أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سنان أحمد حقّي - السوناتة النقديّة..!















المزيد.....


السوناتة النقديّة..!


سنان أحمد حقّي

الحوار المتمدن-العدد: 2478 - 2008 / 11 / 27 - 08:10
المحور: الادب والفن
    



 الحركة الأولى
كان من الممكن أن يكون انعطافة بعيدة التأثير على مسيرة السينما العربيّة، ذلك هو فيلم كرسي الإعتراف، الذي شاهدته على شاشة روتانا زمان، لقد قدم الممثلون وهم جمهرة من نجوم الصف الأول للسينما العربيّة آنذاك أمثال يوسف وهبي وفاتن حمامة وفاخر فاخر وشكري سرحان وسراج منير وعمر الحريري وسواهم ممن لا يسمح المقال بحصرهم، قدّموا فيلما كانه عملٌ من طراز آخر ولسنا هنا نحاول تقييم النص فهو نص عالمي كما بدا ،ولكن إبداع الممثلين والمخرج والإنتاج وكافة الفنون المرافقة كان شيئا غير معهود أبدا في سينما اعتادت تقديم أفلام من نوع مكرور وينحصر في حكاية شاب يحب وينتهي الفيلم في الغالب بالزواج بعد أن يُصلّح البطل غلطته وهكذا..ولكننا وجدنا أنفسنا أمام فلم يقدم ممثلين لا يختلفون عن أبرز المحترفين في عالم التمثيل مع أنه كان يتّسم يالأداء المسرحي والذي كان الفنان يوسف وهبي معروف به وليس هذا عيبا بل ميزة للفيلم بيّن مدى عمق المهارة والإحتراف الذي قدّمه جميع الممثلين ولقد وجدنا فاتن حمامة وكأنها ممثّلة أوربيّة أو أميركيّة، إن يوسف وهبي قدّم على وجه الدقّة أداءً عرفنا من خلاله على قدرات خلاّقة تمثّل وتُجسّد حقّا ما كان يروّج عنه، وكل ما تم تقديمه مع أنه يمثّل شكل الأداء الكلاسيكي لفن التمثيل لكنه كان من الممكن أن يكون منعطفا حقيقيا في فن السينما العربية لو أن فن التمثيل والمسرح والسينما استفاد من ذلك القدر من المهارة والإتجاه السليم ..
وفضلا عن كل ذلك فقد كانت لغة الفيلم هي العربيّة الفصحى ولكنها كانت رائعة تماما وبمعنى الكلمة،وقد كان نُطق الممثلين كاحسن ما سمعنا لقد كانت لغةً منسابةً صحيحةً سلسةً تُطاوع الممثلين وتنسجم مع متطلبات النص أو بكلمة واحدة كانت رائعة جداوتستطيع أن تُخرس كل لسان يُعيب استخدام الفصحى في الفنون التمثيليّة أي في السينما والمسرح والتلفزيون إذ بعد فترة وجيزة على بدء عرض الفيلم نسينا تماما أن لغته كانت الفصحى!.
 الحركة الثانية
لم نعد نقرأ ولا نسمع شعرا يمكن أن نتمايل طربا له ولا أن نحفظ منه مقاطع محبّبة ولا يبهرنا فرط العواطف التي يحملها ، نقرأ هنا وهناك من مختلف المدارس والمذاهب الفنيّة ونُعجب بافكار متنوعة وجديدة ولكننا لا نحفظ ولا نتمكن من حفظ شيء مما نقرأ أو نسمع، كما كنّا نفعل مع شعر مختلف المراحل والعصور الأدبيّة؟!أين تلك الصور المرتبطة بموسيقى الكلمات ارتباطا حميما ؟ أين الوجع الذي يفعله الحب ويرسمه الشاعر بما لو ردّدناه ألف ألف مرة ما ارتوينا من متعة إنشاده؟ أين تلك الحمرة التي اعتلت وجنات الصبايا عندما كنّ يقرأن شيئا من ذلك لأول وهلة؟ أين ذلك الوجيف الذي كنا نحسّ به عند قراءاتنا الأولى سواء في شعر الجاهليّة أو في مختلف عصور الأدب؟وعبر مراحله المختلفة؟
