوك تسهيلاً للتفاعل بينهما وتمكيناً لترجمة الموقف الخاص بكل واحد منهما تحقيقاً للاستجابة بنفس القدر منن السلوك كل تجاه الآخر من أجل فهم تسلسل الحدث الكلي وإدراكه ومن ثم مصداقية التعبير الدرامي في عملية الاتصال بينهما ( أولاً ) وصولاً إلى تحقيق الأثر الدرامي في عملية الاتصال (ثانياً) بينهما وبين جمهور العرض .
عملية الاتصال المسرحي
لسنا في حاجة إلى التأكيد على أن النص المسرحي هو حدث اتصالي جماهيري مرجأ تأسس على سياق درامي (محاكي – حاكي) وعلى سياق جمالي ( إيهامي – إدهاشي) وعلى سياق معرفي (يقيني – ظني) بمعنى أنه قد يقوم على المحاكاة أو يقوم على الحكي أو عليهما معاً في امتزاج بنائي درامي محسوب ، كما يقوم على إيهام أو على الإدهاش أو عليهما معاً في امتزاج أسلوبي محسوس ، كذلك يقوم على بنية معرفية يقينية ممتزجة ببنية ظنية ، على اعتبار أن الفصل بين ما هو يقين وما هو مظنون في التفاعلات الإنسانية أمر غير ممكن حيث تسكننا رسوبيات ثقافية تراثية عابرة للعصور وهو اتصال مرجأ لأن الأصل في فن المسرح هو التمثيل أمام جمهور . ومعنى هذا أن عملية الاتصال المسرحي التام لا تتحقق إلاّ بالعرض المسرحي .
النص المسرحي : حدث اتصالي جماهيري مرجأ ، يستوعب كل مستويات الخطاب الدرامي بملفوظاته الشفوية والكتابية ، وهو قابل لاستيعاب مختلف العلامات من (الصورة إلى الحركة إلى الصوت ، والإشارة والإيماءة ) كما أنه قابل لأن يمدنا بمعارف متضمنة فيه ، كما يضطرنا إلى الاتصال بمعارف لم يصرح بها ، بل يكتفي بالتلميح لها ؛ مما يحيلنا إلى إحالات معرفية نستدعيها استدعاء ذهنياً فورياً ؛ لنعمق بها المعارف والأفكار التي صرح بها . وفوق ذلك كله ؛ فإنه لا يحيا بالقراءة ولكن بالتجسيد المتفاعل بالأداء والعرض تفاعلاً حاضراً . لذلك فهو تعبير اتصالي مرجأ إلى أن تتحقق له عملية الاتصال الجماهيري المتفاعل تفاعلاً وجدانياً وإدراكياًُ .
العرض المسرحي : حدث اتصالي تام ، يستوعب كل عناصر العرض والإخراج ويتفاعل فيه مستويات الخطاب بالتعبير الأدائي الصوتي والحركي والتشكيلي والتأثيري مع جمهور مشارك بالحضور في عملية اتصال وجداني وإدراكي في إطار مبادئ ثلاثة هي ( القصد – التنظيم – الإنجاز) بمعنى قصدية الإرسال الإبداعي المتوافق مع قصدية الاستقبال المنصت المشاهد في آن واحد مع انتظام تتابع عرض الرسالة الإبداعية أداء واستقبالاً يتوافق فيهما الوجدان والإدراك . وأخيراً تمام عملية الاتصال وإنجاز العرض لرسالته وصولاً إلى تمام تحقق الأثر الدرامي التطهيري أو التغييري .
