بسام البغدادي
الحوار المتمدن-العدد: 2529 - 2009 / 1 / 17 - 06:31
المحور:
الطب , والعلوم
تمر في الثاني عشر من شباط القادم ذكرى 200 عام على ولادة العالم و المفكر العظيم تشارلز دارون. لم يوجد حتى اليوم أنسان قام بتغيير مسار الفكر البشري و إخراجه من محيط الخرافة و الغيبية كما قام هذا الرجل. لا توجد نظرية علمية أخذت هذا الحيز الكبير في في مشروع فهم انسانيتنا مثلما أخذته نظريته عن التطور. مفكر و مؤلف لأشهر كتاب علمي عرفته المدارس العلمية حتى يومنا هذا. يشمل داروين مفصل تأريخي مهم في حياة البشرية كما نعرفها اليوم حيث فجأة يكتشف الانسان بأن نظام الطبيعة لا تقوده قوى خفية غير ظاهرة و أنما قوة معلومة يقودها نظام خاص يمكن دراسته و التعرف عليه أسمه الانتخاب الطبيعي.
البيئة التي ولد فيها تشارلز داروين كانت بيئة متقدة و متعطشة علمياً بعد التقدم الذي حققته العلوم الطبيعية خلال القرن السابع عشر و الاكتشافات التي أدت الى إهتزاز تلك الصورة القديمة للعالم حيث كان الانسان مركزاً للكون ومن اجله كل شئ موجود قبل ستة الالاف من قبل خالق اسمه الله. الكون ولأول مرة في تأريخ البشرية يبدو كبيراً و يتحرك بغض النظر عن وجود الانسان من عدمه على كوكبه الارض الذي لا يعادل الا ذرة تراب وسط هذا الكون الشاسع. ومنذ بداية القرن الثامن عشر كان اغلب أجزاء الارض مكتشفة و معلومة, ومن هذه الاجزاء تم جلب العديد من الكائنات الغريبة و أنواع جديدة من النباتات الغير معروفة من الامريكيتين و أستراليا و آسيا. حاول علماء الطبيعة عبثاً إيجاد نظام على أساسه كان بالامكان التمييز بين مختلف هذا الكائنات و تقسيمها الى فصائل و أجناس ولكن المشروع هذا كان يبدوا مستحيلا يوماً بعد يوم ومع ظهور نباتات و حيوانات جديدة قادمة من جهات العالم الاربع.
كذلك اكتشف علماء الطبيعة أثر التنقيبات التي تم الكشف عنها فجأة بأن هناك أجناس لم تعد موجودة بيننا الان, أجناس استطعنا ايجاد بقايا عضوية لها و متحجرات ولكننا لم نستطع العثور عليها حية في اي مكان. ومع زيادة أعمال الحفريات الاثرية و إكتشاف الطبقات المختلفة للارض بدا جلياً لعلماء الطبيعة بأن شكل و أنواع الاجناس الحية يتغير بمرور الزمن على الارض. بل بدا واضحاً بأن عمر الارض كان اكثر بكثير من 6000 سنة و هو العمر الذي تم الوصول اليه من خلال حساب أعمار الانبياء و تسلسلهم في كتب الانبياء و الاسفار اليهودية. علمياً لم يعرف احد العمر الحقيقي للارض ولكن بدا واضحاً بأن عمر الارض يفوق تقديراتنا بمئات الملايين من السنين.
عام 1830 قام العالم الجيولوجي تشارلز لايل بإصدار سلسلة من الكتب حول مبادئ الجغرافية الطبيعية. تلك المبادئ التي كان لها الاثر الكبير على نظريات دارون. لايل قام بدحض فكرة ان طبقات الارض او البقايا العضوية المتحجرة تحمل أدنى اشارة الى حوادث معينة تم ذكرها في الكتب المقدسة مثل الطوفان العظيم وغيرها من الكوارث المذكورة. بل أن الطبيعة كما نحن نعرفها اليوم قد نشأت و تطورت من خلال تغيرات طبيعية بطيئة على سطح الارض إمتدت لملايين السنين قامت المؤثرات الطبيعية بصقلها و جعلها كما نعرفها اليوم و أنها لازالت على نفس خط الحركة في التغيير و التبدل الذي كانت عليه دوماً.
عندما ولد تشارلز داروين 1809 كانت الناس تعلم بأن الحياة متغيرة و ان الارض في حركة متواصلة و ان أحياء و نباتات لا عد لها ولا حصر كانت قائمة قبل هذه الأحياء التي نراها اليوم. و السوآل الذي كان مطروحاً وقتها هو فيما اذا كانت هناك قوة فوقية الهية تدير و تتحكم في هذه الحركة المستمرة؟ كل شئ في الطبيعة يبدو وكانه في نظام تام مع بيئته وكل كائن حي موجود وكأنه مخلوق في مكانه الصحيح فهل كل هذا جاء من قبيل الصدفة؟ ربما هي الحكمة الالهية التي تقوم بالقضاء على بعض المخلوقات من وقت لاخر وتقوم بخلق مخلوقات جديدة تملا بها الطبيعة من جديد. ولكن فكرة وجود مثل هذه الحكمة الالهية القاسية و المدمرة التي لا تظهر اي احترام او تقدير للحياة كقيمة بات فكرة غيرة مقبولة لدى الكثير من الباحثين و المفكرين حينها.
