أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - علاء اللامي - النزعة العراقوية من الجاحظ إلى عبد الكريم قاسم .















المزيد.....



النزعة العراقوية من الجاحظ إلى عبد الكريم قاسم .


علاء اللامي

الحوار المتمدن-العدد: 155 - 2002 / 6 / 9 - 11:22
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


                                "مقاربة اجتماعية تاريخية"

                                                             

ما العراقوية ؟

لغةً: تزاد الواو في كلمات ومصطلحات كهذه- في المعتاد - للتشكيك والتفريق  كأن تقول: هذا ليس برنامجاً ثورياً بل ثوروياً، أي فيه تطرفاً وتزيدا  "مزايدة " وكقولك هذا ليس فكراً قومياً بل قوموياً، أي فيه مبالغة شوفينية؛ والعراقوية من هذا الغرار فهي إذن يمكن أن تعني الشعور المبالغ فيه بالاعتداد الوطني والانتماء إلى وطن هو العراق، وقد ينحرف أحياناً هذا المعنى بشكل سلبي وحاد فيصير رديفاً لمشاعر وسلوك وأفكار الذات الوطنية الوارمة والمزدرية للآخرين وأوطانهم. وكونها للتفريق إنها أكثر دلالة من النسبة البسيطة (العراقية) والتي تختلط بالنعت والهوية..إلخ. ويمكن اعتبار الباحث الفلسطيني الأصل حنا بطاطو أول من استعمل مصطلح العراقوية بمدلولاتها العلمية في العصر الحديث في ثلاثيته المهمة "العراق" وتحديداً في الجزء الثالث منها والذي يحمل عنوان "الشيوعيون والبعثيون والضباط والأحرار" الفصل السابع .

مجتمعياً: لا يمكن ضبط تعريف تام ومحدد في ضوء علم الاجتماع العام أو علم الاجتماعي السياسي لهذا الضرب من النزعات والتيارات بسهولة، وذلك بسبب تعقيد محتواها أولاً، وعدم ثباته تاريخياً إنما يمكن وضع عدة تصورات أولية لفهمها أو الاقتراب من تحديدها تعريفياً, ومن هذه التصورات الاعتراف باشتراك ما هو نفساني وما هو مجتمعي من جهة وبين ما هو تاريخي وما هو بيئي من جهة أخرى في ماهية وتطور ماهية هذه النزعات. ولهذا السبب "التصور" لابد لنا من تقديم مقاربتين مدموجتين في مقاربة واحدة إن جاز القول، أو بعبارة أخرى سنحاول تقديم مقاربة تاريخية ومجتمعية في آن واحد في محاولة لتقديم قراءة تحليلية مصحوبة بعرض تاريخي كلما كان ذلك ضرورياً ومفيداً لأغراض بحثنا، ولا بأس من البدء بوصف عام لواقع الحال السياسي الراهن :

ينيخ الواقع التاريخي المعاش بكلكلهِ على العراق و العراقيين مما يجعل ممكناً وصف الظرف الحالي سياسياً واقتصادياً وأمنياً بالكارثة الشاملة أو المأساة العميقة: بلد غني بالثروات الطبيعية والبشرية والتراكمات الحضارية والتراث الإنساني عميق الجذور يعيش في حالة حرب أهلية غير معلنة منذ ثلاثة عقود بين الدولة والمجتمع الأهلي في ظل حكم استبدادي دموي يرتكز على الأثافي الثلاث المعهودة عالمثالثيا: النفط وحكم الإعدام ومزيج متطرف من الأدلوجة القومية والدينية . أما الشعب فإنه يقبع في ظل حصار دولي صارم لا مثيل له في التاريخ ، مفروض من طرف  الغرب المقود بالولايات المتحدة الأمريكية، ومرفوق باعتداءات مسلحة وتدمير متواصل للبنية التحتية للمجتمع، مما يجعل هذا الشعب يخضع لحرب إبادة حقيقية في ظل غياب مأساوي لقوة معارضة شعبية داخلية حقيقية بعد أن تم تدمير الحركة الوطنية العراقية عميقة الجذور بسلاحين: أولهما قمع النظام الشديد، وثانيهما احتواء وإفساد العدو التاريخي للعراق أي الإمبرياليات الغربية وبخاصة أمريكا لأغلب فصائل المعارضة العراقية الناشطة في الخارج وتلويثها وتدمير سمعتها أفراداً ومؤسسات بالرِشا والخطط التآمرية ودعوات تأييد استمرار الحصار.. إلخ.

