أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عدنان حسين أحمد - التابو في المشهد الثقافي العربي والإسلامي إشكالية التحريم والقمع والمصادرة















المزيد.....



التابو في المشهد الثقافي العربي والإسلامي إشكالية التحريم والقمع والمصادرة


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 844 - 2004 / 5 / 25 - 04:08
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تقترن فكرة التابوات الثلاثة (الدين، الجنس، والسياسة) في عالمنا العربي بفترة ظهور الإسلام تحديداً كديانة سماوية جديدة، وهذا لا يعدم وجودها لدى الشعوب والأديان السماوية الأخرى، وقصة الصراع المرير في الغرب الأوروبي من أجل الحد من سلطة الكنيسة، وفصل الدين عن الدولة معروفة للجميع. وقد أفضى هذا الصراع إلى ظهور الأنظمة العَلمانية التي تحترم الأديان، وتحصر نشاطها في الكنائس والجوامع والأديرة وبيوت العبادة الأخرى، ولا تمنحها فرصة المشاركة أو التدخل في الأنشطة السياسية المتعلقة بإدارة الدولة.
إن فكرة الاستبداد اللاهوتي التي قامت عليها المؤسسة الدينية، كانت ناجمة عن احتكارها لـ (التفسير والتأويل، والتحريم والتحليل) بوصفها الواسطة الشرعية الوحيدة بين الإنسان وخالقه، وهي تشبه إلى حد كبير احتكار الأنظمة الدكتاتورية للسلطات السياسية، وحرمان العامة من المشاركة الحقيقية في صناعة القرار السياسي. من هنا تولّد التابو الديني، ثم تبعه التابو السياسي، وقد تضافرت المؤسستان الدينية والسياسية على صناعة التابو الجنسي، وهذا ما أفضى بالعرب والمسلمين إلى مزاولة حياة مهمشة، مقصية، عقيمة فرضتها قساوة الشروط الدينية التي لم يُردها الخالق لعباده، وإنما سنّها وإجترحها المتفيهقون، وذوو النزعات الفردية الذين يلهثون وراء مصالحهم الشخصية في محاولة يائسة للهيمنة على مراكز القرار، والتفرّد بها، وحصرها في عدد محدود من رجال السياسة واللاهوت الشموليين الذين يمارسون دور الوصي، والقيّم على عامة الناس الذين يجب عليهم أن (يطيعوا أولي الأمر منهم) ويلتزموا بالتأويلات التي تصدر عن صنّاع الفتاوى، وسدنة الألاعيب الفقهية، ولا يناقشوا في الموضوعات العويصة، أو المحجوبة، أو اللامُفكر فيها، لأنها حسب زعمهم (من اختصاص المشرّعين، والعلماء، ورجال الدين المتبحّرين في العلوم الفقهية)، آخذين بنظر الاعتبار أن الإسلام ديانة سمحاء، واضحة، يفهمها الإنسان العادي بفطرته، ولا تحتاج إلى جهابذة، ومؤولين، ووسطاء بين الله وعباده الذين يفهمون أن هذا الكون المخلوق، لابد من أن يكون وراءه خالق عظيم. وإن الإسلام هو (دين الفطرة) والذي يؤكد صراحة وضمناً مبدأ (البراءة الأصلية) الذي يقلّل بدوره من أهمية المشرّع، ولا يعير شأناً كبيراً للفقيه الذي يتجاوز على منطقة العفو الإلهي، ويعتدي على مبدأ الإباحة الأصلية، لكن المستغرب حقاً أننا عندما نأتي على ذكر أصول الفقه الأربعة وهي (القرآن، والحديث، والإجماع، والقياس)، ونردفها بالأصول التكميلية المعروفة وهي (الاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المُرسلة، وشرِّع ما قبلنا، ثم نختمها بالبراءة الأصلية) مع أن البراءة الأصلية هي أكثر شمولاً من نظرية (الحقوق الطبيعية)، ومن الأصل القانوني الذي يقول (لا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص). لا نريد أن نقلل من أهمية أي عالِمٍ مخلص لديانته، ملتزم بالحدود التي أقرّها الله في القرآن الكريم وفي سنّة نبيّه الأمين محمد (ص)، ولكننا نذكِّر بأن الله سبحانه وتعالى استبعد المؤسسة الدينية، وحرَمَها من سلطة الاحتكار، وأكثر من ذلك فقد جرّد الرُسل من كل السلطات باستثناء سلطة (البلاغ)، وحتى الهداية فهي من عند الله، والرسول لا يملك أن يَهدي منْ يشاء! (ليس عليكَ هُداهُم، ولكنّ الله يَهدي مَنْ يشاء) البقرة: 272 (إنكَ لا تُهدي من أحببت، ولكن الله يَهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) القصص: 56 (وإن تولّوا فإنما عليكَ البلاغ والله بصير بالعباد) آل عمران:20، (فذكِّر فإنما أنتَ مذكِّر لست عليهم بمسيطر) الغاشية:21، 22. نستنتج من هذه الآيات الكريمة أن دور الرسول يقتصر على التبليغ، والتذكير، أما أمر الهداية أو الإيمان والكفر، فهو منوط بالفرد ذاته (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها) الإسراء: 15 (من شاء ليؤمن، ومن شاء فليكفر) الكهف: 29. لذلك نستطيع القول إن الأصل في الأشياء هو (الإباحة) وإنّ الاستثناء من هذه الإباحة يجب أن يعتمد على دليل ثابت لا يرقى إليه الشك. أي