|
متى يعتذر الغرب للشعب المصري
مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 2764 - 2009 / 9 / 9 - 12:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عن سؤال وكالة آنسا الإيطالية ، حول عبارة إحراق الكتب – والتي ُأريد لها أن تكون بمثابة كعب آخيل يتلقي فيه المرشح المصري لليونسكو السهم القاتل – قال فاروق حسني " ببساطة جاءت هذه العبارة في سياق الرد على أحد الأصوليين من أعضاء البرلمان ، حيث كان يدعي وجود كتب إسرائيلية تسئ للإسلام في المكتبات العامة ( وهذا غير صحيح ) فكانت الإجابة عليه باستخدام صيغة ِ مبالغة ، وكانت الصيغة للأسف مبتذلة " أ.هـ بهذا النقد الذاتي رفيع المستوى ، استطاع فاروق حسني أن يبرهن على شجاعة وتحضر المصريين ، وقدرتهم على تجاوز الأخطاء ( الكلامية في غالبها الأعم ) جنبا ً إلى جنب حرصهم على مسايرة الاتجاهات المستقبلية في الفكر والعلم والفنون والآداب ؛ إيمانا ً منهم بأن غياب النقد الذاتي إنما يعني في التحليل الأخير تضخم الذات ، وانكفاءها على نفسها بما يؤدي للجمود والتحجر فالذبول والانقراض . هكذا استطاع الفنان الوزير المصري أن يقلب السحر على الساحر ، حاصدا ً من المعسكر المضاد زادا ً مضافا ً لمئونته الانتخابية ، فبجانب التأييد الجماعي له من الدول العربية ودول المؤتمر الإسلامي ، والإتحاد الإفريقي ، اضطرت أمريكا وإسرائيل أن تعلنا عدم ممانعتهما في تبوئه المنصب ، وبذلك بات انتصاره في المعركة الانتخابية مسألة ساعات أو أيام . فأين هذا الوعي المصري البازغ بضرورة ممارسة النقد الذاتي كوسيلة لتجاوز الأخطاء ، تقدما ً إلى مستقبل إنساني أرقى وأفضل ، من ذلك الاستعلاء والاستكبار في ثقافة الغرب ؟ ثمة لا يزال مثقفون يعتمدون نظرية " المركزية الأوربية " European Centrismوخلاصتها أن التحديث والتقدم لا سبيل إليهما إلا بإتباع الطريق الذي سارت فيه أوربا والغرب ( أمريكا حاليا ) وينسى هؤلاء أن الثراء الفاحش الذي حققه الغرب من خلال النظام الرأسمالي ، ما كان له أن يتحقق بدون حركة الاستعمار التي نزحت المواد الخام رخيصة ً من المستعمرات ، محولة تلك المستعمرات إلى مجرد أسواق لفائضها الإنتاجي ، فكان أن ُأنزلت الويلات ُ والكوارث ُ ، خارجيا ً وداخليا ً بدول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية عموما ً ، والعالم العربي والإسلامي على وجه التحديد . يسأل جاك ليمون ( فيلم المفقود ) السفيرَ الأمريكي في شيلي عام 1973 : لماذا ، ونحن أثرياء ندبر انقلابا ً عسكريا ً في هذا البلد الفقير، نغتال به الوطنيين وفي مقدمتهم رئيس الدولة المنتخب سلفادور إلليندي ؟! فيرد السفير بوقاحة صادقة مذهلة : أنت تعيش بمستوى راق في أمريكا ، وهذا لا يتحقق إلا بتدخلنا هنا لضمان شراء المواد الخام ( النحاس ) بالسعر المناسب لصناعاتنا . الأمر ذاته حدث قبلا ً في إيران بسبب تأميم البترول عام 1952 حيث رتبت المخابرات الأمريكية انقلاب الجنرال زاهدي ضد الزعيم الوطني محمد مصدق الذي تم إعدامه . وهو بعينه ما حدث بعد ُ عام 2003 غزواًً للعراق لضمان السيطرة على النفط . بالنسبة لمصر فلقد تلقت من الغرب الحديث ضربات مروعة ، لا لشئ سوى محاولتها اللحاق بركب التقدم ، اهتداء " بمنارة " المركز الأوربي ! أجهضت انجلترا وفرنسا وروسيا مشروع الوالي محمد علي بتدمير أسطوله البحري وهزم جيوشه ، وإجباره – بمعاهدة لندن 