أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة الزهراء الرغيوي - سفر














المزيد.....

سفر


فاطمة الزهراء الرغيوي

الحوار المتمدن-العدد: 2870 - 2009 / 12 / 27 - 12:18
المحور: الادب والفن
    


بسرعة، أحاول تفادي جموع المسافرين. أشق طريقي إلى الحافلة الزرقاء المخططة بالأصفر كما أخبرني موظف التذاكر. أجر ورائي حقيبتي الرمادية تماما مثل هذا اليوم.. كم يبدو السفر حزينا حين نركبه وحيدِين!
لسبب ما كان يجب أن أحزم ثيابي، أن أرتبها في الحقيبة، أن أبعثر بينها شيئا من خوفي، ثم أرحل. لا شيء يربطنا إلى الأمكنة غير الأوهام. وهم الحب، وهم الأسرة، وهم العمل، وهم الاستقرار أو الهدوء..
قررت إذا أن أخلف كل شيء ورائي وأبتعد. وحده الخوف يصاحبني. أحسه يتربص بي في الأمكنة وفي فكرة السفر وفي ظلي، كطفيلي يرتزق من محاولاتي أن أكونَ ليوجِد كيانا لنفسه.
أهرب إذا أو أسافر.. هما رديفان إن لم يكن هناك مجال لعودة محتملة. أهرب من الوجوه المتكررة والمعلومة مسبقا، المتشابهة حد التطابق. مثلي، تحاول أن تكون. مثلي، تشرب بُنا بسكر أو بدونه. مثلي، تؤجل النوم أو لا تفعل حين ينسدل الليل على المدينة الرتيبة. مثلي، تعرج على شارع جديد محاولة استكشاف طريق آخر للبيت المشابه للبيوت الأخرى. مثلي تختلي بنفسها في التواليت حيث لوهلة تتلمس معنى أن تكون "حقيقية" وبدون أقنعة.
أسلم حقيبتي الرمادية إلى مساعد السائق. أؤجل صعودي للحافلة. لا أرى من المدينة غير مودعيها. على وجوههم يتمازج الفرح والحزن.. وخوف ما يسري بينهم. يستوقفني وجه معروف.. ذات الوجه القديم. فاقد اللون. المدور قليلا. المحاط بشعر خفيف أسود. ذو العينين المكحلتين. الباردتين. الغائرتين.
أشعر أني أمتص كل الخوف المحيط بي فيتسلل إلي باردا وجافا. أتفادى الوجه المعروف وأهرب إلى مقعدي العاشر الذي بجوار النافذة. أجر الستارة، الرمادية أيضا. أخبأني خلفها. لا أرى غير بقايا علكة اسوَدت وأُلصقت على المقعد الذي أمامي. أتجاهل تحية المرأة التي احتلت المكان الشاغر بجانبي والتي استرسلت في تحية باقي الركاب بينما تحركت الحافلة في اتجاه غربي جنوبي.
أغمض عيناي فأتشبع برائحة المكان. مزيج العطور والعرق. رائحة برتقالة تقشره أم لطفلها. رائحة التبغ. رائحة المسك من الرجل المنشغل بمسبحته. رائحة الأقدام التي انسلت خارج الأحذية. عطر جارتي الرخيص المشبع بالكحول الذي يقتحم خلوتي وهدوئها.
يوقظني مساعد السائق طالبا التذكرة. أسلمها له فتتلقفها يد ذات أصابع ستة. بدا الإصبع السادس معلقا هناك كشيء إضافي لا ضرورة له. شعرت بتشابه يشدني إليه.. كلانا معلقين في هواء عابر. نختبر العالم دون أن نشارك في صنعه.. هل هو مثلي مسكون بالخوف؟
يرتفع ضجيج من مكبرات الصوت. يحاول السائق التقاط إذاعة ما. يبحث في ضجيج البث عن صوت يؤنس ضجيج المسافرين.. بكاء الطفل، تسبيح الرجل، شخير رجل آخر، ثرثرة جارتي، الصوت المنفلت من سماعات الشاب المغمض العينين، وطبعا صوت الريح المتسلل من النوافذ الغير محكمة الإغلاق. يتخلى السائق عن بحثه بين المحطات ليشغل الكاسيت فيرتفع أولا عزف الطبل مصاحبا بالغيتار ثم يرتفع صوت معتق بالشجن: "روحي يا وهران بالسلامة.. بالسلامة.."*
أفكر: روحي يا تطوان بالسلامة .. بالسلامة.
تتوقف الحافلة فأزيح الستارة الرمادية. رجل أمن يحادث مساعد السائق، ثم تتصافح يده مع الأصابع الستة وتعود برشاقة بغنيمتها لتختبأ في جيبه.
نبتعد أكثر. نبتعد عن كل شيء إلى كل شيء آخر. أحاول التخلص مني. من فنجان البن المُرِّ. من خط الكحل حول عيناي. من ملابسي. من مسمع تنفسي الرتيب و رائحة وسادتي في الصباحات المتكررة.
أعايش حالة الانتقال. أتلذذ بمحاولة ابتكار أحداث و مشاعر جديدة. أفكر في ابتياع ألوان الصباغة والريشات والأوراق البيضاء التي سألونها بينما أرتشف كأس شاي بدون إضافات..
تتوقف الحافلة لتقِل معلما يحمل محفظة أوراق سوداء. يبدو أن الطبيعة لفظته من لاشيء. لا آثار لبناء قريب. من أي مجهول هو قادم؟ ألمح في عينيه توقا إلى قرين يعبأ حاجته إلى التشابه أو الحضارة.
يدفع الرجل الجالس أمامي بكرسيه إليّ. أرى العلكة الكريهة تقترب أكثر وأكثر فأقرر أن أحتج. يتوقف قليلا ثم بعد حين يعاود الدفع بكرسيه وبالعلكة إليْ.. يبدو الطريق طويلا.. يتعالى شخير آخر، رفيع قليلا. فيمتزج الشخيران وصوت الريح وتسبيح الرجل وقهقهة الطفل وصوت الموسيقى المنفلتة من سماعات الشاب المغمض العينين دائما وحديث جارتي مع الرجل الجالس في الجهة الأخرى من ممر الحافلة وصوت المحرك.. والصوت المتخم بالحب وبالحزن الذي عاد من جديد ليغني: "روحي يا وهران بالسلامة.. بالسلامة.."
تتوقف الحافلة من جديد في.. اللاّ مكان. لا إشارات تحدده غير شجرة أوكالبتوس عملاقة تظلل سرب سنونوات مهاجر. ترتفع اليد ذات الأصابع الستة مشيرة لراكب بالترجل. يلتفت الراكبون ولا أفعل.. لمَ ينتابني يقين بأنه الوجه المعروف؟
إذ يمر أمامي أتعرف على الشعر الأسود المسترسل إلى منتصف الظهر وعلى القامة وعرض المنكبين المتعبين قليلا. يمتزج صوت إغلاق باب الحافلة مع غناء المغني و يغطي ضجيج الركاب:
"القلب اللي كان يبغيك، أنا نكويه.."*
عبر النافذة تلتقي نظراتنا أخيرا في لحظة خاطفة يتألق فيها تشابهنا حد انعدام قوانين الطبيعة فنكون هناك: أنا وهو/هي و شجرة الأوكالبتوس والسنونوات و الطريق..

*من أغنية "روحي يا وهران" للشاب خالد.


فاطمة الزهراء الرغيوي
تطوان- المغرب



#فاطمة_الزهراء_الرغيوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العيد
- ذاكرة الفراغ.. رسائل بين فاصلتيّ السماء والحرب
- حب أيسر
- لم يعد ساعي البريد يضحك
- جلباب للجميع
- حالة سقوط
- متاهة العشق (أو أنت وأنا.. وأنت)
- الثامن من مارس.. وأشياء أخرى
- مرآة لجسد يحتضر
- مد وجزر


المزيد.....




- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة الزهراء الرغيوي - سفر