أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - سعيد مضيه - استحالة التقدم في ظل الاستبداد















المزيد.....


استحالة التقدم في ظل الاستبداد


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 2591 - 2009 / 3 / 20 - 10:07
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


استحالة التقدم في ظل الاستبداد
الحلقة الثالثة من عرض كتاب " الإنسان المهدور" للدكتور مصطفى حجازي

قارب العرض في الحلقتين السابقتين العناوين التالية:الاستبداد يهدر إنسانية الإنسان على مختلف أبعادهـا ـ لا معنى للديمقرطية مع هدر إنسانية الإنسان ـ الاستبداد مرض كياني ـ هدر المؤسسات والقانون هدر للوطن ـ العصبية لا تقر بشيء فوق كيانهاأو خارجه ـ المستبد من يبني من خلال إدارة الإدراك شبكات إدراك عصبي في الدماغ تستجيب لإيعازاته ـ الهدر يؤدي إلى إفلات زمام تسيير الحاضر واستشراف المستقبل وصناعته ـ الهدر يفقد العقل قدرة الضبط وبالتالي هدر الكيان الإنساني ذاته من خلال رده إلى مستوى النشاط العصبي النباتي ، وإشباع حاجات البقاء البيولوجي. ...

يكرس الباحث فصلا خاصا ، هو السادس، لموضوع هدر الشباب، قوة البناء والتنمية في المجتمع. فهو هدر للوعي وللطاقات والانتماء، وصولا إلى تعمية الرؤى، وبالتالي الحيلولة دون تبصرهم بما هم فيه، وفيما يجب أن يكونوا عليه.. ... في محاولة لإخماد كل نزعة للقيام بمسئولية المصير (201).
الشباب باحث عن البطولات ومعاركها التي ينتزع فيها الاعتراف والتقدير. من خلال البطولات يحصل توافق مع الذات، أما في بلاد الهدر فلا مكان للبطولات . ويتصعد الهدر من خلال تبرير الانصياع للإرادة الأجنبية بدعوى الواقعية السياسية، والذي يترجم قمعا وكبتا لكل تعبير للرفض الاستسلام والتمرد على المهانة ، والانتفاضة للحقول الوطنية (221). اخطر ما يتجلى هدر الشباب في قضيته الوطنية . يحرم الشباب من أن تكون له قضية وطنية عامة تملأ حياته؛ وتكون فرصته للتضحية والبذل والعطاء(202). كما تدل دراسات البيولوجيا فالحيز الوطني مجال للدفاع والحماية لكل كائن حي. الوطن ليس مسألة اعتبارية قابلة للمساومة في الزيادة والنقصان ، بل هو قضية مغروسة الجذور عميقا في صلب الكيان الحي ذاته. .. يتضح مقدار الهدر الوجودي الذي يصيب الشباب حين لا يشعرون بأنهم سادة مجالهم الحيوي وحماته وصانعو قوته ومنعنه. يظل الشباب في مأزق فوق طاقة الاحتمال تعوض ببطولات زائفة في برامج تلفزيونية من أمثال" سوبر ستار" و" ستار أكاديمي" ، وكذلك مباريات كرة القد التي غدت دينا جديدا للشباب. (222). المهمة تتلخص في ترويج ثقافة التسلية ، بل رضاعة التسلية ، وهو مصطلح تفتقت عنه قريحة زبيجينيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر. وسبق له برؤيته الثاقبة أن أطلق مقولة " هندسة المجال الكوني" ، أي إعادة هندسة الكون جيوسياسيا بما يخدم مصالح الهيمنة الأمريكية(225). تتبارى القنوات الفضائية في عروض التسلية المسطحة للوعي والمخدرة للمعاناة الوجودية والطامسة للهدر. تخصص للتسلية ساعات الذروة، نظرا لما تدره من دخل الإعلانات. أما ما تبقى من قضايا عامة وطنية واجتماعية فقد تحولت إلى نوع من التغيير على الضرس ، والتنوع بين فقرات برامج التسلية(226).
