|
قصة قصيرة - حُلُمٌ و ميلادٌ تَحْتَ الرّصاص
ابراهيم الخزعلي
(Ibrahim Al khazaly)
الحوار المتمدن-العدد: 2523 - 2009 / 1 / 11 - 05:15
المحور:
الادب والفن
( بما ان القضية الفلسطينية هي ليست قضية الفلسطينيين فقط ..بل هي قضية انسانية وحضارية , يشترك فيها من مختلف الجنسيات والأعراق ويُضَحّون جميعا من أجلها, إذن لاتستطيع البقاء على ارض فلسطين دُوَيْلة كأسرائيل )
قصة قصيرة
حُلُمٌ و ميلادٌ تَحْتَ الرّصاصِ
وتعود مرةَ أخرى تُهَدهِدُ طفلها الذي ما ان يهدأ ، إلاّ ودوي رصاصٍ ، أو أزيز طائرة تُرْعِبَهُ، فَسُرعانَ ما يَصرخُ مَذعورا. لَمْ تكن عيناهُ ونظراتهُ كباقي الصغار الذين يحملون مواصفات الطفولة المألوفة.. فحين يصرخُ إثرَ أيّ صوتٍ ، فُجأة يتوقف عن البكاء ، فترى عيناه تُرْسلان نظرهما بعيداَ بعيداَ ، وكأنهما الشمس التي لا تأفل .
************
هدأ قليلاَ بعد أن أتعَبَهُ البكاء ، وأغمَضَ عيناهُ ليس تماماَ ، ودموعهُ لَمْ تَجُفّ بَعْد . بُم... قَذيفَةٌ أخرى تَسْقُط وسَطَ المُخَيّم واق ..واق .. واق لا ياصغيري ..لا ياصغيري العزيز لا تخف ، إسمُ الله ..إسمُ الله عليك . أخْرَجت نَهدها لعله يسكت . هَدْهَدَتْهُ وهو في حُجْرها ويداها تَرْبُت على جوانبه ، وهي تناغيهِ بصوت شجي . لحظةُ صمت.. تبادر الى ذهنها ثمة سؤال وهو بعدُ حبيس فاها ( ما هذه الأصوات ؟! ) إستيقظ الصغير من سكونهِ وأشرق وجههُ بإبتسامةٍ عريضة وشّحَ كامل وجههُ وعَبِقت من بينِ شفتيه كلمات : إنّهُ صوت الطائرات ياماما . لَمْ تترك تلك الكلمات أي أثر على أمّه ، وكأن أبناء فلسطين يفهمون قضيتهم وهم في بطونِ أمّهاتهم، و ما أن أجابها إلاّ وأعقبها بسؤال : والى متى يفعلون ذلك ياماما ؟
************
إرتخت يداها اللتان تحتضنه الى صدرها ، وتلاشت إبتساماتها بانسدال جفنيها كما تتوارى الشمس وراء الأفق . أنفجر بركان في أعماقها هزَّ كيانها وبعث ماضيها .. سؤال اكبر مما تتوقعه من صغيرها ! سؤال كَلَيْلٍ ينتظر خيط من نور فجر ، خمس وثلاثون عاما وما زال بلا جواب
************
سرحت مع أحلام طفولتها ، تذكرت أختها الصغيرة التي سألت ذات يوم ، ذات السؤال فكانت الأجابة أن تطايرت أشلائها . إقشعرَّ بدنها ، كما لو أنها لامست تيارا كهربائيا . دّبَّ في عروقها شئ يُشبِه السّمّ منه بالخوف . حدّثت نفسها ، ليتها لاتفاجأ بِمِثلِ ما وقع لأختها حينها . نظرت في وجه وليدها ، وكلاتا يديها تضمانه الى صدرها بقوة . كانت عيناه تُصَوّبان نظرهما في عيني أمهِ ، كمن ينتظر جواباَ من أمه . خَطَرَ لها أن تقولَ شيئا ، وقبل أن تفتحَ فاها ، هَزّت أركان المخيّم قذيفة صاروخية . صّرّخت : ولدي ..ولدي ، مات ولدي قَفَزَ سالم من فِراشهِ ! ماذا بكِ ، ماذا بكِ ياسوزان ، إهدئي .. إهدئي إنّكِ في حُلُم ، وأخذَ يَرْبُت على كَتِفَيْها مثل صغير بين يديه ، واستأنفت سوزان صراخها ثانية ، بعد أن هدأت هُنَيْهَةَ : ولدي .. ولدي محمود .. أينَ ولدي ياسالم ؟ أقول لكِ أنكِ كُنْتِ في حُلم .. آه .. آه ..!