أن أمر التحريم والتحليل يرجع إلى الله سبحانه وتعالى، ويمكننا الاستدلال عليهما من النصوص الصريحة في القرآن الكريم الذي لا يحتاج إلى مشقة التأويل، أو السنة النبوية الصحيحة التي لا يمكن أن تعلق بها شائبة ضعف، أما تحريم وتحليل الفقهاء فيأتيان في منزلة أدنى من التحريم والتحليل المنزَّلين، آخذين بنظر الاعتبار أن التقنين الإسلامي يخضع لما يخضع له القانون من تعديل أو نسخ أو إلغاء. وحتى الرسول الكريم يقول (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم.) وهذا الحديث يقلل من أهمية الوسيط بين الإنسان والله ويدعوه إلى النظر في ما يستنبطه العلماء المجتهدون من القرآن والسنة ليتوصلوا إلى (الوجوب أو الحرمة، أو الندب، أو الكراهية، أو الإباحة). إن ما ندعو إليه هو إعمال الذهن، والحث على الاجتهاد العقلي الذي لا ترقى إلى الظنون، لأننا نُدرك أن التأويل قد يختلف من عالِم مجتهد إلى آخر، ومن زمكان إلى آخر، ويكفي أن نسوق مثالاً لاختلافات تأويل آية واحدة واضحة وهي (إنما يريد الله أن يُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) الأحزاب:33، فبعض يقول إن المقصود بأهل البيت هو الرسول، وعلي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين، وهناك من يضيف إليهم زوجات الرسول، وهناك من يقول بأن (البيت) يعني البيت الحرام، وهناك من يعتقد (أنهم أهل مكة جميعاً). من هنا فنحن ندعو إلى الاجتهاد العقلي الذي يقبل به المنطق، ويوفر قناعة تامة لقارئ هذا التأويل، مع التأكيد دائماً على ضرورة التفريق بين الدين، والفكر الديني، وبين النصوص القرآنية، والتأويل الذي يحتمل الخطأ والصواب، والتغيير الذي قد يطرأ بين مؤول وآخر.
لابد من الإقرار بأن التابو الديني هو الأوسع انتشاراً في العالمين العربي والإسلامي، وأنه أكثر هيمنةً من التابوين الأخريين المُمثلين (بالسياسة والجنس) فقد فرض المؤولون تابوات لم تخطر ببال أحد، وحرّموا الخوض في الكثير من القضايا التي يتعاطى بها الفكر والأدب والفن عامة، والأخطر من ذلك أن الملأ الأعظم من الناس يضعون ثقتهم التامة في المؤولين إلى الدرجة التي لا يمحّصون فيها تفسيراتهم، ولا يراجعونها على وفق ملكاتهم العقلية التي يُفترض أن تصل إلى معرفة الحقائق البيّنة من دون الحاجة إلى وسطاء يحلّلون ويحرمون على هواهم، وقد يصل بهم الأمر إلى درجة التجاوز على منطقة العفو الرباني من قبل المُشرِّعة، وإلى درجة الشِرك بالله من قبل الأتباع الذين يتخذون من دون الله أربابا.
التابو الفكري
تحتاج موضوعة التابو الفكري إلى عشرات، وربما مئات الأبحاث الفكرية لتغطية القضايا والمحاور المستعصية التي سببتها أطروحات العلماء، والفقهاء، وفلاسفة الفكر الديني الإسلامي. وربما أفضى تعدد الفرق الإسلامية التي بلغ عددها 73 فرقة، وخوفاً من نتائج هذه الانشقاقات المذهبية، وتعدد القناعات والرؤى بالاتجاهات التي ربما لا تخدم الإسلام حسب تصورات أولي الأمر، فقد أقرّت الوثيقة المتوكلية غلق باب الاجتهاد، وإنهاء النقاش المتعلق بتعريف (الكلام الإلهي) والقول بأن (القرآن مخلوق) أو (مسطور في اللوح المحفوظ) وقد نُزِّل على محمد في مراحل متعددة امتدت على مدى ثلاث وعشرين سنة. ونتيجة لذلك تم التمييز بين العقائد الصحيحة والعقائد الباطلة. ومنذ ذلك الحين، أي منذ القرن الثالث الهجري، لم يجرؤ أحد على الخوض في القضايا العويصة التي تتعلق بالذات الإلهية، وبالقرآن الكريم، وحتى بشخصية الرسول (ص) فقد كان يُتهم بالتكفير كل من يتعرض إلى هذه القضايا الجوهرية التي تخلينا عنها إلى المستشرقين خوفاً من التكفير، أو الحسبة، أو القتل وما إلى ذلك بحيث بات الخوض في هذه المسائل المعقدة بالنسبة للمفكرين العرب تحديداً أمراً يدعوا إلى الريبة، ويفضي إلى مغامرات ربما لا تُحمد عقباها، وقد طالت عمليات التكفير، والملاحقة، والاغتيال عدداً كبيراً من المفكرين التنويريين بدءاً بالحلاج، والسهروردي، ومروراً بطه حسين، وفرج فودة، وعلي عبد الرازق، وسيد محمود القمني، وآمنة نصير، وحسين مروة، ونصر حامد أبو زيد، وانتهاءً بكتاب وأدباء معروفين مثل نجيب محفوظ، وليلى العثمان، وحيدر حيدر، وأحمد الشهاوي، وإبراهيم نصر الله، وعبد العزيز المقالح، وموسى حوامدة وعشرات الأسماء التي لا يمكن حصرها في هذا المجال، وقد كُفِّر عدد كبير من الأدباء والمفكرين والباحثين، بل لم يسلَم منهم حتى الفنانين ونجوم السينما، ويكفي أن نشير هنا إلى قضية تكفير الفنان والموسيقار مارسيل خليفة، تمثيلاً لا حصراً، بحجة أنه لحّن آية قرآنية كريمة.
التابو في الفنون القولية
أما في مضمار الفنون القولية، وتحديداً الأدبية منها، فقد شهدت الساحة العربية والعالمية على حد سواء تكفير الكثير من الأدباء بحجة أن أعمالهم الروائية تتجاوز على الذات الإلهية، أو تزدري الأديان، أو تمس الهالة المقدسة التي تحيط بالكتب السماوية، أو تطعن في شخصيات الرسل والأنبياء. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى رواية (آيات شيطانية) للروائي سلمان رشدي، هندي الأصل، بريطاني الجنسية الذي شُنّت عليه حملة شعواء بحجة أنه يطعن في شخص الرسول الكريم، ويتعرض لآل بيته بتوصيفات مبتذلة تحط من قدر الإسلام والمسلمين. أما رواية (وليمة لأعشاب البحر) لحيد حيدر، و (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ (وحرافيشه) أيضاً، وبعض قصص ليلى العثمان فهي لا تخرج عن إطار المس بالذات الإلهية، والطعن في صحيح العقيدة الإسلامية، أو التعرض لشخص النبي محمد (ص) من خلال اقتطاع نماذج مبتسرة من سياقها النصي. وغالباً ما ترافق عمليات المنع، والتكفير، ومصادرة الكتب ضجة إعلامية قد يكون المستفيد الوحيد منها هو الشخص المُكَفّر ذاته، إذ تتناوله كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وتعيد دور النشر طبع مؤلفاته، وتتصدر نتاجاته الأدبية قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وغالباً ما يعاد طبعها بطرق غير قانونية من أجل تلبية الطلبات المتزايدة على هذه الكتب الممنوعة، تأكيداً للمثل السائد الذي يقول بأن (كل ممنوع متبوع) أو أن (أحبُ شيء إلى الإنسان ما مُنعا)، بينما لو كانت حرية التفكير متاحة، وحق الخوض في الموضوعات المحرّمة ممكناً لما حدثت كل هذه الضجة المفتعلة بين آونة وأُخَر، فهناك عشرات الكتب التي تتناول موضوعات حساسة في الديانتين السماويتين اليهودية والمسيحية، تطبع، وتنشر، وتمر مرور الكرام من دون أن تُحدث ضجة ولو في فنجان مكسور، لأنه لا قيود، ولا أغلال، ولا شروط تثقل كاهل الكاتب في أوروبا وأمريكا وبقية بلدان العالم المتحضّر. هذا التابو يمتد إلى بقية الفنون القولية قصة، وقصيدة، ومسرحية، ومقالة وما إلى ذلك من الأنواع الأدبية المتعارف عليها.
التابو في الفنون غير القولية
نعني بالفنون غير القولية، الفنون السمعية والبصرية ومن بينها الفن التشكيلي، والنحت، والكاريكاتور، والتمثيل، والتصوير الفوتوغرافي، والتصوير الإعلامي، والسينما، والتلفاز، والموسيقى، والغناء وما إلى ذلك. وقد أثارت هذه الفنون جدلاً غير مسبوق استعرت حُمّاه بين فريقين من الفقهاء الذين يزعمون امتلاكهم سلطات التحليل والتحريم. وقبل الولوج في موضوعة التصوير لابد من التوقف قليلاً عند صفة المصوِّر التي تقترن بالله سبحانه وتعالى، وقد ورد ذكرها مرات متعددة في القرآن الكريم، وسنكتفي بذكر بعض منها تعزيزاً لمنهج بحثنا في هذا المضمار. (هو الله الذي لا إله إلا هو الخالق البارئ المصور...) " الحشر: 24 "، (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) " آل عمران:6 "، (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة أسجدوا لآدم) " الأعراف: 11 " ولا أظن أن معنى الإعجاز الرباني في هذه الآيات الكريمة يخفى على أحد، فهو خالق الخلق بأجناس شتى، ولكل إنسان صورة مختلفة لا يمكن أن تتطابق مع صورة إنسان آخر تطابقاً كاملاً، ولنا في اختلاف البصمات حجة قوية لما نذهب إليه. نفهم من هذه الآيات أن الله يرفض أن يضاهيه أحد من عباده في خلقه. ومعنى المضاهاة هو (المشاكلة والمماثلة) ولا أظن أن فناناً تشكيلياً تتوافر لديه نية مضاهاة الله سبحانه وتعالى في خلقه.
يميّز علماء الإسلام بين الصور المجسّمة (وهي الصور الفوتوغرافية المُلتقطة بكاميرا) وبين الصور غير المجسّمة والتي تعني اللوحات التشكيلية، سواء المرسومة بالألوان الزيتية، أو المائية، أو بأقلام الفحم، أوالباستيل وما إلى ذلك. وفي اللوحات التشكيلية يحرِّمون الرسم التشخيصي، أو ما يسمّى بالنقد الفني بـ (الفيكارتيف) أي تلك الوجوه التي تشبه الوجه الإنساني ذي الروح. ومعنى ذلك أنهم يفرِّقون بين الصور لذوي الأرواح، وصور لغير ذوي الأرواح. وهم يميزون بين الصور التي يُقصد منها التقديس، والتعظيم، والتبجيل، سواء أكان هذا التعظيم دينياً أم دنيوياً، فصور الأنبياء، والأولياء، والقديسين، وأصحاب الكرامات كلها محرّمة إذا كان القصد منها تقديس هؤلاء وتعظيمهم، أو عبادتهم من دون الله، وحكم الصورة الفوتوغرافية لا يختلف هنا من حيث التحريم إذا كان الغرض منها التقديس والتعظيم، والغريب أن كل صور الملوك والرؤساء والأمراء والسلاطين المعلقة على الجدران، أو تماثيلهم المرفوعة في الساحات والميادين العامة، كلها الغرض منها التعظيم والتبجيل، لكن أحداً لم يعترض لأن المؤسسات الدينية تتواطأ كثيراً مع المؤسسات السياسية، وتغض الطرف عن عشرات الألوف من الصور المجسمة، وغير المجسمة، والتماثيل الكاملة أو النصفية المبثوثة في عموم العالم الإسلامي. يحلل علماء الإسلام رسم الصور لغير ذوات الأرواح مثل الشجر، والجبال، والغيوم، والأنهار، والنجوم، وغيرها من مظاهر الطبيعة وكذلك المنتجات الصناعية مثل السفن، والقطارات، والسيارات، والطائرات، الدراجات وسواها من المصنّعات التي أفرزتها الثورة الصناعية، ولكنهم يشترطون أيضاً ألا تفضي هذه الصورة إلى الترف، والتنعم، فتقع في باب المكروهات، كما يجب ألاّ تشغل المسلم عن ذكر الله وعبادته. أما أشد أنواع الحرمة هي صور الملوك والزعماء والقادة (وبالذات الظلمة المتجبرين، والفسقة الفاجرين، والملاحدة المارقين) الذين يرومون هذا التعظيم، ويصرون عليه عن طريق تعليق مئات الصور، ونصب العشرات من التماثيل في طول البلاد وعرضها بغية الرسوخ في الذاكرة الجمعية للناس، وتأكيداً لمبدأ عبادة الفرد وتأليهه. أما الصور التي أباحها الإسلام صراحة فهي الصور الفوتوغرافية التي نحتاجها في المعاملات والأوراق الرسمية الثبوتية (كالبطاقة الشخصية، وجواز السفر) ويجب ألا يشتمل موضوع الصورة على محرّم، أو تقديس ديني أو تعظيم دنيوي، وخاصة (إذا كان المعظّم من أهل الكفر أو الفساق كالوثنيين أو الشيوعيين أو الفنانين المنحرفين) كما يؤكد الشيخ الدكتور القرضاوي. أما الصور المباحة فهي تلك الصور المرسومة، أو المطبوعة على البسط والسجاجيد، والأفرشة الأرضية المُهانة، أي التي تطأها الأحذية والنعال، والتماثيل تُحلّل أيضاً إذا شُوِّهت أو جُدعت رؤوسها. إذاً كل الصور من ذوات الأرواح المعلقة تُحرّم إذا كان يقصد منها التعظيم والتبجيل والتقديس والتأليه والعبادة من دون الله، وإذا كانت نية الفنان مضاهاة الله في خلقه، وحتى الصور من غير ذوات الأرواح تعتبر مكروهة إذا شغلت المسلم عن ذكر الله، وقادته إلى الترف والتنعم. هناك أحاديث نبوية شريفة تتطرق إلى موضوعة التصوير سننتقي بعضاً منها (لا تدخل الملائكة بيتاً في كلب ولا صورة ولا تماثيل) " البخاري "، (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون الله في خلقه) " حديث عائشة "، (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة إلا رقماً في ثوب) " حديث خالد بن زيد الجهني "، هناك أحاديث شديدة الوعيد والتهديد كقوله (ص) ( كل مصوِّر في النار) أو (من صوّر صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ) أما صور النساء فهي أشد تحريماً لأنها تفضي، حسب تصورهم، إلى الفتنة، وتُذهب معنى الحجاب الشرعي. الدكتور عبد الفتاح إدريس يقول إن الأحاديث التي نهت عن التصوير إنما يُقصد بها النحت والتماثيل التي كانت معروفة آنذاك، وهو يحلل التصوير الفوتوغرافي من دون أن يغوص في التفاصيل. الرسول (ص) كان يحض (مضطراً) على رسم مظاهر الطبيعة فعندما جاءه رجل يستفتيه في أمر مهنته أجابه قائلاً (إن كنت لابد فاعلاً فاصنع الشجر، وما لا نفس له) كما رواه البخاري.