كيف تسنّى لنا أن نحفظ عن ظهر قلب عددا لا يُستهان به من أبيات الشعر العربي ؟ حتى الشعر الحرّ كنّا حفظنا منه كثيرا من السطور مما كتب البياتي وبدر ونازك وبلند وما كتبوا جميعا في البدء عندما لم يكونوا قد تأثّروا بشكل الشعر الأجنبي ولغة ما بعد الترجمة ..أي بعدما تهافتوا على النثريّة وهربوا بعيدا عن تصوير الحنان والشوق والحنين وآلام الوحدة وتصوير الخوف والبطولة والعفويّة أو الإحساس بالطبيعة وغير ذلك من العواطف التي لا تموت..أين ما كتبه سعدي يوسف في قصائده الأولى أو البريكان أو سواهم قبل أن تسرقهم المذاهب الفكريّة ومحاولة الظهور بثياب الفلاسفة والمفكرين الكبار والسياسيين! ليس الشعر كالفكر الفلسفي أو السياسي فهو ليس بالضرورة معنيا بقواعد التفكير السليم ومنطق ما هو صائب من سواه إنه ما يُخاطب مكانا آخر فينا وليس بالضرورة أن يكون هو العقل ! لماذا لم نعد نستطيع أن نحفظ ما يكتبه الشعراء ؟ كل ما نقرأه ونسمعه لا يتمكن من الدخول إلى ذاكرتنا الشعريّة وقديما سمعت من صديق من عشاق السينما : إن أحسن الأفلام هو ذلك الفيلم الذي تظلّ تتذكّره لفترة طويلة بعد أول مشاهدة ،وحتّى بعد زمن طويل فإن بعض المشاهد لا يمكن أن تُفارق خيالك، أي أنها تدخل فضاء ذاكرتنا بكل مشروعيّة وجدارة وبرغبتنا بل بإلحاحنا الشديد، أين هو ذلك الشعرالذي يفعل ما كان يفعله كلّ شعر منذُ قال امرؤ القيس ما قاله ومنذُ أن فعل شعر جميل وقيس والمتنبّي والبحتري وعلي محمود طه المهندس وشوقي وسواهم، منذُ أن قال ابن الدمينة:
بكيتَ كما يبكي الوليد ولم تكن
جلوداً(أو جليداً) وأبديتَ الذي لم تكن تُبدي
ومنذ أن قال شوقي :
سجا الليل حتى هاج لي الشعرُ والهوى
وما البيد إلاّ الليلُ والشّعرُ والحبُّ
ومنذ أن قال صاحب الموشح الذي تردّده فيروز:
لفـّني الوجدُ وأضناني الهوى
كفراشٍ ليسَ يدري ما بهِ
ومنذُ أن قال المجنون:

خَليلَيَّ لا وَاللَهِ لا أَملِكُ الَّذي قَضى اللَهُ في لَيلى وَلا ما قَضى لِيا
قَضاها لِغَيري وَاِبتَلاني بِحُبِّها فَهَلّا بِشَيءٍ غَيرِ لَيلى اِبتَلانِيا
وَخَبَّرتُماني أَنَّ تَيماءَ مَنزِلٌ لِلَيلى إِذا ما الصَيفُ أَلقى المَراسِيا
فَهَذي شُهورُ الصَيفِ عَنّا قَدِ اِنقَضَت فَما لِلنَوى تَرمي بِلَيلى المَرامِيا
فَلَو أَنَّ واشٍ بِاليَمامَةِ دارُهُ وَداري بِأَعلى حَضرَمَوتَ اِهتَدى لِيا


وحتّى قال سعدي يوسف:
بعّدنا عن النخل
ها هي شمس القرى تمنح النخل غابا من الريش أحمر!
