أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم البوسعيدي - قصة قصيرة: يوم بكى أبي














المزيد.....

قصة قصيرة: يوم بكى أبي


هيثم البوسعيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2758 - 2009 / 9 / 3 - 10:21
المحور: الادب والفن
    


نيران الإنتظار تشتعل في قلبي وقلب أبي، نترقب مرور الدقائق أمام غرفة العمليات في الطابق الثالث، لا يهمنا وهن الأرجل ووجل النفوس، نتلهف لصوت عطوف يروي ظمأ النبضات وخبر عاجل يطفئ فزع النظرات.

لحظات صعبة تمرّ برتابة قاتلة، ثواني حرجة تتسارع بكثرة الداخلين والخارجين لجناح العمليات، أفكارنا مشدودة نحو رأس أمي الممدد بعيدا بين مشارط الجراحين، لم يقطع هذه الأفكار عدا اتصالات أختي " غالية"، البعيدة عنا بجسدها الالآف الأميال ...الحاضرة معنا بقلبها في هذه اللحظات.

تتلبد السماء بالغيوم، غمغمات الرعد تداعب زفراتي، أسرق نظرة خاطفة عبر النافذة وأنا أسأل نفسي: ماذا يجري هناك برأس أمي الطاهر؟، تتنامى في داخلي الظنون، تحثني على اقتحام المكان لأخوض معها هذه الرحلة، لكن هيبة المكان تقيدني، كم أبهرتني شجاعة " أمي " وصرامة موقفها؟ ..لازلت أتذكر ابتسامتها الدائمة التي أحيت نبضاتي ونحن في طريقنا لغرفة العمليات.

يتسلل الهدوء إلى المكان، قلوبنا ترتعد، تصارع الهواجس في ظلمات الغربة، تصطدم بوحشة الوحدة بين جنبات المستشفى الامريكي وسط " بانكوك"، تنبعث من ممراته الواسعة أدخنة الوجع ونيران اللهفة لترسم بخاطري جملة أفكار مشتتة:

لماذا كل هذه المخاطرة؟ لماذا قطعنا كل هذه المسافات؟ لماذا نحن هاهنا؟ أهو الأمان المفقود في مستشفياتنا؟ وما الذي قذف بنا نحو الطرق الموحشة؟ هل هي الثقة التي نزعت من نفوسنا بعدما أجهدنا التعب ونحن نبحث عن علاج؟ أم إن اقوال من انحلت عللهم هي من قادتنا إلى صقيع الغربة؟

يتوقف شرودي الطويل، أهرب قليلا من صراع الأفكار وحرب الهواجس، أتلمس وجهي الممتلئ بالشعر، وأحك عيني التي تشتاق للنوم وهي تئن تحت وطأة الحيرة، أشيح ببصري بعيدا، قطرات المطر تتساقط بغزارة على الزجاج المقابل للممر، كأنها تشاركني عمق الجراحات ..كأنها تطفئ لهيب الآلام، ليتفائل قلب أبي ويلهج لسانه بالدعاء وسط المكان الذي يعج بتماثيل بوذا.

تتلاطم صور متنافرة في ذاكرتي، يختل توازني، أتوق لحـضن أمي، أتمنى قرض الباب بأسناني حتى أدنو من رأسها فأمسح العرق الساقط من جبينها، يخفت ويعلو أنين أطفالها الأربعة..هناك بعيدا في مسقط، ينتظرونها بفارغ الصبر، ها هي روائح الصمت تنتشر بين جدران الغرف، تشدني خطوات أبي التي كانت تجوب الممر، لماذا توقفت فجأة؟ أين تمتماته؟ أين توسلاته بالله ...لقد هيجت أحشاء قلبي الراكدة.

أتأمل والدي... كهل في نهاية الخمسينات من عمره، أغوص في أعماقه السحيقة، يتضخم شيئا في وجهه، أتحسس الألم بداخله، تختلط أحاسيس قلبه وتتزاحم الذكريات في عقله، شريكة حياته في خطر وكأنه يعيش اللحظات معها ثانية بثانية، تبوح شفتاه ببعض كلمات غير مفهومة، تسيل الدموع من عينيه، يصعقني المشهد، وتضاجعني الجروح، يدك المطر الزجاج بقوة ..أرتعش من وحشة البرد وقسوة المنظر، تدفعني دموعه للهروب سريعا من كآبة المكان حتى لا ينكشف لي ضعفه القاتل.