في ظل هذا الواقع الفاجع تكتسي دراسة ظاهرة "النزعة العراقوية" أهميتها وخطورتها لكونها يمكن أن تكون رافعة إيجابية إلى جانب رافعات أخرى تساهم في تغيير الواقع المأساوي وتحريكه باتجاه خلاص حقيقي، أو يمكن أن يحدث العكس فتتحول إلى نزعة فاشية مغامرة وشوفينية تزيد من عمق المأساة، وتعرض العراق والعراقيين لأخطار إضافية مستقبلاً تقارب الانتحار والموت الكياني ، وهذا ما تتمناه قوى دولية وإقليمية عديدة معادية للعراق شعباً ووطناً وهوية.

قال الجاحظ:

لا نريد في هذا المفصل من البحث إثبات أن الجاحظ كان مؤسساً للنزعة العراقوية أو أنه أول  من بشر بها كما ينتظر البعض، فقد عاش الرجل حين كان العراق كما هو اليوم، أو كما حدده الجغرافيون العرب في العصر الإسلامي بوصفه الإقليم الممتد من الموصل إلى عبادان. وكان البعض على أيام الجاحظ يقصد بكلمة "العراق" الكوفة، فيما قصد البعض الآخر بمثناها (العراقان) البصرة والكوفة، في حين يعتقد بعض علماء اللسانيات والنبشيات "الإركيولوجيا" والإناسة (الإنثروبولوجيا)، إن كلمة عراق هي تعريب لاسم مدينة سومرية في جنوب العراق هي "أوروك" التي مرت بعدة تحولات فونولوجية: أوروك، أوراك، عوراق، عراق.

إذن، ما أردنا في هذا الصدد إلا الإشارة إلى أول مقاربة علمية  لماهية هذه النزعة، وردت في كلام للجاحظ وقارن فيه بين ما سماه الميل للعصيان عند أهل العراق، مقابل الميل للطاعة لدى أهل الشام. قال الجاحظ ما حرفه: (العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء وطاعة أهل الشام إن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة. ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث. ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء. وأهل الشام ذوو بلادة وتقليد وجمود على رأي واحد لا يرون النظر ولا يسألون عن مغيب الأحوال.).

واضح أن الجاحظ لا يتهم أهل العراق- كما يفعل بعض الكتبة السذج المعاصرين- بأنهم دمويون، تمكن منهم مرض العنف ، وجعلهم أقرب إلى الوحوش الكاسرة، بل يحاول الإجابة على سؤال حقيقي حول ظاهرة عراقية تاريخية ، وهي ظاهرة تكرار نشوب الثورات والانتفاضات وحالات العصيان ضد الدولة المرموز إليها بـ"الأمراء". وفي تفسيره السالف، يدحض الجاحظ- ضمنياً- اتهاماً غوغائياً مشهوراً جداً لجلاد العراقيين الأشهر وعامل بني أمية على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، شتمهم بخطبته أو أكذوبته  المشهورة (يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق..). وقلنا أكذوبته، لأنها تحتوي على تناقض تام هو التالي: هل كان أهل العراق سينشقون ويحاربون الدول الظالمة ويقدمون سيولاً من الدماء لو كانوا فعلاً منافقين كما وصفهم الحجاج ؟ بمعنى: إذا كان المقصود هو أنهم أهل شقاق ونقد وتنقيب وتحكيم عقل وفطنة فالجواب نعم، أما أن يكونوا أهل نفاق ومِراء ودِهان فلا، إذ كيف يمكن جمع الماء والنار (النفاق الإستسلامي والشقاق الثوري) في أقنوم واحد ؟ ولقد عاش الحجاج مأساته الخاصة ومأساة العراقيين ببطشه وقسوته حتى انتهى نهاية تليق بأمثاله من الجلادين القساة حيث مات مجنوناً فاقد العقل ومتشرداً يطارده الصبيان والكلاب الضالة.

