من هو المثقفُ؟

جهاد علاونه

الحوار المتمدن-العدد: 2542 - 2009 / 1 / 30 - 09:07
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

إن سلامة موسى هو أول عربي إستخدم كلمة مثقف , وكانت الناس فيما قبل سنة 1923 في مصر والقاهرة وفي عموم أرجاء الوطن العربي الكبير يعتقدون من أن المثقف هو فقط الذي يُعطي يوم الجمعة في المسجد درس الجمعة , أو هو كل رجل يضعُ على رأسه عمامة , ولم يكن الشاعر له لقب مثقف أو الفنان أو المبدع , حتى أن مزاولة أي مهنة ثقافية كانت تتطلبُ لبس العمامة والعُبي والإكثار من الصلاة في المسجد بدليل أن الملحنين الأوائل الموسيقيين كانوا شيوخا أمثال : الشيخ أبو العُلا محمد , والشيخ سيد درويش , والشيخ زكريا أحمد . وعبده الحمولي وزوجته.

وقبل ذلك كان يعتقدُ بأن المثقف أيضا هو كل إنسان يسكن في الريف , نعم , لا تستغربوا , كان لقب المثقف ليس الشيخ أو الشاعر بل كان (الفلاح) فالفلاح الذي يبذر الأرض ويحرثها وينتحُ الطعام كان هو فقط لا غير الذي يُسمى بالمثقف , وهذا معناه أن مدلول كلمة المثقف هنا جاءت من صياغ أرض الواقع حيثُ يعملُ الفلاح على التغيير والإنتاج , فالمنتج مثقف , ومازالت إلى اليوم المجتمعات الرعوية الغير منتجة تغار وتحسد المجتمعات المنتجة الفلاحية , وكانوا قبل ذلك ينضمون حرب عصابا للهجوم على الفلاحين وسلبهم ما يزرعونه وما يفلحونه .

وإرتباط كلمة الفلاح بالمثقف ليس غريبا فالكلمة في الإنكليزية معناها الزراعة أو مشتقة من الزراعة culture-agriculture .
والترجمة في العربية لكلمة cultureليست دقية أو ليست هي التي ينبغي النطق بها فكلمة مثقف في العربية ليست ترجمة دقيقة لكلمة culture وإنما يجب أن تترجم إلى غير ذلك .
ولكن المهم هو الإنتاج فالمثقف هو المنتج للمادة الفكرية وليس المستهلك لها , وإذا أردنا أن نحسب المثقفين العرب فإنهم لا يتجاوزون عدد أصابع القدمين , والباقي منهم مُستهلك وليس منتج , تماما كالذي يستهلك الصناعات ولا ينتجها , فهل مثلا نستطيع القول عن المستهلك للصناعات بأن مُصنّع؟
طبعا لا .
وحين كنتُ طالبا مُجدا في المدرسة كنتُ أحفظ الشعر والكلام النثري الجميل ولذلك كانوا في المدرسة يطلقون عليَ لقب (مثُقف) وكانت هذه الكلمة دائما ما تغريني بنفسي وتجعلني مغرورا , وكنت الوحيد الذي يحملُ هذا اللقب ولم يكن ينازعني به لا طالب ولا أستاذ ولا حتى مدير مدرسة ,وكنتُ أنظرُ إلى الطلاب على إعتبار أنهم غير مثقفين مثلي ,وكنت سعيدا جدا بهذه اللقب , لإعتقادي من أنه سيجرُ السعاد
ة أو يجلبُ الحظ ,وكنت إعتقادي بأن كل من يحفظ الشعر هو فقط المثقف , ولم أكن أعلم ما معنى مدلول كلمة مثقف غير أنني كنتُ واثقا منها بأنها كلمة أكثر قيمة من كلمة ( رياضي ) أو (فنان , مطرب, مُغني, مهندس, طبيب, أستاذ مدرسة , مدير , مهندس, طيار , عطوفة , معالي , سعادة ...).


ولكن هل هذا الكلام صحيح ؟
أعتقدُ أنني كنتُ مخطئا , فنحن جميعا مصابون بوهم الضمير وخداع المشاعر , فالذي يُنسق الزهور هو أيضا مثقف , إذا هو تفنن في ترتيبها وصياغتها , وكذلك الذي يعمل تطوعيا في مؤسسات المجتمع المدنية هو أيضا مثقف ,إذا عمل شيئا وأنتجه إنتاجا , فكلمة مثقف كانت ومازالت تعني : مجموعة إرهاصات عاطفية وفكرية تخرجُ من عقول بعض الفئات الإجتماعية تماما كما خرجت أثينا من رأس زيوس.

وحين خرجت أثينا من رأس زيوس كان هذا يعني قدرة زيوس على الخلق والإبداع , وحتى في الثقافة الإسلامية هنالك إسم لله من أسمائه الحُسنى وهو (المُبدع) أي أن الذي خلق الكون وأبدعه , وهذا تماما كما هو زيوس الذي خلق أثينا وأبدعها بكل ما بها من جمال أنثوي , وبكل ما بأثينا المدينة من جمال عمراني وديمقراطي .
وكذلك قصة بجماليون التي خلقها الفنان من وحي ريشته .
إذن : الإثقافة معناها الإنتاج الفكري .

وهذا يعني أن (أستاذالجامعة ) ليس مثقفا حتى وإن كان يُعلمُ الطلاب : الفن والهندسة , والأدب , فالشرط الأولي اللازم لتكون مثقفا هو قدرتك على التخيل والخلق والإبداع والتميز بكل ما تخلقه من فنون ودراما مسرحية ,أدبية , شعرية , إعلامية ,وكذلك القدرة على صياغة كلمات من وحي الحاضر تهدفُ إلى إحداث ثورة وتغيير , كتغير أرض الواقع , وكذلك القدرة على صياغة حقيقة واقعية من أوهام وتوقعات العقل المبدع , أو العقل المُتخيلُ .

والآن أصبح لدينا تعريفا للمثقف يشمل كل نواحي الحياة بخلاف ما كنتُ أعرفه وأنا في المدرسة عن المثقف , فالمثقفُ ليس هو الذي يحفظُ الشعر وإنما هو الذي يكتبه ويخلقه من عواطفه ورأسه تماما كما خلق الإله زيوس أثينا , وكما خلق (يهوى, يهوه .يهوُه.) في ستة أيام .

#جهاد_علاونه (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل