يحيى علوان
الحوار المتمدن-العدد: 2791 - 2009 / 10 / 6 - 00:32
المحور:
الادب والفن
لسمير ابن ِ شط لكريمات سَهَته المفخخات!!
مُتجاوزاً عارضةَ منتصفَ الليل ، حيثُ ذئابُ الأرقِ تَنهَشُ لحمَ نُعاسي ، يتزحلق الزمنّ إاـى بئرٍ من طنين ، يروحُ يُرتِّبُ أوضاعه ويلملِمُ حاجيّاته قبلَ طلـوع الصبح ... نامَ العجاجُ على السطوح ، في الأزقة والدرابين ... وأنا لا أزالُ أُقَلِّبُ السكونَ المُخاتِلَ .... أُفُتِّشُ عـن عبـارةٍ نسيتُ أنْ أُدوِّنها ، أُبحلقُ فـي شاشـةِ الحاسوب علَّها تُومـض برسالة ....
أترنّحُ في زورَق وسطَ عماء الليلِ فـي برلين ، أُجالسُ نفسي وأُحـاورُ وحشتي أُدجِّنُها بكأس باخوس ... أسرَحُ وأتسكَّعُ فـي ميدان " أَنا"ي ، أبحثُ عن لغةٍ تَفضُّ حياءَها ، وتظلُّ شفيفَةً لا تَخِـزُّ لَمعَةَ العين ... لغةٌ لم يطأها قلمٌ ، لغـةٌ أتناءى بظلال مُفْرَداتها عما ألِفَته القواميس ... لغةٌ أُقيمُ فيها وتُقيمُ فِـيَّ ... أَبحثُ فيها عـن مأوىً جديد لقَلَقي ، تُريحني مـن العَدْوِ فـي صحاري ظَمَأي ..... أُلاحـق فيـها خطيئةَ النسيان بما تَبقّى من ذاكرةٍ ، فأُحشِّدُ جيوشاً مبعثرةً مـن الصـورِ والأسماء ...
فثباتي على الأرض لا علاقةَ له بأنني لا أمتلكُ أجنحـةً أو أنَّ وزني ، لا سامحَ الله مُفرِطٌ ! ، بلْ بسببِ فكرةٍ ضَيَّعَها آخرونَ ، فتَمسكتُ بها ، " قَـدَراً " كـي لا أكون مثل سنديانة عَرّاها الخريفٌ فغادَرَها الطير ، أو أنْ أموتَ مـن بَهتَـةِ النسيان ! ... أُعَلِّلُ نفسي بأننـي مازلتُ أهـوى الغناءَ فـي الحمّام والغابة ، أُمرِّنُ فيهما حِنجرَتي على الصُراخِ ، عندما يَتَلَفَّعُ ما حـولـي بعباءةِ الصمت ... فمـا دُمتُ أَضجَـرُ من الضوضـاءِ والإطناب واللا معنى والإبتذال ، يكفيني هذا على أنني لمّا أزل أحيا ولستُ وحيداً ... !
* * *
" ماذا فَعَلنا " ، يسألني سمير ، أبن الشط ، " لنكون ، كلَّ يومٍ ، حِملانُ أضاحٍ لعمى الجهالـة وكلِّ فنون الخَبَلِ المعادي للعقل ... هذا الغولُ ، الذي حوَّلَ الناسَ إلـى كائناتٍ تلوذُ بظلامِ زوايا البيوتِ ، تَتَفَنَّنُ فـي إجتراحِ الحِيَلِ - المُعجزاتِ ، للإفلاتِ مـن الموتِ بأَيِّ ثَمَن ؟!
نموتُ عَطَشاً ! هل يُصدِّقُ العالمُ أن بلادَ الرافدين وبغداد ، التي كانت أُمَّ الدنيـا
طُـرَّاً ، تموتُ عَطَشَاً ؟؟!!"
............
............
ــ " دوغلاتو* خيطُ مـاءٍ من سُرَّةِ السماء " أقولُ له .
يرُدُّ عليَّ : " خيطُ مـاء ، أضحت دجلةُ حقاً .. ولكن ليس من سُرَّةِ السماء ، إنما من زبالةٍ ونفاياتٍ ، عافها السمك ... تصوّرْ بغداد تموت كلَّ يوم عـدة مرّات ، ليس بفعل المُفخخات والقصف والجنـون فقط ، إنما تموتُ عَطَشَاً أيضاً ..! نُلجِمُ الصِغـارَ كي يلزموا الصمت ، حتى لا يفوتَنا مهرجانُ الغِبطَةِ ! عندما تبدأ غرغرة المواسير إيذاناً بقرب وصول شريان حياتنا ، فُضلَةً مما بقيَ من وضوء سلاطين الإستانة !! .. دجلة ، يا صاحبي ، ما عادت تلكَ ، التي كنَا نحرثُ ماءَها بقاربٍ ، من جسر الشهداء حتى جزيرة أُم الخنازير .. نعود بعدها للكريمات بحصيلةٍ من السمك ، نبيع بعضها لضمان الزحلاوي ! وندفع بالبقية مع عَلوّش ، ليأتينا بعد ساعة ، عند شِرِيعَةِ الشيخ عبد الله ، بصينيةٍ من الكريمجاب !! هـي العشاء والمازة ...
.....................
.... ولكنها تظلُّ بغداد ، الصَبَوات والصِبى والتحدّي ، بغداد العلم والثقافة والـ..
يُقاطعني :" دعـكَ من الأحلام ، يا صديقي ، بغداد تنتحرُ اليومَ ، وتنحَرُ أهلها بسيوفٍ صَدِأةٍ ومُفخخات جبانة .. المدينةُ تشهق كـلَّ يومٍ بنافورة دم ، وتختنق بأسوارِ ، تُفقِّس جدراناً للقطيعة والكراهية بين الناس ، بعد أن سقطَ جدارُ برلين ! بغداد أضحت متواطئةً مع الموتِ والقَتَلَةِ ، وباتَتْ تتربَّصُ حتى بأحلام الناس ... "
ــ بغدادُ عُرس مرايا السمَر والسهَر ، قَمَرٌ من ماس وفِظَّة .." هي في الليل من الجو ، أجملُ سجادة فارسية ملضومةٍ من ضياء " **
" هذا كلامٌ لا علاقةَ له ببغداد ، كما نراها ونعيشها ، نأمةً ، نأمة .. بغداد جُنَّتْ ،
ومن فَرطِ جنونها ، راحت الناس تجترُّ وتتجشأُ عقوداً خَلَتْ .. تحنُّ لشوارعَ وفضاءاتٍ
غيرَ مُقفَلَةٍ على أهلها .. ولا تُقَطَّعُ أوصالها الآلافٌ مـن كتل الخرسـانةِ الهائلـة الصـمـاء ...
الناسُ ترتاب وتتوجَّسُ من بعضٍ ، فتنكفءُ على مخاوفها ، وقد غادرها أيُّ تصـوُّرٍ
للمستقبل ... وهو توطئةٌ خطيرةٌ لموَاتِ المُدُن ، فـي زمَن القحطِ والخراب ...
ويصرخ ، فتجيءُ صرخته متكَسَّرةً .. حَشرَجاتٌ تَتَخَبَّطُ باحثةً عن نتفةِ أمـلٍ للبقاء في هذه الحياة : " متى يموتُ الموتُ كـي نحيا ؟! هل هناكَ أملٌ فـي الخلاص من
هذا الحضيض وطينِ الخراب ؟! "
أقولُ له : " لا تنتظروا قطراً من سماءٍ عقيمة ، أنتم مَـنْ ...!"
فيردُّ عليَّ فـي هزءٍ يترنَّـحُ علـى خيطٍ بين دمعةٍ تحَجَّرَتْ فـي مقلته ، وقهقهةٍ
تناثرت فـي خطوط الهاتف :
" أَتدري ، يا صاحبي ، أننا غَدَونا مَسخرةً ؟ أحدُ جنود المارينز ، مُدَرَّعٌ بالكامل ، قال لـي في ساحة الأندلس ، وانا أَهِمُّ بالعودة للبيت بعد أن إشتريتُ خبزاً ، قال ساخراً لا أُصدِّقُ أن يكون هذا الشعب سليلَ سومرَ وبابلَ وأَكَد... هذا بَلَدٌ يندثـرُ فـي قيامـةِ الخَبَل .. فقلتُ له : صه يا هذا ! تلكَ صنيعتكم ، إستبدلتم ديكتاتورية فرد بديكتاتورية الغيبِ والخرافة ... فها نحن نحصد اليوم ما زرعتموه ... أدرتُ لـه ظهري ومضيتُ .... أَتحسَّسُ قَفـاي ، لأعرفَ إن كان أطلقَ علـيَّ رصـاصةً .. ومن أينَ واتَتني الشجاعة لأقول لآلة الموتِ الصماء هذا الكلام !! لكنَّ لافتـةً لَمَحتني وقرأتْ دواخلـي ... شكرتها ، فغَمَزَتني !! "
ثمَّ يروحُ سمير يُوغِلُ فـي وصف الأنين ، كنايةً عن حبِّ الحياة ... وكيف يتحوّلُ
الإنسان بفعلِ آلةِ الموتِ والرعبِ ، إلـى كائن عُتمةٍ ، صنوَ الخُلْد ، يعتاشُ علـى
فُتاتِ ذكـرى ، فـي إمتحانِ إمتهانِ الكرامةِ والجسدِ .... إمتحان مقاومة النفي
والعزلِ والمَـوات .. فـي أقصى حالاتِ جنونِ القتلِ والإنتحار ، التي تَمَلَّكَتِ الناس
، وسط غيابِ العقل وحضورٍ "مُجسَّدٍ!" كثيفٍ للخرافة ...
ويسألُ مُتهكماً : " مـاذا يمكننا أَن نصنعَ مـن عجينةِ الخرابِ هذا ؟! "
ــ سمير ، صُنْ فَرادتَكَ ، سلاحُك ، تُدافِعُ بـها عن نفسِكَ ، ضدّ العمومية والمجانية والإبتذال ، ضد "القطيع" ، فهذا خـرابٌ نرفُضُـه ، لأننا نُحبُّ الحياة والجمال ، وإترك لهـم جَنَّتَهُم ...
شحيحاً ، يأتيني صوته من بعيد ، كما من خاصرة بئرٍ مهجور :" إنقطعَتْ
الكهرباء وليس لدينا بنزين لتشغيلِ مولدة الكهرباء ! بإنتظاري
حُلُمٌ مؤَجَّـلٌ ، سأتحاورُ معه فـي ما قُلتَ ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دوغلاتو هي باللغة الأكدية ، دجلة وتعني العظيم ، الجبار ، الهادر ...ي . ع .
** توصيفٌ لبغداد ، على لسان أول كابتن في الخطوط الجوية العراقية ، نقلته لي إبنته
في لقاءٍ عابر أثناءَ الإجتياح الإسرائيلي للبنان ، عام 1982 ، إعتمادا على مشاهداته لعواصم
ومدن كثيرة في العالم مرَّ بها بحكم مهنته . ي . ع .
#يحيى_علوان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