وعودةً لما قاله الجاحظ لنرى أن كلامه وإن احتوى على ما هو عقلاني ورصين بخصوص ظاهرة العصيان العراقي على أساس التميزات التالية:

-      الفطنة الثاقبة.                    

- البحث والتنقيب.

-      ملكة الترجيح.                            

- التحزب الواعي.

- النقد العميق.

- استظهار عيوب الرؤساء والقادة كمقدمة للثورة عليهم.

فكان هنا عراقوياً بالمعنى الإيجابي للمصطلح، ولكنه حين يصف أهل الشام بالبلادة والجمود وتقليد وطاعة الرؤساء يعطي للعراقوية معناها الشوفيني والانعزالي السلبي المزدري للآخرين. فمن وجهة نظر علمية، لا يمكن الحكم على شعب أو مجتمع بكامله أنه  بليد أو جامد أو خانع ومطيع، ناهيك عن أن أهل الشام كأهل العراق كانت لهم ثوراتهم حتى ضد الدولة الأموية التي شيدوها بسيوفهم وفرضوا سلطانها على جملة العرب في أقاليمهم المعروفة والداخلة في كيان الدولة العربية الإسلامية "الأموية" وعلى العجم أيضاً، ومن تلك الثورات الشامية الثورة المعتزلية في ضاحية المزة بمدينة دمشق التي قادها يزيد الناقص وأدت إلى إسقاط الخليفة الوليد الثاني وقيام حكم ذي ميول معتزلية. (للمزيد راجع: محطات في التاريخ والتراث للمؤرخ العراقي هادي البغدادي ص99 وما بعدها.).

والعراقوية بمعناها السلبي، غدت فيما بعد سمة اجتماعية لأهل العاصمة العباسية بغداد أكثر منها نزعة فردية، خصوصاً في فترة أفول الحضارة العربية الإسلامية "العباسية" وكان ممن لاحظها وكتب عنها بشيء من التشنج والانفعال الرحالة المغربي ابن جبير في كتابه (رسالة اعتبار السالك..) المعروف للعامة برحلة ابن جبير، وكان هذا الأخير قد وصل إلى بغداد قادماً من الحجاز، بعد أداءه فضة الحج في شهر صفر من سنة ثمانين للهجرة، وهي- بغداد- في حال انحدار وهبوط حضاري شامل، بعد أن سيطر المرتزقة والمتغلبون الترك على الخليفة والخلافة والدولة جمعاً. وقد كتب ابن جبير عن أهل بغداد حينها ما حرفه: (وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياءً، ويذهب بنفسه عجباً وكبرياء، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء، وقد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلاداً أو عباداً سواهم.. ص 174 (رحلة اعتبار السالك).

والحقيقة فكلام ابن جبير حتى وإن كان محكوماً بفكره السلفي شديد المحافظة، أو بهوى وتشنج من حادث شخصي قد يكون حدث له آنذاك في بغداد، لكنه يتضمن الكثير من الصدق في الوصف والتخصيص: فحتى في كلام العامة من عراقيين وغير عراقيين ما زالت تسمع إلى يومنا هذا عبارات تحمل معان قريبة تفيد محمولات الكبرياء والأنفة والعجرفة والدلال والتدليل، ومن هذا القبيل مفردات: البغددة والقنزحة والنفخة العراقية والتشبيه بالديك الرومي وبالمناسبة فقد أطلق العسكريون  الأمريكيون على عملية قتل وإعدام الأسرى والمحاصرين العزل من مقاتلي الجيش العراقي خلال حرب تدمير العراق "عاصفة الصحراء" سنة 1991 اسم (صيد الديكة الرومية!). أما ازدراء الأجانب التي يشيع نقيضها "احترام الأجنبي" ويبالغ فيه لدى شعوب أخرى إلى درجة اعتبار الأجنبي (وخاصة إذا كان أوروبياً أشقر الشعر أزرق العينين) ملاكاً طاهراً ينبغي طلب مرضاته، أقول أما ازدراء العراقي للأجانب فيمكن تذكر بعض تطبيقاتها، قبل سنوات الحصار، في مطار بغداد الدولي، وكيف كان رجل الجمارك العراقي يحطم أحياناً بدم بارد جهاز تسجيل أو تلفزة أمام صاحبها الأجنبي الذي لا يريد أن يدفع الرسوم المقررة عليها.