أشكال الاتصال المسرحي بين المسموع والمرئي
الاتصال في جميع أحواله إما أن يكون اتصالاً لفظياً verbal communication وإما أن يكون اتصالاً غير لفظي non-verbal communication وكلاهما يعد لغة باعتبارهما نظاماً اجتماعياً متكاملاً يتهيأ بوساطتها لأفراد المجتمع في كل بيئة الانتماء إلى عالم موحد يحتضنهم وجودياً ويمنحهم هويتهم القومية . فاللغة سمعية أو مرئية هي تخليق إنساني كلامي وغير كلامي. وتتشكل عملية تخليق اللغة في علامات صوتية وإشارية وحركية وإيمائية ورمزية لتوظف في عمليات الاتصال الإنساني عبر الأزمنة واللغة بوصفها نظاماً رمزياً اعتباطياً من ناحية واجتماعياًَ من الناحية الغائية . تعد إحدى أهم السمات التي تميز الإنسان كائناً قادراً على الاتصال وعلى تبادل المعرفة مع الآخرين من أبناء جلدته . لذا فمن بداهة القول أن اللغة أداة توحد ثقافي ، تسهل للأجيال الشابة الارتباط بالأجيال التي سبقتها في الوجود . كما تسهل ارتباط طبقات اجتماعية بطبقات اجتماعية أخرى ، وارتباط أجناس بأجناس بشرية أجنبية عنها . ولعل في انتشار لغة الجسد ولغة السينوغرافيا في العروض المسرحية متضافرين معاً في التعبير عن طرائق حداثية للتواصل بين الشعوب بديلاً عن اللغة الكلامية ما يشيع على المستوى العالمي اللغة بوصفها نظاماً بنيوياً من الرموز لتمثيل شيء معلوم بشيء اعتباطي بتعبير – دي سوسير – حيث أن (الرمز هو ما يحل محل شيء آخر بقصد تمثيله ) فالرمز لا يحمل أي سمة من سمات الشيء الذي يرمز إليه والاعتباطية تعني عدم وجود علاقة سببية أو منطقية بين الدال والمدلول signifier – signified ومثال ذلك في العرض المسرحي الحداثي ماثل في عروض المسرح التجريبي وخصوصاً في عروض الرقص المسرحي . فعرض المسرحية الراقصة (حلم نحات) الذي قدمته فرقة الرقص المسرحي بدار الأوبرا بإخراج وليد عوني والذي تمثلت الأيقونة فيه العلامة الرئيسية في العرض حيث التماثيل – وهي علامة أيقونية يتطابق فيها الدال والمدلول – تلك التي أبدعها محمود مختار المثّال المصري الرائد ، يبدأ مع ارتفاع إطار فارغ بعرض فتحة خشبة المسرح ليتخذ زاوية ميل من أعلى مع ثبات قاعدته على خط الدروع (مقدمة خشبة المسرح) ليرى المتفرجون عبره صور العرض المسرحي المتتابعة ، حيث تتجسد أمامه تماثيل بشرية ترمز إلى تماثيل مختار الخالدة (نهضة مصر – سعد زغلول – القيلولة – إلى النهر – الفلاحة – أم كلثوم – هدى شعراوي – رياح الخماسين – حاملة الجرار – العودة من النهر .. وغيرها ) وهي تتشكل أمامنا أو يبعث بعضها بعضاً من رقاد على أرضية الفضاء المسرحي مبعثرة بداخل ذلك الإطار وهو ممدد على أرضية الفضاء المسرحي تدب فيها الحياة مع دبيبها في النحات الفرعوني الذي تمدد إلى جوارها متزامناً مع صراخ صوت طفل وليد ومع نهوض مثّال معاصر هو مختار الذي يؤديه وليد عوني نفسه تابعاً لحركة النحات الفرعوني الذي يقبض بيمناه على مطرقة صغيرة ويقبض باليسرى على أزميل نحات بصكهما أحدهما بالآخر لمرة واحدة فتدب الحركة في داخل الإطار وتبدأ رحلة بعث فن النحت المصري على يد مختار التي تكتفي بوضع اللمسات الأخيرة على كل معزوفة نحتية بعد أن سبقه الفنان الفرعوني ( ملهمه) إلى تلك المنحوتة . فإذا نظرنا إلى التصوير المنظري أو المعادل التشكيلي للبيئة