تتزايد نبضات قلبي، يلتهم بكاء أبي شجاعتي، تتلعثم الحروف، ويتصاعد فوران الدم في دماغي..أخطو خطواتي بدون انتباه، أبحث عن مكان يأوي هروبي، أريد اخفاء وجعي، لعلي أعصر قهري ..لعلي أغسل همي، مشيتي تتخللها ذكريات جميلة، لأجد نفسي بعد دقائق عدة أركن إلى كرسي قصي في أحد الزوايا البعيدة في حديقة المستشفى.

أغمض عيناي، وأنكفأ على نفسي، لتمر صور أمي على ذاكرتي البعيدة، تنساب دموعي، أتساءل: كيف سأعيش في بيتا لن تكوني فيه؟ كيف سأتنفس هواء الحياة بدونك؟ من للصغار بعدك؟

أرفع رأسي بعدما سافرت في ظلمة أوجاعي، أتأمل المكان الغريب، أنظر إلى النوافذ البعيدة والطوابق العليا، تهاجمني الأفكار من جديد، هل اقتلع الجراحين الأفعى الساكنة في دماغ أمي؟ وما هذا الماء الذي تغرق به دشداشتي؟

يداي ترتعشان، أزيح جبال الهموم من كاهلي، أهرول ...أركض، أنادي: أمي...أبي، أتخبط في مشتي، كأني أتوسل العطف، وجوه الناس تتصفح يأسي، اجتاز الأماكن والصور والملامح لأصطدم أخيرا بوجه ابي ورطوبة دموعه التي لم تجف، يفضحني الخجل من دموعه ليبادرني بسؤال حزين: أين أنت؟ لماذا تركتني وحيدا؟



تراودنا أحاسيس مختلطة، يطول الصمت، في اثناء ذلك يخفق قلبي لرؤية الجراح وهو يخرج من الباب، ترتسم ابتسامة على وجهه لتبشرنا بنجاح العملية، أتأمل صورة الورم الملونة، هالة من الأمان تلفني وتلف أبي..تنتعش الأحاسيس، وتنتشر بذور الحياة في كامل عروقي، أرفع يداي إلى السماء مبتهلا: شكرا يا الله، تنفرج أسارير وجه أبي بعدما خطف الخوف تفكيره...تزول المحنة ويبقى هذا اليوم يوما مشهودا لأنه يوما بكى فيه أبي.



#هيثم_البوسعيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصحافة المحلية واهمال الاقلام المميزة
- رحلة الوجود
- شكرا للآلام
- مأساة العقل العربي
- القراءة ....أقوى الأسلحة
- دقائق التأمل
- اضطهاد المبدع
- قصة قصيرة : حلم صعب
- حياتنا ونموذج المرسيدس
- ثقافة الألم وولادة الإبداع
- الوحدة الوطنية في مهب الريح
- السفيه والمسؤوليه
- قلم المثقف وعصا السلطة
- القدس في وجدان الإنسان العربي
- شهوة الكتابة
- المجلس
- صناعة الحب
- قصة : جراح بغداد
- إدارة الانسان : مفهوم غائب في عالمنا العربي
- القراءة والكتابة ....علاقة ترابط وتفاعل دائم


المزيد.....




- البعثة الأممية في ليبيا تعرب عن قلقها العميق إزاء اختفاء عضو ...
- مسلسل روسي أرجنتيني مشترك يعرض في مهرجان المسلسلات السينمائي ...
- عيد مع أحبابك في السينيما.. قائمة أفلام عيد الأضحى المبارك أ ...
- في معرض الدوحة للكتاب.. دور سودانية لم تمنعها الحرب من الحضو ...
- الرباط تحتضن الدورة ال 23 لجائزة الحسن الثاني لفنون الفروسية ...
- الإعلان الأول حصري.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 161 على قناة ا ...
- -أماكن روحية-في معرض فوتوغرافي للمغربي أحمد بن إسماعيل
- تمتع بأقوي الأفلام الجديدة… تردد قناة روتانا سنيما الجديد 20 ...
- عارضات عالميات بأزياء البحر.. انطلاق أسبوع الموضة لأول مرة ف ...
- نزل تردد قناة روتانا سينما 2024 واستمتع بأجدد وأقوى الأفلام ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم البوسعيدي - قصة قصيرة: يوم بكى أبي