وقال:
إذا علمٌ خلّفتُهُ يُهتدى بهِ.........بدا علمٌ في الآل أشقر مفترُّ
وحتّى قال محمود البريكان:
يا سلوى
لم نلتقِ قبلُ ولم أرَ منكِ سوى شبحكْ
وحَكايا تُروى لي عن نبلكِ عن مرحكْ
لم نلتقِ قطُّ ولكنّي
أصغي لأخيكِ وأخي في سجني
وقسيمي ليلَ الزنزانهْ
يحكي لي عنكِ كألطفِ الطَفِ إنسانهْ
وكأجملِ روحٍ مبتسمهْ
عن ضحكاتكِ وهي ترِنُّ صباحَ مساءْ
حبُّكِ للتفصيلِ و للأزياءْ
ومِقَصُّكِ والصُحُفُ البيضاءْ
وثيابكِ ذاتِ الألوانِ المنسجمهْ
أعرفُ حتّى ما في دُرجِكِ من أشياءْ
أعرفُ حتّى ما كنتِ قرأتِ من الكتُبِ
حتّى كلماتكِ عند اللومِ أوِ الغضبِ
حتّى بعض أغانٍ أعجِبتِ بها جدّا
وقصائدَ مفعمةً وردا
يا سلوى
يا حلُماً في الصمتِ المكتئبِ
يا سرّاً في صدري وخيالا نوريّا
يتوهّجُ في أقصى التعبِ
يا حبّاً لا يُعقَلُ يا شعراً لا يُنسى
يا زنبقةً تتفتّحُ في الليلِ الأقسى
وتضوعُ وتنمو في صمتي
يا مُرقِصَةً في الحزنِ رؤايَ كأسطورهْ
يا شبحاً تنقُصُهُ الصورهْ
أقسمُ لو لاقيتُكِ يوماً في أيِّ مكانْ
لعرفتُكِ لو صافحتُكِ بعد مضيِّ زمانْ
لبكتْ أعماقي من فرحي
اتصوّرُها خُصُلاتكِ تطفرُ في فرحِ
أتصوّرُ ....لا يمكنني تجسيد الشبحِ
أتصوّرُ إخوتكِ الأطفال وأيّ حنان ٍ تضفين على البيت العاري
وأفكّرُ ما أروعها في غدها أُمّا ...؟
.. .. ..
.. .. ..
في أقبيةِ المنسيين
لا صوتَ هناكَ ، وما في الليلِ سوى الحُزنِ
نامَ السجناءُ ونامَ أخوكِ ولكنّي
أرقٌ أتأمّلُ أغلالي
وأفكّرُ فيكِ ....، وفيما أصنعُ بعد سنين
إذ أنزعُ أثوابَ السجنِ
أَاُحِبُّكِ جدّاً أم لهوا....؟
ثمّ أتبقينَ كما أهوى
وكما أتصوّرُ يا سلوى.

وحتّى قال الرحابنة في بعض زجلهم الذي يفوق كثيرا من الشعر الفصيح:
عايشي بعيدي عن ليالي صفا
عيشة جفا..بحكي مع الناس بجفا
ويا هل ترى مش هيك بيكون الوفا؟
وكيف بيكون الوفا ؟ اعطيني جواب؟
إن كان غِيري هالجدال وهالسكوت؟
أضنيتني يكفي بقى يرحم أبوك
وإن كان غَيري احباب عم بيعلّموك ْ
الله يباركلك يا ولفي بها لحبابْ
كل عم بتزيد في حبّك ولوع
كل ما بتزيد في عيني الدموع
وياريت عن حبّك المضني لي رجوعْ
رح تهرب الإيام ويمرّ الشباب
وين بتلاقي مثل قلبي قلوب؟
شو صار صافيلك وغافرلك ذنوب؟
قديش عن حبّك قلت بُكره بتوب
ما تبت يا ولفي ولا هالقلب تاب.
وأحسبُ أن أي تأويل لكل ما استعرضنا من سفر الذاكرة الشعريّة الواسع لا يمكن أن يقدّم شيئا اكثر واجمل مما هو معروضٌ في ظاهره!