************
فتحت سوزان عيناها الزّرقاوان على إتّساعهما ، إلتفتت يُمنةَ ، يُسرَةَ ، حدّقت في كل جزءٍ مِنْ الغُرفة ، كمن فَقَدَ شيئاَ . مَسَحت بَطنها الحامل بِراحتها اليُمْنى . إرتسم على وجهها خيطٌ مِنْ الأصفرار ، ما أن ظهَرَ حتى راح يَتّسع ، لِيُغَطّي تلك الحُمرة المرسومة على وجنتيها كزهرتين . إرتَعَشَت ، أصابتها قَشْعَريرة شديدة ، مما جَعَلتها تَهتَزُّ ، كمن تَعَرّض لريح ثَلجية . أخَذت تَتَلَوّى . لَمْ تُطِق صَبْرا لِشِدّةِ إحْساسها بالألم . أطلقت صَرَخاتٍ عالية مَصْحوبةٍ بما يَشْبهُ الزّبَدُ مِنْ بين شَفَتيها . قالت : إذهبْ يا سالم واحضر لي طبيبا ، فان جنيني ، أحشائي تكاد تسقط . قال سالم : ماذا تقولين يا سوزان ؟ أتعلمين كم الساعة الآن؟ إنها الثانية بعد مُنتصف الليل ، كماأنَّ دوريات العدو العسكرية تتجوّل ، لأنّهم البارحة أعلنوا حالة مَنْع التَجَوّل . أجَلْ ..ان تلك القذيفة التي سقطَتْ وسَطَ المُخَيّم ، كانت شَديدة الأنْفجار ، حيث أرعَبت أهل المُخَيّم جميعاَ ، بما فيهم سوزان وهي حبْلى بشهرها الثامن . فاشتدّت صيحاتها التي مَزّقت حُجُب الظلام الجاثية على صدر المُخَيّم وبمرور كلِّ لَحْظةٍ تَزداد آلامها قَسْوة ، تتقلّبُ كَعُصْفورةٍ طُعنت برأسها . يرتفع صراخها ، حتى أنها شيئا فشيئا تصْفَرّ ثم إبْيَضّت عيناها . ففقدت كامل شعورها ، أو كالمصاب بالهستريا ، تصرخ ، تتلفّظ عبارات لاتُفْهَم . وحين تهدأ موجة الألم تناديه بصوتٍ ضعيف : سالم .. أين أنتَ يا سالم؟ وحاول سالم بكل ما فيه من قدرة أن يحْبُس أدمعا و عبرة في حُلقومه أن تنفجرا ، وهو لا يرغب يكون هذا المشهد بمرأى من زوجته سوزان . فأجابها بحُنُوٍ ورِقّةٍ : نعم عزيزتي .. فقالت : إذهب الى الخلة أم حسن وأحضرها لي ، سأموت .. أموت . ************
نَهَضَ سالم حائرا ، مشَوش الفكر ، مُنْهار الأعصاب ، بعد أن كان رأس سوزان في حُجِرهِ ، فوضعهُ على وسادةٍ عَتيقةٍ أو بالية الشّكل ، استقام . دَسَّ يَده في جيبهِ لِيُخْرجَ علبة السجائر التي ما كانت تحتوي إلاّ على سيجارةٍ واحدةٍ . أطلق عنان أهةٍ مَحبوسةٍ في صدرهٍ قبل أن يقدحَ عود الكبريت ، وما أن نفثَ الدّخان مِنْ فمهِ حتى بَرَزَ عصام وسط تلكَ الغَيْمَةِ الدّخانية مخاطبا ( أخي سالم إنَّ أملُنا فيكَ لَهو أكبر من أن تَخدشَ الأشواك قدميكَ ، فتُعيق تَقَدّمكَ . نحن نعرفُ أنّكَ مُغاضبا وشديد الأنفعال ، ولكن لا ينبغي الغضب لِما هو ليس بِمُستوى الأهمية . فصلاح عندما وهب قلبهُ لِقضيةِ شَعبِهِ ، فأنه لم يَمُتْ ، ما دامت قضيتهُ حيّة لَنْ تَموت . وكذلك أحمد ورُبّما سوزان وأنتَ ، وتوقّع أنّ أعدائنا الغُزاة سيستعملون أقسى الأساليب في ضربنا ، جوّاَ وبرّاَ .. بطائراتهم ومدافعهم ودبّاباتهم ورشّاشاتهم وبمختلفِ وأحدث أسلحتهم . توقّع هذا كُلّه يُوَجّه ضِدّنا ما دمنا نناضل مِن أجلِ إسترجاعِ أرضنا ، وما دمنا نَحْمل البُنْدُقية . فلا تيأس ولا تَحْزَن . الحُزْنُ فقط حين تسْقط الراية والبُنْدقية ..