لقد سجّل الفن التشكيلي حضوراً كبيراً تجاوز حضور النحت الذي كان محرّماً بشكل صريح، بينما سجَّل التيار التجريدي حضوراً متعاظماً على حساب التيار التشخيصي الذي كان محرماً أيضاً لأنه يقع في باب ذوي الأرواح، وربما يقود إلى التعظيم، والتقديس، أو التأليه. فالصور المجردة أو المشوهة أو التي لا تماثل صورة الإنسان الواقعية لم تحرّم، بينما شهدت تلك الفترة غياب البورتريه بشكل نهائي، فرسم البورتريه محرم تماماً لأن (الصورة في الرأس) حسب زعمهم، ويمكننا الاستشهاد بالحديث الذي رواه الإسماعيلي في معجمه عن ابن عباس الذي يقول (الصورة الرأس، فإذا قُطع الرأس فلا صورة) والغريب أن الفقهاء يحللون رسم الأجزاء الحية من جسم الإنسان مثل اليد والرجل أو الظهر. والأكثر غرابة أن الرسم الكاريكاتوري الساخر، والهادف لم يكن محرّماً شرط ألا يرسم فنان الكاريكاتور صورة متكاملة للإنسان، فلو رسم صورة الوجه مقطّعة لكانت جائزة، أو مبالغاً في معالمها، كأن يكون الأنف كبيراً جداً، أو العيون صغيرة لتتناسب مع المذهب التعبيري الذي يقصده الفنان لَما حُرّمت الصورة، كما تسْلم في الوقت ذاته من مضاهاة الله في خلقه. وهذا ما يدعو إلى التساؤل أن عيسى عليه السلام أبدى استعداده لممارسة التصوير حينما قال في الآية الكريمة (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) " آل عمران: 9 "، أما النبي سليمان فكان عنده من (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب) " سبأ: 13 " وهذا يعني أن القرآن لم يحرّم التصوير أو صناعة التماثيل، بينما كثير من الأحاديث النبوية تؤكد تحريم التصوير وصناعة التماثيل، ومن بين هذه الأحاديث ما رواه مسلم عن النبي (لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته) فذهنية الهدم، والتحطيم، والطمس لكل ما يتعلق بالتصوير وصناعة التماثيل قائمة في الفكر الإسلامي، وأكثر من ذلك فهم لا يجيزون بيع الصور، ويحرّمون أثمانها أيضاً، والاستثناء الوحيد لديهم هو أن تكون هذه الصورة رقماً في ثوب مُهان، أو لعبة بيد طفل صغير!
أما التصوير السينمائي والتلفازي فهو لا يشذ عن القواعد السابقة، ولكن علماء المسلمين يحللون الصور الإعلامية التي تنقل أحداث العالم ووقائعه وأخباره بطريقة مصورة، ولا يرون فيها مضاهاة لخلق الله، أو تعظيماً لأحد، لكنهم يحرمون التمثيل والتصوير السينمائي بمعناه المتداول. فهم يحرمون التمثيل، والتصوير، وتسجيل البرامج الإذاعية والتلفازية المختلطة، أو التي تُصور في منتصف الليل، أو تضطر الممثلة إلى السفر إلى خارج البلاد حسب متطلبات التصوير. وهم يحرّمون لمس الممثل للممثلة، أما المداعبات العاطفية، والغزل بكل أشكاله المتعارف عليها، أو الأخذ بالأحضان والتقبيل، وما إلى ذلك فهو أشد أنواع الحرام. أحد الأحاديث النبوية يقول (إن من لمس امرأة لا تحل له عُذَِب بمخيظ من نار يوم القيامة)، بل أنهم يحرمون لمس يد المرأة أو مصافحتها، وقد قال النبي (وإن اليد لتزني وزناها البطش). لم تقتصر إشكالية التحريم على المسلسلات والأفلام الاجتماعية أو العاطفية أو سواها من الأفلام، بل امتدت إلى الأفلام الدينية نفسها، ولو عدنا إلى قرار لجنة الرقابة على المصنفات الفنية الصادر عن وزارة الإعلام والثقافة المصرية الفقرة 5 رقم 220 لعام 1976 فسنرى أنه يقول صراحة (يمنع ظهور صورة الرسول "ص" صراحة أو رمزاً أو صورة أحد الخلفاء الراشدين وأهل البيت والعشرة المبشرين بالجنة وسماع أصواتهم وكذلك إظهار صورة السيد المسيح وصور الأنبياء بصفة عامة وعلى أن يراعى الرجوع في كل ما سبق للجهات الدينية المختصة)، أما الفقيه أحمد الصديق فقد قال ذات مرة (ليس هناك باطل على وجه الأرض أبطل من التمثيل) وهذا التحريم ينسحب إلى الغناء والموسيقى لأنهما يفضيان إلى (اللهو) والإعراض عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ولم تنفع للغناء صلته القوية، أو قربه من (التلاوة أو التجويد) مع فارق التشبيه بين المنحيين، واختلاف الغرض بينهما إلى حد التناقض الصارخ بين الأهداف النهائية المُستخلصة التي تتعلق بين ما هو دنيوي وديني. فالغناء والاستماع إليه حرام ومُنكَر، والأغرب من ذلك أن بعضاً من الفقهاء المولعين بالفتاوى يوعزون إلى الغناء بأنه السبب وراء (مرض القلوب وقسوتها) في حين أن كل علماء النفس، والمتخصصين بدراسة الشخصية الإنسانية، والمستغورين لأمزجتها المتنوعة يؤكدون ضرورة الاستمتاع بالغناء، والانقطاع إلى سماعه لأن فيه