غير إن ما قاله ابن جبير عن أهل بغداد يمكن تلمسه بهذا القدر أو ذلك من الوضوح والتماثل لدى العديد من سكان العواصم الإمبراطورية العظيمة والغابرة، واعتقد أن من عايش طويلاً وعميقاً أهل بكين وأثينا وروما ولندن سيؤيد ما ذهبنا إليه.

العراقويون في العهد الملكي:

كان أول تجسد سياسي للترعة العراقوية قد ظهر خلال الحكم الملكي الذي سارعت بريطانيا- الدولة الاستعمارية المنتدبة على العراق- إلى استيلاده في أعقاب إغراقها لثورة العشرين 1920 العراقية الكبرى في الدماء. وقد برز العقيد بكر صدقي كزعيم محبوب جماهيرياً لهذه النزعة التي تحولت فيما بعد إلى تيار ومن ثم إلى نظام حكم. وقد تحالف صدقي مع الأمير غازي الأول الذي كان نائبا للملك آنذاك. ثم جاء تمرد تموز 1933 الذي قامت به مجموعة من الآثوريين المرتبطين بالحكومة البريطانية والناشطين أيام الاحتلال البريطاني في مليشيات أسسها البريطانيون تسمى "قوات الليفي" وارتكبت عدداً من المجازر ضد العراقيين العرب ، جاء هذا التمرد إذن ليكرس هذا التحالف بين الرجلين فقد سحق التمرد الآثوري بعنف وقسوة غير مبررتين تماماً ، على الرغم من برقيات فيصل الأول الذي كان يعالج من مرض ألم به خارج العراق، والتي طالب فيها المسؤولين بالتعامل باللين والتحلي بالصبر مع المتمردين، (العراق في التاريخ/ مجموعة مؤرخين ص 681).

وتكررت المناسبة ولكن جنوباً حيث سحقت الحكومة تمرداً فلاحياً قامت به القبائل العربية في إقليم الفرات الأوسط في شهر مايس 1936 (المصدر الأخير ص685). وقاد العقيد بكر صدقي بنفسه القوات الحكومية ضد المتمردين، الذين قاوموا بالأمس القريب جحافل القوات الاستعمارية البريطانية يقودهم ثوار معروفون من أمثال عبد الواحد الحاج سكر ومحسن أبو طبيخ وعلوان الياسري. لقد كانت هذه المناسبة الحزينة "سقطة الشاطر العراقوي" كما يقال، فقد انحسرت وبشكل لافت وسريع شعبية الثنائي غازي وصدقي، وقد استغلت المعارضة ممثلة بجماعة الأهالي وحكمت سليمان هذه السقطة أحسن استغلال. ولكن حكمت سليمان وهو الصديق القديم للعقيد بكر صدقي سارع لتوحيد قواه مع صديقه القديم، وانقض الاثنان على حكومة ياسين الهاشمي وأسقطاها بتاريخ 29/ت1/1936 وقد قتل إثناء الانقلاب وزير الدفاع المرحوم جعفر العسكري الذي حاول التوسط بين الانقلابيين العراقويين وحكومة الهاشمي. وقد شارك في حكومة صدقي/ سليمان عدد من ممثلي جمعية الإصلاح الشعبي ولكن الخلافات سرعان ما دبت في حكومة النظام الجديد، فانسحب وزراء الإصلاح الشعبي منها بعد فترة وانخفض الوزن السياسي للتيار العراقوي كثيراً.

إضافة إلى كل ما سبق، فقد مارس القوميون "العروبيون" تأثيراً كبيراً وضغطاً متزايداً مضاداً للحكومة، خصوصاً بعد عقد ميثاق "سعد آباد" بين العراق وإيران وتركيا، ومعاهدة الحدود العراقية الإيرانية التي اعتبر القوميون أنها احتوت على تفريط وتنازلات كبيرة لصالح إيران فقد اعتبر بمؤدها خط الحدود هو المجرى العميق في نهر شط العربي العراقي لمسافة سبعة كيلومترات وثلاثة أرباع الكيلومتر مقابل مدينة عبادان، ولسخرية الأقدار فسوف يتنازل القوميون فيما بعد في اتفاقية الجزائر بين شاه إيران ونائب الرئيس العراقي صدام حسن عن تلك المسافة!

