أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - أنسي الحاج - تداعيات حول عاصي الرّحباني















المزيد.....

تداعيات حول عاصي الرّحباني


أنسي الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 2692 - 2009 / 6 / 29 - 10:11
المحور: سيرة ذاتية
    


٢٠ حزيران ٢٠٠٩
غداً تحلّ الذكرى السنوية لغياب عاصي الرحباني. سنحاول في هذه الكلمات إضافة بعض التداعيات.
كان عاصي الرحباني سيّالاً في التأليف، كما كان متمهّلاً في التعبير الشفهي. وحين يجلس إلى مكتبه ليكتب أو إلى آلته ليلحّن كان الوقت عنده يتوقّف. ولم يكن يحتاج إلى أكثر من شرارة لتتدفّق قريحته: لفظة، ذكرى، طيفُ فكرة، الباقي نهرٌ لا ينتظر غير إشارة ليطيح سدّاً كأنه مستعار.
منذ استهلّ مسيرته في ريعان الصبا، بدا كأنه يختزن خبرة ومعرفة كبيرتين، هو الشرطي البلدي في انطلياس، الشرطي الأكثر رقّة من وتر الكمان، والقوي الجبّار الذي يُشعِركَ بأنه قادر على المستحيل. إنه لسرٌّ هذا الإعجاز. سرّ أيضاً تلك الإحاطة الموسوعيّة بالكاراكتيرات، والجمع بين الإسهاب في الجدل الشفهي والشرح التفصيلي، والإيجاز والتكثيف في الكتابة. سرّ أيضاً وأيضاً تمكّنه من الاستحواذ على متابعة المستمع عندما تغنّي فيروز حكاية، مهما تكن طويلة وأيّاً يكن موضوعها.
قلائل يستوقفهم الوجه البشري كما كان يستوقف عاصي الرحباني. وسرعان ما كانت فراسته تطلع بنتيجةٍ تراوح بين الحكم والتكهُّن. كان مأخوذاً بمعرفة المخبّأ في الصدور، ولم يصرفه استغراقه في أفكاره الشاردة وراء لحن أو نغم أو فكرة عن استيعاب ما يدور حواليه.
وكانت له ثلاث بهجات: بهجة الفطرة وبهجة الفضول وبهجة الشاعريّة. ولعلّها واحدة. ولم تتعارض طفولته مع بطريركيّته ولا شفافيته مع سلطانه. وبقَدْر تواضعه كان تقديره لنفسه ولدور الفنّان، فلم يساوم على كِبَر هذا الدور، وحافظ عليه متقدّماً على العروش والأمجاد.

وما الحاجةُ إلى سلطات والفنّ أعظمُ سلطة؟ لا الفن كنتيجة جهد فحسب بل كسياقِ عَمَل. وهكذا كان إدمانُ الشغل عند عاصي الرحباني أشبه ما يكون بإدمان السلطة ـــــ إدمان مُنْهك لسلطة هي الوحيدة التي تعطي «الشعب» ذهباً محلّ التراب ونعمةً محلّ الخداع والترهيب. سلطة مثلّثة الأقانيم. ولم يقلّ إدمان صاحبة الصوت لحرفة الإسعاد هذه شغفاً وتشدّداً عن شغفِ عاصي ومنصور وتشدّدهما. الترهُّب وتسليط كل الذات على العمل. وسرعان ما جاءت النتيجة سلطة آسرة للقلوب بلغت حجم مملكة. لم يكن لأحدٍ من الثلاثة هواية غير العمل ولا عمل غير هذه الهواية.