تفريج للكُرب البشرية، وتطوير للذائقة السمعية التي تتسامى أيضاً بالإصغاء إلى الموسيقى الراقية. وأدلة تحريم الغناء كثيرة، لكننا سنكتفي بهذه الآية القرآنية التي تقول (ومٍن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين، وإذ تُتلى عليه آياتنا ولّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً فبشره بعذاب أليم) " سورة لقمان: 6-7 " والمُراد بـ ( لهو الحديث) هو الغناء. أما الأحاديث النبوية فتُحرِّم هي الأخرى صراحة الغناء لكن هناك أقواماً في أمة محمد استحلّت الغناء كما يذهب الحديث النبوي التالي (ليكونَن من أمتي أقوام يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف) " الحر في العربية هو الفرج ومعناها هنا الزنى " والمعازف هي آلات اللهو كلها من دون استثناء. وهناك حديث آخر ينطوي على كثير من الغرابة، وقد رواه أبو هريرة عن الرسول محمد الذي قال بأن الله يمسخ أُناساً من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير، بالرغم من أنهم يشهدون بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويؤدون الفرائض الخمس المعروفة، لأنهم (اتخذوا من المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير). وكذلك حُرَِم المُكاء وهو الصفير، والتصدية وهي التصفيق. ويقال أيضاً (لم يجتمع النبي وأصحابه على استماع غناء قط لا بدف ولا بكف). المذاهب الأربعة من جهتها تنهي عن الغناء، وحسب بعض الفقهاء إن مذهب مالك ينهى عن الغناء ويعتبره (من فعل الفُسّاق). وينقل عن مالك قوله (إذا اشتريت جارية ووجدتها مغنية كان لك ردها بالعيب). بينما قال الشافعي (الغناء مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه تُرد شهادته) وينقل عن بعضهم (عدم جواز قطع يد السارق لآلات اللهو لكونه متفق على تحريمها) لاحظوا طبيعة الاستعداء الذي تنطوي عليه هذه الفتوى، وما ينجم من إباحة لسرقة ممتلكات الآخرين بحجة أنها محرّمة، أو مكروهة، أو تقع في خانة (فعل الفسّاق) أو (لا تُقبل شهادة المغني والرقّاص) كما قال القرطبي. إن المدقق لمثل هذه الأحاديث يكتشف من دون عناء أن أغلبها منسوب إلى الرسول (ص) لأن الإنسان بفطرته يميل إلى الغناء، والدندنة، وسماع الموسيقى التي يمكن للإنسان أن يستشفها من حفيف الأشجار، وخرير المياه، وزقزقة العصافير، وهديل الطيور وما إلى ذلك. إذاً، نستطيع القول إن هذه الروايات والأحاديث مثار شك والتباس، وميدان جدل عقيم للمتفيهقين والمولعين بالفتاوى. وبالرغم من الموقف المتشدد للمذاهب الأربعة تجاه الغناء والموسيقى، إلا أن هناك اثنين من الفقهاء قد شذّا عن هذه القاعدة وهما الغزالي وابن حزم وأفتيا بإباحة الغناء والموسيقى لأنه ينسجم مع الفطرة البشرية.
حين ندقق في حمّى التحريم نكتشف حجم التطاول على منطقة العفو الإلهي ومحاولاتهم المستمية لتضييق الخناق على منطقة البراءة الأصلية التي تفترض الإباحة أولاً، ثم تترك لطمأنينة القلب أن تلعب دوراً مهماً وحاسماً في ثنائية التحريم والتحليل. أما موقفنا نحن كمثقفين ليبراليين، منفتحين على كل مصادر الثقافة ومشاربها فإننا ندعو بما يقطع الشك باليقين إلى إباحة كل أنواع الفنون الجميلة، والخوض في مجمل تفاصيلها الدقيقة، مع الأخذ بعين الاعتبار رفض كل ما يقع في دائرة المس بالذات الإلهية، أو الطعن في الكتب السماوية من دون حجج قوية، وبراهين ساطعة، وأدلة قاطعة، أو التجريح الشخصي للرسل والأنبياء بقصد التشويه المتعمد من دون وجه حق.

التابو الجنسي
لابد من الإشارة إلى أن موضوعة التابو الجنسي قد تجاوزتها الكثير من الدول والمجتمعات الإنسانية، وبالذات المجتمعات الأوروبية، وبقية دول العالم المتحضر. ولنا شواهد كثيرة في روايات هنري ميللر، و د. هـ. لورنس، وألبرتو مورافيا، وبلزاك، وموبسان، وفلوبير، هذا إضافة إلى كُتّاب آخرين تناولوا الجنس بطريقة تجارية تفتقر إلى أبسط شروط ومقوّمات (القص أو الروي الفني) ولكننا نميل إلى التفريق بين الكتابة الإيروتيكة الراقية التي تتميز بفنيتها العالية، وبنيتها الداخلية المعقدة، وبين الكتابة البورنوغرافية الهابطة، المبتذلة التي تتاجر بالجنس، وتنشغل به منذ بدء العمل الروائي حتى نهايته، لأن هدفها الأساس هو استثارة الشهوات والغرائز البهيمية. والبورنوغرافي هو مصطلح أجنبي مكوّن من جذرين فـ ( porno ) تعني (البغي) و ( graphy ) تعني (كتابة). من هنا فنحن لا ندافع عن هذا النمط من الكتابة الجنسية التي تستهدف إثارة الغرائز، وتتاجر