وهذا مُسْتحيل ، لأنَّ الدماء التي سالت لَن ولَمْ تَجُفْ .. والأنفُس التي قُتِلَت لَنْ تموت ، هي فيكَ ، فيَّ ، وفي كُلِّ المناضلين، وإننا لابُدَّ أن ننتصر ..) رَمى سالم عقب سيجارته ولم يُكْمِل النّفسَ الثاني منها . إرتدى سترته السوداء ، قَدّمَ رِجْلهُ اليُمْنى ثم اليُسرى خطى خطوتان ثلاث مدّ يده لِيَفتح الباب بِحَذرٍ . إنطلق صوت من خلفه ، لم يألفه من قبل ! واق .. واق .. واق إلتفت الى الخلف ، لكن ضوء الفانوس الخافت لم يُمَكّنه من ان يرى جيدا ، من أين هذا الصوت . تراجع الى الوراء قليلا . ثمّة شئ في داخله يُحَفّزه ، وكأنه قد لمح خيط من نور شمسٍ غابت مُنذُ قرون . إندفع جسمهُ لا إراديّا نحو ذلكَ الشئ المجهول . نادته سوزان : سا..لم ، هه سالم ..تعال ياسالم ، إنّهُ .. إنّه محمود جائنا من حُلُمي .. شَعّتْ ابتسامة بنفسجيه من وجه الوليد على وجهي والديه وخيوط الفجر تناثرت على كُوةٍ صغيرة في الغرفة .
الدكتور ابراهيم الخزعلي 1983 [email protected]
#ابراهيم_الخزعلي (هاشتاغ)
Ibrahim_Al_khazaly#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إسْمُكَ رَمْزُ الثورة
-
قصيدة - الثّوري
-
قصيدة رثاءُ أمّة وسقوط قلم
-
أغْنيةُ الغَضَب
-
قصيدة - طاغيهْ
-
أناشيد الجياع
-
من ينسى ..؟
-
قصيدة - أغنية لنوروز والميلاد والربيع
-
الوصايا العشر
-
قصيدة - إبرهه
-
أجيبيني سَيّدة الكون
-
قصيدة - تسبيحات صوفية عند بوابة الحاضر الغائب
المزيد.....
-
منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز
...
-
فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي
...
-
سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
-
وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي
...
-
-كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟
...
-
ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق
...
-
رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة
...
-
الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
-
صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
-
بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء
...
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|