الثقافية التي تفاعل محمود مختار معها ذاتياً وموضوعياً ، سنرى في خلفية الفضاء المنظري جبلاً شاهقاً ، وقف الفنان الفرعوني بأزميله ومطرقته على جزء متوسط الارتفاع منه في ناحية اليمين – من جهة جمهور قاعة مسرح الجمهورية بالقاهرة – وما أن يستقر الإطار مرتفعاً في مقدمة خشبة المسرح حتى ينزل ليقود خطى مختار الذي ولد لحظة نزول النحات الفرعوني من الجبل وهو مصدر المادة النحتية المصرية منذ تاريخ مصر القديم ، ولسوف نرى في يسار مقدمة الفضاء المنظري عند قاعدة الإطار (راكوز المثّال الذي يشيد عليه تمثاله بالصلصال عن طريق الإضافة والحذف مستعملاً كمشجب علقت عليه سترة (جاكيت) مختار وغطاء رأس كشفي بمظلة أمامية وأسفله مباشرة (جرة) تستند إليه. وعلى جانبي الفضاء المنظري أجهزة (stands) مصممة خصيصاً لذلك العرض يحتوي كل منها على طبقة من كشافات الإضاءة المسرحية projectors مختلفة الطاقة الضوئية والألوان وطبقة من المراوح الكهربية التي تسلط تيارات الهواء من جانبيا لمنظر مع الإضاءات التأثيرية سطوعاً أو ضبابية حسب الحالة التأثيرية المقصودة في كل لوحة أو مع كل ولادة لتمثال أو لمنحوتة جديدة ينزع عنها الفنان مختار الغلالة الشفافة التي تلفها . ومع كل منحوتة أو تمثال يتم تخليقه أمامنا أو يكشف عنه أو يدخل وخلفه الفنان العظيم (خالقه) تشيع في المسرح موسيقى خليطة في تداخل هارموني أو تتابع فيه حسن تخلص ما بين انتهاء مقطوعة وابتداء أخرى ملتحقة بها زمنياً ، بما لا يشعر السامع بأدنى نشوز بين هذه المقطوعة وتلك مع أنهما من قوالب موسيقية متباينة في النغمات والآلات الموسيقية وفي أصول التأليف والتوزيع بل في المنابع الثقافية وخصائص كل فكر موسيقي عند هذي وتلك ؛ لأن المعزوفة البانورامية التي تشكل خلفية تتجسد مع رقصات باليهية لحسناوات في هيئة تماثيل هي أقرب إلى آلهة الموسيقى (الموسا) اليونانية في خلفية بعض التماثيل المفردة للفلاحة المصرية والجرة أو لتمثال (النبع) أو لتمثال (لقاء الأحبة) أو لتمثال (رياح الخماسين) الذي يتوسط الإطار المنظري العام ؛ في حين تجسد معزوفة أو أغنية سشعبية مصرية نوبية أو صعيدية الفضاء السمعي الذي يصور المعادل الوجداني السمعي للشعب المصري مستعاداً أو مستحضراً إلى وجدان من شكل ذلك اللون من الغناء المصري الشعبي الخالص ماضي فنه الشعبي الأصيل ومسترجعاً معه عبق تراثه وبصمة هويته القومية . إلى هنا وما يزال كلامنا مجرد عرض للعلامات المجسدة للعرض المسرحي (حلم نحات أو رياح الخماسين) بوصفها لغة الاتصال التعبيري والمعرفي في ذلك العرض أو المعرض الدرامي النحتي فماذا عن توظيفها توظيفاً مسرحياً ودلالياً ، ماذا عن بنيوية تلك اللغات غير الكلامية ، ماذا عن إخضاع تلك العلامات (الرموز والإشارات والمجسمات اللغوية المرئية والمسموعة) المتفاعلة في منظومة ذلك العرض التي لا تصلح في تجسيد حياة فنان تشكيلي نحات سواها ماذا عن منظومة تلك اللغة غير الكلامية المحددة والتي هي بمثابة قوانين مزج الصور والأصوات مزجاً متناغماً أو مزجاً تكوينياً متوازناً بين الكتلة والفضاء واللون والتدرج والضوء والعتمة والصفاء والضباب والرياح والسكون والغناء الشعبي المصري لأغان تكاد تكون نادرة مع مختارات من مقطوعات موسيقية كلاسيكية ورقص درامي