يضع الهدر الثلاثي الشباب في حالة مأزقية فعلية تهدد عافيته وصحته النفسية، وتجعله نهبا لمختلف ضروب السلوكات التعويضية الضارة أو غير المجدية على الأقل (202).، وتتعمد أنظمة الهدر تسكين الأوجاع وتخدير الوعي من خلال ملهاة وزارات الشباب والرياضة(203). وتنبري الشاشات الفضائية لتعويض انسداد الأفق بصور ونماذج وبرامج للنجومية البديلة الملهاة. وحملت العولمة تحولات لإعادة تشكيل الشباب ، من أبرزها خروج الشباب خصوصا والناس عموما من الأطر والمرجعيات المجتمعية التقليدية، بفضل الانفجار الإعلامي وانفجار الانفتاح على الدنيا. مطاردة البوليس لإخماد الإثارة الداخلية يقابلها إغراق الشباب والناس عموما بكل ألوان الإغراء الاستهلاكي. وحياة المتعة والإثارة، مما ينفس فيه الإعلان الذي أصبح يتحكم بالإعلام ويوجهه. تنفتح الشهوات للاستهلاك وتتراجع صورة الجهد طويل النفس والبناء الدؤوب للمستقبل ، لصالح الإشباع الآني للحاجات والإحساس بالتفرد والحظوة.(205). والواقع أن عدم تطوير علم خاص عن الشباب إلى الآن في الجامعات العربية ما هو إلا دليل إضافي على هدر الإنسان . وتكفي نظرة إلى واقع الشباب في عصر العولمة عموما ، وواقعهم في بلاد الهدر كي تتضح مدى أهمية مثل هذا العلم وضرورته، كأساس لوضع دراسات شبابية على الصعيد المجتمعي في التربية والعمل والمشاركة الاجتماعية والانتماء. تخلو بلاد الهدر من الأمجاد ، بل وتحاربها(204)
غالبية الشباب متوسطي الذكاء تزداد الفرص أمامها انحسارا؛ وقد يصل الإحباط بها حد اليأس من الدراسة ذاتها، إذ تبدو غير مجدية . هذه شريحة من الشباب يهدر مشروعها الوجودي في بناء مكانة منتجة ومجزية. ... تواضع نوعية التعليم لا يؤهلها للمنافسة في سوق العمل ومتطلباته، والتعليم الجامعي وما قبله يراكم معلومات ولا يبني معرفة علمية قابلة لأن تتحول إلى مهارة مهنية منتجة. الشباب المهدور يتحول إلى عبء على السلطات المستبدة المصادرة للخيرات الوطنية ؛ ولذلك تتعامل السلطات معها بالوعود التخديرية المراوغة، مقرونة بالشدة والتهديد بقبضة البوليس الحديدية. ... والشريحة الأكثر عددا في بلاد الهدر هي الشباب " الظل"؛ إنها فعلا الشريحة المهمشة الفائضة عن الحاجة، وبالتالي المستغنى عنها(209).
منذ الطفولة لا إدارة ولا تخطيط ولا تبصر بمستقبل، بل استسلام لأقدار، يحكمه قانون الأقوى جسديا ويحول الطاقات العقلية إلى " الذكاء التحايلي" أو ذكاء تدبير الحال. المناقضين لنمط الذكاء المطلوب للنجاح في الدراسة.... ا(210).
لا يطيق المستبد كل ذي كفاءة يعمل للصالح العام ، بينما يحيط نفسه بمجموعة من المتفانين في خدمته ويغدق عليهم الأعطيات، أو يتيح لهم فرص النهب المنظم الذي يكون له منه النصيب الأعظم (212). ...
وتتدخل العولمة لتهدر الطاقات والوعي والتفكير لدى الشباب . قدّر تكتل الأدمغة المجتمع في سان فرنسيسكو عام 1995 أن 20% فقط من المهيأين للعمل يمكن استيعابهم في مؤسسات الاقتصاد العالمي، بينما يصبح الباقون زائدين عن الحاجة ويستغنى عنهم . أربعة أخماس الطاقات البشرية لا تحصل إلا على الفتات. أما اليونيسكو فتقدر أن النسبة بين المرفهين والمحرومين واحد إلى تسعة ( أي العشر)، وهذا يستوجب استبدال التعبير. وحسب قول جون نسبت ، وهو من المستقبليين المعروفين بدقة تنبؤاتهم ، فإن عصر الرفاه الاجتماعي الذي أنتجه المجتمع الصناعي ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي. ذلك أن دولة الرفاه لم تكن سوى الثمن الذي توجب على الرأسمالية دفعه لمقاومة الشيوعية. وغدت دولة الرعاية بائدة نظرا لتكاليفها الباهظة. وتحت شعار رفع " "الجدارة " الإدارية تكف الشركات عابرة الجنسية عن استيراد الكفاءات ؛ بل تبقيها في أوطانها وتوظفها عن طريق البريد الإليكتروني. ببساطة تأخذ أفضل العقول والمواهب بدون أي التزامات تجاهها على صعيد الضمانات الاجتماعية، أو ضمانات استمرارية الوظائف(216)...