1840 - على تفكيك مصانعه وإيقاف إصلاحاته في مجالات التعليم والتصنيع وبناء الدولة المدنية الحديثة . وحين قامت الثورة العرابية بغرض استعادة مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي أسرع البريطانيون " الديمقراطيون " باحتلال مصر بحجة لا يسوقها إلا مجرم عريق فاجر " عرابي يرمم طوابي الإسكندرية ، وهذا يعد تهديدا ً للأسطول البريطاني في عرض البحار !! " كنت في السابعة يوم اشتعلت حرب فلسطين ، حكا لي جدي : في مثل عمرك من ستة وستين عاما رأيت منزلنا في حارة السيالة بحي الأنفوشي هذا ، كومة ً من الأحجار والحريق . ُقتل أبي وأمي وأخوتي الخمسة في لحظة أمام عينيّ . فيما بعد قيل لي إنني مكثت أعوى كذئب مطعون يومين كاملين . وفيما بعد أيضا ً علمت أنني ُحملت كالمتاع ضمن أطفال جيران لنا طيبين .. إلى أين ؟ لا أدري فالمدينة خلت تماما من سكانها بعد أن دمرت منازلها ومساجدها وكنائسها ودكاكينها بقنابل الأسطول ، حتى أنه لم يبق بها سوى الكلاب الضالة ، والغربان الجائعة تنهش جثث القتلى وتجهز على الجرحى ، بينما الحرائق لا تتوقف أو يعكر على انتشارها رجل إطفاء أو سقـّاء . هكذا تكلم جدي قبل أن يموت كفيف البصر . لأكثر من سبعين عاما ً والمصريون يرزحون تحت نير الاحتلال . يتجرعون السم في أشربتهم وهم يرون المحتل يتبختر بثقيل أحذيته في دروبهم ، يشاقون بمطعمهم بينا يعملون في بلدهم لصالحه دون صالحهم ، وكم قاوموا وكم ثاروا وكم فقدوا من شهداء وضحايا ! وحين نجحوا أخيرا ً بعد مفاوضات أليمة في إجلاء جيوشه عام 1954 لم تمكث انجلترا " الحانث " England the liar غير عامين إلا وعادت بصحبة الجيوش الفرنسية والإسرائيلية بالذريعة التقليدية " مصر أممت قناة السويس فحق ضربها واحتلال أراضيها وإسقاط نظامها " ولكن إزاء فشل العدوان الثلاثي في انجاز هدفه السياسي ، راحت أمريكا تخطط لإسرائيل كي تحطم الجيش المصري ، حتى تخضع مصر جميعا ً لإرادتها ، وهو ما لم يحدث سياسيا ً رغم هزيمة يونيو العسكرية القاسية . فلسوف يذكر التاريخ للمصريين أنهم تمكنوا من إعادة بناء قواتهم المسلحة في بضع سنين ، وأن يقتحموا بها أكبر مانع مائي في التاريخ ( خط بارليف ) وأن ينزلوا الهزيمة بالجيش الإسرائيلي ( الذي لا ُيقهر ! ) ليستعيدوا في النهاية كامل ترابهم الوطني . ومع ذلك لابد من الاعتراف بأن مصر ظلت تعاني وحتى الآن من آثار تلك الضربات " التاريخية " اقتصاديا ً وسياسيا ً واجتماعيا ً، وهو ما يفسر ظاهرة التراجع المجتمعي الحالي عن توفير شروط الدولة العصرية بما تعنيه من المساواة الكاملة بين المواطنين ، دون النظر إلي أديانهم أو عقائدهم أو جنسهم ( ذكر / أنثى) أو لونهم ، وبما تعنيه ثانيا ً من إزالة كل عقبة أمام التنمية البشرية بما فيها بيروقراطية الدولة ، وبما تعنيه ثالثا ً من إسقاط كل قيد على حريات الأفراد سواء في التفكير أو التعبير أو الاعتقاد أو التنظيم..الخ . ولأن هذه الشروط هي التي تؤسس للديمقراطية ، فإن غيابها لا ريب يضع الديمقراطية في زنزانة القرون الوسطي حيث تعذب بالجلد والرجم والصلب . السؤال الأهم في هذا السياق هو : هل الغرب مسئول عن تغييب تلك الشروط عن مجتمعاتنا ؟ نعم هو مسئول بقدر ما أدت ممارساته الوحشية إزاءنا إلي ترسيخ التخلف لدينا . فليس سرا ً أن المجتمعات التي ُتحجب عن سباق التقدم والتنافس النشط مع غيرها من سائر الأمم ، لا مندوحة أمامها من أن تبحث عن أمانها النفسي في ماض ٍ توحي مخايلاته Imaginaries بالثقة ، وعليه يكون شأنها شأن من يضع العصا في دولاب التروس ليمنعها من الدوران ، بحسبان الدوران – فيما يظن – إنما يقود الناس إلي البدع والضلال فالكفر الصريح ! دع أحدا ً يفكر على هذا النحو ثم سل من أين يأتي الإرهاب . طبعا ً الغرب بأنانيته وتوحش رأسمالييه ، وجرائم أجهزة مخابراته، وعدوانية جيوشه مسئول عن ظاهرة الإرهاب التي يزعم رياء ً أنه يحاربها ، بينما هو يعرف كيف ُتصب مياهها في طاحونة مكاسبه . فهل يدرك مثقفوه الشرفاء تلك الحقيقة ؟ ذلك بعض فاتورة الحساب الذي ينبغي أن ُيصَـفـّي بين المثقفين المصريين و نظائرهم من مثقفي الغرب . فإذا كان بعض المصريين قد أخطأوا في حق الآخر المختلف بإطلاقهم لشعارات أو عبارات تحمل شبهة العنصريةRacism من باب رد الفعل على ما نالهم من أذى لقرون عديدة ؛ فإن النخب المصرية المثقفة (والتي هي بطبيعة الحال متأثرة مثل مواطنيها بذلك الأذى ) سرعان ما تفئ إلى الصواب " المستقبليّ " معلنة ً أنها لا يمكن أن تتبنى العنصرية أو توافق عليها بحال من الأحوال. ومن هنا فإن النقد الذاتي الذي مارسه – شجاعا ً - فاروق حسني قد نقل الكرة إلى ملعب مثقفي الغرب ، حيث صار عليهم أن يمارسوا النقد الذاتي بدورهم على أنفسهم ،وأن يضغطوا بقواهم الفكرية على دولهم ( بالتحديد بريطانيا وفرنسا وأمريكا ، ولا نقول إسرائيل ) لتعتذر للشعب المصري اعتذارا ً واضحا ً لا لبس فيه ولا غموض عما أنزلته به من كوارث ، وما سببته له من آلام .
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرأة العربية في المخيال الجمعي
-
مقاربة مصرية لرباعية الإسكندرية
-
رواية أن ترى الآن لمنتصر القفاش
-
النقد الذاتي قطار المصريين إلي الديمقراطية
-
عوليس الحمساوي وارهاب العودة للبيت
-
الولاء لمصر ولو كره الفرس المعاصرون
-
كل ضد إلى ضده
-
مياه الأمن القومي بعد إنفلوانزا الخنازير
-
هل يستقيل الكاتب من ديوان العولمة ؟
-
الإسكندرية والتهاب العصب الخامس
-
من عصاها تهرب الحواسب الكونية
-
قصيدة : نسخة وذراها الخروج عن النص ِ
-
لماذا لا يطلب الأخوان السلطة في مصر
-
كتاب البلطة والسنبلة - إطلالة على تحولات المصريين
-
غرام الأسياد بين الكفيل والأجير
-
النصر الحمساوي بلغة الخبراء العسكريين
-
حرب غزة : ثقافة الإبادة الجماعية ضد ثقافة الإنتحار الجماعي
-
إلى أين يذهب أهل غزة ؟
-
رومولوس العربي يبيع غزة
-
قصيدة : القادمون للهلاك
المزيد.....
-
الكويت.. شجون الهاجري تحظى بالتضامن من زملائها على مواقع الت
...
-
كيف علقت الصين على الضربة الأمريكية ضد المنشآت النووية الإير
...
-
حصريًا لـCNN.. كيف سيكون رد طهران على هجوم أمريكا؟ متحدث باس
...
-
مصر.. الحكومة تكشف عن خطة لعدم انقطاع الكهرباء خلال الصيف وخ
...
-
بعد ساعات من استهداف المنشآت النووية الإيرانية.. واشنطن تقلّ
...
-
الدفاع المدني السوري: 15 قتيلاً على الأقل وعشرات الإصابات جر
...
-
فظائع في الظل.. كيف تمددت فاغنر في إفريقيا على أنقاض القانون
...
-
سوريا: 15 قتيلا على الأقل في هجوم انتحاري داخل كنيسة في دمشق
...
-
مدير مكتب الجزيرة في طهران: 3 جهات بإيران تحدد الخطوة القادم
...
-
مساعد الذكاء الاصطناعي بواتساب يسرب رقم هاتف أحد المستخدمين
...
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|