أشبع عاصي الرحباني جوعه إلى الواقع بابتكار الأحلام والأوهام حتّى جعل منها تراثاً وتربية. ونبش من الماضي الريفي ما يلائم مسيرته التحديثيّة، منقذاً الفولكلور من الفوضى والانحلال وربّما من الانقراض. لقد حوَّل الأحلام والأوهام والحكايات إلى واقعٍ، بل إلى حقيقة أشدّ حضوراً وحيويّة من الواقع وأكثر حقّاً من الحقيقة، حتى باتت المرارةُ الكبرى لدى فريقٍ من النخبة (وربّما من العامّة أيضاً) متأتّية من انهيار ذلك الحلم وكأنه انهيار الواقع. وفي ردّ فعلٍ ينطوي على تقدير هائلٍ وإنْ غير مباشر لقمّة هذا البنيان، انبرى النقد يعاتب الإرث الرحباني الفيروزي كيف أنه «عيّشنا في وهم»، وذلك بدلاً من نقد الذات وتعرية لعبة الأمم التي ضحّت بلبنان.
ومن جملة النقد للفن الرحباني تركيزه على الجذور. لم يكن هذا التركيز بدافعٍ عنصري ولا حتّى سياسي بالمعنى المتداول، بل كان حمايةً للهُويّة من الابتلاع، وبالهويّة يجب أن نفهم الجوهر الكياني لا الحدود الجغرافيّة. إنه الطفل الذي يذود عن طفولته. الريفي الذي يحرص على تقاليده الكريمة من الانجراف في تلوّث المدينة.
لا يمكن الخَلْق بلا معالم. ولا معالم بلا هويّة. كان الرحبانيان يردّدان أنهما يكتبان للإنسان وعن الإنسان في المطلق، وهذا صحيح ولكنْ بغير المعنى التجريدي: إنسانهما ابن بيئتهما انطلاقاً وابن الإنسانية بعد ذلك. إن امتداد جذورهما في هذه البيئة وبَشَرها مكّنهما من أن يبسطا جناحيهما خارج الحدود.

بين عاصي ومنصور قاسمُ حدسٍ مشترك: الأول بغريزتَي الفرح والقوّة، والآخر بغريزة الليل. ويأتي صوت فيروز على الدوام جسراً للقمر والشمس معاً وقرباناً مضيفاً إشراقاته وظلاله وخالعاً على الكلام رداء السحر.

تسلّل عاصي الرحباني، تلك القوة الهادئة والساطعة من قوى الطبيعة، إلى نفوس أشخاصه المسرحيين تارةً بفهمهم كأنّه هم وطوراً بفرض رؤيته لهم فرضاً عليهم شاؤوا أم أبوا، من الشحّاذ إلى الملك، ومن بنت الشعب إلى الأمير فخر الدين. تلك كانت شخصيته: متبحّرٌ في التشخيص حدَّ عالِم المختبر، وحاسم في الاستنتاج حَسْم الغزاة. إنه الواقعي والرؤيوي، وقلّما خانه انطباعه. ملحّنُ الإرادة وملحّن الإلهام، شاعرُ الذاكرة وشاعر ما سيصبح في الذاكرة. لقد حوّل كيميائي التناغم هذا، البداهة إلى أركان والهواجس والرواسب إلى حلاوة وطلاوة. ومن شدّة التركيز والبلورة بات يحسب، وأكثر فأكثر كلّما دنا من النهاية، أنه «ابن الوعي»، كما كان يحلو له القول بشيءٍ من التوتر، وإنّ نظريّات اللاوعي في الكتابة والفنّ هراء، فلا شيءَ يُذْكَر خارج الوعي، غير منتبهٍ أنّ نتاجه هو بالضبط ثمارُ لاوعيه وقد جلاها وعيه.
وكان ـــــ والشيء بالشيء يُذْكَر ـــــ يشارع، مثلاً، في فرويد وضدّ نظريّة إرجاع قسم كبير من المشكلات النفسيّة والعصبيّة إلى الكبت الجنسي. وبعد قليل، وفي غمرة العفويّة، تستشفّ من آرائه ما لا يتعارض كثيراً وتلك النظريّة.
ولعلّ أساس التعارض هنا - ولسنا في مقارنة - هو الفرق عموماً بين العالم والفنّان، فالأول، ولا سيما فرويد، يريد تنوير الإنسان على فَهْمٍ أعمق لنفسه، والفنّان يحاول أن يخلق عالماً رديفاً يُعيّش فيه الإنسان بسلام مع نفسه. واحدٌ يتوخّى المعرفة للمعرفة وآخرُ يسعى إلى مراحم.