غدت العولمة الاقتصادية/ المالية غولا يلتهم الكفاءات الشابة بنهم، ويستنزفها بسرعة كي يدفع بها إلى فئة الكفاءات الفائضة عن الحاجة، أو الزائدة عن اللزوم. تؤدي العولمة إلى هدر الكفاءات والطاقات لسببين يفاقمان من هذه الحالة: اتساع التحولات في التكنولوجيا المتقدمة مما يجعل الكثير من المهن عرضة للزوال، حيث تراكم الخبرة لا يشكل ضمانا لاستمرار العمل بالضرورة، مع بروز تقنيات جديدة في المجال نفسه مقطوعة الصلة تماما بالتقنيات السابقة عليها... ويذهب بعض الخبراء إلى أن 75% من السلع المتداولة حاليا مما يرتبط بتكنولوجيا المعلومات والإليكترونيات الدقيقة لم تكن معروفة قبل عقدين من الزمن، كما أن نصف المهن المستقبلية لا نعرف عتها حاليا شيئا. لقد ولى عهد المسار الوظيفي المستقر ذا البداية والمنتهى(218).
ويذهب التطور المهني المستقبلي في اتجاهين متكاملين هما تزايد مهن المعلومات الكثيفة من ناحية ، ومهن الاختصاصات المتعددة من الناحية الثانية. وكلاهما يتطلب قدرات عالية على الانفتاح الذهني على كل ما هو جيد ومواكبته... لا بد من بناء قدرة على التغيير والتغير، فيما بات يعرف ب " اللياقة التكيفية". فقط أولئك القادرون على مثل هذا التكيف والمتمتعون باللياقة المطلوبة له سيكون لديهم فرص البقاء في الحياة المنتجة... يتمخض الواقع عن فقدان السيطرة على الحياة الشخصية والأسرية والتخطيط لهما. ..
يقع الكبار تحت وطأة " الشدائد النفسية" الناتجة عن انعدام الضمانات؛ وبذا يحصل عود إلى مجتمع الخمس، المحظيين الذين ينالون كل شيء، ولا يبقون للبقية سوى الفتات. والسبب الثاني يتمثل في الإفلاسات الكبرى للشركات العملاقة وتسريح آلاف العمال بدون تعويضات أو نهب المدخرات التي وظفوها في الأسهم المفلسة( هذه نبوءة لما حدث حاليا من انهيارات(219).
يمثل الوعي في نظرية التحليل النفسي الفرويدي ركنا هاما من أركان النظام النفسي، مع ما قبل الوعي واللاوعي. ومع أن الوعي يمثل قمة جبل الجليد في الحياة النفسية التي يظل جلها لاواعيا، فإن الوعي يحتل مكانة هامة في دينامية الصراع النفسي، لجهة التجنب الواعي للمزعجات والدوافع المثيرة للقلق ، والضبط الأكثر تمييزا لمبدأ اللذة. الوعي يقدم مؤشرات كيفية تمكن من استيعاب المدركات وتقويمها.... إنه على صلة مباشرة بإدارة الذات والوجود بشكل متوازن ومتكيف ونمائي(227).
ويرى علم النفس المعاصر أن للوعي عموما وظيفتين رئيستين هما المراقبة والتوجيه. الوعي يراقب الذات والمحيط، ويضبط الفكر و،،، أما وظيفة التوجيه فإنها تسمح للشخص أن يبدأ أفكارا وسلوكات للوصول إلى هدف ما ، أو ينهيها. لذلك ينشط الوعي حين يختار الشخص أحد بديلين لحل مشكلة ما. يركز الوعي عادة على الأشياء غير الرتيبة ، او عير المتوقعة. أي تلك الأشياء التي قد تؤثر على الحفاظ على البقاء والنماء وحسن الحال. وبينما يتصرف الناس في الحياة اليومية بشكل روتيني آلي وخارج نطاق الوعي في معظم الأوقات ، نرى الوعي يتدخل عند بروز خيارات هامة، مما يسمح برفع فاعلية التفكير والتبصر بالأحداث ذات الدلالة، والشغل على مقارنة نتائج الخيارات بين البدائل . من هنا نرى مدى خطورة هدر الوعي ، وإبقاء الناس في أنظمة الهدر على مستوى التفكير السائد والسلوك الآلي الروتيني على مستوى المعاش، والحيلولة دون التبصر بالذات وتدبر وسائل الفعل والمبادرة لتعييرهما(228).