وهكذا صار النظام العراقوي ممثلاً بحكومة صدقي/سليمان واقعاً بين مطرقة القوميين المشككين من جهة، وبين سندان الحزب البريطاني أي القوى والشخصيات السياسية المختلفة مع الاستعمار البريطاني ورمزها الأشهر هو نوري السعيد وهو سياسي عراقي من أصول داغستانية. ثم جاءت الضربة الحاسمة للنظام من حيث لا يحتسب فقد اغتيل العقيد بكر صدقي على أيدي القوميين العروبيين بمدينة الموصل عاصمة الشمال العراقي وهو في طريقه إلى تركيا لحضور مناورات عسكرية.  ولم يصمد حليفه حكمت سليما في الميدان وهو الوحيد والمستهدف من قبل القوميين بقيادة رشيد عالي الكيلاني والبريطانيين بقيادة نوري سعيد ناهيك عن القلاقل والمتاعب الجماهيرية التي اعتاد على إثارتها اليسار العراقي الفتي والنامي بسرعة ضد نظام الاستقلال المنقوص فاستقال وانسحب من الحياة السياسية.

بسقوط تحالف صدقي/سليمان يغيب التيار العراقوي عن قيادة الدولة لكنه يظل موجوداً ومحسوساً كإرهاصات ورغبات ونوايا سياسية لفترة طويلة ستمتد حتى سقوط النظام الملكي واندلاع ثورة 14 تموز/ جولية 1958.

يمكن القول ملخصين أن أبرز سمات تجربة حكم العقيد بكر صدقي تكمن في:

- رسم وانتهاج سياسة تقارب مع جارتي العراق الكبيرتين والتاريخيتين تركيا وإيران ومحاولة غرس تصور استراتيجي جديد قائم على أساس الكيانية العراقية الحضارية مقطوعة بشكل محدود عن عمقها القومي العربي.

- امتازت التجربة بالحزم والشدة في معاملة الدولة لحركات التمرد والاحتجاج ومن دون أية محاولة لفهم خصوصيات كل حالة على حدة ، أو للتفريق بين تلك التمردات المعادية والمدعومة من الأجنبي وتلك التمردات التي تنشأ وتندلع تحت ضغط مسببات اجتماعية واقتصادية وسياسية وطنية.

- سادت طرق الاستبداد والتحكم الفردي في قيادة الدولة وتقلص الهامش الديموقراطي الذي كان موجوداً.

- الوقوع في أخطاء تكتيكية ذات أبعاد وطنية خطيرة  ، كان لابد من التروي والمبدئية في التعامل معها كقضية شط العرب والحدود مع إيران.

- عدم القيام بأية محاولة ملموسة لشق صفوف التحالف غير المعلن بين القوميين العروبيين وأصدقاء بريطانيا بقيادة نوري السعيد أو على الأقل تحييد القوميين إذا كان مستبعداً التحالف معهم.

- وسنلاحظ أن عدداً من هذه التمايزات والمميزات ستلاحقنا لدى دراستنا التحليلية لفترة أخرى من تاريخ العراق السياسي الحديث حيث وصل العراقويون مرة أخرى إلى السلطة ولكن كجمهوريين هذه المرة.

قاسم يكتب المأساة بدمه :

إذا كان التغيير الثوري الجمهوري، الذي بدأ بانقلاب عسكري عادي، قد أرسل مع الريح حزب أصدقاء بريطانيا إلى العدم، وحمل إلى قمة السلطة مجموعة من الضباط العراقيين الوطنيين ضمن ما اصطلح عليه بعد الانقلاب الجمهوري في مصر بمجموعة الضباط الأحرار، فإن هذا التغيير لم يغير بشكل كامل ومن الجذور التركيبية السياسية الميدانية في العراق ولكنه- فيما عدا إقصاء حزب بريطانيا- جعل تلك التركيبة تأخذ شكلها الأكثر وضوحاً وتماسكاً وستطبع بميسمها ملامح تاريخ العراق المعاصر طوال نصف قرن ما زال متواصلاً حتى اليوم.