بالجنس كسلعة كما يفعل (العاهر) الذي يبيع جسده مقابل مبلغ من المال، سواء أكان هذا (العاهر) رجلاً أم امرأة، ولكننا ندافع عن الأدب الإيروتيكي الذي نبتغي من خلاله ملامسة النبض الإنساني الذي يكتنف الفعل الإيروتيكي في لحظات توهجه، والكتابة عنه بطريقة متسامية توازي اللذة التي تحققها الأجساد المُتحابة، والأرواح المتآلفة، أي أننا يجب أن نفخر بالأدب الإيروتيكي الذي يكتبه أدباء مبدعون من طراز نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأدوار الخراط، ورؤوف مسعد، وفؤاد التكرلي، وعبد الستار ناصر، وغادة السمّان، وكوليت خوري، وليلى بعلبكي، والطيب صالح، وجبرا إبراهيم جبرا، وعشرات الأسماء الأدبية المبدعة التي تتناول الموضوعة الإيروتيكية كلما دعت إليها الحاجة الفنية للنص الروائي، ولا أظن أن هذا الأمر سيختلط على القارئ العربي الحصيف الذي يميّز بين هذين النوعين من الأدب، وسيصطف هذا القارئ إلى جانب الأدب الرفيع لأن ذائقته الراقية، ومجساته المرهفة، وقدرته على الاستشعار الفني ترفض أن تستجيب للأدب الإباحي الذي يلهث وراء الشهوات العابرة، والنزوات الخاطفة التي تنطفئ ما إن يبهت وهج اللحظات الإيحائية المؤقتة. ولو تصفحنا كتب التراث العربي لوجدناها مليئة بالأدب الإيروتيكي، وقلما تجد كتاباً (منحطاً) يتعاطى مع موضوعة الجنس الرخيص، ويكفي أن نشير إلى رائعة الأدب العربي الكبرى (ألف ليلة وليلة) التي مُنعت وصودرت وحوكمت في بعض البلدان العربية، لكنها قوبلت بالترحيب والإعجاب حينما تُرجمت إلى الكثير من لغات العالم الحية، ونالت منزلة مهمة قلّما نالها كتاب أدبي في العالم، وكذلك كتاب (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي الذي قارنه د. طه حسين بكتاب ستندال ذائع الصيت والمعنون بـ (عن الحب) وأظهر دقته، وتفوقه في رصد حالات الحب البشري، وخبرته العالية في سبر أغوار النفس الإنسانية المعقدة. فإذا كان التراث العربي يغصُّ بكتب جريئة من هذا النوع فلماذا الخوف من (الوصايا في عشق النساء) لأحمد الشهاوي، و (شجري أعلى) للشاعر موسى حوامدة، ووليمة حيدر حيدر، طالما أن القراء العرب يستطيعون قراءة (نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب) للقاضي شهاب الدين التيفاشي، و (العقد الفريد) لابن عبد ربة الأندلسي، و (يتيمة الدهر) للثعالبي النيسابوري، وعشرات الدواوين لبشّار بن برد، وأبي نؤاس، وابن الرومي، وغيرهم من الكتاب والشعراء الذين خرقوا التابو، وتجاوزوا عصورهم بمئات من السنين.
التابو السياسي
كنا قد أشرنا إلى أن المؤسسة الدينية سعت بكل ما تملك من إمكانيات، لأن تحتكر السلطة لمصلحة عدد محدود من الفقهاء ورجال الدين الذين يفرضون وصايتهم غير المشروعة على الملأ الأعظم، وقد تحولوا فعلاً إلى مفارز تفتيش يبحثون في عقول الناس وقلوبهم ونياتهم. وغالباً ما يتواطأ رجال المؤسسات الدينية في السر والعلن مع رموز السلطة في العالم الإسلامي من أجل تشديد قبضتهم على مختلف الشرائح الاجتماعية، بل أن رجال السلطة يبذلون كل ما بوسعهم من أجل تأجيج هذا الصراع العقيم، واختلاق أزمات يومية متصلة لا نكاد نشهد خلالها حتى ولو هدنة مؤقتة. لا نريد أن نقفز على الحقائق، ونقول أن هناك ديمقراطيةً حقيقيةً في العالم العربي أو الإسلامي، فهامش الديمقراطية لا يزال ضيقاً، وصناعة القرار السياسي لا تزال محصورةً في أغلب بلداننا العربية بيد أعداد محدودة من الرموز السياسية، والمريب في الأمر أن عدداً غير قليل منهم ملتاثون عقلياً، ومصابون بالشيزوفرينيا، وحاملون للكثير من مُركّبات النقص وهذا ما دفع بعض منهم للمغامرة والمقامرة بالبلاد والعباد فضاعت حياتهم وعروشهم معاً، بعض آخر قامر بعشرات المليارات من أموال الشعب من الحفاظ على هذا الكرسي اللعين غير آبه لكرامة البلاد المُهانة في رابعة النهار، البعض الثالث لا يُحسن صياغة جملة عربية واحدة ولا يكف عن أحاديثه وتصريحاته المتلعثمة البائسة أمام شاشات التلفزة، وكان في الإمكان طبعاً تجاوز كل هذه الكوارث، والمحن، والمواقف المخجلة الشائنة لو أن الرؤساء والقادة العرب والمسلمين قد تخلوا عن نزعة الاحتكار، وأشركوا الناس جميعاً في صناعة القرار السياسي. من هنا فقد نشأت عقلية الإقصاء، وترعرعت بنية الإلغاء، والتهميش، والمُصادرة، بل وأكثر من ذلك فقد رسّخ هؤلاء المُحتكِرون مبدأ الإدانة والتجريم الفوريين بحجج واهية أبرزها أن المطالبين بالديمقراطية، والحرية، والتعدد السياسي، وتحطيم هذه التسميات الفوقية إنما هم يسعون لزعزعة الأمن الوطني، وارتكاب الخيانة العظمى، والاصطفاف مع الأجنبي الذي يروم غزو البلاد، ونهب ثرواتها وما إلى ذلك من اتهامات عشوائية جاهزة، في حين يعرف الجميع من هو المرتبط بالأجنبي، ومن الذي يخون البلاد، ومن الذي ينهب ثروات الشعوب في وُضح النهار من دون أن يهتز له جفن، أو ترتعد له فريصة؟ لقد ظل جدار التابو السياسي صامداً لسنوات طوال في أغلب البلدان العربية، ولكي لا نتجنى على الحقائق يجب أن نقول إن بعض البلدان العربية والإسلامية استطاعت أن تفتح كوّة في هذا الجدار الصلد، وأن تُشرك شرائح محددة من مجتمعاتها في صناعة القرار السياسي، ولكن تظل هذه المشاركة دون مستوى الطموح. والغريب في الأمر أن فضاءات الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمشاركة الواسعة في صناعة القرار، وتقرير مصائر الأمم يتسع يوماً بعد آخر، بينما تنشأ في بلداننا أجناس أدبية تحمل عناوين غريبة مثل (أدب السجون والمعتقلات) فالعالم العربي والإسلامي يسجن، ويعذِّب، ويقمع، بينما يقوم الغرب باستقطاب المقصيين سياسياً، والمطاردين فكرياً، وأكثر من ذلك فإنه يروِّح عن السجناء، ويأوي المعتقلين العرب والمسلمين، ويحدب عليهم مثل أم رؤوم. وبدلاً من أن يقف كل الكتاب والمفكرين العرب، وحملة مشاعل التنوير الفكري والسياسي إلى جانب شعوبهم المضطهدة والمُهانة، ويعرّوا هذه الأنظمة السياسية المتجبرة (على شعوبها فقط)، وينشروا غسيل فضائحهم اليومية التي تقشعر لها الأبدان نرى بعض من المرائين، والدجالين، ووعّاظ السلاطين يتحولون إلى أبواق قذرة تمجّد عبقرية هذا الرئيس، وتلوذ بشجاعة ذاك القائد الصنديد الذي لم يكن كريماً مع نفسه، حتى في إطلاق رصاصة الرحمة التي تنقذه في الأقل من محنة السقوط في فخ الأسر المَهين. يا تُرى كيف سنتجاوز التابوات الثلاثة ونحن مُحاطون بهذه السلطات المُحتكِرة التي يجمّل وجوهها القبيحة رهط من المنافقين، والأفاقين، والمزورين الكذبة؟
* نص المحاضرة التي أُلقيت في مهرجان الحلقة التونسي الذي أُقيم في متحف العالم بمدينة روتردام الهولندية بتاريخ 13-05-2004.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مهرجان السينما العربية في باريس يحتفي بالسينما العراقية، ويك ...
- مهرجان الحلقة التونسي في روتردام
- حوار مع الفنانة عفيفة العيبي : العمل الفني أشبه ببناء عمارة ...
- الفنان صادق الفراجي في معرضه الشخصي الجديد يدوّن ذكريات المد ...
- عفيفة العيبي في معرضها الشخصي الجديد: فنانة ترسم بتقنيات نحت ...
- صالة Ezerman في مدينة دوكم الهولندية . . تحتفي بأعمال الفنان ...
- المخرج السينمائي طارق هاشم: - 16 ساعة في بغداد - مليئة بالذه ...
- التعالق الفني بين التناص والتنصيص قراءة نقدية في تجربة الفنا ...
- حوار مع الفنانة التشكيلية رملة الجاسم
- جائزة إيراسموس لعام 2004 يتقاسمها ثلاثة مفكرين: صادق جلال ال ...
- رموز وإشارات وعوالم خاصة في معرض مشترك لتشكيلي عراقي ونحّات ...
- رقصة الحلم و رجل وإمرأة معرض مشترك لستار كاووش وبرهان صالح ف ...
- حوار مع الفنانة إيمان علي خالد
- حوار مع الشاعر إبراهيم البهرزي
- حوار مع الشاعر العراقي كريم ناصر
- فوق الثلج الأحمر لكابول
- التشكيلي الأفغاني شكور خسروي
- الفنان حكمت الداغستاني. . من تخوم الانطباعية إلى مشارف التجر ...
- حوار مع الفنانة الكردية فرميسك مصطفى
- حوار مع القاصة والشاعرة الفلسطينية عائدة نصر الله


المزيد.....




- البنك الاسلامي للتنمية وافق على اقتراح ايران حول التمويلات ب ...
- استباحة كاملة دون مكاسب جوهرية.. هكذا مرّ عيد الفصح على المس ...
- قائد الثورة الاسلامية سيستقبل حشدا من المعلمين 
- تونس تحصل على 1.2 مليار دولار قرضاً من المؤسسة الدولية الإسل ...
- مين مستعد للضحك واللعب.. تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 20 ...
- «استقبلها وفرح ولادك»…تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ك ...
- لوموند تتابع رحلة متطرفين يهود يحلمون بإعادة استيطان غزة
- إبادة جماعية على الطريقة اليهودية
- المبادرة المصرية تحمِّل الجهات الأمنية مسؤولية الاعتداءات ال ...
- الجزائر.. اليوم المريمي الإسلامي المسيحي


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عدنان حسين أحمد - التابو في المشهد الثقافي العربي والإسلامي إشكالية التحريم والقمع والمصادرة