أول من جاء بفكرة ان الكائنات تتغير تدريجياً هو المؤرخ الطبيعي الفرنسي جان بابتيست لامارك والذي لم ينفي وجود قوة الهية قامت بخلق الكائنات الحية في بداية الامر على الارض و بدأت هذه الكائنات بالتغيير بحكم القوى الطبيعية التي تدفع هذه الاجناس بإتجاه الكمال تحت العناية الالهية. لهذا بدأت هذه الاحياء بالتكيف تدريجياً للبيئة التي خلقت فيها و قامت بتوريث هذه التغييرات العضوية الى الاجيال التي تليها شيئاً فشيئاً حتى وصلتنا اليوم كما نراها. وهذا يشرح بوضوح حسب رأي لامارك التناغم التام بين بنية الكائنات الحية و نمط حياتها الذي تعيشه. ولكن هذا قاد المفكرين بطبيعة الحال الى سوآل لم يجدوا احد إجابة عليه , وهو كيف يعمل هذا النظام الطبيعي في توريث هذه الصفات المكتسبة؟
ريح التغيير كانت تطرق الابواب, الثورة الفرنسية اثبتت بأن نظام الدولة الحالي ليس شئ سرمدي قائم بترتيب من الله. الطبقة التي كانت مظلومة في اسفل النظام الاجتماعي اصبحت فجأة تحتل مراكز الحكم العليا. زيادة القلق الاجتماعي من التغييرات المستقبلية المحتملة طرح تساؤلات أذا ما كان المجتمع مبني بالطريقة الصحيحة الوحيدة ام أن هناك خيارات أخرى ممكن للمجتمعات فيها الارتكاز على أسس افضل تقودها أفرادها نحو السعادة. هل كان مكتوباً على الطبقة العاملة ان تعيش حياة العوز و الفقر؟ هل كان من الممكن للافراد أن يقوموا بتحسين شروط حياتهم بأنفسهم اذا كانت الحيوانات في البرية قادرة على التغيير و التطور بشكل دائم فلماذا اذن هذا غير ممكن في حياة البشر؟
كما نرى فأن نظرية التطور كانت ناضجة و جاهزة للاكتشاف في هذه البيئة من التغيرات السياسية و الاقتصادية التي كانت تعصف بالعالم. واذا لم يضع دارون يده عليها فأن غيره كثيرين كانوا في الطريق الصحيح نفسه. وهذا ما تدل عليه الحقائق في واقع الحال, حيث مع بداية القرن الثامن عشر حاول الكثير من علماء الطبيعة فهم هذا النظام الكائن وراء هذه التغيرات الناتجة في الطبيعة و الاحياء بشكل عام. بعضهم كان يملك نفس الفكرة التي كان يملكها داروين تماماً. مثلاً الطبيب الامريكي ويليم تشارلز ويلز اصدر عام 1818 نظريته عن لون البشرة و اسباب اختلافها بشكل يشابه الى حد كبير نظرية الانتخاب الطبيعي كما نعرفها اليوم. المزارع الايرلندي باتريك ماثيو قام عام 1831 بإصدار كتاب عن زراعة الغابات و يذكر فيه بأن الاجيال الناتجة للأشجار قد تختلف تدريجياً عن الاباء لدرجة تسمح بظهور اجناس جديدة تتأقلم مع ظروف حياة جديدة بمرور الوقت.
لا شئ من هذه النظريات كان مشهوراً حينها ولا حتى داروين نفسه الذي قام بتطوير نظريته بنفسه كان قد سمع بها. في كل مرة كان داروين يكتشف شيئاً جديداً كان مضطراً لاضافة فصل جديد في كتابة الشهير (أصل الانواع) لكل طبعة قام بإصدارها. لهذا يعترف داروين بنفسه بأن الفكرة الرئيسة للنظرية في كتابه هذا قد تعرضت للتنقيح و التمحيص و النقد الذاتي اكثر من مرة على مر السنين.
في كتابه اصل الانواع يقوم تشارلز دارون بشرح متسلسل بسيط ومفصل لنظريته في الانتخاب الطبيعي وعلاقتها بنماذج الحياة المختلفة التي نراها اليوم و كذلك علاقتها بنماذج الحياة المختلفة التي لم تعد موجودة بعد. يقوم كذلك و بطريقة منهجية و علمية بطرح الدلائل التي تساند نظريته و التجارب التي اجراها في محاولة للتأكد منها و كذلك يقوم بكل حيادية بكشف نقاط الضعف التي كانت تهدد نظريته حينها. (من المهم ان نتذكر بأن حين كتب كتابه لم تكن الصبغات الوراثية مكتشفة ولا الاكتشافات الجيولوجية قد قطعت شوطاً يذكر في الكشف عن الاحياء التي سبقتنا).
في الرابع و العشرين من شهر تشرين الثاني عام 1859 قام دارون بأصدار الطبعة الاولى من كتابه اصل الانواع الذي إنتهت جميع نسخها في نفس اليوم. دارون اصبح بين ليلة وضحها اشهر من نار على علم ولكنه في نفس الوقت تعرض للكثير من النقد و الاستهزاء من المراكز الكنسية الدينية التي بدأت بتأجيج الشارع العام من خلال أفكار مغلوطة عن نظريته و التي لازال بعضها يعيش حتى يومنا هذا. و أذا كانت النار قد أخرجت الانسان من عالم الحيوان الى حياة الجماعة, و اذا كانت الزراعة قد أخرجت الانسان من عالم الكهوف الى علام القرية, و الصناعة أخرجت الانسان من عالم القرى الزراعية الى عالم المدن فأن تشارلز دارون هو الشخصية التي قامت فعلا بإخراج الانسان من كهف الخرافة الفكرية.
بسام البغدادي
#بسام_البغدادي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