لقد وجد التيار العراقوي نفسه، هذه المرة، في قمة السلطة ممثلاً بالزعيم عبد الكريم قاسم، والذي كان في مبتدأ حياته مدرساً مدنياً لا علاقة له بالعسكر والعسكرتاريا، ونعتقد بأنه ظل يحمل في داخله ذلك الإحساس المدني غير المقولب نحو الناس والأشياء والتاريخ إلى آخر لحظة في حياته ذات الأريج البطولي والمأساوي الذي لا يخفى.

  تلخص الكلمات القليلة التي صرح بها قاسم لأحد الصحافيين من جريدة "لينك" يوم 7 أيلول/سبتمبر 1959، الجوهر الحقيقي لمأساته كقائد ثورة وصاحب مشروع سياسي شديد الهشاشة والتناقض رغم نبله الإنساني الأكيد والمنحاز للفقراء ؛ فقد قال يوم كان الصراع مضطرماً بين القوميين العروبيين واليساريين الماركسيين ما حرفه: (بمرور الوقت سيتجه اليمين إلى الوسط وكذلك سيفعل اليسار). وهكذا افترض قاسم أنه سيمسك العصا من وسطها ،ويستطيع هو وزملاؤه العراقويون "البقاء فوق الميول والاتجاهات" كما قال هو حرفياً في مناسبة أخرى، ولكن الرياح أتت بغير ما تشتهي السفن العراقوية حيث ازداد التطاحن بين اليسار واليمين وجاءت الضربة أخيراً لنظام قاسم من القوميين العروبيين في (الجبهة القومية) التي يقودها البعثيون.

في هذا الهيجان، كانت المجموعة المحيطة والقريبة من قاسم ممن يمكن اعتبارهم ضمن تيار العراقوية نهباً لتجاذبات واندفاعات متنوعة. وتضم المجموعة بعض المدنيين من أمثال التاجر الثري وذي الميول الاشتراكية محمد حديد والأستاذ الجامعي اليساري إبراهيم كبة، ومجموعة من العسكريين من أبرزهم فاضل عباس المهداوي ومحمد صالح العبدي وأحمد محمد يحيى وعبد الجبار جواد ومحسن الرفيعي، ومن الطريف الذي لا يخلو من مغزى أن نعلم إن عبد الكريم قاسم نفسه كان مرتبطاً بنظام العراقوي القتيل بكر صدقي عن طريق محمد علي جواد آمر سلاح الطيران آنذاك. غير أن نقطة ضعف قاسم وتياره كان في أمور عديدة من أهمها:

- انعدام البرنامج السياسي المتماسك الواضح والمتميز عن البرنامج القومي أو الآخر الماركسي.

- ضعف السيطرة على أجزاء واسعة من الجيش ولجوء قاسم إلى الوسائل الاستخبارية الدفاعية ضد الالتهام اليساري والقومي للجيش وباقي مؤسسات الدولة.

- مجافاته تكتيكياً واستراتيجياً لعدد من بديهيات البرنامجين القومي واليساري والتي لا تتناقض مع أساسيات الترعة العراقية كالوحدة العربية في صيغتيها الاندماجية القومية أو الفدرالية اليسارية أو العدالة الاجتماعية الجذرية.

- شخصنة النزاع غير المبرر مع جمال عبد الناصر على الرغم من أن بدايات النظام القاسمي كانت تخلو من أي عداء أو جفاء لناصر ولنظامه.

أن التعمق في أحداث تلك الفترة المضطربة من تاريخ العراق السياسي، تعطينا انطباعاً قوياً في أن ما حدث بعد تدمير التجربة القاسمية "العراقوية" ومقتل قائدها وعدد كبير من أبناء العراق على أيدي القوميين مرة أخرى ، إن ما حدث وما زال يحدث حتى يوم الناس هذا، يحمل الكثير من متغيرات وتناقضات الترعة العراقوية وتيارها الذي فشل في الاحتفاظ بالسلطة مرتين، لأنه- بكل بساطة- يشكو من خلل تكويني برنامجي خطير عرضنا لبعض جوانبه قبل قليل. وإن هذه التجربة تستلزم دراسة مجتمعية وتاريخية سياسية معمقة وواسعة ففيها يكمن العديد من جذور كوارث الحاضر ومآسيه.