 الحركة الثالثة
نحنُ العراقيون ( ولا أقول العراقيين!كما يرى البعض أنها على الإختصاص تكون كذلك ، لأنني لا أحبّ أن أخصص منهم أحدا بل أعني بهم كلّهم ، أي كما يقول الجواهري:ما إن أخصّصُ منكِ جارحةً...كلُّ الجوارحِ منكِ لي وطرُ) متعلّقون بحبّ المقام العراقي ، وإن كان الجيل الجديد أبعد تذوّقا من الجيل الذي سبقهم بسبب عدم استمرار سماعهم لهذا الفن الموروث والخالد، ولكن ما نستمع إليه أصبحَ مكررا وأن قرّاء المقام يتوخون الإلتزام الصارم بأداء المقامات المتنوعة على الأسس التي ورثوها والمقامات الموسيقيّة ما هي إلاّ مؤلّفة موسيقيّة ككلّ مؤلّفة أخرى بيد انها التزمت عرض شكل المقامات الموسيقيّة وحفظها عبر الأجيال بسبب عدم ذيوع أسس التدوين الموسيقي بل انعدامها كما هي الحال مع بعض المقامات الشرقيّة البحتة والتي تحتوي على أجزاء النغمة أو الكاربيمول أو نحوها ، حيث لم يكن امام الموسيقيين والمغنين في العصور السالفة سوى حفظها عن ظهر قلب بالطريقة التي وصلتنا ،وفي حين توصّل الموسيقيون الغربيون إلى أسس للتدوين السليم وخرجوا من دراسة نظرية الموسيقى بسلّمين رئيسيين هما السلّم الكبير والسلّم الصغير وحيث أن موسيقاهم لا تعتمد ربع النغمة فقد انحصر عدد المقامات لديهم بعدد محدود ولهذا نرى أن أية مقطوعة عندما تُكتب يدوّن اسم مقامها الموسيقي بكل بساطة كأن يكون مقام C flat Major) )أو (سلّم Minor) وغنيّ عن الذكر أن التأليف الموسيقي باستخدام الكوردات التي تؤلف المقاطع الثانويّة للنغم إن صح التعبير تكون أو تكوّن المنهج الذي يرسم كيفيّة صعود أو نزول السلالم المختلفة وما يحتاجه المؤلف من أجزاء نغميّة تعمل على توصيل القطع والأجزاء كما هي الحال في أجزاء الكلام والربط بين الجمل الإنشائيّة أو أشباهها، ولكن الأمر مع المقامات الشرقية أو العراقيّة لم تصل به المؤلفات المقاميّة إلى مثل هذه الإنجازات فالقاريء يسير على السلّم المرسوم له عبر الموروث الموسيقي وإن أراد الإستمرار صعودا أو نزولا سواءً بالأداء الغنائي أو الآلي فإنه يجد نفسه قد انتقل إلى مقام موسيقي آخر دون أن يعرف كيف يربط بين المقام الذي بدا به والمقام الذي انتقل إليه بسبب عدم توفر فنون توازي ما توصلت إليه الموسيقى الغربيّة في التأليف بالكوردات والربط بالإضافات والنغمات التي تُصلح تسلّق السلّم الموسيقي السليم ونحن لا ندّعي هنا أننا نعلم ما يجب أن تكون عليه الحال ولكن نؤشّر ما يجب أن يتم التوجّه له لكي يتمكّن القرّاء والمؤلفون الموسيقيون من فتح المسار واسعا للتأليف الموسيقي العراقي ، نحن نعلم أن المهمة صعبة ومعقّدة ولكن لا بد من السعي بهذا الإتجاه نحو تطوير هذا الإرث العظيم والخروج به من مجرد أداء المقامات على النحو الذي وصلنا وكأننا نحفظ بحور الشعر العربي الخليليّة بواسطة ما هو مؤلّف فيها من سبل تعليميّة أو دراسيّة فتعلّم فاعلن وفاعلاتن يدلنا على البحر الذي كتبت به القصيدة فقط ولكن التأليف بهذا البحر شيءٌ آخر ، إن التقدم الحاصل في صناعة الآلات الموسيقيّة فتح الباب واسعا نحو أداء معقّد ومتشابك ومشترك للآلات الموسيقيّة وسيكون مطلوبا أن نقدم مؤلفات مقاميّة جديدة تحلّق في السلالم الموسيقيّة المختلفة وبطبقات ودواوين كثيرة وهذا يتطلب اتباع ما أسلفنا من تركيب وبناء كوردات تقوم على أساس النغمة وأجزاءها أو أرباعها كما توفّر الموسيقى المقاميّة واسعة الغنى والتنوع النغمي وأنا لا أعرف كيف سيتم التوصل إلى ذلك ولكن أضرب لكم مثلا لو أن ألةً كألة البيانو مثلا توفر لها أن تؤدّي أرباع النغمة مثلا وبدأ العازف يقدم أنغاما من مقام الرست ثم اتبع سلم الرست وخرج إلى المقامات التي تعلوه أليس مطلوبا منه أن يفكّر يالمقاطع والأجزاء التي يتحتّم عليه أن يركّبها لكي يكون انتقاله سليما؟ وفي الحال الحاضر ليس هناك من يفكّر بهذا لأن المقام له مقاييس متّفق عليها ولا يمكن الخروج منه وإلاّ يكون القاريء قد دخل في مقام آخر لا يتقبله قرّاء المقامات التقليدين، إن دراسة المقامات العراقيّة على أسس نظريّة وعلميّة ربما ستكشف لنا كنوزا كثيرة وجديدة وربما تفتح باب التوزيع الهارموني في المقام الموسيقي الشرقي وهذا هو الطريق نحو تطوير المقام وليس فقط الحفاظ على نفس المؤلفة التراثيّة بحذافيرهامع خالص تقديري وتثميني للجهود التي بذلها القراء المتعاقبون وعلى مر التاريخ في حفظ سلالم المقامات المختلفة وبالتالي مدّنا بهذا الثراء الموسيقي الميلودي الذي لم نستثمره كاملا لحد الان.