مع رقص كلاسيكي ونحات فرعوني يقود خطوات نحات مصري حديث ولدا معاً في العرض كتوأم فني و "راكوز" نحات يستخدم مشجباً لجاكيت غربي الطراز مع "كاسكيت" وأسفله (جره – بلاص) وجبل شامخ في خلفية المنظر ثابت ثبات كل طود طوال العرض مع إطار أمامي تعرض في فضائه كل الصور ( المجسمات والمجسدات والمؤثرات الموازية) ألا تشكل تلك المفردات الرمزية التي نسقها المخرج المصمم وليد عوني لغة العرض أو بمعنى آخر مخزن حاجاتنا القومية في هذا الزمن الرديء الذي يتعالى فيه خطاب الغطرسة الأمريكية الذي يرفع في وجه العالم شعار موت التاريخ تاريخ القوتين المتوازنتين على مستوى العالم الحديث وميلاد قوة غاشمة واحدة ومنفردة إلى تعظيم رموز أمتنا واستعادة عرض ملامح من تاريخها . إننا مع العرض المسرحي نسترد هويتنا التي أرادت الهيمنة الأوروبية طمسها ولم تفلح ، وها نحن نواجه بها محاولات الهيمنة الأمريكية الغاشمة لطمس لغتنا وهويتنا القومية، نسترها المستودع القومي التراثي الذي أودع فيه أسلافنا كل تحصيلهم المعرفي والوجداني ، نسترد منه عن طريق ذلك العرض المسرحي ما يحتاج إليه شبابنا لكي يتصلوا بالآخر عبر لغة الأصالة والحداثة معاً وهي لغة الصورة فيما لا يجيد التعبير عنه بغير الصورة السمعية والمرئية المكتسبة والمتفاعلة والمتوالدة والمتنامية النابضة بالحياة على الرغم مما تبدو عليه من سكون أو موات. هكذا كان عرض (حلم نحات) وعاء وجدانياً ومعرفياً حاضناً لمكتسبات الثقافة القومية المتراكمة ولنقلها من جيل إلى جيل بما يحافظ على هوية الأمة . وتتبدى أصالة لغة ذلك العرض ممتزجة بحداثته في هارمونية الامتزاج الثقافي بين لغة التعبير المصرية القومية ولغة التعبير الأوروبي ، تلك التي امتزجت في وجدان محمود مختار وفي وعيه وهو ما عبرت عنه الموسيقى الكلاسيكية الموازية لحركة راقصات الباليه في خلفية تجسيد حركي درامي وجمالي لأحد التماثيل مع أغنية نوبية أو صعيدية أو مع موال شعبي ، إذ يجسد وليد عوني طبيعة البنية الثقافية والوجدانية للفنان محمود مختار ، والأمر نفسه يتجسد كدلالة على ذلك التزاوج الثقافي عند ذلك الفنان وهو التزاوج الذي يعكس للأجيال الشابة التي تشاهد ذلك العرض أسباب نجاح مختار عالمياً في خلق لغة للتواصل الحضاري دون أن يتخلى عن هويته القومية ودون أن يكتفي بالثبات عند ماضيه والتقنع خلف موروثه الحضاري في وقت تسير فيه الأمم بخطى متسارعة نحو المستقبل المأمول وتلك كانت دلالة ارتباط مفردات المظاهر الأوروبية (الجاكيت – الكاسكيت) بمظاهر الثقافة المصري (الجرة) وشكل الإطار منظوراً حداثياً يغلف تاريخ مختار أو حلمه في بعث فن النحت المصري في حين كان للتوظيف التكنولوجي (المراوح) تأثير الرياح بوصفها النحات الطبيعي والأبدي وبوصف الرياح (إله النحت) . لقد دل هذا العرض على أن الترجمة الفنية لعلم من أعلام النحت أو فن التصوير لا يتجسد بغير لغة الصورة أو لغة الجسد متفاعلة ومتناغمة مع لغة السينوجرافيا ، كما دلل على أننا نستطيع التواصل الحضاري مع العالم عن طريق امتزاج أصالتنا الفنية والإبداعية بحداثة لغة الاتصال العالمية . وهو ما يعد إشارة إلى فناني شبابنا العربي وأساتذة علوم الفن العربي المعاصر . ثبت المصادر والمراجع