وتتخذ هذه الأمنية أو الرغبة الفردية طابعاً خلاصياً فريداً وجماعياً، وقائماً على تصور ديموقراطي إنساني، يؤمن بتعددية حزبية وثقافية حقيقية، وولاء للوطن العراقي كقيمة حضارية متجسدة في المواطن الإنسان . الوطن غير المبتور عن عمقه الاستراتيجي القومي العربي، تقوم الدولة فيه على مبادئ مواطنة عصرية أساسها المساواة في الحقوق والواجبات وليس على أساس عضوية الطائفة الدينية أو الإيمان الأعمى بأدلوجة ما .  إن الديموقراطية بهذا المعنى هي الوسيلة التاريخية المجربة لتحقيق اندماج مجتمعي أكيد وحقيقي يعيد الاعتبار للمركبات الصحيحة للكيانية العراقية، بعيداً عن البرامج الانعزالية الداعية إلى فصل العراق عن محيطه العربي أو تلك المشككة بعروبة العراق والأغلبية الساحقة من مواطنيه والناظرة إلى العرب العراقيين كمحتلين ومستعمرين.

إن "العراقوية" تحت نور الواقع وأمام حقائق التاريخ ليست إلا تجربة تاريخية لها ما لها وعليها ما عليها، وهي كسائر مكونات التاريخ العراقي المعاصر حَرِيَّةٌ بالدرس والكشف والتمحيص العلمي غير الخاضع للأهواء والأغراض التي يجري خلفها متسقطو الهفوات والنهازون الأدعياء.

 



#علاء_اللامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كركوك والموصل في الكعكة السياسية : حين تتحول الأوهام الشوفين ...
- توجان الفيصل ..سلاما !
- ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة العبودية :قراءة في رسالة مفتو ...
- ثقافة الذبح العشائرية : و نقتل الأكراد مجانا..!!
- لتكن "كركوك" أنموذجا لعراق المستقبل والسلام والمواطنة الحقة
- بعد السماح للعراق باستيراد الفؤوس والرماح : هل سينتهي العراق ...
- الإسلامي "عبد الله نمر درويش " والتنازل عن حق العودة :لمصلحة ...
- حول دعوة وفيق السامرائي لتوطين الفلسطينيين في العراق: الهاجس ...
- هل يبحث صدام عن الشهرة حقا؟
- أخلاقيات العمل المقاوم واستهداف المدنيين الأبرياء .
- جلاد مقاديشو هل يصنع السلام في فلسطين ؟
- هوامش على دفتر المذبحة
- الحوار الكردي الفلسطيني
- لم يبقَ إلا مطالبة شارون بقطع العلاقات مع الدول العربية !
- الهاتف الرئاسي العربي بمواجهة دبابة مركافاه الصهيونية
- مغامرة التأسيس والريادة في رواية السيرة العراقية : في مواجهة ...
- من "ورقة الأمير فهد " الى " تصريحات الأمير عبد الله "
- خطاب العقيد القذافي الأخير :لا جديد تحت شمس العقيد !
- مناقشة لآراء " غراهام فولر" حول نهاية النظام العراقي
- الإسلام السياسي وإشكاليات الديموقراطية السياسية المعاصرة


المزيد.....




- مسؤول: أوكرانيا تشن هجمات ليلية بطائرات دون طيار على مصفاة ن ...
- -منزل المجيء الثاني للمسيح- ألوانه زاهية ومشرقة بحسب -النبي ...
- عارضة الأزياء جيزيل بوندشين تنهار بالبكاء أثناء توقيف ضابط ش ...
- بلدة يابانية تضع حاجزا أمام السياح الراغبين بالتقاط السيلفي ...
- ما هو صوت -الزنّانة- الذي لا يُفارق سماء غزة، وما علاقته بال ...
- شاهد: فيديو يُظهر توجيه طائرات هجومية روسية بمساعدة مراقبين ...
- بلومبرغ: المملكة العربية السعودية تستعد لعقد اجتماع لمناقشة ...
- اللجنة الأولمبية تؤكد مشاركة رياضيين فلسطينيين في الأولمبياد ...
- إيران تنوي الإفراج عن طاقم سفينة تحتجزها مرتبطة بإسرائيل
- فك لغز -لعنة- الفرعون توت عنخ آمون


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - علاء اللامي - النزعة العراقوية من الجاحظ إلى عبد الكريم قاسم .