 الحركة الرابعة والأخيرة
لننظر إلى الدين ورجال الدين ومن يؤمن بإرادة السماء ومن هو فانٍ في الله ومنقطع لعبادته وعاملٌ على تحقيق تعاليمه في الأرض !؟ لاشكّ أن الوسائل متباينة ومختلفة وأشد أشكال التباين يقع في كون رجل الدين يعرف ويؤمن بأن أي تغيير أو سعي أو رغبة في تشكيل المجتمع تقع في إطار الإرادة الإلهيّة وأن شيئا لن يحدث إلاّ بعد مشيئته وأن اتباع التعاليم الربّانيّة والتي جاء بها الرسل والأنبياء هي السبيل الوحيد وأن كل مسعى من هذا القبيل لن يتم ولن يُكتب له التوفيق إلاّ بعد أن يأذن الله عزّ وجلّ به وبالتالي فإن التوجّه إلى الله بالدعاء والصلاة وهي الوسيلة للإتصال بالذات الإلهيّة هي التي ستؤمن البداية في تحقيق المرام والهدف ولن يحصل ولن يتحقق على البسيطةِ أي شيء إلاّ بعد استجابة الله لذلك الدعاء وتلك الصلاة ويعرف رجال الدين أن الدعاء هو هدف الصلاة وأنه متاح للمؤمنين كافة في الإسلام ولكنّه مختصٌّ بأهل العبادات في الإستجابة إذ أن الله عزّ وجل يختصّ المؤمنين الصادقين بالمن عليهم بالإستجابة لدعائهم في حين يتعثّر كثيرٌ آخرون في استحصال الإستجابة لدعائهم وقد سُئِلَ أحد العابدين عن السبب في كون أنهم يدعون الله جلّ جلاله ولكنه لا يستجيب لهم فقال: ذلك لأنه دعاكم فلم تستجيبوا!
ويسلك العُبّاد هذا السبيل فقط لتحقيق مآربهم في الدارين ويسألونه تعالى بهذه الوسائل ما يبتغون وكلما كان فناؤهم في ذاته كلما تحقّق لهم في الدنيا وفي الآخرة كل ما يبتغون ويكون كما هو معلوم فناؤهم في ذاته في إخلاصهم في عبادته وفي الإنقطاع إلى طاعته والإبتعاد عن معصيته والتعفّف والتقشّف والتسامي في رحلة الحياة الدنيا عن كل ما يشدّ الإنسان إلى هذه الفانية، هكذا هي الخطى الأولى لرحلةٍ طويلة صعبةٍ على الكثير من الناس وسهلةٍ على بعضهم الآخر ، وقد سمعنا في التراث الروحي والإيماني لأمتنا الإسلاميّة الكثير الكثير مما يُروى عن عدد من الصالحين أو الأولياء الذين كانوا إذا دعوا الله وسالوه أمرا استجاب لهم بما يُثير دهشة بقيّة الناس فهذا يلجأ إليه الناس ليسأل ربّه في استسقاء السماء فإذا هي لحظات تلتئم فيها السحب في السماء فتمطر مطرا غزيرا وذاك يدعو ربّه لهداية قومه وذاك منهم من يُستجاب له أن يشمل قومه أو مدينته بالخير ونمو الزروع وتوالد الأنعام وسوى ذلك من استجابات السماء لأدعية وصلوات الصالحين والعُبّاد أو العارفين بالله جلّ جلاله وهكذا، وقد ورد في الأثر أن هارون الرشيد خرج قاصدا الحج عن طريق البصرة وأقام فيها بضعة أيام حيث وفد كبراؤها للسلام عليه وكان فيها رجلٌ من علماء عصره وعُبّادهم وصلحائهم فطلبه للتعرّف عليه فلما قدم الرجل وكان رجلا بسيطا متواضعا جدا في ملبسه وسلوكه وبعد أن طلب منه الرشيد أن يعظه وبعد أن فعل، قال له الرشيد سل حاجتك والعطاء الذي تبتغي؟ قال الرجل وهو يخرج من عنده مهرولا : أتظنّ أن الذي أعطاك لا يُعطينا؟ وهكذا فإن لرجال الآخرة سبلا ووسائل في تحقيق المجتمعات والعمران الروحي لا المادّي تختلف تماما عن وسائل أهل السياسة وهم أي أهل الدين والآخرة ليسوا في حاجةٍ لأهل الدنيا بما فيهم أهل السياسة وأن الناس يحتاجونهم بما فيهم أهل السياسة للدعاء وبهم يتوسمون استجابة الله جل جلاله للدعاء فبهم ياتمّ الخلق ومعهم تزداد بركة الإستجابة للدعاء الذي هو عمود سعيهم ومكمن منهجهم افرادا أو جماعات وليس الأمر هكذا مع أهل الدنيا الذين يستهدفون الأهداف والغايات بوحي من إرادتهم ومنهج سعيهم وأنشطتهم وجهودهم وبالوسائل الماديّة الدنيويّة التي تقوم عليها أسس الحكم والدنيا وتُؤسّس على أسسها الدول!