من خلال زيادة درجة الوعي والحساسية لهذه الطائفة من الخبرات التي تحتاج إلى مزيد من التمحيص تتم عملية التوجيه والانتقاء والتمييز واليقظة. إننا هنا بصدد التفكير التحليلي النقدي المتبصر الذي تقوم به العمليات العقلية العليا، فيما يتجاوز السلوكات الروتينية الآلية. ...
يتحالف مربع هدر الوعي في الحرب على العقل والتبصر . الكبت والتعصب والظلامية كلها مناهضة للوعي. .. مطلوب أن تنقاد وتعيد إنتاج الأفكار والتوجهات في تكرار ثباتي محاط باليقين المبين. الوعي ، كما هو معروف في التفكير العلمي و الفلسفي سواء بسواء هو الخطوة الأولى للتغيير . بدون وعي لا تبرز الحاجة إلى التشكيك والتساؤل حول مشروعية الوضع القائم وملاءمته. .. الوعي وحده يحول الواقع الراهن ( فرديا وجماعيا) إلى مشكلة تحتاج إلى تفكر وتدبر وصولا إلى الحل التغيري(229).
من حسنات الإعلام الفضائي توفير فرص حقيقة ل" الذكاء الجماعي"، أي المشاركة في قضايا الكون وبناء رأي عام عالمي يساند القضايا العادلة. هذا الذكاء الجماعي هو في طور النمو والانتشار وتوثيق مجالات التفاعل والتبادل. مما يخلق حركات ضغط وجماعات ضغط عالمية متزايدة التأثير محليا وعالميا، تلجم جموح سلطات الاستبداد وممارساتها واستفرادها بالناس. . غير أن أوجه الهدر لا زالت نشطة ومؤثرة ومتزايدة الانتشار، من خلال استراتيجية التلاعب بالعقول والإدارة و الإدراك المعروفين جيدا في عمليات صناعة الموافقة من خلال التضليل. ... (231). إن إغراق الشباب في الدين الكروي وصناعة النجومية بكل أحلامها، تتحول إلى عملية تهميش للشباب . وعند شباب الظل ، على وجه الخصوص، فهو يتيح القفز فوق حاجز البؤس. يبدو أن الإعلام المرئي قد وجد ضالته الذهبية في هذه الكرة خلال بحثه الدائب للوصول إلى الجماهير بحيث يكاد يستوعب سكان الكرة الأرضية. وبذا تتحول الفضائيات إلى أهم منابر الإعلان، مروجة لمشروبها المفضل وسلعها المغرية في مناخ الإثارة والانتباه المتوتر(233). وتتجلى الخطورة الفادحة حين تحل "نحن الكروية" محل " نحن الوطن"، أو بكلمة أدق حين تختزل الهوية الوطنية في " النحن الكروية"... لقد تحولت كرة القدم إلى مشروع تجاري كوني ذي رقم أعمال يتجاوز تجارة النفط. وتتصاعد أسعار النجوم إلى أرقام فلكية وتتجاوز ميزانيات الأندية ميزانية أفضل الجامعات وأعرقها. غدت لغة كرة القدم ثقافة قائمة بذاتها تستحق دراسة أنثروبولوجية نفسية ، حيث أخذت ترتبط بالمخيال الاجتماعي. منها " الضربة الصاروخ " و " النتيجة العذراء" و" هدف بتوقيع" أي أن اللاعب بمكانة المفكر والأديب(234) . ... الإقبال منقطع النظير على هكذا برامج مؤشر على إفلاس محتوى المنهاج التربوي والبرامج الثقافية في العالم العربي. . تخلت الجامعات في أغلبيتها عن دورها التقليدي في إعداد الطلبة كي يكونوا قادة بل مارست عليهم ضغوطا هي في أكثرها ذات بعد امني قمعت طموحات الشباب ودجنت أحلامهم؛ فلم تعد الجامعة أكثر من مدرسة واسعة(236).
هدر الشباب ليس مجرد قمع ؛ بل إنه هدر مستقبل الوطن وهو بداية العبور إلى فئة المجتمعات المستغنى عنها ، وخصوصا حين لا يتوفر لها مجتمع الخمس الذي يشكل النخبة المنتجة(237).