12. برتولد بريشت ، القاعدة والاستثناء (المسرح) ع الثاني 1964 ،ط. الأهرام ، المؤسسة المصرية العامة للمسرح والسينما . 13. برتولد بريشت ، توراندوت أو مؤتمر غاسلي الأدمغة،ترجمة نبيل حفّار سلسلة المسرح العالمي (14)بيروت،دار الفارابي 1981 14. توفيق الحكيم ، مسرحية السلطان الحائر ، القاهرة ، مكتبة الآداب بالجماميز 1964م . 15. ريونوسوكي أكوثاجا ، راشامون ، مكتبة الفنون الدرامية ع 20 ، القاهرة ، دار مصر للطباعة. 16. سارتر ، الجحيم ، ترجمة : جلال العشري ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب . 17. سعد الله ونوس ، اغتصاب ، مجلة (أدب ونقد) القاهرة ، حزب التجمع الوحدوي. 18. سوفوكليس ، أنتيجونا ، ترجمة: د. علي حافظ ، سلسلة من المسرح العالمي الكويتية. 19. ــــــ ، إلكترا ، ترجمة: د. طه حسين ، بيروت ، دار الملايين 20. شكسبير ، روميو وجولييت ـ ترجمة : د.محمد عناني (المسرح) القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 21. لويجي بيراندللو ، ست شخصيات تبحث عن مؤلف ، ترجمة د. محمد إسماعيل محمد ، ع14 ، القاهرة ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي د/ت. 22. يوسف إدريس ، الفرافير ، سلسلة المسرحية ، عن ( مسرح الحكيم) وزارة الثقافة المصرية 1964.
مراجع أجنبية :
R. Kibler, L. Barker, and D.Miles, behavioral, objectives and instruction, Boston: Allyn and Bacon. 1970.
#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
( وشم الهناجر ) بين النقد ونقد النقد
-
الفراق الطبيعي بين المفكر ومنتجه الإبداعي
-
فن المخرج المسرحي بين التحصيل المعرفي والتأصيل العلمي
-
تربية الإرهاب - مصادر الإرهاب الفكري ومصادر الفكر الإرهابي
-
المشروع السياسي .. مجرد دليل عمل
-
أصداء البوح الذاتي في شعر كفافي
-
أوركسترا عناكب الثقافة العنصرية ومغزوفة النشاز القروسطية
-
جسد الممثل والأعراف الاجتماعية - دراسة في مناهج التمثيل المع
...
-
نصوص مسرحية للمسرح ونصوص للدراسة
-
ديموقراطية اليونان بين الفلسفة والسياسة والمسرح
-
مونودراما ( مذكرات شمعة)
-
الدين والدولة
-
المبدعون وآفة سوء فهم الناقد
-
التطوير الجامعي والقفز على الواقع المعيش
-
في انتظار أوباما .. في انتظار جودو
-
المثاقفة والتناص (تطبيقات في النقد الفني والمسرحي)
-
التنسيق الحضاري وسور السياسات العظيم
-
القرد في عين أمه
-
الإنتاج المسرحي في عصر العولمة
-
القرد .. هدية مصرية للعمال في عيدهم
المزيد.....
-
مصدر يوضح لـCNN موقف إسرائيل بشأن الرد الإيراني المحتمل
-
من 7 دولارات إلى قبعة موقّعة.. حرب الرسائل النصية تستعر بين
...
-
بلينكن يتحدث عن تقدم في كيفية تنفيذ القرار 1701
-
بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي..
...
-
داعية مصري يتحدث حول فريضة يعتقد أنها غائبة عن معظم المسلمين
...
-
الهجوم السابع.. -المقاومة في العراق- تعلن ضرب هدف حيوي جنوب
...
-
استنفار واسع بعد حريق هائل في كسب السورية (فيديو)
-
لامي: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية
-
روسيا تطور طائرة مسيّرة حاملة للدرونات
-
-حزب الله- يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية -المناورة ا
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|