رجل الدين ليس بحاجة إلى المنصب أو المال أو الجاه لكي يحقّق غايته في بناء أو تشكيل المجتمع روحيّا وهو السبيل الأهم في تأسيس الحياة الماديّة بما يُرضي الذات الإلهيّة ويُديم ازدهارها لما فيه خير الناس في الدارين، إذ أن سبيله في ذلك أقصر وأيسر ولا يحتاج فيه إلى الوسائل السياسيّة المعروفة بل هو بحاجة إلى الإنقطاع إلى السماء وتعاليمها ثم التطهّر من الذنوب ثم الدعاء وقد وعد الله عباده المخلصين بالإجابة لا بل وعد كل المؤمنين بذلك ومن أصدقُ منه وعداً؟
أنظروا إلى الموروث التاريخي؟ نجد أن الإله مردوخ جالسا وهو في بزّةٍ مختلفةٍ تماما عن الملك الواقف أمامه والذي يتسلّم منه صولجان الملك وتعاليمه ومنحه الصلاحيّة في الحكم والملك وهكذا هي الحال مع معظم ملوك أوربا الذين يضع على رؤوسهم التيجان من هو أرفع مقاما في المؤسسة الروحيّة ومع أن للمسلمين منهجٌ آخر لكنه يظل في مضمونه يعتبر أن السلطة والملك إنما هي من عند الله وأنه يؤتيه من يشاء وينزعه ممّن يشاء ،وما إناطة أمر الحكم بين الناس لمن هو منهم إلاّ كمن يستخلف في جمهرةٍ من العمال رئيسا عليهم يرأسهم في شئون عملهم ويكون مسؤولا أمام من استعمله عليهم في نفس الوقت فهل يسعى أولئك الذين يرومون الفناء في الذات الإلهيّة أن يكونوا عمّالا له على الناس وهم يتوسلون رحمته وعطفه للوصول إلى التوحّد في ملكوت الذين التحقوا به في عليين من الصالحين واالصديقين والشهداء والرسل والأنبياء والملائكة المقرّبين؟
لا شكّ أن المقام الروحي والمنزلة القريبة إلى الله تنزع من قلوب مخلوقاته ابتغاء الدنيا ومنازل ومناصب الدنيا ودرجاتها إلى الدار التي ليس فيها نصب ولا صخب وفيها درجاتٌ ومناصبُ أرفع مما في هذه الدنيا
ولنا في تراثنا الإسلامي ما هو حجّةٌ على أهل الدنيا فإن سدانة الكعبةٍ والحرم النبويّ وسقاية الحجيج عند المسلمين أرفع من أي ملك أو منصب ولطالما كان كبير الأشراف في مكّة المشرّفة أرفع من أي ملكٍ أو سلطان وعندما يخرجُ أحدهم من تلك الولاية ينخرط في شئون الحكم والولاية الدنيويّة كما حصل مرارا في التاريخ ،وكل هذا يصدر من مصدر واحد وأن شرف التقرب إلى الذات الإلهية أرفع من أن يُطلب معه ملك أو ولاية للأسباب التي أتينا على ذكرها في كون الفاني في الله يدعو ربّه وهو قريب يُجيب دعوة الداعي ولا ينشغل بالتوسّل بوسائل أهل الدنيا شانه في ذلك شان المالك من شأن العامل ورئيس العمال كما أسلفنا
وعندما نجد أن أهل الآخرة والدين يتوافدون على الوجاهة في الدنيا فلابدّ أن يكون هناك خللٌ أو خطأٌ أو سوء تدبير فأهل الدنيايعملون بما يجهلون من أمر الإستجابة الإلهيّة وإن تهافت أهل الدين على الدنيا فهذا يعني فيما يعنيه ياسهم وانقطاع رجائهم من استجابة أدعيتهم ومن ييأس من رحمة الله! وليس من المنطقي أن يتركوا وسيلة مضمونة في تحقيق الحق وقد فتح الله لهم سببا إلى السماءعن طريق الصلاة والدعاء والإنقطاع إلى عبادة الآمر الناهي الذي ليس بعده من يُرتجى إلى التوسّل بأهداب الدنيا؟!