الفصل الثامن ـ الديناميات النفسية للإنسان المهدور ودفاعاته

للحفاظ على شيء من التوازن الذاتي الذي يجعل الحياة قابلة للاحتمال يلوذ الفرد بما يطلق عليه أواليات دفاعية(277).
تولد نماذج الهدر الاحتقان النفسي الشديد بالغضب والثورة والتمرد المصاحبة للجرح النرجسي وفقدان الاعتبار والقيمة وإحباط مشاريع الوجود. وقد تتولد حركة مزدوجة الاتجاه ، كرد فعل على الهدر الكياني. وتتمثل في صب النقمة على الذات وجلدها وصولا إلى الانشطار النفسي الفعلي تجاهها. وهناك ثالثا التبلد المعبر عن الانشطار النفسي ، الاستسلام للقدر والمكتوب، الغرق في الاكتئاب ..."حيث تتحول هذه الإزاحة إلى نوع من النظارة السوداء التي تمنع الإنسان المهدور من رؤيته بذاته ، أو تجنبه آلام هذه الرؤية. الهدر الإنساني احد أبرز أمراض الوجود ، وهو ما يتعين إضافته إلى سجل الأمراض النفسية المعروفة ، التي طالما تجاهلته أو قصرت في بحثه. وقد تكون هذه المحاولة حافزا لتشجيع الأجيال الشابة من الباحثين على التعمق في دراسة الظاهرة وتحليلها من خلال معطيات ميدانية أكثر تكثيفا وشمولا(283). نزوة الحياة تدفع الإنسان لتجاوز الذات والارتقاء بنوعية الوجود، وتوطيد السيطرة عليه ـ تحقيق هوية النجاح(284). بينما الهدر وأواليات الانشطار المتولدة عنه تقسم الوجود إلى ظاهري زائف ( الوجود القناع) ، والوجود الحقيقي الأصيل المكظوم ، وصولا إلى حد التنكر الفعلي والكبت بالمعنى التحليلي النفسي. تغدو نزوة الموت هي اللاعب الأقوى على الساحة الوجودية؛ تفعل فعلها التدميري الموجه إلى الذات أو إلى الدنيا والناس، أو إلى كليهما معا. ذلك أن وراء الاكتئاب والاستكانة عنفا كامنا يصل مستويات التفجر البركاني حين تتراخى القيود والضوابط المفروضة عليه(285). يبقي الإنسان معلقا منفيا عن الذات حيث تتجمد الديمومة وينحسر الماضي والمستقبل في الحاضر الذي يمحو تاريخ الشخص. .. يتدهور الوجود إلى حالة اجترار لفشل في حالة من تبلد الذات وتعطل القدرة على الفعل(288). تصبح ثقافة الندب والنوح هي العزاء . يستكين الإنسان المهدور من خلال تحالف قوى الاستبداد الخارجي مع قوى الهدر الذاتي ، بدلا من النهوض للمجابهة والتغيير . ذلك هو أخطر ما تنتجه " ثقافة الندب"التي تشيعها نظم الاستبداد(290).
من يثور لا يكتئب. ومن يكتئب يعجز عن الثورة ويحرم منها. ابتلاع الغضب والحنق يتحول إلى اكتئاب وحقد(291). مع الاعتداء أو التهديد يكون رد الفعل قي واحد من ثلاثة: القتال ، الهرب ، التجمد fight, flight freeze .الغضب هو التعبئة النفسية الضرورية لمد الكيان بالطاقة كدفاع حيوي وطبيعي ، و الرضوخ هو أحد تجليات التجمد الذي يشكل البعد الثالث للآلية الدفاعية الحيوية ضد الأخطار(292). غير أن نزوة الحياة تقاوم بشراسة ولو استكانت إلى حين(293)... بانتظار استعادة نزوة الحياة والوجود لنشاطها ، عادة ما يتسرب العنف قي مسارب جانبية ، من ذلك ما يتكرر من احتقان وجود المهدورين بالتوتر وسرعة الاستثارة وردود الفعل الانفعالية المبالغ فيها مقارنة بما تستدعيه الوضعية الواقعية من ردود فعل. ومنها افتعال الأزمات والصراعات والنزاعات وتضخيمها، وتحويل صغائر الأمور إلى كبائر، وتوافهها إلى قضايا مشحونة ومبالغ فيها... وتظهر ميول التشفي وتبخيس الآخرين وإسقاط التبخيس الذاتي على الآخر. ومن ذلك تفشي ظواهر التطرف والفاشية التقليدية المتلبسة ظواهر الأصوليات والتعصب التقليدية . هدر الحياة يطلق العنان لنزعات الموت(294).