نعود إلى صدام الحلم والواقع.
نعود إلى الذين انجرحوا لأن الواقع بَصَّرَهم بغير ما ناموا على إيقاعه.
ومن الاستخفاف تجاوز هذه الحرقة كأنّها عارضٌ سطحي، فهي مسألة كبرى مطروحة على العقل وأكثر ما يتحدّانا في الخَلْق الشعري والفنّي جديّةً وخطورة:
هل كان الفنّ الرحباني الفيروزي خادعاً أم مخدوعاً؟ وهل كان عاصي الرحباني ساذجاً أم شيطاناً؟
الجواب هو أن عاصي الرحباني قوّة من الطبيعة بلغت من إيمانها بنفسها حدّ اجتراح المعجزات كما بلغت من سذاجتها حدّ تصديق أحلامها. ولا خادعَ ولا مخدوع بل مُسْعِدٌ وسعيد. ولا شيطانَ غير الوحي، وتلك الملاحات التي لم يعرف سرّها غير صاحبها.
وحين يعتب الناس على فنّانيهم فإنما يعتبون على آلهتهم.
والعاتبون قد يجدون عزاءهم في أن للعمارات الرحبانيّة الفيروزيّة تتمّات لم تتم. إمّا أنها لم تحصل وإمّا أن ظروف الحرب ذهبتْ بها. وقبل ذلك ظروف مرض عاصي، وكأنها كانت رمزاً آخر من رموز معاناة لبنان. لقد انْلَجَمَ الحلم وانجرح جناحه قبل أن يصفعه الواقع. والواقع دائماً صفّاع، وهذه طبيعةُ الصراعِ بين أرض الإنسان وفضائه. والحلم لا يهزمه تسفيهُ اليقظة بل إن هذا التسفيه يضاعف الشغف به ويؤكد صدقه، فضلاً عن الحاجة إليه.
إن الخَلْق حلم، والأمل والجمال والتّوق حلم، والحياة بلا حلم مستنقع، وما إن ينتبه المرء إلى كونه حالماً في رقاد أو راقداً في حلم حتى يموت، كما يقول الحديث. والخَلْق الفنّي، وعلى الأخصّ منه ما يريد نشر الأمل والفرح، هو أعلى درجات الحلم، حيث تبلغ طاقة الحياة ذروة تخطّي ذاتها.
إرادة جبّارة جعلت ناسَ الورق يحلّون في المخيّلة الشعبية محلَّ ناسِ اللحم والدم، فصار الواحد يظنّ نفسه أو يتمنّى أن يكون ظلاًّ لناسِ الورقِ هؤلاء. إرادةٌ جبّارة نفختْ روحها القرويّة في العالم العربي كلّه زارعةً فيه، على أجنحةِ صوتِ فيروز الاستثنائي، شكلاً جديداً من أشكال الشغف.

لم يرحم عاصي الرحباني نفسه ولم ترحمه الحياة. وكان يردّد دوماً: لا بدَّ من رحمةٍ أخيرة.
رحمة، أجملُها ما أبدعه وتركه للناس كنزاً لا يَنْضُب.



#أنسي_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على الحافّة
- ماذا صنعتَ بالذّهب؟؟ ماذا فعلتَ بالوردة؟؟!!!
- صرتَ جميلاً
- ذهبَ المجوس ورجَعوا وقالوا
- اعزفي لنا
- غيوم
- الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع (مقاطع)
- أغار
- كلُّ قصيدة ..كلُّ حبّ
- قصائد


المزيد.....




- شاهد: دروس خاصة للتلاميذ الأمريكيين تحضيراً لاستقبال كسوف ال ...
- خان يونس تحت نيران القوات الإسرائيلية مجددا
- انطلاق شفق قطبي مبهر بسبب أقوى عاصفة شمسية تضرب الأرض منذ 20 ...
- صحيفة تكشف سبب قطع العلاقة بين توم كروز وعارضة أزياء روسية
- الصين.. تطوير بطارية قابلة للزرع يعاد شحنها بواسطة الجسم
- بيع هاتف آيفون من الجيل الأول بأكثر من 130 ألف دولار!
- وزير خارجية الهند: سنواصل التشجيع على إيجاد حل سلمي للصراع ف ...
- الهند.. قرار قضائي جديد بحق أحد كبار زعماء المعارضة على خلفي ...
- ملك شعب الماوري يطلب من نيوزيلندا منح الحيتان نفس حقوق البشر ...
- بالأسماء والصور.. ولي العهد السعودي يستقبل 13 أميرا على مناط ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - أنسي الحاج - تداعيات حول عاصي الرّحباني