الإيمان بالقول القائل أن السلطة الروحيّة أعلى من السلطة الدنيويّة لا يعني أن تترك السلطة الدنيويّة لرجال الدين سلطة الملك والحكم بل أن التوسل بالسلطة الروحيّة التي مرجعيتها مالك الملك بالصلاة وبالإتباع والخضوع للإرادة الهيّة أن تطلب الباريء أن يستجيب فإن كانت العبادة خالصة لله وجبت الإجابة وهذه هي السلطة الروحيّة وليس المقصود هو التهافت على المناصب الدنيويّة وإزاحة أهل الدنيا والناس والتزاحم معهم في أمور دنياهم فهو ولا شك إحباطٌ لطلب التقرب إلى الذات الإلهيّة وتوسّلٌ بأسباب ادنى عن أسباب السماءالعليا
وقد يؤمن أهل العلم الدنيوي بأن المادة لها أولويّة الوجود لكن أهل الدين ولا شك يؤمنون أن الله هو الذي أوجد كل شيء وأنه يجلّ عن أن يوصف ويُصوّر تصويرا ماديا وبهذا وجب التسليم من قبلهم أن آيات الله وأوامره واجاباته للصلوات هي التي لها الأولوية في صنع الوجود المادّي وهذا فيه تحقيق صائب لصلة الأولويّة هذه حيث أن علوم السماء تبدا باولويّة الإرادة الربانية وعلوم الأرض ،والدنيا لها أن تعمل في أولويّة المادة لأنها على طباقٍ وتضادٍّ مع الأولويّة السماويّة لتدوير أسرار القدرة الفكريّة
وعلى أقل تقدير فإن العلاقة بين أهل السياسة وأهل الدين هي ربما نفسها علاقة العلم بالعمل وأهل العلوم السماويّة يقولون : ربنا يسّر لنا جلائل الآمال بقلائل الأعمال وليس الأمر على هذا النحو مع أهل العلوم الدنيويّة ووسائلها! .



#سنان_أحمد_حقّي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصبر جميل!
- هل من فضائيّة متخصّصة في الموسيقى العالميّة!؟
- تخطيط حضري وإقليمي ! ..لا تخصيص مبالغ وتوقيع مشاريع!
- آفاق الإشتراكيّة
- فنطازيا الغش!
- عودةٌ إلى الواقع الحضري والإقليمي!
- مجرد المساس بقدسيّة قوانين السوق لا يعني الإشتراكية!
- ماهي مؤشرات ومعالم تلاشي شبح الحرب الأهليّة؟!
- هل أن شعوبنا لا تقرأ.. حقاً؟
- خصخصة Χ عمعمة
- تحسين الأداء من أهم دعائم النزاهة ومواجهة الفساد!
- ثقافة الفساد
- أضواء على جوانب من الواقع الحضري والإقليمي العراقي
- قطعة أرض وبضعة آلاف بلوكة!؟هل هذاهو حل أزمة السكن؟
- هل هي مقبرة للمواهب فعلا؟!
- فضاءُ جهنَّم..!
- نداء لمنع توزيع الأراضي لأغراض السكن!
- هل أن ثورة تموز أسّست فعلاً لظاهرة الإنقلابات؟
- كان هناك أستاذٌ كبيرٌ وتُوفّي!
- مالشرف ومالشريف؟!


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سنان أحمد حقّي - السوناتة النقديّة..!