نموذج "نافذة جوهاري" يقسم النفس البشرية أربعة مربعات: الأول مستوى الإفصاح عن الذات ، ومعرفة الآخرين للفرد، الثاني هي المنطقة الخفية وتمثل جوانب غير معروفة للآخرين وهي منطقة حساسة حرجة يتكتم عليها الشخص حفاظا على لياقة المظهر إذا علمها الآخرون. المنطقة الثالثة جانب أعمى من الذات لا ينتبه إليه الشخص لكنه ظاهر للآخرين ومعروف لديهم . وعادة ما يقوم الأصدقاء المخلصون بلفت النظر إلى النقاط العمياء من كيانه كي ينتبه ويصححها . ثم المنطقة الرابعة المجهولة بالنسبة للشخص ذاته وللآخرين كذلك. إنها منطقة اللاوعي بالمعنى التحليلي النفسي.
أصعب وضعية بالنسبة إلى الإنسان المهدور هي مجابهة هدره بكل كثافته الوجودية التي تضعه أمام " ذعر الكيان" أو ذعر الخواء.... هذا الخواء الوجودي وذلك الفراغ واللاشيئية واللاقيمة تفجر أقصى حالات الغضب والعنف المدمر يولد قلقا يتعذر مجابهته إلا كلمحات أو خفقات سريعة سرعان ما تتلاشى(298).لا يمكن للإنسان المهدور تحمل واقعه الوجودي العاصف بسهولة ولمدة طويلة . وتتراوح الاستجابة الحيوية الطبيعية ما بين الانفجار الذي لا يبقي ولا يذر ، وبين الانتحار الحامل دلالة تحطيم المرآة العاكسة لذعر خواء الكيان وفشله(299).
تقوم الآليات بدور ترميم الواقع الذاتي واستعادة قيمة بديلة توفر التوازن. وهي حلول تسكينية وليست العلاج، تبقي القوى المولدة للاضطراب والقلق قائمة، تستنزف الطاقات النفسية في إجراءات الحماية بدلا من توظيفها في البناء والنماء الكياتي. . والعديد منها يدخل في عداد آليات الدفاع العصابية من مثل إسقاط الهدر على الآخرين(300) . آلية الاحتماء بالماضي تظهر مع الهزائم الجماعية ... تغرق الجماعة في بطولات الماضي المجيد ، مما يجعلها تعيش في وهم مستقبل ناصع. ذلك هو الهدر يكرر ذاته ما دام يصرف المرء عن صناعة مستقبله مستبدلا به وهما مستقبليا(302).
303/ويشكل الاحتماء بالقدر المكتوب والامتحان والبلاء دفاعا جماعيا آخر في مواجهة الهدر... يتحول الأمر غالبا إلى نوع من الفلسفة ترد الأمر إلى حكمة خفية ومتسامية وبالتالي يجب القبول الاستسلامي بها. يتواصل الهبوط اللولبي للهدر ليولد حالة تبلد وعطالة هي ذاتها مولدة لهدر جديد . يرد الأمر إلى عناية إلهية تترفق به وتخرجه من الغمة بعد اجتياز امتحان البلاء(303).
والكلام احد آليات التمويه . الثرثرة والإفراط في الكلام الفارغ الذي يدعي الامتلاء والأهمية ، ولا يهدف إلا إلى تضليل الآخر حول القيمة الذاتية وأهميتها. وبمقدار ما يحتقن الغليان في النفوس تزداد اللغة عقما وينحسر نطاق الدلالة. هنا تتحول اللغة إلى أداة تزوير للوجود الذي يصل حد الموت الكياني . ومن خلالها يعاد إنتاج الهدر(304) .
ويشكل القلب إلى الضد احد وسائل الدفاع عن الهدر . إنها حالة إلغاء الضعف واستبداله بوهم القوة وإيهامها. وآلية القلب تنتج الهدر لأنها مجرد استعراض لوسائل القوة والقدرة على المواجهة والفعل بدون امتلاك مقوماتها . مثال ذلك حالات التشاطر وادعاء التمكن وقدرة التدبير والتعليقات الساخرة والصخب أثناء الحوار والتقرب من المسئولين والوجهاء. يقلب العجز إلى قوة موهومة والفشل إلى ادعاء النجاحات، والسلبية إلى مبادرة غير مدروسة. (305).
وأخيرا يأتي التمرد ونقيضه. فالإدمان على الكحول دلالة التمرد على القانون والتقليد. و نقيض ذلك يتم اللوذ به كآلية دفاعية: في الأوساط الشعبية يتم الاحتماء بالمقدس واللجوء إلى حلقات الذكر وشعائر التصوف، امتلاء بالذوبان في الذات الإلهية . يتخذ الموال الصوفي وما يرافقه من موسيقى وحركة إيقاع طابع الندب المعبر عن الألم والمعانة الوجودية. إلا أن الحركة تتفتح عن عالم بديل متعال على الشقاء الأرضي إلى حالة الذوبان في الشوق إلى الحبيب محمد(306). هناك ظواهر هوى جماعي ما ورائي تتجاهلها العقلانية والليبرالية المادية، تتخذ طابع التصوف على المستوى النفسي هو توق للذوبان في القوى المتسامية التي تشكل القيمة المطلقة. تحرك الدماغ الأيمن بكامل نشاطه حيث الوجدانيات والأحلام والمشاعر تعويضا عن قهر الحسابات المادية الخاسرة التي تخرج من محصلة الدماغ الأيسر في تعامله مع الواقح المحبط. في ظل الطغيان والاستبداد أو أثناء الهزيمة والانحطاط. حسابات العقل والمنطق تشير إلى خسارة وجودية محضة لا تحتمل لم تسببه من اختلال في التوازن(308).
309/ والفاشية ، كما الأصولية، جواب على المأزق الذاتي أو الجماعي المتمثل في فشل الرغبة في الخلاص من شقاء الكيان المبخس إلى الكيان كلي القيمة(309).

يتبع الحلقة الأخيرة حول علم النفس الإيجابي




#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عرض كتاب -الإنسان المهدور- الحلقة الثانية
- الإنسان المهدور
- مين فرعنك يا فرعون
- محمود أمين العالم في الحياة الفكرية العربية 3- جدل الواقع في ...
- محمود أمين العالم في الحياة الفكرية العربية - 2 الجدلية جوهر ...
- محمود أمين العالم في الحياة الفكرية العربية الحلقة الأولى
- المجزرة .. كوارث ودروس
- الجدار واغتيال ياسر
- الهندسة الوراثية لدولة إسرائيل
- الأحزاب الصهيونية تتبارز بالدم الفلسطيني
- بوش والحذاء... سخرية في حفل ساخر
- فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
- تصعيد المقاومة الشعبية بوجه سعار الاستيطان
- زيوف أقحمت لتشويه الماركسية
- ماركسية بلا زيوف 1
- تحية للحوار المتمدن في عيده السابع
- وخرج القمر عن مداره
- أكتوبر و عثرات البناء الاشتراكي
- أكتوبر في حياة البشرية
- هل يخمد عطر الدين عفونة فساد الحكم الحلقة الأخيرة


المزيد.....




- اخترقت جدار منزل واستقرت في -غرفة نوم-.. شاهد مصير مركبة بعد ...
- مصر تعلن اعتزامها التدخل لدعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أ ...
- -القسام- تفجر عبوة -رعدية- بقوة إسرائيلية خاصة وتستهدف ناقلة ...
- قصة الصراع في مضيق هرمز منذ الاحتلال البرتغالي وحتى الحرس ال ...
- هولشتاين كيل يصعد للبوندسليغا للمرة الأولى في تاريخه
- البحرين تدعو للتدخل الفوري لإيصال المساعدات إلى قطاع غزة ومن ...
- طلبت منه البلدية إخفاء قاربه خلف السياج.. فكان رده إبداعيا و ...
- استطلاع: نصف الأمريكيين يعتبرون الإنفاق على مساعدات أوكرانيا ...
- حاكم بيلغورود: 19 شخصا بينهم طفلان أصيبوا بالقصف الأوكراني ل ...
- مشاهد جديدة لسقوط حافلة ركاب في نهر ببطرسبورغ


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - سعيد مضيه - استحالة التقدم في ظل الاستبداد